المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الأولىمعنى التوحيد وأنواعه - الشرك في القديم والحديث - جـ ١

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الشكر والتقدير:

- ‌التمهيد

- ‌المسألة الأولىمعنى التوحيد وأنواعه

- ‌المسألة الثانيةمعنى الشرك وأنواعه

- ‌المسألة الثالثةهل الأصل في الإنسان التوحيد أو الشرك

- ‌الباب الأول في شرك الأمم السابقة

- ‌الفصل الأول في بيان أول شرك وقع في بني آدم والأدلة عليه

- ‌القول الأول: إن أول شرك في بني آدم كان من قابيل

- ‌القول الثاني: إن بداية الشرك كان في زمن يرد بن مهلائيل

- ‌القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل

- ‌القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح

- ‌الفصل الثاني وقوع الشرك في الأمم السابقة

- ‌المبحث الأول في بيان الشرك في قوم نوح

- ‌المبحث الثاني في بيان الشرك في قوم هود

- ‌المبحث الثالث في بيان الشرك في قوم صالح عليه السلام

- ‌المبحث الرابع في بيان الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام

- ‌المبحث الخامس في بيان الشرك في قوم لوط عليه السلام

- ‌المبحث السادس في بيان الشرك في قوم يوسف عليه السلام

- ‌المبحث السابع في بيان الشرك في قوم شعيب عليه السلام

- ‌المبحث الثامن في بيان أمم أهلكوا بعامة في هذه الفترة، قبل موسى عليه السلام وبيان شركهم بالله

- ‌المبحث التاسع في بيان الشرك في قوم موسى عليه السلام

- ‌المبحث العاشر في بيان الشرك في قوم إلياس

- ‌المبحث الحادي عشر في بيان الشرك في قوم عيسى عليه السلام

- ‌الفصل الثالث في بيان أنواع الشرك التي وقعوا فيها

- ‌المبحث الأول هل أشركوا في الربوبية

- ‌المبحث الثاني شرك العبادة في الأمم السابقة

- ‌الباب الثاني: في بيان الشرك في العرب في الجاهلية وأسباب ذلك

- ‌الفصل الأول ديانة العرب قبل دخول الوثنية

- ‌الفصل الثاني متى كان ظهور الشرك في العرب؟ وبيان سببه

- ‌المبحث الأول في بيان شرك العرب في الجاهلية

- ‌المطلب الأول: من أول من روج الشرك في العرب؟ وبيان أحواله

- ‌المطلب الثاني: في بيان طبيعة الشرك لدى العرب في الجاهلية

- ‌المطلب الثالث: أنواع العبادات التي كانوا يوجهونها إلى معبوداتهم:

- ‌المطلب الرابع: طبيعة اعتقاد الجاهليين تجاه معبوداتهم

- ‌أولاً: البساطة والسذاجة:

- ‌ثانياً: وهن العقيدة:

- ‌ثالثاً: تعصبهم لمعبوداتهم:

- ‌رابعًا: تقليدهم لآبائهم في عبادة هذه المعبودات:

- ‌المبحث الثاني أسباب الشرك قديمًا

- ‌الباب الثالث: الشرك في هذه الأمة

- ‌الفصل الأول خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك على أمته والتحذير منه

- ‌المبحث الأول في بيان نماذج من خوف النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك فيما يتعلق بذاته سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، والتحذير منه

- ‌المبحث الثاني في بيان نماذج من خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في الوقوع في الشرك في عبادة الله سبحانه ومعاملته، والتحذير من الوقوع فيه

- ‌الفصل الثاني سده صلى الله عليه وسلم جميع أبواب الشرك

- ‌المبحث الأول سدّه جميع أبواب الشرك الذي يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله

- ‌المطلب الأول: سده جميع أبواب شرك التعطيل

- ‌المطلب الثاني: سده صلى الله عليه وسلم لجميع أبواب شرك الأنداد في الربوبية وخصائصها:

- ‌المبحث الثاني في سدّه صلى الله عليه وسلم جميع أبواب الشرك الذي يتعلق بعبادة الله ومعاملته

- ‌المبحث الثالث سدّه الوسائل القولية والفعلية التي تؤدي إلى الشرك ـ خصوصًا إلى الشرك الأصغر ـ وصدور التحذير منه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع أمته في الشرك الأصغر باللسان:

- ‌المطلب الثاني: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الشرك الأصغر الفعلي:

- ‌المطلب الثالث: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الشرك الأصغر القلبي:

- ‌المبحث الرابع: في بيان شبهة من قال بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة وردّها

- ‌الفصل الثالث في بيان خفاء الشرك على كثير من الناس حتى وقعوا فيه

- ‌المبحث الأول متى وكيف كانت بداية الشرك في هذه الأمة

- ‌المبحث الثاني: في بيان وقوع بعض هذه الأمة في الشرك

- ‌المبحث الثالث دور العلماء في محاربة الشرك ومواجهة الانحرافات العقدية

- ‌الباب الرابع مظاهر الشرك في العصر الحديث

- ‌الفصل الأول في بيان الشرك الذي يتعلق بالربوبية

- ‌المبحث الأول في بيان الشرك في الربوبية بالتعطيل

- ‌المطلب الأول: في بيان الشرك في الربوبية بتعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه ومظاهر ذلك في هذه الأمة:

- ‌المطلب الثاني: في بيان مظاهر الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عن كماله المقدس الثابت له:

- ‌المطلب الثالث: في بيان أنواع الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد:

- ‌المبحث الثاني: الشرك في الربوبية باتخاذ الأنداد

- ‌المحور الأول: في بيان الشرك في الربوبية باتخاذ الأنداد في الذات:

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة القدرة الكاملة لغير الله جل شأنه

الفصل: ‌المسألة الأولىمعنى التوحيد وأنواعه

‌المسألة الأولى

معنى التوحيد وأنواعه

معنى التوحيد لغة:

التوحيد: مصدر للفعل الثلاثي المزيد بتضعيف عينه، يقال: وحّد يوحّد توحيدًا أي جعله واحداً، فهو على وزن تفعيل تعني الوحدة، والانفراد، والتفرد، والحكم والعلم بأن الشيء واحد.

والمقصود من التفعيل: نسبة كالتصديق لا للجعل، فمعنى وحّدت الله: نسبته إلى الوحدانية لا جعلته واحدًا؛ لأن وحدانيته صفة، لا بجعل جاعل، أمّا التوحيد فهو فعل المكلف هي مأخوذة من الوحدة، وذلك مبني على أن المعبود ـ جل وعلا ـ واحد في حقوقه الواجبة على العباد، كما أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، يقال: أتيته وحده وجلس وحده أي منفرداً، وفلان لا واحد له وواحد دهره أي لا نظير له.

والله الواحد الأحد: المتفرد بالذات والصفات في عدم المثل والنظير، وأحّد الله ووحّده أي نسبه إلى الوحدة والانفراد. فهو سبحانه متفرد في ذاته وصفاته وأفعاله.

فالكلمة تدور حول الوحدة والانفراد والتفرد.

ص: 19

معنى التوحيد شرعاً:

ذكره السلف في كتبهم بعبارات مختلفة ـ وإن كان المآل واحدًا ـ فمن تلك العبارات ما يلي:

أ - (إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتًا وصفاتًا وأفعالاً).

ب - (العلم والاعتراف بتفرد الرب بصفات الكمال والإقرار بتوحده بصفات العظمة والجلال، وإفراده وحده بالعبادة).

وبعض العلماء عرفه بالتقسيم فقال:

ج - (هو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد، فالأول هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وعلوه فوق سمواته على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه

والنوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ

).

د - التوحيد هو اعتقاد (أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له فيها).

هـ - (علم العبد واعترافه واعتقاده وإيمانه بتفرد الرب بكل صفة كمال، وتوحيده في ذلك واعتقاد أنه لا شريك له في كماله وأنه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين).

ص: 20

و- (اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له، ونفي المثل والنظير عنه، والتوجه إليه وحده بالعبادة

، وانفراده بما له من ذات وصفات وعدم مشاركة غيره له فيها، فهو واحد في إلهيته فلا إله غيره، وواحد في ربوبيته فلا رب سواه، وواحد في كل ما ثبت له من صفات الكمال التي لا تنبغي إلا له).

ففهم من هذه العبارات أن التوحيد هو: إفراد الله تعالى في ربوبيته وإفراده في ذاته وصفاته وأسمائه، وإفراده في ألوهيته وعبادته، وبهذا يتحصل لنا الأجزاء الثلاثة للتوحيد، وهي:

1 -

توحيده بالربوبية.

2 -

توحيده بالأسماء والصفات.

3 -

توحيده بأفعال العباد. (بالألوهية).

مفاهيم ضالة في باب التوحيد

رغم وضوح معنى التوحيد في الكتاب والسنة فقد ضل فيها عدة طوائف، فمنهم من خرج بمفهومه عن الإسلام، ومنهم من فهمه فهمًا خاطئًا، ومنهم من فهم بعض أجزائه.

إليك فيما يلي بعض هذه المفاهيم الخاطئة مع مناقشتها:

1 -

طوائف الفلاسفة: فالتوحيد عندهم (إثبات وجود مجرد عن

ص: 21

الماهية والصفة بل هو وجود مطلق).

وهذا المعنى يظهر في قولهم ـ كما هو نص ابن سينا ـ: (إن وجود الباري سبحانه وتعالى وجود معقول) أي وجود مجرد، وقولهم:(فإن واجب الوجود لا حد له، ويتصور بذاته لا يحتاج في تصوره إلى شيء).

وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه درء تعارض العقل والنقل، ومنهاج السنة النبوية، والصفدية، الرد على أقوالهم، فأثبت بالحجج والبراهين أنها باطلة، فإن من عرف حقيقة قولهم ـ أي الفلاسفة ـ علم يقينًا أنهم لم يؤمنوا بالله ولا برسله ولا بكتبه ولا بملائكته ولا باليوم الآخر، فإن مذهبهم: أن الله سبحانه وتعالى موجود لا ماهية له ولا حقيقة، بمعنى أن

ص: 22

وجوده ذهني مجرد.

فحقيقة قولهم إذن: إنكار وجود الله؛ لأن معنى كلامهم هذا أنه شيء خيالي لا وجود له في الخارج، ومنشأ ضلالهم: عدم التفريق بين الوجود المجرد في الذهن ووجوده في الخارج، فإن الوجود المجرد ليس بشيء في الخارج.

2 -

طائفة المعتزلة: وهذه الطائفة تقول: (إن التوحيد هو ما يصير به الواحد واحدًا). وإذا قلنا بتوحيد الله فمعناه كونه واحدًا، والله سبحانه وتعالى لا يوصف بأنه واحد إلا من حيث كونه قديمًا، فالقدم أخص وصف له في زعمهم.

قال الجبائي: إن القديم يوصف بأنه واحد على ثلاثة أوجه. أحدها: بمعنى أنه لا يتجزأ ولا يتبعض، والثاني: بمعنى أنه متفرد بالقدم لا ثانية فيه، والثالث: أنه متفرد بسائر ما يستحقه من الصفات النفسية من كونه قادراً لنفسه، وعالماً لنفسه، وحيًا لنفسه، وعلى هذين الوجهين يمدح بوصفنا له: بأنه واحد لاختصاصه بذلك دون غيره.

ص: 23

وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن هناك من يوصف بالقدم غير الله تعالى، بل الله لا يوصف به، وإنما يخبر عنه بأنه قديم، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات، كما قال ابن القيم: (إن ما يدخل في باب الإخبار عنه أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته

فإنه يخبر عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا).

ولأن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم، للعتيق، وهذا حديث، للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم كما قال تعالى:(كالعرجون القديم)، والعرجون القديم الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم.

قال الحافظ: (قد سمى المعتزلة أنفسهم (أهل العدل والتوحيد) وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوا من نفي الصفات الإلهية لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه، ومن شبه الله بخلقه أشرك، وهم في النفي موافقون للجهمية).

ص: 24

بناء على ما تقدم من الأقوال فيه: فالتوحيد عندهم: إثبات وجود الله مجردًا عن الصفات التي أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

3 -

طوائف المتصوفة: فإن هؤلاء المتصوفة وقفوا من التوحيد الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه موقفًا معاديًا تمامًا، ويتمثل ذلك في الأقوال الآتية:

يقول بعضهم: لا يمكن التعبير عن التوحيد بل هو شيء خيالي ومن عبر عنه فقد أشرك وكفر.

يقول الشبلي: (ويحك من أجابك عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق به فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن توهم أنه واصل فليس حاصل)، وقال أيضاً:(ما شم روائح التوحيد من تصور عنده التوحيد)، ويقول آخر:(فمن وحد ونعت فقد عين قضية ثلاثية: من موحد محدث هو نفسه، وموحد قديم هو معبوده، وتوحيد حديث هو فعل نفسه).

وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (قول المتصوفة: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر عن توحيده

ص: 25

ورسوله عبر عن توحيده والقرآن مملوء من ذكر التوحيد، بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد، قال تعالى:(وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)، وقال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، ولو لم يصح عنه عبارة لما نطق به أحد. وأفضل ما نطق به الناطقون هو التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله))

).

