الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول في بيان شرك العرب في الجاهلية
وتحته مطالب:
المطلب الأول: من أول من روج الشرك في العرب؟ وبيان أحواله
هناك آراء لدى العلماء في بيان كيفية حدوث الشرك في العرب، وفي بيان أول من روج الشرك في العرب، سأبين فيما يلي جميع هذه الآراء، مع الأدلة والترجيح.
القول الأول: إن حدوث الشرك هو نتيجة تقديس أحجار الحرم وتعظيمها، وذلك حين ظعن آل إسماعيل من مكة بعد أن كثروا في ديارهم، ولا يخفى أن ذلك كان في ولاية جرهم أو في أواخر ولاية العماليق، كما يتضح لمن تصفح التاريخ.
ويدل لهذا القول ما يلي:
1 -
قال ابن الكلبي في كتابه الأصنام: (إن إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما سكن مكة وولد له بها أولاد كثير حتى ملئوا مكة، ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضًا، فتفسحوا في البلاد لالتماس المعاش، وكان الذي سلخهم إلى عبادة الأوثان والحجارة: أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرًا من حجارة الحرم، تعظيمًا للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا، وضعوا وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمنًا منهم بها وصبابة بالحرم وحبًا له، وهم بعد يعظمون
الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليه السلام، ثم سلخ ذلك بهم إلى عبادة ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل وغيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم
…
).
فهذه الرواية تفيد: أن سبب عبادة العرب للأصنام هو تعظيمهم للحرم، وللبيت الحرام، فلما اضطرتهم ضرورة المعاش إلى النزوح عنه اتخذوا منه حجارة تذكرهم به، ويطوفون حولها، كما كانوا يطوفون حوله، ثم نسوا ذلك بعد أمد، واتخذوا هذه الأحجار آلهة يعبدونها من دون الله.
2 -
وقد روى ابن إسحاق رواية مماثلة فيها أيضًا بيان أول ما كانت عبادة الأحجار في بني إسماعيل؛ بأنه حين ضاقت عليهم مكة والتمسوا التفسح في البلاد حملوا معهم أحجارًا من أحجار الحرم تعظيمًا للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه، فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم، حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه.
القول الثاني: إن ثمة رجل من العرب اسمه عمرو بن لحي، وكان كاهنًا، غلب على مكة وأخرج منها جرهمًا، ثم تولى سدانتها، وهو أول من دعا العرب إلى عبادة الأصنام.
وهذا القول تكاد تجمع كتب التاريخ والرواية والسيرة أيضًا بذكرها.
ولهذا القول أدلة، وهي كثيرة، منها:
ما جاء في الأحاديث النبوية الصريحة الصحيحة من نسبة إحداث الشرك
إلى هذا الرجل. من أبرز هذه الأحاديث:
1 -
ما رواه عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار))، والحديث صحيح لغيره، مع أن السند ضعيف لضعف عمرو بن مجمع السكوني، ولين إبراهيم الهجري، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه أحمد وفيه إبراهيم الهجري، وهو ضعيف، ولم يذكر ضعف عمرو بن مجمع السكوني. وللحديث ـ عدا قوله:((وعبد الأصنام)) ـ شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد والبخاري ومسلم بلفظ: ((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب)).
وهناك شاهد آخر أيضًا عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها.
أما قوله: ((عبد الأصنام)) فله شواهد ـ كما سيأتي ـ.
2 -
ما رواه ابن إسحاق في السيرة الكبرى فيما ذكره الحافظ في الفتح، قال: أورده ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح ـ (يعني عن
أبي هريرة) ـ أتم من هذا، ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: ((رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، لأنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، وبحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي)) هكذا رواه الحافظ ابن حجر عن السيرة الكبرى لابن إسحاق، وهو يختلف اختلافاً يسيرًا عما هو في السيرة لابن هشام، وابن كثير، وعبارتهما كالتالي:
(قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله يقول لأكثم بن الجون الخزاعي: ((يا أكثم! رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به ولا بك منه))، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: ((لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل؛ فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحامي)).
