المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: الشرك بالله جل وعلا في الربوبية في صفته العلم المحيط ومظاهره في العصر الحديث - الشرك في القديم والحديث - جـ ٢

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله جل وعلا في الربوبية في صفته العلم المحيط ومظاهره في العصر الحديث

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في صفته الحكم والتشريع المطلقين بإثباتهما لغيره سبحانه

- ‌أما الجانب الثاني: ففي الشرك في الربوبية بالأنداد إثبات صفة المخلوق للخالق سبحانه

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى القاديانية

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى المتصوفة والمتكلمين

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوقات لله جل شأنه لدى الحداثيين

- ‌الفصل الثاني مظاهر الشرك بالله جل وعلا في العصر الحديث فيما يتعلق بعبادته

- ‌المبحث الأول: في بيان مظاهر الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بأعمال القلوب

- ‌المطلب الأول: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالمحبة

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالخوف

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالرجاء

- ‌المطلب الرابع: الشرك بالله في عبادته بالتوكل

- ‌المطلب الخامس: الشرك بالله في عبادته بالطاعة

- ‌المطلب السادس: الشرك بالنية والإرادة والقصد

- ‌المبحث الثاني: في بيان مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأعمال القلبية مع الجوارح (شرك التقرب والنسك)

- ‌المطلب الأول: في بيان شرك التقرب والنسك بالركوع والسجود والقيام وغيرها لغير الله

- ‌المطلب الثاني: في بيان شرك التقرب والنسك بالذبح والنذر لغير الله

- ‌المبحث الثالث مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأقوال القلبية (شرك الدعوة)

- ‌المبحث الرابع أهم شبهات القبوريين وردها

- ‌الفصل الثالث وجوب الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌المبحث الأول في معنى الإخلاص لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثاني وجوب الإخلاص في الدين

- ‌المبحث الثالث موانع الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌الباب الخامس المقارنة بين شرك القديم والحديث

- ‌الفصل الأول مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث أنواعه

- ‌الفصل الثاني مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث توافق الأسباب

- ‌الباب السادس في بيان بطلان الشرك بأوضح الأدلة

- ‌الفصل الأول تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك

- ‌المبحث الأول في بيان تقرير الله عز وجل في القرآن الأدلة الكونية على قبح الشرك

- ‌المطلب الأول: في بيان اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية الدالين على قبح الشرك

- ‌المطلب الثاني: في بيان آية السموات والأرض الدالة على قبح الشرك بالله

- ‌المطلب الثالث: آية الشمس والقمر والليل والنهار الدالة على قبح الشرك

- ‌المطلب الرابع: آية الرياح والمطر والنبات الدالة على قبح الشرك

- ‌المبحث الثاني تقرير القرآن قبح الشرك بضرب الأمثال

- ‌المطلب الأول: الأمثال المضروبة لله وحده ولما يعبد من دونه

- ‌المطلب الثاني: المثل المضروب لكلمة التوحيد وكلمة الشرك

- ‌المطلب الثالث: مثل للحق والباطل

- ‌المطلب الرابع: أمثلة عجز آلهة المشركين

- ‌المطلب الخامس: الأمثال المضروبة لوصف حال المشرك وحالة الموحد

- ‌المطلب السادس: مثل قلب الموحد وقلب المشرك

- ‌المطلب السابع: أمثلة وصف حواس الموحد وحواس المشرك

- ‌المطلب الثامن: مثلان لبيان فساد أعمال المشركين وهما يدلان على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الثالث تقرير الله عز وجل قبح الشرك وبطلانه ببعض القصص القرآني

- ‌الفصل الثاني تنوع دلالات السنة على قبح الشرك وبطلانه

- ‌الفصل الثالث تنوع دلالات الفطرة والعقل على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الأول في بيان معنى الفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في بيان معنى الفطرة

- ‌المطلب الثاني: في معنى العقل

- ‌المبحث الثاني في إثبات كون الشرك مخالفاً للفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في إثبات كون الشرك مخالفًا للفطرة

- ‌المطلب الثاني: في أن الشرك مخالف للعقل

- ‌المبحث الثالث الاستدلال بالأدلة العقلية القرآنية على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المطلب الأول: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالله الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل وبطلانه

- ‌المطلب الثاني: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالأصنام الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل، وبطلانه

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المطلب الثاني: الشرك بالله جل وعلا في الربوبية في صفته العلم المحيط ومظاهره في العصر الحديث

على الله، ويوهن العزيمة وبذلك يعتبر شركًا من هذه الناحية، والقاعدة: أن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرك سببًا فإنه مشرك).

فهذه بعض أنواع الشرك بالله جل شأنه في الربوبية في صفته القدرة الكاملة في العصر الحاضر.

وفيما يلي بيان بعض أنواع الشرك بالله جل وعلا في صفته العلم الشامل المحيط في العصر الحاضر.