وهناك طائفة أخرى من المتصوفة ترى أن التوحيد يمكن أن يعبر عنه بالعبارة ولكنهم على اختلاف فيما بينهم، فمثلاً:

طائفة الاتحادية: قالوا في التوحيد: هو أن يعتقد أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، وأنه تعالى هو عين وجود كل موجود، وليس لوجوده غيره، ولا شيء سواه ألبته.

وقولهم هذا ظاهر البطلان من وجوه:

1) قال شيخ الإسلام: إن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده لا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا

ص: 26

يفهمون قولهم وقصدهم لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضًا لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيرًا في قولهم فإن حقيقة قولهم: أنه سبحانه هو عين وجود كل موجود، وحقيقته وماهيته، فالتعدد: بوجود اعتبارات وهمية، لا بالحقيقة والوجود، فهو عندهم عين الناكح وعين المنكوح، وعين الذابح وعين المذبوح، ومن فروعه: أن فرعون وقومه مؤمنون كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة، وعباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم عبدوا عين الله لا غيره، وهكذا.

ثم إن هؤلاء بعدما اتفقوا على أن الوجود في نفسه شيء واحد، وأن الكثرة إنما هي في التعيينات، اختلفوا في نسبة ذلك الوجود الواحد إلى تلك التعيينات، فذهب بعضهم إلى أنها من نسبة الكل إلى أجزائه، وذهب البعض منهم إلى أنها من نسبة الكلي إلى جزئياتها، أي أن هذه الكثرة البادية

ص: 27

في الموجود كثرة نوعية، والوجود المطلق الكلي جنس. مثلاً أن الحيوان جنس تحته أنواع: هي الإنسان والفرس والجمل

إلخ، وذهب أكفرهم وأشدهم افتراءً إلى أن الوجود كله شيء واحد في نفسه لا تكثر ولا تعدد فيه أصلاً، وأما هذه الكثرة التي نراها بأعيننا إنما هي أغلاط الحس.

2) أنهم بنوا على أصلهم أن وجود المخلوقات والمصنوعات حتى وجود الجن والشياطين والكافرين والفاسقين والكلاب والخنازير والنجاسات والكفر والفسق والعصيان عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، ووقعوا بذلك على اضطراب شديد؛ حيث إنهم يشهدون أن في الكائنات تفرقًا وكثرة ظاهرة بالحس والعقل.

3) لا ريب أن قولهم هذا أكثر كفرًا من قول الحلولية، فإن الحلولية يثبتون وجودين ـ الحال والمحل بخلاف هؤلاء الاتحادية، ومع هذا فقد كفّر

ص: 28

كثير من السلف هؤلاء الجهمية ـ الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان ـ فالذين لا يثبتون الوجود لله مجرداً عن خلقه أشد كفرًا من أولئك الجهمية، بل إن إلحاد هؤلاء المتأخرين وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هؤلاء الجهمية الأولى وتجهمهم وزندقتهم.

4) قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا: من أنه في كل مكان وكان مما أنكروه عليهم: أنه كيف يكون في البطون، والحشوش، والأخلية؟ تعالى الله عن ذلك، فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون، والحشوش والأخلية، والنجاسات والأقذار! ؟

واتفق سلف الأمة وأئمتها: أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقال من قال من الأئمة: من شبه الله بخلقه فقد كفر، فكيف من جعله عين المخلوقات، وجعله نفس الأجسام المصنوعات؟ فتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

وطائفة الحلولية: ترى أن التوحيد على ثلاثة أقسام: توحيد العامة وتوحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة. ويريدون بتوحيد العامة قول: لا إله إلا الله، هذا هو التوحيد الظاهر الذي يصح بالشواهد، والشواهد هي الرسالة.

ويريدون بتوحيد الخاصة: الذي يثبت بالحقائق وهو إسقاط الأسباب

ص: 29

الظاهرة والصعود إلى منازلات العقول، وعن التعلق بالشواهد، وهو أن يشهد في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سببًا، ولا في النجاة وسيلة.

وأما المراد بتوحيد خاصة الخاصة فهو الذي اختصه الحق لنفسه واستحقه وألاح منه لائحًا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته، وأعجزهم عن بثه، والذي يُشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبات القدم على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا بإسقاطها. فهذا الذي ذكره في التوحيد ليس له أي مستند لا في الكتاب ولا من السنة، بل هو عين الشرك؛ إذ هذا هو الحلول بعينه.

فهؤلاء الطوائف ضلوا في مباحث التوحيد الذي هو أشرف المباحث وأعلاها، فلم يهتدوا إلى معرفة توحيد الله (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)، وضلال ما ذهبوا إليه واضح وضوح الشمس، وليس هذا مجال الإطالة في الرد عليهم، فإن من عنده مسكة من عقل يدرك ضلال ما هم عليه دون حاجة إلى إمعان فكر، فإنه من أشد الأمور مخالفة للعقل والفطرة، وسيأتي بعض الردود عليهم في الباب الرابع بمشيئة الله.

ولكن هناك طوائف أخرى لهم أقوال وآراء في التوحيد ما زالت تتردد في العالم الإسلامي، ولهذه الأقوال والآراء سلبيات في فهم كثير من قضايا العقيدة، مع كونهم أقرب الناس إلى أهل السنة في كثير من المباحث العقدية

ص: 30

الأخرى، وهم الأشاعرة، والماتريدية من طوائف أهل الكلام. وسأتعرض فيما يلي لأقوالهم في التوحيد بشيء من البسط والتفصيل.

فقد ضل الأشاعرة والماتريدية في هذا الباب، فلم يستطيعوا أن يأتوا بالتوحيد كما كان حقه، فعرفوا التوحيد ببعض مدلولاته (المعترف به لدى جمهور المشركين) وتركوا مدلوله الأصلي المبعوث لأجله الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ ألا وهو توحيده في الإرادة والقصد (توحيد الألوهية)، وإليك بعض أقوالهم:

* الأشاعرة: لهم تعريفات للتوحيد، منها:

ما قال الشهرستاني ـ وهو من أئمتهم ـ: (الواحد هو الشيء الذي لا

ص: 31

يصح انقسامه؛ إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجه، ولا تقبل الشركة بوجه، فالباري تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له).

فهذا التعريف ـ كما ترى ـ خال عن توحيد الله بأفعال العباد الذي هو توحيد الألوهية، فلم يشمل ما لأجله بعثت الرسل، بل تخلى عن أساس الإسلام، فإن ما أثبته هو لم يخالف فيه إلا الشواذ من الناس في القديم والحديث.

ثم إن هذا التعريف فيه إجمال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(وأشهر الأجزاء عندهم هو الثالث وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع ـ[وهو قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا)، فإذا لم تفسدا فدل على أن الخالق واحد، مع أن الآية تدل على أنه لو كان هاهنا آلهة حقاً إلا الله لفسدتا، وليس المراد بالإله هو الخالق كما سيأتي] ويظنون أن هذا التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا:(لا إله إلا الله) حتى إنهم يرون في معنى الإلهية أنها: القدرة على الاختراع، ومعلوم أن المشركين من العرب الذي بعث إليهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون، فقد تبين أنه ليس في العالم من ينازع في

ص: 32

أصل هذا الشرك.

وكذلك النوع الثاني ـ وهو قولهم: (لا شبيه له في صفاته)، فإنه ليس من الأمم من أثبت قديمًا مماثلاً له في ذاته سواء قال: إنه يشاركه، أو قال: إنه لا فعل له؛ بل من شبه به شيئًا من مخلوقاته فإنما يشبهه في بعض الأمور، وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه، فإن ذلك يستلزم الجمع الجمع بين النقيضين

وعلم أيضًا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد أن يكون بينهما قدر مشترك كاتفاقهم في مسمى الوجود، والقيام بالنفس، والذات، ونحو ذلك، فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية.

وكذلك النوع الثالث وهو قولهم: (وهو واحد في ذاته لا قسيم له) أو لا جزء له، أو لا بعض له؛ لفظ مجمل، فإن الله سبحانه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فيمتنع عليه أن يتفرق ويتجزأ، أو يكون قد ركب من أجزاء؛ لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد.

فقد تبين أن ما يسمونه توحيدًا: فيه ما هو حق، وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقاً؛ فإن المشركين إذا أقروا بذلك لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به القرآن، وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل لابد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله). فهذا قول الأشاعرة.

* أما الماتريدية: فلهم تعريفات على نمط الأشاعرة منها:

ص: 33

1 -

إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة من الصفات.

2 -

معرفة الله بالربوبية ونفي الأنداد عنه جملة.

3 -

واحد في ذاته وواحد في صفاته، وخالق لمصنوعاته.

4 -

إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان وأنه وحده مرجع كل كون ومنتهى كل قصد.

5 -

هو اعتقاد الوحدانية في الذات والصفات والأفعال.

ومعلوم أن هذا التعاريف كلها خالية عن توحيد الألوهية.

الآثار المترتبة على اختلاف التعاريف

سبق بيان تعريف التوحيد لدى السلف والطوائف التي ضلت في هذا الباب. كما اتضح لنا أن هناك بعض الطوائف يكفي تصور مذهبهم في إبطالها، والنتائج الفاسدة التي تترتب على تعريفاتهم ظاهرة لدى الجميع.

ولكن هناك بعض الطوائف ـ وهم الأشاعرة والماتريدية ـ ما زالت لهم شوكتهم وقوتهم في أوساط المسلمين وهم كثر، فربما يخفى على الناس النتائج والآثار المترتبة على تعريفاتهم القاصرة، فأحببت أن أذكر هنا بعض هذه الآثار؛ حتى يتضح الفرق بين تعريف السلف وتعريفاتهم، ومدى

ص: 34

قصورهم في فهم التوحيد.

وهذا الأمر يتطلب معرفة حقيقة التوحيد لدى الفريقين.

فحقيقة التوحيد عند السلف: إثبات صفات الكمال له، وإثبات كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته واختياره، وأن له فعلاً حقيقة، وأنه وحده هو الذي يستحق أن يُعبد ويُدعى، ويُخاف، ويُرجى، ويُتوكل عليه؛ فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذل، وليس لخلقه من دونه وكيل ولا ولي ولا شفيع، ولا واسطة بينه وبينهم في رفع حوائجهم وفي تفريج كرباتهم وإجابة دعواتهم.

وذلك بأن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات عن الأسباب والوسائط، فلا ترى الخير والشر إلا منه، وهذا الأمر يثمر التوكل وترك شكاية الخلق وترك لومهم، والرضاء عن الله، والتسليم لحكمه، فبذلك يعبده سبحانه عبادة يفرده بها ولا يعبد غيره. وهذا كله يتضمن شيئين:

1 -

توحيده بالإرادة والقصد بحيث يكون هو الغاية دون سواه (توحيد الألوهية).

2 -

توحيده بالاستعانة والتوكل بحيث لا يتعلق القلب في جلب النفع أو دفع الضر بسواه.

وبمقابل ذلك إذا رأينا إلى حقيقة التوحيد عند الأشاعرة والماتريدية نراهم يقولون: إن حقيقة التوحيد هو (اعتقاد عدم الشريك في الألوهية

ص: 35

وخواصها).

وأرادوا الألوهية ـ كما صرحوا به ـ بأنه وجوب الوجود والقدم الذاتي بمعنى عدم المسبوقية بالغير وبخواصها مثل: تدبير العالم وخلق الأجسام واستحقاق العبادة والقِدم الزماني مع القيام بنفسه.

فظنوا أن التوحيد هو مجرد اعتقاد وحدانية الله في ذاته وصفاته وأفعاله، وأن ذلك مفهوم الألوهية، كما قال بعضهم:(لما ثبت وحدانيته في الألوهية ثبت استناد كل الحوادث إليه، والألوهية: الاتصاف بالصفات التي لأجلها استحق أن يكون معبودًا وهي صفاته التي توحد بها سبحانه، فلا شريك له في شيء منها، وتسمى خواص الألوهية، ومنها الإيجاد من العدم، وتدبير العالم والغنى المطلق عن الموجب والموجد في الذات وفي كل من الصفات، فثبت افتقار الحوادث في وجودها إليه).

ومن كلامهم يظهر جليًا: أن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله هو اعتقاد تفرد الله ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا فرق عندهم بين الإله والرب، ولا بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، بل هما بمعنى واحد، بل يظنون أنهما وصفات مترادفان، فبهذا التزموا أنه لا شرك بالتقرب إلى غير الله بالعبادة إلا إذا تضمن اعتقاد استحقاق المعبود للعبادة من دون الله، وأن المعبود متفرد بالخلق والتدبير، ولهذا لم يكن عندهم شرك في الطلب والعبادة إلا باعتقاد ما يضاد حقيقة الوحدانية لا بمجرد الشرك باتخاذ

ص: 36

الواسطة.

فالمتأمل في مناهج المتكلمين عمومًا يجد: أن التوحيد عندهم اعتقادي فقط، وأن الشرك في الإرادة إذا لم يتضمن الشرك في الاعتقاد لا يكون شركًا عندهم، فاتخاذ الوسائط بالسؤال والطلب عندهم ليس شركًا بمجرد طلب غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله ـ مثلاً ـ بل لابد أن يتضمن ذلك اعتقاد استقلالية المطلوب وقدرته على الاختراع الذي هو حقيقة الألوهية عندهم، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله ليس شركًا لذاته عندهم إلا إذا تضمن اعتقاد استحقاق العبادة لمن صرفت له.