وتابع أبو إسحاق السبيعي ابن إسحاق عند ابن جرير الطبري في هذه الرواية، ثم قال الحافظ: ووقع لنا بعلو في المعرفة، وعند ابن مردويه من طريق سهيل بن أبي صالح ونحوه.
3 -
ما رواه ابن جرير بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت على النار، فرأيت فيها عمرو بن فلان بن فلان بن فلان بن خندف يجر قصبه في النار، وهو أول من غير دين إبراهيم وسيب السائبة، وأشبه من رأيت به أكثم بن الجون
…
)) الحديث، ورواه الحاكم في المستدرك أيضًا بهذا السند ـ أعني من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه ((وهو أول من سيب السوائب وغير عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، أشبه من رأيت به أكثم بن أبي الجون
…
))، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح على شرط مسلم، والحديث حسن بهذا السند.
4 -
وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه مرفوعًا به نحوه، في حديث فيه:((ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، أشبه من رأيت به معبد بن أكثم الخزاعي))، فقال معبد: يا رسول الله، أتخشى عليّ من شبهه، فإنه والدي؟ فقال:((لا، أنت مؤمن وهو كافر، وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام)).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
ولكن الحديث حسن، فإن عبد الله بن محمد بن عقيل مختلف فيه، وهو حسن الحديث إن شاء الله.
5 -
وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط عن بن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول من غير دين إبراهيم
عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة)).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه صالح مولى التوأمة، وضعف بسبب اختلاطه، وابن أبي ذئب سمع منه قبل الاختلاط، وهذا من رواية ابن أبي ذئب عنه.
فهذا الإسناد حسن على الأقل كما هو ظاهر.
6 -
وروى الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف أول من سيب السوائب، وأول من غير عهد إبراهيم))، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: ((عمرو بن لحي أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي ريحه أهل النار))
…
الحديث.
والحديث هذا من طريق عبد الرازق عن معمر عن زيد بن أسلم، وهو مرسل.
7 -
وروى الفاكهي من طريق عكرمة مرسلاً، مثل حديث ابن عباس السابق، وفيه:(فقال المقداد: يا رسول الله! من عمرو بن لحي؟ قال: ((أبو هؤلاء الحي من خزاعة))).
8 -
أخرج ابن المنذر عن أبي سعيد الخدري قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ـ إلى أن قال ـ ((ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وهو الذي
سيب السوائب وبحر البحيرة، ونصب الأوثان وغير دين إسماعيل
…
)) الحديث.
المقصود: أن هذه الروايات كلها تدل على أن عمرو بن لحي ـ لعنه الله ـ كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غيّر بها دين الخليل فاتبعه العرب في ذلك، فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً، بينًا، فظيعًا شنيعًا، هذا من ناحية الروايات الحديثية.
ثم إن هذا القول الذي ثبت بالحديث الصحيح هو الذي ذكره كثير من المفسرين والمحدثين والمؤرخين، وهو قول ابن إسحاق، وابن الكلبي، وابن هشام، والإمام الطبري، والمسعودي، والسهيلي، والعسكري، والشهرستاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير، والسيوطي، والصالحي، والشيخ
الإمام محمد بن عبد الوهاب، والآلوسي، وغيرهم.
كما يدل عليه بعض أشعار العرب، فمن ذلك:
1 -
ما أنشده شاعر جرهمي كان يتمسك بدين الحنيفية:
يا عمر ولا تظلم بمـ
…
كة إنك بلد حرام
سائل بعاد أين هم
…
وكذلك تخترم الأنام
2 -
ما أنشده أيضًا بعض الجراهمة لما أسرف عمرو بن لحي في نصب الأصنام حول الكعبة، وأجبر العرب على عبادتها، مما هدد دين الحنيفية:
يا عمرو إنك أحدثت آلهة
…
شتى بمكة حول البيت أنصابًا
وكان للبيت رب واحد أبدًا
…
فقد جعلت له في الناس أربابًا
لتعرفن بأن الله في مهل
…
سيصطفي دونكم للبيت حجابًا
ومما يؤيد هذه الرواية ما جاء في الآثار الباقية: من أن العرب كانت تؤرخ ببناء إبراهيم للبيت، وظلوا كذلك حتى تفرقوا وخرجوا من تهامة، حتى طال الأمد، فأرخوا بعام رئاسة عمرو بن ربيعة المعروف بعمرو بن لحي (وهو الذي يقال له إنه بدل دين إبراهيم وحمل معه من مدينة البلقاء صنم هبل، وعمل إسافاً ونائلة زمن سابور ذي الأكتاف).