‌المطلب الثاني: الشرك بالله جل وعلا في الربوبية في صفته العلم المحيط ومظاهره في العصر الحديث

لقد وقع في هذا النوع من الشرك عدة فرق ونحل في العصر الحاضر. وفيما يلي بيان أبرز من وقع في هذا النوع من الشرك من الفرق والنحل مع الردود على شبهاتها ـ بمشيئة الله ـ في الفروع التالية:

الفرع الأول: مظاهر الشرك بالله جل شأنه في الربوبية في صفته العلم المحيط لدى الشيعة:

الشيعة ترى أن أئمتهم يعلمون المغيبات، ولعل الشيعة هم أول من قالوا بمثل هذا القول في الإسلام، فلهم السبق في هذا الميدان كالميادين الأخرى

حيث يرون أن أئمتهم فوق البشر، وفوق الأنبياء والرسل، بل آلهة يعلمون أعمار الناس وآجالهم، ولا يخفى عليهم خافية، ويملكون الدنيا كلها، ويغلبون على جميع الخلق، ويرتعد الكون من هيبتهم وشدة بأسهم، يدين لهم الملائكة كما دان لهم الأنبياء والرسل، ولا يضاهيهم أحد. وفيما يلي جملة من النصوص من كتب الشيعة تدل على هذا الاعتقاد.

1 -

يروى في الكافي تحت باب: (إن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا):

ص: 948

عن جعفر أنه قال: إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم.

2 -

وروي تحت باب: (إن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم): عن جعفر بن الباقر أنه قال: (أي إمام لا يعلم ما يغيبه وإلى ما يصير، فليس ذلك بحجة الله على خلقه).

فهذه بعض النصوص الدالة على اعتقادهم تجاه أئمتهم بأنهم يعلمون المغيبات، بل لو سألت أي شيعيّ في هذا العصر تراه يجيب بمثل هذا الجواب، ما لم يتلبس بالتقية ـ النفاق ـ.

وهؤلاء في اعتقادهم هذا لم يستندوا لا من الكتاب ولا من السنة، وإنما افتروا على هؤلاء الأئمة الذين هم برآء من مثل هذا الاعتقاد كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب. فهؤلاء مفترون وكاذبون على دعواهم هذه، فلا أشتغل بالرد عليهم، على أمل أن يكون هناك رد مقنع على المتصوفة الذين يعتقدون مثل هذا الاعتقاد تجاه أوليائهم وصلحائهم، يكون ردًا على الشيعة أيضًا.

الفرع الثاني: مظاهر الشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في صفة العلم المحيط الشامل لدى المتصوفة:

لقد وقع المتصوفة في هذا النوع من الشرك بالله جل شأنه.

وقد سبق معنا: أنهم يعتقدون التصرف في الكون لأرباب التصوف وبالتالي يرون أنهم ينادونهم ويزعمون أن هؤلاء الأولياء يعلمون أحوالهم ونداءاتهم، وقد سبق بيان هذا النوع من الشرك، وإنما المقصود هنا بيان كون الاعتقاد في التصرف والنداء والاستغاثة والاستعانة والنداء لكشف الكربات ودفع البليات وجلب المنافع ودفع المضرات وغيرها لا يتأتى إلا باعتقاد علم

ص: 949

الغيب فيمن ينادونهم ويستغيثون ويستنصرون بهم. وهذا واضح.

ثم هناك نصوص صريحة عند المتصوفة تدل على ما قلناه بأنهم يعتقدون علم المغيبات للنبي صلى الله عليه وسلم ولأرباب التصوف. وفيما يلي بيان ذلك من كتبهم.

اعتقادهم علم الغيب للنبي صلى الله عليه وسلم:

غالت المتصوفة يعتقدون علم الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفوه بأنه عالم بجميع ما كان ما يكون أزلاً وأبدًا، وأنه يعلم جميع ما في اللوح المحفوظ؛ بل هذا كله من علومه صلى الله عليه وسلم! وأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما في الضمائر والقلوب من الأسرار، وأنه لا تخفى عليه خافية، وأنه لا يخرج من علمه شيء، الكلام ها هنا في عدة أنواع.

النوع الأول: علم ما كان وما يكون.

تعتقد المتصوفة أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم جميع ما كان وما يكون من المخلوقات والموجودات أزلاً وأبدًا، لا تخفى عليه منها خافية.

وهذه العقيدة من أعظم عقائد البريلوية خاصة وصراحة. كما توجد هذه العقيدة عند الآخرين الذين تأثروا بهم من المتصوفة في العصر الحاضر. فقالوا: إن الله تعالى أعطى المصطفى صلى الله عليه وسلم علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما يكون، وعلم ما في السموات وما في الأرض.

النوع الثاني: علم جميع ما في اللوح المحفوظ وما سطره القلم وزيادة:

ص: 950

وأحسن من تمثل هذا القول هو البوصيري حيث قال:

فإن من علومك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

وكلهم من رسول الله ملتمس

غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم

والبريلوية قالوا بمثل هذا القول، بل زادوا عليه: بأن علم اللوح والقلم سطر من سطور علمه صلى الله عليه وسلم ونهر من بحور علمه بل ذرة منها. ولهذا قال: إنه كان يعلم القرآن قبل ولادته؛ لأنه كان يعلم جميع ما في اللوح المحفوظ.