أما ما جاء من إطلاق الشرك فيما يتعلق بشرك الطلب والعبادة والتقرب فلهم فيه تخريجان:

الأول: أن ذلك مقيد بشرك الاعتقاد لا بمجرد الإرادة والعمل.

الثاني: أن ذلك شرك ولكنه شرك أصغر، فهو من المعاصي.

يقول أحدهم في ذلك: (اجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله، والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله).

ويقول الآخر: (من أين لكم: أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إذا دعا غائبًا أو ميتًا أو نذر له، أو ذبح لغير الله أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه؟ ولم يقل أهل العلم:

ص: 37

من طلب من غير الله فهو مرتد، ولم يقولوا: من ذبح لغير الله فهو مرتد).

وقد اشتد الخلاف بينهم وبين الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب التميمي رحمه الله حين بيَّن لهم أنه كما يكون الشرك في الاعتقاد فإنه كذلك يكون باتخاذ الوسائط في الطلب، وفي التقرب إلى غير الله بالعبادة ولو لم تكن متضمنة الشرك في الاعتقاد.

ولازم كلامهم هنا: أن من تقرب إلى غير الله بالعبادة لا يكون مشركًا بذلك، بل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن بعض أتباع هؤلاء قد صرح بهذا، وأن منهم من كان يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويصوم لها ويذبح، وهو يظن مع ذلك أن توحيده لم ينتقض.

سبب ضلال المتكلمين في باب التوحيد

المتكلمون ضلوا في باب التوحيد من جهتين اثنتين:

ص: 38

الأولى: ضلالهم في باب توحيد الأسماء والصفات.

ويرجع ضلالهم في هذا الباب إلى ما يلي:

1 -

جعلهم ظواهر النصوص دالة على تشبيه الخالق بالمخلوق، ووجه ذلك عندهم أننا لا نشاهد متصفًا بالصفات المضافة إلى الله تعالى في النصوص إلا ما هو مخلوق حادث، فتكون لظواهر النصوص على هذا تشبيهًا، وهو غير مراد.

2 -

صرفهم لظواهر النصوص إما بتعطيلها وإما بتأويلها، وأصل كل ذلك تأثرهم بالفلاسفة وآرائهم الكلامية.

الثانية: ضلالهم في باب توحيد الألوهية

ويرجع أسباب ضلالهم في هذا الباب إلى سببين رئيسين هما:

1 -

خطؤهم في تصور التوحيد الذي أرسل لأجله الرسل.

2 -

خطؤهم في تصور معنى الرب والإله.

أما الأول وهو خطؤهم في تصور التوحيد الذي أرسل لأجله الرسل:

(1)

فإن التوحيد الذي أرسل به الرسل هو توحيده سبحانه بالعبادة؛ لأن النضال الواقع بين الرسل وأقوامهم كان في تحقيق هذا التوحيد، والقضية تحتاج إلى شيء من البسط والتفصيل، ولكني سأقتصر على الاستدلال بالمسلمات بين السلف والمتكلمين. فأقول:

لا شك أن كلمة التوحيد هي كلمة (لا إله إلا الله) ولا تصح إلا بالمتابعة وهي المقصودة بالجزء الثاني (أن محمدًا رسول الله)، فهذا شيء اتفق عليه السلف والمتكلمون، فإذا قالوا بذلك فقد خصموا؛ وذلك أن هذه الكلمة قد جاء تفسيرها في كثير من نصوص القرآن والسنة، بأنها بمعنى لا معبود بحق إلا الله،

ص: 39

والدليل على أن المراد بالتوحيد هو كلمة (لا إله إلا الله)، وأن معنى هذه الكلمة هي العبادة بما يلي:

أ- حديث معاذ عندما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: ((إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى

)) الحديث.

جاء في رواية: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)).

وجاء في رواية أخرى: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا

)).

وفي رواية: ((فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)).

ص: 40

وفي رواية: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل).

فهذه الروايات متفقة المعنى، فإن معنى شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد الله بالعبادة، والبعد عن عبادة ما سواه، وهذا هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، ومن المتأكد أن أحد هذه الألفاظ أو جميعها صدرت من مشكاة النبوة.

فإن كان الثاني فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن معنى هذه الكلمة بأن المراد منها توحيد العبادة، وإن كان الأول فالصحابة بيَّنوا معناها بأن التوحيد هو العبادة.

ب - ومثل هذا ما جاء في حديث آخر رواه الإمام مسلم في صحيحه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من وحد الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل).

وقد جاء الحديث في رواية أخرى بلفظ: ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حُرم ماله ودمه

)).

وجه الاستدلال: أن الحديث جاء فيه تفسير التوحيد بالرواية الثانية.

ج - ومثل هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بُني الإسلام على خمس:

ص: 41

على أن يُعبد الله ويُكفر بما دونه، وإقام الصلاة

)).

وقد جاء الحديث في رواية أخرى بلفظ: ((بُني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله وإقام الصلاة

)).

وقد جاء الحديث في رواية أخرى بلفظ: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وإقام الصلاة

)).

وجه الاستدلال: أن بعض هذه الروايات تفسر البعض الآخر، ففي بعضها لفظ التوحيد وفي بعضها تفسيره.

د - ومثل هذا ما جاء في حديث آخر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل أعمله يُدنيني من الجنة ويُباعدني من النار، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتُقيم الصلاة

)).

وجه الاستدلال: أنه ذكر في حديث واحد عبادة الله تعالى وعدم الشرك بالله فيها، فكأن كلمة (لا تشرك به شيئًا) بيان لمعنى عبادة الله المذكور في أول الحديث، فتضمن بيان معنى هذه الكلمة بأن المراد بها توحيده في العبادة، وأن العبادة إنما تتم بعدم الإشراك بالله فيها، وهو بعينه التوحيد المطلوب.

فعلم من هنا ثلاثة أشياء:

1) أنَّ لا إله إلا الله هو التوحيد.

2) أنَّ التوحيد هو العبادة كما هو منصوص في الروايات.

ص: 42

3) أنَّ تفسير التوحيد بـ (لا إله إلا الله) أو العكس وهكذا تفسر العبادة بالتوحيد أو العكس كان شائعًا بينهم ـ الصحابة ـ من غير نكير.

هـ - حديث جابر بن عبد الله في صفة مناسك الرسول عليه الصلاة والسلام: قال في حديث طويل: (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى استوت ناقته على البيداء، فنظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماشٍ وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك وخلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، فأهلَّ بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك

))) الحديث.

المقصود: عبر الصحابة عن التلبية بالتوحيد، ومعروف أن الحمد والنعمة والشكر من العبادات، وإن كان المُلك من خصائص الربوبية، وذلك لما كان العرب يلبون بتلبية كان فيها شرك التقرب والشفاعة، لأنهم كانوا يقولون بعد هذه التلبية المشروعة مباشرة:(إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: ((قد قد)) عندما ينتهي قولهم: (لبيك لا شريك لك).

(2)

لا شك أن جميع الرسل دعوا الناس إلى هذه الكلمة (لا إله إلا الله)،

ص: 43

قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

ولكن ما معنى كلمة (لا إله إلا الله)؟ معناها: توحيد الله عز وجل وإخلاص العبادة له فإن خير ما يفسر القرآن هو القرآن الكريم، فمثلاً:

أ - في هذه الآية قال تعالى: (فاعبدون) أي لا معبود إلا الله، فلا تعبدوا غيري بل اعبدون.

ب - في آية أخرى يقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فهو تفسير للآية السابقة، فإن كلمة (اعبدوا الله) بمعنى: إلا الله، وكلمة (اجتنبوا الطاغوت) بمعنى لا إله.

ج - لقد وردت آيات كثيرة تبين أن آحاد الرسل يأتون قومهم فيقولون لهم: (اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).

ويتضح هذا الدليل بالعلم بأمرين وهما:

الأول: أن الأصل في بني آدم التوحيد، ثم نشأ فيهم الشرك، ثم الأصل في بني آدم الإقرار بالله، هذا شيء اتفق عليه السلف والمتكلمون.

الثاني: معرفة الشرك الذي وقعت فيه الأمم. (وهو الشرك في الألوهية) وسيأتي الكلام عليه مفصلاً في الباب الأول.

ص: 44

(3)

لا شك في أن العناية من خلق الإنسان هي العبادة، كما قال الله عز وجل:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ)، فقد بيَّن الله تعالى أنه خلق الإنسان لغاية، وهي عبادته، فلذلك نرى أن الأمر الأول في القرآن الكريم جاء آمرًا بعبادته وحده، حيث قال:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فكيف لا يكون هذا هو غاية ما لأجله أرسل الرسل؟ !

ثم إن هناك تفسيرًا مأثورًا عن السلف في معنى العبادة؛ حيث جاء عنهم أنهم فسروها بالتوحيد، مما يدل على أنه هو الأصل، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ): (إياك نوحد ونخاف ونرجو، يا ربنا لا غيرك) وقال ابن عباس أيضاً: كل ما في القرآن من (اعبدوا) فمعناه (وحدوا).

(4)

قد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين، فمن ذلك حديث معاذ عندما بعثه إلى اليمن (المتقدم).

وحديث: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)).

وحديث: ((قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)).

ص: 45

وفي حديث أبي سفيان المتضمن قصته مع هرقل: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم).

(5)

الإجماع على أن الكافر إذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله

أنه مسلم).

أما خطؤهم الثاني في تصور معنى الرب والإله:

فجعلهما مترادفين، ففسروا من أجله الإله بأنه (القادر على الاختراع) أو (الصانع القادر المالك) وقالوا: الألوهية معناها: (الربوبية والصانعية والمالكية).

وسبب خطئهم في هذا يرجع إلى حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور بعيدًا من تخاطب العرب وفهم السلف، واللسان العربي المبين، فتفسير الإله بالصانع المخترع الخالق المالك أو

ص: 46

الرب باطل لغة وشرعًا، فإن الإله والرب مفهومان متغايران لغة وشرعًا.

أولاً: معنى الإله:

أما لغة: فقد ذكرت له عدة معان:

أولاً: الإله فعال بمعنى مألوه، أي: معبود، كإمام بمعنى مؤتم به، وأله إلهة: عبد عبادة، والتأليه: التعبيد، والآلهة: المعبودون من الأصنام وغيرها، والتأله: التعبد والتنسك.

فالإله: هو المعبود وهو الله سبحانه، وهو على وزن فعال بمعنى مفعول، مثل كتاب معنى مكتوب وبساط بمعنى مبسوط، فالإله إذن على معنى ما روي عن ابن عباس:(هو الذي يألهه كل شيء ويعبده كل خلق، والله ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين).

ثانياً: الإله مأخوذ من أله: إذا تحير، وأصله وله يوله ولهًا، على وزن تعب يتعب تعبًا، فإن الإله هو الله سبحانه تتحير الألباب والفكر في حقائق صفاته ومعرفته، وعلى هذا، فأصل كلمة إله: ولاه، وأن الهمزة مبدلة من واو وقد أنكر بعض أصحاب المعاجم هذا المعنى.

ص: 47

ثالثاً: أن الإله مأخوذ من أله إلى كذا: أي لجأ إليه، فروي عن الضحاك أنه قال: إنما سمي الله إلهًا؛ لأن الخلق يتضرعون إليه في حوائجهم ويتضرعون إليه عند شدائدهم فيكون المعنى: هو من يُفزع إليه في النوائب لأنه المجير لجميع الخلائق من كل المضار.

رابعًا: أن الإله مشتق من (لاه يليه ويلوه لياهًا) إذا احتجب، فلفظ الجلالة يتضمن معنى الاحتجاب كما قال تعالى:(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير).

خامسًا: أنه مشتق من (ألهت إلى فلان) أي سكنت إليه، فالقلوب لا تسكن إلا بذكره، فمن خاف الله تقرب إليه فيحصل له الاطمئنان والسكون.

سادساً: أنه مشتق من (أله الرجل إلى الرجل) إذا اتجه إليه لشدة شوقه إليه، ومنه (أله الفصيل بأمه) إذا أولع بأمه، وعلى هذا معناه: أن العباد يتوجهون إليه وحده. والمعنى: (أن العباد مألوهون: أي مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال).

سابعًا: أنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها، وإذا طلعت الشمس تقول: لاهت، وعلى هذا يتضمن لفظ الجلالة

ص: 48

معنى العلو والارتفاع.

فهذه كما ترى معاني اشتقاقات هذا اللفظ، وليس في شيء منها أن معناه القادر على الاختراع أو أنه الصانع المالك.

وقد رجح جماعة من العلماء القول الأول، وأن لفظ الجلالة (الله) مشتق من أله يأله: إذا عبد، فهو إله بمعنى مألوه أي معبود، وكل الاشتقاقات والمعاني الأخرى تدخل تحت هذا المعنى الأول، فهو متضمن لها، وسأذكر فيما يأتي من قال بهذا من أئمة اللغة:

1 -

قال الراغب الأصفهاني: (و (إله) جعلوه اسمًا لكل معبود لهم).