وبهذا ثبت لنا: إن أول من غير دين إسماعيل وإبراهيم في العرب هو عمرو بن لحي بن ربيعة، أبو خزاعة.
ويمكن الجمع بين هذا القول والذي سبق بما يأتي:
1 -
إن خروج بني إسماعيل من أرض الحرم كان في ولاية جرهم، وكانت ولاية خزاعة بعدها مباشرة، فيكون خروج بني إسماعيل قبل ولاية خزاعة، وأما حمل الحجارة من الحرم تبركًا بها، والطواف بها، والذبح والنذر لها، وعبادتها، فلعلها لم تكن إلا في زمن متأخر جدًا، فيكون بعد ولاية عمرو بن لحي الخزاعي. والله أعلم.
2 -
أو إن عبادة الأحجار لم تكن صفة عامة في بني إسماعيل، قبل عبادة الأصنام بمكة، بل كانت أشياء فردية، ولكن عبادة الأصنام التي بدأت من ولاية عمرو بن لحي كانت بصفة عامة، فنسب بداية الأصنام إليه.
3 -
أو لما كان عمرو بن لحي عنده سلطة تنفيذ أمر ما لكونه ملك مكة في هذا الوقت، كان إفساده وتبديله لدين الله أكثر من إفساد حمل الحجارة من الحرم، صبابة بالحرم وتعلقًا به، والله أعلم.
وأما ما قيل من أن عدنان جد العرب هو أول من دعا العرب إلى عبادة الأصنام، فلا أظنه صحيحًا.
جملة ماذ كره المؤرخون من شأن عمرو بن لحي الخزاعي:
قال السهيلي: (وكان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت، ونفت جرهم عن مكة، قد جعلته العرب ربًا، ما يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة).
ونحن نرى في تاريخ مكة أيضًا الكثير من أخبار هذا الرجل الذي يكاد يشبه الأسطورة، والذي استطاع أن يغير على مفاهيم ومعتقدات أقوام، فيقلبها رأسًا على عقب، جاعلاً منهم أمة وثنية بعد ما كانوا موحدين على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهم يذكرون أنه كان رجلاً من ألمع رجالات العرب في الجاهلية وأشهرها على الإطلاق، وينسبون إليه الكثير من علائم ومظاهر الرفعة والسؤدد والفخار، فمما يذكرون من شأنه ما يلي:
1 -
إنه كان ذا مال جزيل جدًا؛ فقأ أعين عشرين بعيرًا، ذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير، وكان من عادة العرب؛ أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها؛ لأنه يدفع بذلك العين عنها ـ على زعمهم الكاذب ـ.
2 -
(أنه قسم بين العرب في حطمة حطموها ـ عشرة آلاف ناقة).
3 -
كما يروى عنه: أنه أول من أطعم الحجاج بمكة (سدايف الإبل ولحمانها بالثريد).
4 -
قال السهيلي: (أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة، وكسى عشرة آلاف حلة حتى ليقال: إنه اللات الذي: يلت السويق للحجيج على صخرة معروفة تسمى صخر اللات).
5 -
ثم إنهم ليبالغون فيقولون: إنه كسا ذات عام من الأعوام جميع حجاج البيت الحرام، كل واحد بثلاثة برود يمانية.
6 -
إنه كان يطعم العرب في كل سنة ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق.
7 -
أنه هو الذي بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وسيب السائبة.
8 -
أنه هو الذي غير تلبية إبراهيم في الحج، قال السهيلي:(بينما هو ـ عمرو بن لحي ـ يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكًا هو لك، فأنكر ذلك عمرو، وقال: ما هذا؟ فقال الشيخ: قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرو فدانت بها العرب).