2 -

قال ابن منظور الإفريقي: (الإله (الله) عز وجل، وكل ما اتخذ من دون الله معبودًا (إله) عند متخذه، والجمع (آلهة)).

3 -

وقال المجد الفيروزآبادي الشافعي (

إله) كفعال، بمعنى مألوه، وكل ما اتخذ معبودًا (إله) عند متخذه.

ص: 49

4 -

وقال محمد المرتضى الزبيدي الحنفي: (فإذا قيل: (الإله) أطلق على الله سبحانه، وعلى ما يُعبد من الأصنام، وإذا قلت:(الله) لم يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى.

الإله في القرآن وفي فهم السلف والمفسرين:

الألوهية والإله في لغة القرآن واصطلاحه وما حكى الله سبحانه وتعالى عن مشركي العرب لم يختلف عن معناها الذي ذكرناه عن معاجم اللغة.

فالإله يُطلق على كل معبود حقًا كان أم باطلاً، والأدلة عليها كثيرة، منها:

1 -

أن الله سبحانه وتعالى سمى معبودات المشركين (آلهة) وأبطل كونها آلهة حقًا.

قال تعالى: (واتخذوا من دون ءالهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا).

وهكذا كان مشركو العرب يسمون معبوداتهم (آلهة) مع اعتقادهم أنها ليست خالقة لهذا الكون ولا مالكه؛ كما حكى عنهم:

2 -

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ).

ص: 50

3 -

وقال عنهم: (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا).

4 -

وقال سبحانه وتعالى: (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ).

5 -

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا).

6 -

(وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا).

7 -

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ).

8 -

(قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ).

فأنت ترى في هذه الآيات أن المشركين سموا معبوداتهم (آلهة) مع أن المشركين لم يعتقدوا فيها أنها خالقة لهذا الكون وأرباب للعالم.

وهكذا ترى اللغة القرآنية لكلمة (الإله) تتفق مع معاني أهل اللغة لهذه الكلمة، كما أن هذا ما كان عليه فهم السلف والمفسرين:

1 -

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الله: ذو الألوهية والمعبودية

ص: 51

على خلقه أجمعين)، ومنه قوله في (ويذرك وآلهتك) يذرك وإلاهتك، أي عبادتك وهو قول مجاهد أيضاً.

2 -

قال الطبري: (ولا شك أن الإلهة على ما فسره ابن عباس ومجاهد مصدر من قول القائل: أله الله فلان إلهة: كما يقال: عبد الله فلانٌ عبادة وعبر الرؤيا عبارة، فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أن أله عبد وأن الإلاهة مصدره).

وقال: (فالإله: هو المعبود وهو الله سبحانه، وهو على وزن فعال بمعنى مفعول مثل كتاب بمعنى مكتوب وبساط بمعنى مبسوط، فالإله إذن على معنى ما روي عن ابن عباس: هو الذي يألهه كل شيء ويعبده كل خلق).

3 -

قال الزجاجي: (إله فعال بمعنى مفعول، كأنه مألوه، أي معبود

ص: 52

مستحق للعبادة يعبده الخلق ويولهونه).

4 -

وقال الزمخشري: (الإله من أسماء الأجناس، كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم على المعبود بحق).

5 -

قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره: لا إله إلا الله: (معناه: لا معبود إلا الله).

فهذه بعض أقوال المفسرين في معنى الإله.

6 -

وقال شيخ الإسلام: (فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يُعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع).

وقال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها،

ص: 53

وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام.

7 -

وقال ابن القيم: (الإله: هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكرامًا وتعظيمًا وذلاً وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكلاً).

8 -

وقال ابن رجب: (الإله: هو الذي يُطاع فلا يُعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاءً، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه ودعاءً له، ولا يصلح هذا كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قوله: (لا إله إلا الله) ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك).

9 -

وقال البقاعي: (لا إله إلا الله: أي انتفاء عظيمًا أن يكون معبود بحق

ص: 54

غير الملك العظيم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علمًا إذا كان نافعًا، وإنما يكون نافعًا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف).

10 -

وقال الطيبي: (الإله: فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهه: أي عبد عبادة).

11 -

قال الشوكاني: لفظ (إله) إنما هو لبيان استحقاق الله للألوهية التي هي حقيقة العبودية، ولهذا جاء في كتاب الله (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) أي مألوه معبود فيها، قال قتادة: يعبد في السماء والأرض.

ثانياً: معنى الرب:

فقد وردت كلمة (رب) لعدة معان في معاجم اللغة، ولكنها عند التحقيق

ص: 55

ترجع إلى ثلاثة أصول، وهي:

أولاً: بمعنى مالك الشيء وصاحبه، ومنه: فلان رب الدار أي صاحبها ومالكها، ورب الدابة كذلك، وكل من ملك شيئاً فهو ربه.

قال الزبيدي: (الرب هو الله عز وجل، وهو رب كل شيء أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك).

ثانياً: بمعنى السيد المطاع.

قال ابن منظور: ربيت القوم: سستهم، أي كنت فوقهم، ويقال: رب فلان قومه: أي ساسهم وجعلهم ينقادون له، ورببت القوم: أي حكمتهم وسدتهم.

ثالثاً: تطلق هذه الكلمة كذلك على المصطلح للشيء المدبر له، القائم على تربيته، حتى قال بعض العلماء: إن كلمة (رب) مشتقة من التربية؛ لأن الله سبحانه مدبر الخلق ومربيهم، ويقال: رب فلان ضيعته: إذا قام على إصلاحها.

قال الزبيدي: رب ولده والصبي يربه ربًا؛ أحسن القيام عليه ووليه حتى أدرك وفارق الطفولية، كان ابنًا أو لم يكن.

ص: 56

ومنه يقال للحاضنة: رابة ورابية أيضًا؛ لأنه يقوم بها غالبًا تبعًا لأمها.

فهذه الأصول الثلاثة لكلمة (رب) التي ذكرها أصحاب المعاجم، وبقية المعاني تندرج في أي أصل من أصولها.

أما كلمة (رب) في القرآن وفي فهم السلف والمفسرين:

فهي قد جاءت مستعملة في هذه المعاني الثلاثة المتقدمة:

ومما يدل على استعمالها على المعنى الأول: بمعنى مالك الشيء وصاحبه؛ قوله تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ).

قال القرطبي: أي مالكهم وكل من ملك شيئًا فهو ربه، وبه قال الطبري والماوردي وابن كثير.

ص: 57

ومنه حديث: (اللهم رب هذه الدعوة).

ومما يدل على استعمالها على المعنى الثاني: (بمعنى السيد المطاع) قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)، وقوله تعالى عنه:(أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا)، وقوله تعالى عنه:(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)، وقوله تعالى عنه:(ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ)، وبه قال الطبري والماوردي والقرطبي وابن كثير.

ومنه حديث الرسول عليه الصلاة والسلام ((أن تلد الأمة ربتها)).

ومما يدل على استعمالها على المعنى الثالث: (بمعنى المصلح للشيء المدبر له) قوله تعالى: (والربانيون والأحبار)، وقوله تعالى:(وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ). وبه قال القرطبي وابن كثير والإمام الطبري.

ص: 58

ومنه حديث: ((هل لك نعمة تربها)).

وأما الرب (المحلى بالألف واللام) فلا تدل إلا على الله سبحانه وتعالى لأنها للعهد، ولأنها للعموم فهي بمعنى رب كل شيء وليس كذلك إلا رب العالمين. وإن حذفتا صار مشتركًا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد، وزيد رب الدار، وعلى هذا انعقد إجماع أهل اللغة والمفسرين ولم يؤثر عن العرب أنهم استعملوا كلمة (الرب) لغير الله تعالى، قال ابن منظور:(الرب: هو الله عز وجل، هو رب كل شيء: أي مالكه).

ومما تقدم يتبين لنا أن كلمة الرب لا تطلق إلا على الله تعالى، لأنه هو الخالق الرازق المحيي والمميت المالك للخلق كلهم، المدبر لأمرهم، قال شيخ الإسلام:(والرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها).

وقال المقريزي: (فالرب مصدر رب يرب ربًا فهو راب، فمعنى قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ): راب العالمين، فإن الرب سبحانه وتعالى هو الخالق

ص: 59

الموجد لعباده القائم بتربيتهم وإصلاحهم، المتكفل بصلاحهم من خلق ورزق وعافية وإصلاح دين ودنيا).

وقال ابن القيم عند تفسير قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ): (وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب

والرب هو القادر الخالق الباري المصور الحي القيوم، العليم السميع، البصير، المحسن، المنعم، الجواد، المعطي، المانع

إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى).

فعلم مما سبق: أن الإله والرب كلمتان متغايرتان في مفهوميهما. فالقول بأن معنى الإله: (القادر على الاختراع) ـ كما سبق ذكره عن المتكلمين ـ قول مبتدع لا يعرف عند العلماء المحققين ولا عند أحد من أئمة اللغة، وإنما هو قول مبتدع في اللغة والشرع.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس الإله بمعنى القادر على الاختراع، فإذا فسر المفسر (الإله) بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد ـ كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه ـ لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن

ص: 60

مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى:(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)، فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدًا له دون ما سواه،

ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها، ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك).

ثم على تقدير تسليمه (بأن الإله هو القادر على الاختراع) فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقًا قادرًا على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حقًا وإن سمي إلهًا، وليس المراد من هذا القول: أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله أحد؛ لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين، ولو قدر أن بعض المتأخرين أراد هذا المعنى فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية على ما سيأتي بيانه في بيان ما أشرك فيه العرب قديمًا، وهل أشركوا بالله في الربوبية والخالقية أم كان شركهم في

ص: 61

الألوهية والعبادة وفي بعض أمور الربوبية.

أنواع التوحيد:

علمنا مما سبق: أن التوحيد نوعان:

النوع الأول: توحيد المعرفة والإثبات: وهو ما يتعلق بذات الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا ينقسم قسمين:

الأول: توحيد الربوبية: وذكر العلماء في تعريف هذا النوع من التوحيد عبارات، منها: ما قال ابن تيمية ـ رحمة الله عليه ـ (فتوحيد الربوبية: أنه لا خالق إلا الله، فلا يستقل شيء سواه بإحداث أمر من الأمور، بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن).

وقال ابن القيم رحمه الله: (فاسم الرب له الجمع الجامع لجميع المخلوقات فهو رب كل شيء وخالقه والقادر عليه، لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره

).

وقال السفاريني: (توحيد الربوبية: أن لا خالق ولا رازق ولا محيي ولا

ص: 62

مميت ولا موجد ولا معدم إلا الله تعالى).

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في تعريفه: (هو الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت، النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر).

فعلى هذا يكون توحيد الربوبية: هو الإقرار والاعتراف بأن الله تعالى وحده لا شريك له هو الخالق لجميع المخلوقات العلوية والسفلية، المرئية وغيرها، وأنه المتصرف وحده بهذا الكون، لا يشاركه فيه أحد، كما أن بيده تعالى جميع المقادير من رزق وموت وحياة وجميع أمور الخلائق، وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، لا يشاركه في جميع ذلك شريك ولا ند ولا مثي، وأنه ربى جميع الخلق بأصناف نعمه، وربى خواص خلقه وهم الأنبياء وأتباعهم الذين آمنوا به وصدقوا بما جاءوا به من عند ربهم بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الجميلة والعلوم النافعة،

ص: 63

والأعمال الصالحة.

ويمكن أن يعرف هذا التوحيد بعبارة مختصرة وهي كما قال ابن القيم: هو إفراد الله تعالى بالخلق والحكم.

فقوله: (إفراد الله بالخلق) يشمل: الخلق الأول، وهو ابتداء خلق الناس وغيرهم، والخلق الثاني: هو البعث كما قال تعالى: (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)، وهذه كلها من خصائص الربوبية.

وقوله: (إفراده بالحكم) يشمل: الحكم بنفعهم وضرهم، وتدبير أمورهم، ورزقهم، فالله عز وجل هو النافع والضار، وهو المدبر للأمر والقاضي به، وهو الرازق. فهذا حكمه القدري والكوني، وهو ما يقضي الله به تقديرًا وخلقًا.

وهكذا يشمل حكمه الشرعي: وهو ما يقضي الله به شرعًا، فجميع أحكام الله الشرعية في خلقه من مقتضيات ربوبيته، وهو الذي له الحكم، قال تعالى:(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)، وقال عليه الصلاة

ص: 64

والسلام: ((إن الله هو الحكم وإليه الحكم)).

والخلاصة: توحيد الربوبية: هو الإقرار بأن الله تبارك وتعالى رب كل شيء وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت، النافع الضار، القادر على فعل ما شاء متى شاء، ليس له في ذلك ند ولا شريك ولا معين، كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقوله تعالى:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ).

والآيات في هذا كثيرة غير أن الإقرار بهذا التوحيد دون إخلاص العبادة لله وحده وعدم الإشراك به ظاهرًا وباطنًا، لا يصير به العبد مسلمًا؛ لأن الله تبارك وتعالى حكى عن المشركين القدامى إقرارهم بهذا التوحيد، كما قال تعالى:(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)، وقال

ص: 65

تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)، فلم يكونوا بهذا الإقرار مسلمين، وذلك لعدم إخلاصهم العبادة لله وحده.

القسم الثاني: توحيد الأسماء والصفات: الذي هو اعتقاد انفراد الله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال، وذلك بالاعتراف والإقرار الجازم بكل ما ورد في كتاب الله وما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا.

وطريقة سلف الأمة في هذا القسم: إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فهم يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى ليس يشبهه ويماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فطريقتهم: إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل على حد قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

المراد بالتحريف: هو في اللغة: التغيير والتبديل والإمالة والعدول.

وهو في الشرع: العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره، وهو في باب الأسماء والصفات: تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن مراد الله تعالى، مثل تحريف إعراب قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى

ص: 66

تَكْلِيماً) من الرفع إلى النصب، ومثل تحريف معنى استوى: بـ استولى في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).

أما التعطيل: فهو في اللغة: من العطل، الذي هو الفراغ والخلو، والترك، قال تعالى:(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي أهملها أهلها وتركوا وردها والمراد بالتعطيل في باب الأسماء والصفات: نفي الأسماء والصفات أو بعضها وسلبها عن الله.

أما التكييف: فهو جعل الشيء على حقيقة معينة من غير أن يقيدها بمماثل مثال ذلك: قول بعض الفرق عن الله: (طوله كعرضه) ومعنى قول أهل السنة: (من غير تكييف): أي من غير كيف يعقله البشر وليس المراد من قولهم: (من غير تكييف): أنهم ينفون الكيف مطلقاً، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف إذ لا يعلم كيفية ذاته إلا هو سبحانه.

أما التمثيل: فهو من المثل وهو الشبه والنظير، وهو في باب الأسماء

ص: 67

والصفات بمعنى الاعتقاد في صفات الخلق أنها مثل صفات المخلوقين.

فتوحيد الأسماء والصفات هو ما خلا فيه الأسماء والصفات الثابتة عن الله ورسوله عن هذه المحاذير الأربعة ـ التعطيل والتحريف والتكييف والتمثيل ـ فمن نفى صفات الرب جل وعلا وعطلها، فقد كذب تعطيلُه توحيدَه، ومن شبهه بخلقه ومثله بهم، فقد كذب تشبيهُه وتمثيلُه توحيدَه.

ومن أدلة هذا القسم من التوحيد: قوله تعالى: (اللهُ لا 2 إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، وقوله تعالى:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وقوله تعالى:(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وقوله تعالى:(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)، وقوله تعالى:(رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، وقوله تعالى:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) و (كَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً)، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.

النوع الثاني من أنواع التوحيد: توحيد الطلب والقصد: الذي هو توحيد الله بأفعال العباد، أو ما يعبر عنه بتوحيد الألوهية، وهو العلم والاعتراف بأن الله

ص: 68

ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده تعالى بالعبادة كلها، وإخلاص الدين له وحده.

ويتحقق هذا النوع من التوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له ومحبته وخوفه ورجائه، والتوكل عليه، والرهبة والرغبة منه وإليه وحده، والتقرب إليه بسائر العبادات البدنية والمالية، إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي تعبد الله بها خلقه وشرعها وبينها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا النوع من التوحيد هو أهم مهمات الرسل إلى أممهم، ومن أجله حصل الجدال وشرع الجهاد، وخلق الجن والإنس، وأنزلت الكتب وأرسل الرسل، وبسببه انقسم الناس إلى شقي وسعيد، وخلقت الجنة والنار.

وقد بيَّن الله هذا التوحيد في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها:

1 -

ما تضمنته سورة الكافرون: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

2 -

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

ص: 69

3 -

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً).

4 -

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

5 -

(فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).

6 -

(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ).

7 -

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

8 -

(فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).

9 -

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

10 -

وقال تعالى حكاية عن الأنبياء قولهم: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).

وبهذا يتبين بطلان ما زعمه بعض المتكلمين بأن غاية التوحيد هو (أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له) لأن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله ليس هو هذه

ص: 70

الأمور الثلاثة التي ذكروها، وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فمن عبد الله لم يشرك به شيئاً فقد وحّده، ومن عبد دونه شيئاً فهو مُشرك به، ليس بموحد مخلص له الدين، وإن كان قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها توحيد.

وقد اتضح لنا من الكلام السابق أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي:

1 -

توحيد الربوبية.

2 -

توحيد الأسماء والصفات.

وهذا القسمان يتعلقان بالعلم والمعرفة.

3 -

توحيد الألوهية أو العبادة، والذي يُقال له: توحيد الطلب والقصد.

فهذه الأقسام الثلاثة (أو الأجزاء الثلاثة) إنما تثبت لنا من وجهين:

الوجه الأول: الاستقراء والتتبع للنصوص:

لقد ثبت بالتتبع والاستقرار: أن التوحيد الذي نزلت به الكتب ودعت إليه الرسل ينحصل في هذه الأقسام للتوحيد، لا يكمل توحيد العبد وإيمانه إلا

ص: 71

باستكمالها جميعاً، وقد أوردنا الأدلة الدالة على هذه الأنواع من القرآن، فهذا غيض من فيض، بل القرآن كله في بيان هذه الأنواع للتوحيد.

قال ابن القيم: (كل سورة في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، بل نقول قولاً كليًا: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به، داعية إليه.

فإن القرآن:

1 -

إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري.

2 -

وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يُعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي.

3 -

وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته.

4 -

وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده.

5 -

وإما خبر عن أهل الشرك، وما فُعل بهم في الدنيا من النكال، فالقرآن كله في التوحيد).

وقال الشيخ حسين بن مهدي النعمي: (لقد تتبعنا في كتاب الله فصول تراكيبه وأصول أساليبه، فلم نجده ـ تعالى ـ حكى عن المشركين أن عقيدتهم

ص: 72

في آلهتهم وشركائهم التي عبدوها من دونه أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت وتنزل من السماء ماء، وتخرج الحي من الميت والميت من الحي.، بل إذا ضاق عليهم الأمر واشتدت بهم الكرب فزعوا إلى الله وحده، فإذا سئلوا عن حقيقة دينهم: هل هو شرك في الربوبية؟ دانوا وأذعنوا للرب وحده بالاختصاص بكل ذلك والانفراد، وهذا واضح لمن ألقى السمع للقرآن فيما حكى عنهم بقوله:(قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)

هل ترى في جميع هذا الذي حكاه الله عنهم: أنهم زعموا منه قليلاً أو كثيرًا، حقيرًا أو خطيرًا لآلهتهم التي هم لها يعبدون، وحولها يعكفون؟ بل صيروا هذه الصفات عطلاً عما تستتبع وتستلزم وتقتضي أن يكون لاحقًا لها ومتعلقًا بها ومنضمًا إليها من التوحيد والتفريد وعدم التشريك والتنديد، بالدعاء والعكوف والقرابين وغيرها.

فهذا شرك القوم واتخاذهم الآلهة الذي كان سببًا أن سجل عليهم ربهم القاهر فوق عباده بالشرك والبغي والضلال والكفر والظلم والجهالة

).

فصرح النعمي رحمه الله بأن من تتبع كتاب الله يجد فيه نوعين من التوحيد ويجد أن الشرك كان في العبادة دون الربوبية.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (وقد دل استقراء

ص: 73

القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال الله تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الآية.

الثاني: توحيده جل وعلا في عبادته.

وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى (لا إله إلا الله) وهي مركبة من نفي وإثبات، فمعنى النفي: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات

ومعنى الإثبات: إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ).

النوع الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته).

فقه نبه فيه رحمه الله إلى أن أقسام التوحيد الثلاثة مأخوذة بالاستقراء

ص: 74

لنصوص القرآن الكريم، فهو إذن من الحقائق الشرعية المستمدة من كتاب الله، وليس أمرًا اصطلاحيًا أنشأه بعض العلماء.

وقال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ـ حفظه الله ـ: (هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن جرير وابن منده وغيرهما

وهو استقراء تام لنصوص الشرع، وهو مطرد لدى أهل كل فن، كما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف، والعرب لم تفه بهذا، ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب، وهكذا من أنواع الاستقراء).

وقال الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة: (وأما تقسيم التوحيد إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهم الله تعالى ـ إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فهذا تقسيم اصطلاحي استقاه العلماء مما جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى، مما رد الله تعالى به على المشركين الذين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، وفي سورة الفاتحة التي يقرؤها المسلم في صلاته مرات كل يوم: دليل على ذلك).

ص: 75

فما آمن بالتوحيد من لم يؤمن بهذه الأنواع المستمدة من نصوص الشرع، إذ التوحيد المطلوب شرعًا هو الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، ومن لم يأت بهذا جميعه فليس موحدًا، وهذا ثابت بالاستقراء، والاستقراء دليل يفيد القطع إذا كان تامًا، فهاهنا نحن استقرينا النصوص الشرعية كلها فلم نجد إلا هذه الأقسام الثلاثة وما يتعلق بها، مما يدل على أن هذه الأقسام قطعية، وهذه الأقسام تشكل بمجموعها جانب الإيمان بالله الذي نسميه التوحيد.

فلا يصح لأحد توحيده إلا باجتماع أنواع التوحيد الثلاثة، فهي متلازمة يلزم بعضها بعضًا، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، وكذلك لا يصح ولا يقوم توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أي نوع منها خلل في التوحيد كله، فمعرفة الله لا تكون بدون عبادته، والعبادة لا تكون بدون معرفته تعالى، فهما متلازمان.

الشبهات حول الاستقراء والردود عليها:

الشبهة الأولى: قولهم: إن للعلماء عبارات مختلفة في تقسيم التوحيد، فمنهم من قال: التوحيد قسمان:

ص: 76

1 -

توحيد في المعرفة والإثبات.

2 -

توحيد في المطلب والقصد.

ومنهم من قال: التوحيد قسمان:

1 -

التوحيد العلمي الخبري.

2 -

التوحيد الإرادي الطلبي.

ومنهم من قال: التوحيد قسمان:

1 -

التوحيد القولي.

2 -

التوحيد العملي.

ويقول بعضهم: التوحيد قسمان:

1 -

توحيد السيادة.

2 -

توحيد العبادة.

وبعض العلماء يذكرون له ثلاثة أنواع ـ كما أسلفنا ـ فلو كان الاستقراء والتتبع صحيحًا لما حصل هذا التناقض.

يقال في الرد عليها: إن تنوع العبارات في التعبير عن أنواع التوحيد لا يدل على التناقض، فإنها متفقة في المضمون، فمثلاً: التوحيد العلمي والخبري، وتوحيد المعرفة والإثبات، والتوحيد القولي، وهكذا توحيد السيادة كلها بمعنى: توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية.

وتوحيد القصد والطلب، والتوحيد الإرادي الطلبي، والتوحيد العملي، وتوحيد العبادة كلها بمعنى توحيد الألوهية.

ص: 77

الشبهة الثانية: إن بعض العلماء لا يذكرون إلا تقسيمًا ثنائيًا.

1 -

توحيد الألوهية.

2 -

توحيد الربوبية.

وبعض العلماء ـ يزيدون عليه تقسيمًا، فيجعلونه ثلاثيًا، بقولهم:

3 -

توحيد الأسماء والصفات.

أفلا يدل هذا على عدم الاستقراء التام؟

الرد عليها: ((تقسيم التوحيد إلى قسمين هذا هو الأغلب في كلام أهل العلم المتقدمين؛ لأنهم يجمعون توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وذلك بالنظر إلى أنها يشكلان بمجموعهما جانب العلم بالله ومعرفته عز وجل، فجمعوا بينهما لذلك، بينما توحيد الألوهية يشكل جانب العمل لله.

وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام راجع إلى اعتبار متعلق بالتوحيد، وتقسيمه إلى قسمين راجع إلى اعتبار ما يجب على الموحد)).

الشبهة الثالثة: هذا الاستقراء ليس بتام، فإنه يذكر عن البعض قسمًا رابعًا وهو:

4 -

توحيد الاتباع أو توحيد الحاكمية (أي التحاكم إلى الكتاب والسنة).

الرد عليها: الملاحظة من الذي ذكر هذا القسم: أن هذا القسم في الحقيقة داخل ضمن توحيد الألوهية؛ لأن العبادة لا تقبل شرعًا إلا بشرطين وهما:

أ - الإخلاص.

ص: 78

ب - الاتباع.

كما قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). وهذا إذا كان العمل مقصورًا في جانب الاتباع فقط، وأما إذا اعتقد حق التشريع لغير الله عز وجل كمن أحل القوانين الوضعية مكان الشريعة المطهرة ودان لها وقضى بها فإنه حينئذ يكون منافيًا لتوحيد الربوبية، فإن التشريع من أمور الربوبية، فالقضاء بغير الكتاب والسنة والعمل بغيرهما مناف لتوحيد الألوهية واعتقاد جواز إحلالها محل شرع الله أو أنها مثل القوانين الأخرى فيسوغ إحلالها محل تشريع الله مناف لتوحيد الربوبية.

ويقول بعض العلماء مبررًا لزيادة هذا الجزء: (لعل مقصود من أفرد (الاتباع) أو (الحاكمية) بقسم مستقل هو إبراز أهمية وتعظيم شأنه نظرًا لانصراف الناس عنه، والله أعلم).