9 -
إنه أول من غير دين إسماعيل عليه السلام الحنيف بعبادة الأصنام،
وأدخل الأصنام في الحرم. وذلك كما يروى: أنه لما رأى عمرو بن لحي أنه استطاع أن يغلب على الجراهمة، وبالتالي على مكة، وما جاورها من الأقوام أراد أن يدعم سلطته ونفوذه بأن يبتدع عقيدة جديدة، تحل محل الدين القويم وقد رأى تساهل قومه فيه، بعد تقادم الزمن ومرور السنوات العديدة، وكان عمرو كثيرًا ما رحل إلى الدول المجاورة في الشام والعراق، واطلع على أحوالها، وشاهد عقائدها الوثنية، ورأى فيها وسيلة لإيجاد سند دنيوي مادي يعتمد عليه في تدعيم نفوذه السياسي، والسبب في ذلك كما قال العسكري: (إن الملك يحتاج إلى الدين كحاجة المال والرجال؛ لأن الملك لا يثبت إلا بالبيعة، والبيعة لا تكون إلا بالأيمان، والأيمان لا يكون إلا لأهل الأديان، إذ لا يصح أن يحلف الرجل إلا بدينه ومعبوده، ومن لا يعتقد دينًا لا يوثق بيمينه
…
).
فلذا تخلى عن الحنيفية، دين إسماعيل وإبراهيم، لأنه رأى أنه لا يستطيع أن يسيطير عليهم سيطرة كاملة، بل تكون السيطرة في الحنيفية لله فقط، فأقام الأوثان عند الكعبة
…
وجملة الأصنام التي حملها إلى مكة ما يلي:
أ- أول هذه الأصنام على الإطلاق: هبل، قال ابن هشام: (حدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق
…
رآهم يعبدون
الأصنام؛ فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنمًا، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: هبل، فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه).
وقال السهيلي: (وأما هبل: فإن عمرو بن لحي جاء به من هيت، وهي أرض الجزيرة حتى وضعه في الكعبة
…
). وأيًا كان مصدره؛ فقد ثبت أن الذي حمله إلى العرب هو عمرو بن لحي.
ولما جاء به عمرو بن لحي نصبه في جوف الكعبة، واتخذته قريش صنمًا يعبدونه، قال ابن الكلبي والآلوسي:(وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها (هبل) عندهم، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدًا من الذهب، وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة، وكان يقال لها هبل خزيمة). وكانوا يستقسمون لديه في أمورهم كما ذكره المؤرخون.
ب- أن عمرو بن لحي هو الذي سن لهم عبادة إساف ونائلة. قال ابن إسحاق: (واتخذوا إسافًا ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما، وكان
إساف ونائلة رجلاً وامرأة من جرهم
…
فوقع إساف على نائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين).
ثم روى ابن إسحاق بسنده المتصل الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما زلنا نسمع أن إسافًا ونائلة كانا رجلاً وامرأة من جرهم، أحدثا في الكعبة، فمسخهما الله تعالى حجرين، والله أعلم).
وقال السهيلي: (عن بعض السلف: ما أمهلهما الله إلى أن يفجرا فيها، ولكنه قبَّلها فمُسخا حجرين، فأُخرجا إلى الصفا والمروة، فنُصبا عليهما، ليكونا عبرة وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي نقلهما إلى الكعبة، ونصبهما على زمزم، فطاف الناس بالكعبة وبهما، حتى عبدا من دون الله).
وأما إزالتهما: فقال السهيلي: (ذكر الواقدي: أن نائلة حين كسرها النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها، وتنادي بالويل والثبور).
ج- أنه هو الذين سَنَّ لهم عبادة اللات؛ وقد روي فيه عدة روايات، منها:
ما قال السهيلي: (بأنه ـ عمرو بن لحي ـ هو اللات الذي يلت السويق للحجيج على صخرة معروفة تسمى صخر اللات).