ولكن الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن زيادة توحيد الحاكمية ـ وإن كان لمجرد إظهار أهمية هذا الجانب ـ فإن فيه بعض المفاسد؛ لأنه يفتح أبوابًا من البدع في العقيدة وفي المنهج السلفي النقي، فمثلاً يأتي أحدهم فيزيد توحيد الخالقية وتوحيد الرازقية وتوحيد الاتباع وغيرها من أفراد توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.

ص: 79

وأما إذا كان المراد بزيادة ما سموه بتوحيد الحاكمية؛ أن السلف حين ذكروا أجزاء التوحيد نسوا بعض جوانب التوحيد فقد أخطئوا خطأً فاحشًا بيِّنًا، بل نتج هذا عن فقد حقيقة المعرفة والتصور لأقوال السلف وآرائهم.

هكذا لو أرادوا بذلك أن مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هي توحيد الحاكمية فقط، يلزم منه نسبة القصور إلى دعوة الرسل الذين لم يقيموا الدولة ولا الحكم الشرعي فيها، وحينئذ يكون هذا القول مردودًا بنصوص القرآن والسنة.

وأما إن كان المراد ـ كما يظهر من مؤلفات بعض الكتاب المعاصرين ـ أنه لو قامت الحكومة الإسلامية وحكَّمت الدولة الشريعة الإسلامية فالبدع والخرافات والأعمال الشركية كلها تزول تلقائياً بعدها، حينئذ يكون هذا القول ناتجًا عن فساد في الفكر وعدم معرفة منهج الأنبياء والمرسلين ومنهج سلفنا الصالح في الدعوة إلى الله.

فالحكومة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإلهية فيها لها دورها في القضاء على الفساد والأعمال الشركية ـ كما هو مشاهد في هذه الدولة السعودية المباركة التي أُسست على التوحيد ومخالفة الشرك ـ ولكن مجرد قيام الحكومة الإسلامية لا تصحح عقيدة الناس، والواقع خير شاهد على ذلك، فهناك بعض الدول في العصر الحاضر يفتخر بأنها أقامت دولة إسلامية، وعقائد أهل تلك الديار عقائد وثنية مليئة بالخرافات والأساطير، وذلك لمخالفتهم هدي الأنبياء والرسل في الدعوة إلى الله.

ص: 80

فالأنبياء إنما بدءوا بالدعوة إلى إخلاص العبادة لله ونبذ الشرك به ـ كما هو معروف لدى كل من له أدنى مسكة من معرفة في منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ـ وبعد ما صححت عقيدة الناس قاموا بتطبيق شرع الله والقضاء على ما يخالفه.

وليس المراد به أنني أقلل من أهمية قيام الدولة الإسلامية أو تطبيق الشريعة فيها، فإن أهميته ظاهرة إذ لا يمكن القضاء على كثير من أنواع البدع والشركيات الظاهرة إلا بالسلطة، وهذا ظاهر والحمد لله، ولكن القضاء على الشركيات الموجودة في قلوب الناس لا يمكن إلا بالدعوة إلى توحيد الربوبية والألوهية أولاً وبنبذ ما يخالفهما.

الوجه الثاني من أوجه إثبات تقسيم التوحيد: وجود هذا التقسيم في عبارات السلف إما صراحة وإما إشارة وتلميحًا، وفيما يلي نُقول لبعض أقوالهم الدالة على إثبات نوعي التوحيد:

1 -

ابن عباس: رضي الله عنهما. حيث قال في تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ). قال: (من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماء ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون).

وقال أيضاً في تفسير الآية: (ولئن سألتهم من خلق السماء والأرض ليقولن الله ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، وهم مع ذلك يشركون به، ويعبدون غيره ويسجدون للأنداد دونه).

ص: 81

2 -

مجاهد: قال في تفسير الآية المذكورة: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا يرزقنا، ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره).

وقال أيضًا: (ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السموات والأرض، فهذا إيمانهم ويكفرون بما سوى ذلك).

3 -

قتادة: حيث قال في تفسير هذه الآية: (وهم مشركون في إيمانهم هذا، إنك لست تلقى أحداً منهم إلا أنبأك أن الله ربه وهو الذي خلقه ورزقه، وهو مشرك في عبادته).

4 -

عطاء: يقول في تفسير الآية: (يعلمون أن الله ربهم وهم يشركون به بعد).

وفي رواية عنه: (يعلمون أن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به).

ص: 82

5 -

سعيد بن جبير: قال في تفسير الآية: (من إيمانهم: إذا قيل لهم: من خلق السماء ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون).

6 -

عكرمة: قال في تفسير الآية: (تسألهم من خلقهم ومن خلق السموات والأرض، فيقولون: الله، فذلك إيمانهم بالله وهم يعبدون غيره).

وفي رواية عنه: (من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السموات؟ قالوا: الله، وإذا سئلوا: من خلقهم؟ قالوا: الله، وهم يشركون به بعد).

7 -

عامر الشعبي قال: (يعلمون أنه ربهم وأنه خلقهم وهم مشركون به).

ص: 83

وفي رواية: (ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السموات والأرض، فهذا إيمانهم، ويكفرون بما سوى ذلك).

8 -

قال ابن زيد: معناه: (ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربه وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون قال: فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي تقول:(لبيك الله لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك) المشركون كانوا يقولون هذا).

يفهم من هذه الأقوال: أن هؤلاء العلماء من أئمة السلف كانوا عارفين بنوعي التوحيد؛ حيث ذكروا في تفسير الآية أن المشركين كانوا مقرين بنوع من التوحيد، وهو توحيد الربوبية أو توحيد الله في أنه هو الرب وهو الخالق وهو الرازق وهو المحيي والمميت، ولكن الإقرار بهذا النوع لم يدخلهم في التوحيد ولم يدخلهم في زمرة المؤمنين، بل وسمهم الله بسمة المشركين، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدل على أنهم لم يأتوا بما أمرهم الله عز

ص: 84

وجل به، فهذا التفريق كان موطن الإجماع بين السلف.

فهذه الأنواع من التوحيد كانت معروفة لدى السلف، حتى إن العرب كانوا يعرفونها بسليقتهم، فلم يحتاجوا أن يبينوا هذه الأقسام على حده، بل كان من عرف التوحيد عرف بأقسامه وأبعاده ومقتضياته ومكملاته، فلهذا كانوا يخالفون الرسول عليه الصلاة والسلام ويحاربونه أشد المحاربة.

ولو كان التوحيد هو مجرد معرفة أن الله ربنا وخالقنا، لم يكن بين الأمم ورسلهم اختلاف فإنهم كانوا مقرين بهذا النوع. ولكن الخلاف كان بينهم بين الرسل في الجزء الآخر الذي هو من مستلزمات هذا التوحيد وهو عبادته وحده لا شريك له، فلهذا كانت العرب تقول مستنكرين:(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) أي أجعل المعبودات معبودًا واحدًا؟

فالنضال الذي وقع بينهم وبين الرسل وأتباعهم إنما كان لأجل التوحيد العبادة لله وحده؛ وكان العرب يعرفون ذلك بلسانهم لفصاحتهم وملكتهم وسليقتهم في اللغة، فلهذا كانوا يأبون أن ينطقوا كلمة (لا إله إلا الله) فإنهم يعرفون: أن معناها إخلاص العبادة للخالق الذي نعترف به جميعًا، فترى السلف ـ من الصحابة ـ لم يوضحوا تقسيم هذا التوحيد، لا لأنهم لا يعرفونه، بل لأن هذا الشيء مسلم لدى الجميع، حتى دخل العجم في الإسلام، وأفسدوا ما لدى العرب من ملكتهم، فلم يعرفوا لغتهم ولا مقتضاها اللفظي والبلاغي.

فلما رأى بعض السلف تدهور المفاهيم الشرعية للألفاظ والنصوص الشرعية أرادوا أن يحافظوا على هذه المفاهيم حسب ما كان يعرفه العرب في

ص: 85

زمن الرسول عليه الصلاة والسلام وقبل دخول العجمة في لغتهم، فحرروها في كتبهم وسجلوها في مصنفاتهم حتى تبقى المصطلحات الشرعية على الجادة، فمن هذا المنطلق قسموا ـ أو بتعبير أدق: أظهروا ـ جاء التوحيد للعامة كي لا يغتروا ولا ينسوا بمرور الزمان مدلولاته الشرعية. فترى ذلك واضحًا في أقوال الأئمة والمصنفين في العقيدة والشريعة، كما سيأتي.

9 -

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في كتابه (المنسوب إليه) الفقه الأبسط: (والله يدعى من أعلى لا من أسفل؛ لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء).

فقوله: (يُدعى من أعلى لا من أسفل) فيه إثبات العلو لله، وهو من توحيد الصفات.

وقوله: (من وصف الربوبية) فيه إثبات توحيد الربوبية.

وقوله: (والألوهية) فيه إثبات توحيد الألوهية.

10 -

قال الإمام أبو يوسف رحمه الله: (ليس التوحيد بالقياس، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل في الآيات التي يصف بها نفسه أنه عالم قادر قوي

ص: 86

مالك، ولم يقل: إني قادر عالم، لعله كذا أقدر، بسبب كذا أعلم، وبهذا المعنى أملك، فلذلك لا يجوز القياس في التوحيد، ولا يعرف إلا بأسمائه ولا يوصف إلا بصفاته،

ولم يقل الله: انظر كيف أنا العالم وكيف أنا القادر وكيف أنا الخالق، ولكن قال: انظر كيف خلقت، ثم قال:(والله خلقكم ثم يتوفكم)، وقال:(وفي أنفسكم أفلا تبصرون). أي تعلم أن هذه الأشياء لها رب يقلبه ويبدئها ويعيدها وأنك مكون ولك من كونك، وإنما دل الله عز وجل خلقه بخلقه ليعرفوا: أن لهم ربًا يعبدوه ويطيعوه ويوحدوه، ليعلموا أنه مكونهم لا هم كانوا،

يعرف الله بآياته وبخلقه ويوصف بصفاته ويسمى الله بأسماء كما وصف في كتابه وبما أدى إلى الخلق رسوله

إلى أن قال: إن الله عز وجل خلقك وجعل فيك آلات وجوارح، عجز بعض جوارحك عن بعض، وهو ينقلك من حال إلى حال لتعرف أن لك ربًا وجعل فيك عليك حجة بمعرفته تتعرف بخلقه، ثم وصف نفسه فقال: أنا الرب وأنا الرحمن، وأنا الله وأنا القادر وأنا الملك، فهو يوصف بصفاته ويسمى بأسمائه

فقد أمرنا الله أن نوحده، وليس التوحيد بالقياس؛ لأن القياس يكون في شيء له شبه ومثل، فالله تعالى وتقدس لا شبيه له ولا مثل له

فقد أمرك الله عز وجل أن تكون تابعًا سامعًا مطيعًا ولو يوسع على الأمة التماس التوحيد وابتغاء الإيمان برأيه وقياسه وهواه إذًا لضلوا، ألم تسمع إلى قول الله

ص: 87

عز وجل: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) فافهم ما فسر به ذلك).

فهذا كلام نفيس لأبي يوسف في باب التوحيد وهو ظاهر في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.

11 -

الإمام ابن جرير الطبري قال في تفسير الآية (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ): (ويقول تعالى ذكره: وما يقر أكثر هؤلاء ـ الذين وصف الله عز وجل صفتهم بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) ـ بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء إلا وهم به مشركون في عبادتهم الأوثان والأصنام، واتخاذهم من دون الله أربابًا، وزعمهم: أن له ولدًا، تعالى الله عما يقولون).

يظهر من قول ابن جرير: أنه يرى في تحقيق الإيمان والتوحيد أن يكون موحدًا في العبادة والألوهية كما يعترف بربوبيته وخالقيته ورازقيته، وإلا يبقى مشركًا ويعد فعله مشركًا الذي هو ضد التوحيد، وليس هذا إلا إثبات تقسيم التوحيد إلى توحيد المعرفة والإثبات بنوعيه؛ الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد الطلب والقصد.

ص: 88

12 -

الإمام أبو جعفر الطحاوي في مقدمة متنه في العقيدة المشهورة بالطحاوية:

(نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له ولا شيء يعجزه ولا إله غيره) ولا شك أن فيه بيان أجزاء التوحيد الثلاثة.

13 -

الإمام ابن بطة العكبري: قال: (وذلك؛ أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء:

أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مباينًا لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعًا.

والثاني: أن يعتقد وحدانيته ليكون مباينًا بذلك مذاهب أهل الشرك الذين

ص: 89

أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره.

والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه.

إذ قد علمنا أن كثيرًا ممن يقر به، ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته فيكون إلحاده في صفاته قادحاً في توحيده.

ولأنا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة من هذه الثلاث والإيمان بها).

فهل ثمة أصرح من هذا الكلام في تقسيم التوحيد وابن بطة من علماء السلف المشهورين المتقدمين.

14 -

الحافظ ابن منده: فإنه صنف كتابًا وسماه بـ (كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد) وذكر فيه أقسام التوحيد واستعرض كثيرًا من أدلتها في هذا الكتاب واستدل لها من الكتاب والسنة بشرح وبسط وتفصيل بما لا مزيد عليه.

15 -

شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني:

تنوعت عبارات شيخ الإسلام في هذا الموضوع مع أن المؤدى منها واحد، فتراه مثلاً يقول:

أ- (التوحيد الذي بعث الله به رسوله إما قول وإما عمل، فالتوحيد القولي: مثل سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، والتوحيد العملي: (قُلْ يَا أَيُّهَا

ص: 90

الْكَافِرُونَ) ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك.

ب - وقال في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد))، (والمعنى: أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده أي لا ينجيه و (لا) يخلصه منك جده، وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح، والجد هو الغنى، وهو العظمة وهو المال

فبين في هذا أصلين عظيمين:

أحدهما: توحيد الربوبية، وهو أن لا معطي لما منع الله، ولا مانع لما أعطاه ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا إياه.

الثاني: توحيد الإلهية: وهو بيان ما ينفع، وما لا ينفع، وأن ليس كل من أعطي مالاً أو دينًا أو رئاسة كان ذلك نافعًا له عند الله منجيًا له من عذابه،

وتوحيد الألوهية: أن يعبد الله، ولا يشرك به شيئاً، فيطيعه، ويطيع رسله، يفعل ما يحبه ويرضاه.

وأما توحيد الربوبية، فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه وأرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله ويفعل ما أمر به وهو توحيد الألوهية ويستعين الله على ذلك، وهو توحيد له، فيقول: إياك نعبد وإياك نستعين).

ص: 91

ج - وقال في موضع (في سياق الكلام عن توحيد المتكلمين):

(إنهم أخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية، وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية، وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء، وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)

وإنما التوحيد الذي أمر الله العباد هو توحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية

فيكون الدين كله لله).

د - وقال في موضع آخر:

(وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن ذلك من يظن من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، ويظن هؤلاء أنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد

وذلك؛ أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحدًا، بل ولا مؤمنًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويستلزم بعبادة الله وحده لا شريك

ص: 92

له

)، فـ (شهادة أن لا إله إلا الله فيها الإلهيات، وهي الأصول الثلاثة؛ توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأصول الثلاثة تدور عليها أديان الرسل وما أنزل إليهم، وهي الأصول الكبار التي دلت عليها، وشهدت بها العقول والفطرة).

16 -

الإمام ابن القيم رحمه الله وقد ذكره في أماكن، منها:

أ- ما قال في شرح المنازل: (فصل في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ. التوحيد نوعان: نوع في العلم والاعتقاد، ونوع في الإرادة والقصد. ويسمى الأول: التوحيد العلمي، والثاني: التوحيد القصدي والإرادي، لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة، والثاني بالقصد والإرادة، وهذا الثاني أيضًا نوعان: توحيد في الربوبية وتوحيد في الإلهية. فهذه ثلاثة أنواع. فأما توحيد العلم فمداره على إثبات صفات الكمال وعلى نفي التشبيه والمثال والتنزيه عن العيوب والنقائص).

ب- وقال أيضًا: (وأما التوحيد الذي دعت إليه رسول الله ونزلت به كتبه، فوراء ذلك كله وهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.

ص: 93

فالأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سمواته على عرشه، وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن يشاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه. وأفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة تنزيل السجدة، وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك.

والنوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) الآية، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه

).

وبالجملة: فابن القيم له عبارات كلها تدور حول تقسيم التوحيد إلى الإلهية والربوبية والأسماء والصفات. فمثلاً أنه قال: التوحيد نوعان:

1 -

التوحيد في العلم والاعتقاد، والمراد به: توحيد الأسماء والصفات.

2 -

التوحيد في الإرادة والقصد. والمراد به: توحيد الألوهية والربوبية.

وقال أيضاً: التوحيد نوعان:

1 -

توحيد في المعرفة والإثبات، والتوحيد القولي. والمراد به: توحيد الربوبية والأسماء والصفات.

ص: 94

2 -

توحيد في المطلب والقصد، والتوحيد العملي. والمراد به: توحيد الألوهية.

وربما قال: التوحيد نوعان: أ- عام، ب- خاص.

وأراد بالعام: 1 - توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.

وأراد بالخاص: 2 - توحيد الألوهية.

17 -

العلامة المقريزي: قال في كتابه (تجريد التوحيد المفيد) ما نصه: (اعلم أن الله سبحانه هو رب كل شيء ومالكه وإلهه، فالرب مصدر رب يرب ربًا فهو راب: فمعنى قوله تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) راب العالمين، فإن الرب سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لعباده القائم بتربيتهم وإصلاحهم المتكفل بصلاحهم من خلق ورزق وعافية وإصلاح دين ودنيا.

والإلهية: كون العباد يتخذونه سبحانه محبوبًا مألوهًا ويفردونه بالحب والخوف والرجاء والإخبات والتوبة والنذر والطاعة والطلب والتوكل ونحو هذه الأشياء

ـ إلى أن قال ـ: وهذا التوحيد مقام الصديقين، ولا ريب: أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون بل أقروا بأنه سبحانه وحده خالقهم وخالق السموات والأرض والقائم بمصالح العالم كله، وإنما أنكروا توحيد الألوهية والمحبة

إلخ).

18 -

العلامة ابن أبي العز الحنفي: قال في شرح العقيدة الطحاوية:

ص: 95

(فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني توحيد الإلهية، فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع:

أحدها: الكلام في الصفات.

والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.

والثالث: توحيد الألوهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يُعبد وحده لا شريك له

).

وقد قال ملا علي القاري مثل هذا الكلام في ((شرح الفقه الأكبر)) للإمام أبي حنيفة كما ذكره الشيخ ولي الله الدهلوي: في ((الفوز الكبير في أصول التفسير)).

ص: 96

19 -

شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث إنه قل ما كتب في التوحيد والعقيدة إلا واعتنى بهذا التقسيم، بل دعوته في إبراز هذين النوعين من التوحيد ظاهرة.

فهذه بعض أقوال العلماء من السابقين واللاحقين كلهم على إثبات جزئي التوحيد ـ الربوبية والألوهية ـ وهم سادات هذه الأمة، وليس المراد هنا الحصر، وإنما المقصود بيان نماذج مَن ذكره من العلماء، وليس هناك قضية مثله في الوضوح، فالمنكر له ليس عنده أي مستند شرعي ولا نقل سلفي، وإنما هو مكابر ومعاند، والله أعلم.

العلاقة بين أقسام التوحيد:

هذه الأقسام تشكل بمجموعها جانب الإيمان بالله الذي نسميه (التوحيد) فلا يكمل لأحد توحيده إلا باجتماع أنواع التوحيد الثلاثة فهي متلازمة يكمل بعضها بعضًا، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، وكذلك لا يصح ولا يقوم توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أي نوع منها هو خلل في التوحيد كله.

وقد أوضح بعض أهل العلم هذه العلاقة بقوله: (هي علاقة تلازم وتضمن وشمول، فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية)، وتوحيد الألوهية

ص: 97

متضمن لتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات شامل للنوعين معًا.

بيان ذلك: أن من أقر بتوحيد الربوبية وعلم أن الله سبحانه هو الرب وحده لا شريك له في ربوبيته، لزمه من ذلك الإقرار بأن يفرد الله بالعبادة وحده سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان ربًا خالقًا مالكًا مدبرًا، وما دام كله لله وحده وجب أن يكون هو المعبود وحده. ولهذا جرت سنة القرآن الكريم على سوق آيات ربوبيته مقرونة بآيات الدعوة إلى توحيد الألوهية ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وأما توحيد الألوهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن من عبد الله ولم يشرك به شيئاً فإنه يدل ضمنًا على أنه قد اعتقد بأن الله هو ربه ومالكه الذي لا رب غيره.

وهذا أمر يشاهده الموحد من نفسه، فكونه قد أفرد الله بالعبادة ولم يصرف شيئًا منها لغير الله، ما هو إلا لإقراره بتوحيد الربوبية وأنه لا رب ولا مالك ولا متصرف إلا الله وحده.

وأما توحيد الأسماء والصفات فهو شامل للنوعين معًا، وذلك لأنه يقوم على إفراد الله تعالى بكل ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي لا

ص: 98

تنبغي إلا له سبحانه وتعالى، والتي من جملتها: الرب، الخالق، الرازق، الملك، وهذا هو توحيد الربوبية.

ومن جملتها: الله، الغفور، الرحيم، التواب، وهذا هو توحيد الألوهية.

وبعبارة أخرى: أن التوحيد علمي اعتقادي وعملي طلبي، والعملي متضمن للعلمي، فإذا علم العبد أن ربه لا شريك له في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته نتج عنه أن يعمل على طاعته وعبادته، ومن عبد إلهه ووحده يكون قد اعترف أولاً بأن لا رب غيره يشركه في خلقه وأمره، ولا يجوز العكس؛ لأن القلب يتعلق أولاً بتوحيد الربوبية، ثم يرتقي إلى توحيد الألوهية.

قال ابن القيم: (الإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها هي العبادة والتأليه، ومن لوازمها توحيد الربوبية الذي أُمر به المشركون فاحتج الله عليهم به، فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الألوهية).

وبناء على ما مضى: فهمنا أن توحيد الربوبية والأسماء والصفات وحده لا يكفي لإدخال صاحبه في الإسلام ولا ينقذه من النار ولا يعصم ماله ودمه ـ كما مر بيانه سابقاً ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلمة الشهادة التي دعا إليها الرسل ـ لا إله إلا الله ـ تشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، فقد دلت على توحيد العبادة؛ لأن معناها: لا معبود بحق إلا الله، ففيها إثبات العبادة لله ونفيها عما سواه، ودلت على توحيد الربوبية؛ لأن العاجز لا يكون إلهًا، فإن المعبود لابد

ص: 99

وأن يكون خالقاً مدبرًا، ودلت على توحيد الأسماء والصفات؛ لأن فاقد الأسماء الحسنى وصفات الكمال غير كامل ولا يصلح مَنْ هذا حاله، أن يكون إلهًا خالقًا.

ولمزيد من التفصيل في هذا الباب أذكر هنا فروقًا بين نوعي التوحيد فأقول: إن بينهما فروقاً من عدة اعتبارات:

1 -

الاختلاف في الاشتقاق: فالربوبية مشتقة من اسم الله (رب) والألوهية مشتقة من لفظ (الإله).

2 -

أن متعلق الربوبية الأمور الكونية: كالخلق والرزق، والإحياء والإماتة ونحوها، ومتعلق توحيد الألوهية: الأوامر والنواهي: من الواجب، والمحرم، والمكروه.

3 -

أن توحيد الربوبية قد أقر به المشركون غالباً، وأما توحيد الألوهية فقد رفضوه وذكر الله ذلك في كتابه:(مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقال عز وجل: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ).

4 -

أن توحيد الربوبية مدلوله علمي، وأما توحيد الألوهية فمدلوله عملي.

5 -

أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، بمعنى أن توحيد الألوهية خارج عن مدلول توحيد الربوبية، لكن لا يتحقق توحيد الربوبية إلا بتوحيد الألوهية، وأن توحيد الألوهية متضمن توحيد الربوبية، بمعنى أن توحيد الربوبية جزء من معنى توحيد الألوهية.

ص: 100

6 -

أن توحيد الربوبية لا يُدخِلُ من آمن به في الإسلام بعكس توحيد الألوهية، فإن الإيمان به يدخل في الإسلام.

7 -

يقال لتوحيد الربوبية: توحيد المعرفة والإثبات، ولتوحيد الألوهية: توحيد الإرادة والقصد.

الشبهات حول تقسيم التوحيد والردود عليها:

رغم ظهور هذه القضية فقد خالف فيه من خالف، وتشبثوا بشبه عديدة يحاولون بها إنكار تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وقالوا بترادف الألوهية والربوبية، وهم فئتان:

أ - المتكلمون من الماتريدية والأشعرية، فقد زعموا: أن الألوهية بعينها هي الربوبية.

ب - القبورية المتصوفة: حيث قالوا: إن الألوهية بعينها هي الربوبية بدون فرق وتمييز بينهما، فهما متحدان لا متغايران.

وسأذكر فيما يلي مجمل شبهاتهم مع الردود عليها:

الشبهة الأولى: الإله هو الرب، والرب هو الإله، فيكون توحيد

ص: 101

الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود والاعتقاد.

الرد: سبق أن ذكرنا معنى الإله والرب في اللغة والشرع، واتضح لنا أن لفظ الإله ومعناه غير الرب ومعناه في اللغة والشرع وهو المعروف عند سلف هذه الأمة. بقي أن نشير هنا إلى قاعدة مهمة لإزالة لبسٍ قد يقع، وهي: أن أسماء الله أعلام وأوصاف، فهي باعتبار دلالتها على الذات أعلام، وباعتبار دلالتها على المعنى أوصاف، وهي بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد وهو الله عز وجل، وبالاعتبار الثاني متباينة لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص، فمن قال بترادفها بالاعتبار الثاني فهو جاهل؛ إذ لم يميز بين معنى الإله ومعنى الرب، ولم يعن نفسه بمطالعة كتب اللغة وكلام أهل العلم ليظهر له الفرق.