ومنها ما قيل: (إن الذي يلت كان من ثقيف، فلما مات قال لهم عمرو: إنه لم يمت، ولكنه دخل في الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليه بيتًا،
يسمى: اللات
…
فلما هلك سميت تلك الصخرة: اللات: مخففة التاء، واتخذ صنمًا يعبد
…
).
وقال ابن الكلبي ونقله الإمام ابن القيم: (ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة، وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم، فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها، وحرقها بالنار).
والمقصود: أن عمرو بن لحي هو الذي أمرهم بعبادة اللات ـ كما سبق بيانه ـ، وقد أزيل ـ بحمد الله ـ على يد الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
د- أن عمرو بن لحي هو الذي نصب (مناة) الطاغية أول مرة.
فقد جاء في أخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي بسند حسن إلى ابن إسحاق قال: (إن عمرو بن لحي نصب (مناة على ساحل البحر مما يلي قديدًا، وهي
التي كانت للأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى لم يحلقوا إلا عند مناة، وكانوا يهلون لها، ومن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة لمكان الصنمين اللذين عليهما: نهيك مجاود الريح، ومطعم الطير، فكان هذا الحي من الأنصار يهلون بمناة
…
وكانت مناة للأوس والخزرج وغسان من الأزد ومن دان بدينهم من أهل يثرب وأهل الشام، وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد).
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن عبيد الأشهلي إلى مناة بالمشلل فهدمها.
هـ - إن عمرو بن لحي هو أول من دعا إلى عبادة العزى، قال الأزرقي: (وكانت العزى ثلاث شجرات سمرات بنخلة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة والحارث بن كعب، وقال لهم عمرو: إن ربكم يتصيف
باللات لبرد الطائف ويشتو بالعزى لحر تهامة، وكان في كل واحدة شيطان يعبد، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بعد الفتح خالد بن الوليد إلى العزى ليقطعها فقطعها
…
)، وذكر قصة طويلة في هذا، وهذه الرواية رواها الأزرقي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ومعلوم أنه أوهى الطرق عن ابن عباس.
ولكن الأزرقي نفسه روى رواية أخرى عن ابن إسحاق بسند حسن فيه: (أن عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة، فكانوا إذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة لم يحلوا حتى يأتوا العزى، فيطوفون بها ويحلون عندها، ويعكفون عندها يومًا، وكانت لخزاعة، وكانت قريش وبنو كنانة كلها يعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر
…
).
و- إن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأصنام على الصفا والمروة.
قال أبو الوليد الأزرقي ومحمد بن إسحاق الفاكهي ـ واللفظ للثاني ـ: عن ابن إسحاق بسند حسن أنه قال: (إن عمرو بن لحي نصب على الصفا صنمًا يقال له: نهيك مجاود الريح، ونصب على المروة صنمًا يقال له: مطعم الطير).
ز- إن عمرو بن لحي هو الذي نصب (الخلصة) بأسفل مكة، فكانوا
يلبسونها القلايد، ويهدون إليها الشعير، والحنطة، ويصبون عليها اللبن، ويذبحون لها، ويعلقون عليها بيض النعام
…
). وذكر ابن الكلبي والآلوسي وياقوت الحموي موضع هذا الصنم بتبالة، وزاد السهيلي وياقوت: بأنه في العبلات أو العبلاء.
ح- إن مما استحدثه عمرو بن لحي من الأصنام بمكة ومنى: ما رواه الفاكهي والأزرقي في أخبار مكة ـ واللفظ للثاني ـ بإسناد حسن عن ابن إسحاق قال: (إن عمرو بن لحي نصب بمنى سبعة أصنام، نصب صنمًا على (القرين) الذي بين مسجد منى والجمرة الأولى على بعض الطريق، ونصب على الجمرة الأولى صنمًا، وعلى (المدعى) صنمًا، وعلى الجمرة الوسطى صنمًا، ونصب على شفير الوادي صنمًا، وفوق الجمرة العظمى صنمًا، وعلى الجمرة العظمى صنمًا، وقسم عليهن حصى الجمرات إحدى وعشرين حصاة يرمي كل وثن بثلاث حصيات، ويقال للوثن حين يرمى: أنت أكبر من فلان ـ الصنم الذي يرمى قبله ـ).