الشبهة الثانية: إذا كان كفار مكة مقرين بتوحيد الربوبية فهل يكون توحيدهم هذا صحيحًا؟ وهل للكفار توحيد صحيح؟ وإذا لم يكن توحيدهم صحيحًا معناه أنهم ما كانوا مقرين بالتوحيد، فلا عبرة بهذا التقسيم.

الرد: لم يصف أحد من أهل العلم من جاء بتوحيد الربوبية بأنه موحد هكذا على الإطلاق، وإنما يوصف الموحد عندهم من جاء بالتوحيد بأقسامه (أجزائه) الثلاثة، وإنما يأتي في كلام أهل العلم عمن أثبت ربوبية الله وأنه

ص: 102

وحده هو الخالق الرازق المالك المدبر لا شريك له، ثم لم يفرده بالعبادة بأنه مقر بتوحيد الربوبية أو معترف بتوحيد الربوبية أو نحو ذلك، ولا يرون أن هذا ينجيه من عذاب الله أو يخرجه من وصف الكفر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق وقرره أهل الكلام فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم).

وقال ابن القيم: (وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر وقرره أهل الكلام في كتبهم فلا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم كما بيَّن ذلك سبحانه في كتابه في عدة مواضع).

وقال الصنعاني: (الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد

).

ثم إن إطلاق أهل العلم لمن أثبت ربوبية الله وأنه الخالق الرازق

إلخ، بأنه مقر بتوحيد الربوبية وإن كان مشركًا في العبادة قول مطابق لما جاء في القرآن الكريم، قال تعالى:(فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون).

قال ابن عباس: (أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر

ص: 103

وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق). وقال قتادة:(أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السموات والأرض ثم تجعلون له أندادًا).

وقال ابن جرير: (

ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها (أي عن العرب) أنها كانت تقر بالوحدانية غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جل ثناؤه

(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)

) وقد سبق إيراد أقوال السلف في تفسير هذه الآية التي تدل على أنهم كانوا يطلقون على من اعترف بالله خالقًا وعبد معه غيره بأنه اعترف بتوحيد الربوبية إلا وهو مشرك في عبادته غيره، ولهذا قال الصنعاني:(ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى).

ثم هنا أمر لابد من تقريره وإيضاحه وهو أن قول أهل العلم عن المشركين بأنهم يعترفون بتوحيد الربوبية ليس المراد به أنهم اعترفوا بهذا القسم من التوحيد على التمام والكمال، فهذا لا يقول به أحد من أهل العلم، وإنما مرادهم تقرير ما ثبت في القرآن عن المشركين من اعترافهم ببعض صفات الربوبية وخصائصها.

ثم إن هذا ليس حكمًا عامًا مطردًا على جميع المشركين، بل وهم كما قال شيخ الإسلام: (إن كثيرًا من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض

ص: 104

الممكنات أو حدوث بعض الحوادث إلى غير الله، وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب، وهم مع شركهم وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية لا يثبتون مع الله شريكًا مساويًا له في أفعاله ولا في صفاته).

فعلمنا بذلك أنه لم يقل أحد من أهل السنة أن من أشرك في الألوهية وأقر بالربوبية يكون توحيده صحيحًا، ويوجب له دخول الجنة، كيف وقد قال الله تعالى:(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)، فالآية فيها الإطلاق، أي من يشرك بالله شركًا أكبر في الألوهية أو الربوبية يدخل النار.

وأما فهم أن من أقر الله بالربوبية يكون توحيده صحيحًا، فهذا على أصل الأشاعرة والماتريدية وزملائهم الصوفية، فإن توحيد الربوبية هي الغاية العظمى عندهم، وليس عندنا.

الشبهة الثالثة: هل سمع المسلمون في الأحاديث والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب: ليسلموا على يده يفصل لهم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؟ ويخبرهم أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم الإسلام؟ .

الرد على هذه الشبهة: من وجهين:

الأول: يقال من باب المعارضة: وهل قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الوحدانية تكون في الذات والصفات والأفعال كما نص عليه الأشاعرة على أن هذه هي أنواع التوحيد؟ وكما نص عليه أئمة القبورية؟

ص: 105

الثاني: إن الشبهة ـ كما يفهم من السؤال الاستنكاري ـ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفصل لأجلاف العرب نوعي التوحيد؛ لا تخلو من أحد احتمالين:

الاحتمال الأول: إما أن يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لهم معنى التوحيد فهذا باطل ـ يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، ويمكن أن يعلم بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للتوحيد بنهيه عن الشرك وتحذيره منه، وبيان خطره وقبحه ـ كما سيأتي بيانه في مبحث آخر ـ وبإقامة البراهين والحجج على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة بأنواع من الأدلة كبيان ربوبية الله وإنعامة وتقرير المشركين بذلك، وبيان ضعف وعجز من يعبد من دون الله، وبيان وسائل الشرك وذرائعه ونهيه وتحذيره منها، فكيف يقال بعد هذا كله: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين نوعي التوحيد معنى؟ !

الاحتمال الثاني: أو يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص لفظًا على أن التوحيد ينقسم إلى الربوبية والألوهية، فهذا حق، ولكن لا يلزم منه ألا يكون قد بين معنى التوحيد، فهذه أمور لو كانت أمورًا اصطلاحية فقط كما اصطلح الأشاعرة على تقسيمهم القاصر للتوحيد لما كان هناك أي حجة لهم في إنكارها، فضلاً عن كون هذه الأمور (التقسيم) من الحقائق الشرعية المستمدة من كتاب الله تعالى، وليس أمرًا اصطلاحيًا أنشأه بعض العلماء، والأدلة دالة على شمول تقسيم أهل السنة للتوحيد.

الشبهة الرابعة: أن القول بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات شر بدعة أحدثها السلفية، بل أي دين سوى دين النصرانية ذلك الدين الذي يثبت لله تعالى أقانيم ثلاثة، فتثليثهم أشبه بتثليث

ص: 106

النصارى.

الرد:

1 -

أن التثليث عقيدة نصرانية تقوم على أساس جعل الآلهة ثلاثة، وهم: الأب والابن وروح القدس، وقد كفرهم الله بها في محكم تنزيله، أما تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات أو إلى قسمين: توحيد معرفة وإثبات، توحيد إرادة وطلب، فهذه عقيدة المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سوى المبتدعة الضلال، وقد سبق أن أوردنا أدلة القرآن والسنة على إثبات هذه الأنواع بما لا مزيد عليه.

2 -

ثم يقال لهم: ألستم تقولون: (هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك له)، فقد أثبتم ثلاثة أقانيم ما فررتم منها ورميتمونها بها، فما جوابكم فهو عين جوابنا.

3 -

هذه الأقسام الثلاثة هي أقسام حقوق الله تعالى، وليست أقسام الآلهة كما في عقيدة النصارى.

الشبهة الخامسة: إن هذا التقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية، بل هو الذي اخترعه.

الرد عليها: هذه الشبهة تدل على قصور علمهم وقلة خبرتهم ومعرفتهم

ص: 107

بكتب السلف الصالح؛ إذ هي مليئة بالتصريح تارة وبالإشارة تارة إلى هذه الأقسام، ولو ذهبت أنقل كل ما في ذلك لطال المقام، ولكن حسبي ما أوردت بعض النقول من النصوص المشتملة على ذكر أقسام التوحيد الثلاثة لبعض الأئمة الذين كانوا قبل شيخ الإسلام ابن تيمية ليظهر كذب من يتهم شيخ الإسلام بهذه التهمة حيث أوردت قول كل من الإمام ابن بطة، وابن منده، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، وابن جرير الطبري وغيرهم، رحمهم الله.

إشكال:

فإن قيل: إن كثيرًا من العلماء ـ الذين صنفوا في علم الكلام (من المتكلمين) قد أعرضوا عن بيان هذه الأقسام للتوحيد، بل أغلبهم بذلوا جهودهم في إثبات الجزء الأول من التوحيد، ولم يتعرضوا للأجزاء الأخرى، فهل هناك سبب معين في إعراضهم عن ذكر توحيد الألوهية؟ وهل هذا ناتج عن عدم فهمهم للآيات القرآنية والسنة الصحيحة، وهل كان الجميع ـ متقدموهم ومتأخروهم ـ بمعزل تام عن معرفة هذا الجزء من التوحيد؟

دفع الإشكال: لا، بالتأكيد، بل لعل المتقدمين كانوا يعرفون هذا الجزء ـ وإنما لم يصنفوا تصانيف مستقلة بالبحث عن حقيقة توحيد الألوهية وما يضاده من الشرك ومظاهره وذرائعه ووسائله؛ لأنه لم يظهر ما ظهر عن المتأخرين من جماهير الطوائف.

والذي يؤكد هذه الحقيقة ـ أن علماء أهل السنة والجماعة الذين تصدوا للرد على الأشعرية وغيرهم لم يذكروا ـ فيما أعلم ـ مسائل توحيد الألوهية فيما خالف فيه أولئك، فلو كان عندهم شيء مخالف لذكروه ولردوا عليه.

ص: 108

وبالجملة: فهذا يؤكد أن المتقدمين من الطوائف وقدماء الأشاعرة والماتريدية لم يكونوا ينازعون في أن الاستعاذة بغير الله لا تجوز، وكذلك الدعاء والاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله والحلف وغير ذلك. كما ينازع المتأخرون منهم والمتصوفة المنبثقة من المتكلمين، ويفهم هذا من وجهين:

الأول: تنصيص بعض المتقدمين من الأشاعرة على توحيد الألوهية، ومن ذلك:

أ- ما قاله الباقلاني: والتوحيد له هو (الإقرار بأنه ثابت موجود وإله واحد فرد معبود ليس كمثله شيء)، وقال أيضاً:(إنه ليس معه إله سواه ولا من يستحق العبادة إلا إياه).

وممن صرح به من المتأخرين: الباجوري حيث قال معرفًا للتوحيد: (هو إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته والتصديق بها ذاتًا، وصفاتًا، وأفعالاً)، فهذا التعريف ـ مع ملاحظة الإجمال فيه في الأسماء والصفات ـ شامل لجميع مدلولات التوحيد.

ب- وأيضًا مما يؤكد أن المتقدمين منهم كانوا يعرفون ما يجهله كثير من

ص: 109

متأخريهم في هذا الزمان من أن الدعاء والرغبة والرهبة والخوف لا يكون إلا الله ومن الله ما ورد من أقوالهم في ذلك وتحذيرهم عن بعض صور الشرك وذرائعه، منها:

1 -

ما قال الحليمي: (والدعاء [في] الجملة من جملة التخشع والتذلل؛ لأن كل من سأل ودعا فقد أظهر الحاجة وباح واعترف بالذلة والفقر والفاقة لمن يدعوه ويسأله، فكان ذلك في العبد نظير العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز اسمه، ولذلك قال الله عز وجل: (ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)، فأبان [أن] الدعاء عبادة، والخائف فيما وصفنا كالراجي؛ لأنه إذا خاف خشع وذل لمن يخافه وتضرع إليه في طلب التجاوز عنه].

وقال أيضًا: (إنه لا ينبغي أن يكون الرجاء إلا لله جل جلاله إذ كان المنفرد بالملك والدين، ولا يملك أحد من دونه نفعًا ولا ضرًا).

2 -

قال الرازي: (قال الجمهور الأعظم من العقلاء: إن الدعاء أهم

ص: 110

مقامات العبودية، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل

) فذكرها.

وقال أيضًا: (إنه عليه السلام قال: ((الدعاء هو العبادة))

فقوله: ((الدعاء هو العبادة)) معناه: معظم العبادة وأفضل العبادة).

وقال أيضًا: (كل من اتخذ لله شريكًا فإنه لابد وأن يكون مقدمًا على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه إما طلبًا لنفعه أو هربًا من ضرره، وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله وخوفهم ورغبتهم في الله ورهبتهم في الله، فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ولم يستعينوا إلا بالله، فلهذا قالوا: (إياك نعبد وإياك نستعين) فكان قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) قائماً مقام: لا إله إلا الله).

فهذه الأقوال فيها رد على زعم كثير من المتأخرين الذين يجيزون دعاء غير الله مطلقًا، وعلى قولهم: إن ذلك لا يكون شركًا إلا إذا اعتقد الداعي التأثير في المدعو من غير الله.

الوجه الثاني: الذي يدل أيضًا على أن أمر توحيد الألوهية كان معروفًا لدى بعض منهم، أنه لما حدثت بعض ذرائع الشرك ومظاهره في توحيد الألوهية عند بعض المسلمين أنكر بعض أئمة المتكلمين ذلك، ومن هؤلاء:

1 -

الرازي: في تفسير قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا

ص: 111

يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ) نقل في بيان كيفية اتخاذ المشركين آلهتهم شفعاء اختلاف العلماء في ذلك: ستة أقوال، فذكر بعد الثلاثة الأولى قوله:(ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله تعالى، ونظيره في هذا الزمان: اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء عند الله).

2 -

قول أبي شامة: (قد عم الابتلاء ـ أي النبذ للشريعة من تزيين الشيطان العامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكى لهم حاك: أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن اشتهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمون بها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر

فما أشبهها بذات أنواط الوارد في الحديث.

ص: 112