ط- إن عمرو بن لحي هو الذي وزع أصنام قوم نوح على قبائل العرب والدليل عليه ما ذكره المؤرخون: فمن ذلك قولهم:
1 -
أن عمرو بن لحي أتى شاطئ جدة، واستثار منها عدة أصنام حتى حملها حتى ورد تهامة، وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة.
قال ابن الكلبي ـ بعد أن أورد قصة إخراجه لهذه الأصنام من شاطئ جدة ـ قال: (فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور
…
ابن قضاعة، فدفع إليه ودًا، فحمله إلى وادي القرى فأقره بدومة الجندل، وسمى ابنه عبد ود، فهو أول من سمى به
…
وجعل عوف ابنه عامرًا الذي يقال له: عامر الأجدار سادنًا له، فلم تزل بنوة يسدنونه حتى جاء الله بالإسلام
…
ثم كسره خالد بن الوليد، فجعله جذاذًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالدًا من غزوة تبوك لهدمه، فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ود، وبنو عامر الأجدار، فقاتلهم حتى قتلهم، فهدمه وكسره رضي الله عنه، وكان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد أخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء، ووفضة فيها نبل).
ثم قال: (وأجابت عمرو بن لحي مضر بن نزار، فدفع إلى رجل من هذيل ـ يقال له: الحارث بن تميم سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ـ سواعًا.
فكان بأرض يقال لها: رهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر،
…
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص لهدمه، فهدمه.
وأجابته مَذْحجُ، فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادي يغوث، وكان بأكمة باليمن يقال لها مذحج، تعبده مذحج ـ أي قبيلة مذحج، وهم طيء وبنو مالك ـ ومن والاها.
وأجابته همدان، فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم
…
: يعوق، فكان بقرية يقال لها خَيْوان، تعبده همدان ومن والاها من أرض اليمن.
وأجابته حمير: فدفع إلى رجل من ذي رُعين يقال له: معديكرب: نسرًا، فكان بموضع من أرض سبأ يقال له: بَلخَع، تعبده حمير ومن والاها، فلم يزل يعبدونه حتى هودهم ذو نواس.
فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بهدمها).
2 -
قال ابن القيم ـ بعد أن ساق توزيع عمرو بن لحي الأصنام على قبائل العرب ـ: (قلت: هذا شرح ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كان قوم نوح في العرب تعبد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني عُطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع
…
).
3 -
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الأثر: (
…
إن تلك الأسماء رفعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم، ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي
…
).
فثبت بهذه الروايات كلها: أن عمرو بن لحي ـ لعنه الله ـ هو الذي جاء بالأصنام إلى أرض العرب، ووزعها بين القبائل، فهو حامل لواء الكفار والمشركين إلى جهنم؛ لأنه أول من سن لهم عبادة الأصنام في أرض العرب،
كما جاء ذلك في أحاديث، وقد سلف ذكرها.
وأما الحامل لهذا اللعين على الشرك بالله؛ فالذي يذكره المؤرخون هنا سببان:
1 -
أنه مرض مرضًا شديدًا، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت، فأتاها فاستحم بها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة.
2 -
قيل: إن عمرو بن لحي كان له رئي من الجن، يكنى أبا ثمامة، فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة، ثم ائت جدة، تجد بها أصنامًا معدة، ثم أوردها تهامة، ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، فاستثارها من تحت الأرض وخرج بها إلى تهامة، وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب.
وسواء صحت هذه الرواية أم تلك في الحامل لهذا اللعين على ترويج الشرك في العرب، فقد انتشرت فيهم عبادة الأصنام، حتى لم يبق حي ولا قبيلة في العرب إلا ولها صنم تعبده وجاء الإسلام والأصنام تملأ جوف الكعبة وتحيط بها، وكانت كل قبيلة من العرب تحج كل عام إلى صنمها؛ تذبح له، وتطوف به، وتستشيره في مهامها.