النوع الثالث: علمه صلى الله عليه وسلم محيط بجميع الكون. لم يحجب عن روح رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، فهو المطلع على عرشه، وعلوه وسفله، ودنياه وآخرته، وناره وجنته، فعلمه محيط بجميع المعلومات الغيبية الملكوتية.

النوع الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر في كل مكان وزمان، وهو يشاهد العالم كله من المدينة، وأن السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى جميع الناس في زمان واحد وفي جميع الأقطار المتباعدة بدون أي إشكال، بل روح النبي صلى الله عليه وسلم حاضر في بيوت أهل الإسلام، وإن القطب يملأ الكون ويكون حاضرًا وناظرًا وشاهدًا في كل مكان في الكون، فما بالك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما يحدث في الكون من المشرق إلى المغرب ومن السماء إلى الأرض حتى قبل إبراهيم بآلاف السنين، فهو صلى الله عليه وسلم يعلمه ويراه من

ص: 951

حيث إنه موجود في كل مكان وزمان.

النوع الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الأمور الخمسة من وقت الساعة ووقت نزول الغيث، وعلم ما في الأرحام، وأوقات موت الأنفس، وأين تموت. بل كان يعطي علوم هذه الخمسة من يشاء من خدمه.

فهذه عقائد القوم في النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يعلم المغيبات كلها وجلها، وهي لا شك في كونها شرك بالله في الربوبية في صفته العلم المحيط.

اعتقادهم تجاه ـ ما يزعمون أنهم من ـ الأولياء والصالحين:

كما غالت المتصوفة في الرسول صلى الله عليه وسلم وجعلوه عالمًا بكل المغيبات بأشكالها وأنواعها وعالمًا بجميع علوم الدنيا، وعالمًا لما كان وما سيكو، وموجودًا عند كل واحد، وعارفًا بأحوال أمته في كل لحظة ونفس، هكذا غالوا في أوليائهم وصلحائهم وأرباب تصوفهم ومشايخهم أنهم يعلمون أخبار السماء، واعتقد بعضهم فيهم بأنهم يعلمون ما في باطن الأرض، وبعضهم على أنهم يعلمون ما في باطن القلوب، وبعضهم اعتقدوا أن أولياءهم يعلمون الأمور المستقبلية.

ص: 952

وفيما يلي نقل يسير عن هذا الاعتقاد من بطون كتبهم:

من الصوفية الذين زعموا بأن الأولياء يعلمون الغيب أبو القاسم القشيري، فقد ادعى بأن الإنسان وهو يترقى في درجات السلوك التي وضعها الصوفية لمريدهم قد يصل إلى مرحلة يصبح لا يخفى عليه شيء من هذا الكون، فقد قال وهو يتحدث في بيان درجات السلوك:

(ثم من خلال هذه الأحوال قبل وصوله إلى هذا المقام الذي هو نهاية، وكان يرى جملة الكون يضيء بنور كان له، حتى لم يخف من الكون عليه شيء، وكان يرى جميع الكون من السماء والأرض رؤية عيان ولكنه كان لا يرى في هذا الوقت بعين؛ لأنه شيء ولكن لم يكن هذه رؤية علم بل لو تحرك في الكون ذرة أو نملة).

إذا نظرنا في النص السابق نجد أن القشيري ادعى بأن الإنسان قد يصل إلى مرحلة يرى فيها كل شيء في هذا الكون حتى حركات الذرة والنملة الصغيرة، بمعنى أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذا وصف لا يليق إلا بالله، فما أجرأ المتصوفة على الله وتعديهم على حقوقه ووصف أوليائهم المزعومين بها.

ونقل الكلاباذي عن أبي عبد الله الأنطاكي أنه قال: (إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق، فإنهم جواسيس القلوب، يدخلون في أسراركم

ص: 953

ويخرجون من هممكم).

ومن الصوفية الذين زعموا أن الأولياء يعلمون الغيب عبد الكريم الجيلي؛ فقد زعم بأنه رأى العوالم العلوية والسفلية بعد أن كشف الله له الحجب، وأنه شاهد الملائكة جميعًا وتبادل الحديث معهم والرسل والأنبياء، وإليك نص كلامه في هذا المجال، قال:

((وفي هذا المشهد اجتماع الأنيباء والأولياء بعضهم ببعض أقت فيه يزيد بشهر ربيع الأول سنة ثمانمائة من الهجرة النبوية، فرأيت جميع الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والأولياء والملائكة العالين والمقربين وملائكة التسخير، ورأيت روحانية الموجودات جميعها، وكشفت عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد، وتحققت بعلوم الألوهية لا يسع الكون أن نذكرها فيه. ثم زعم بأنه رأى نوحًا عليه السلام في السماء الثانية جالسًا على سرير خلق من نور الكبرياء بين أهل المجد والثناء فسلم عليه. وتمثل بين يديه فرد عليه السلام ورحب به وقام

إلى أن قال: وروحانية الملك الحاكم على جميع ملائكة هذه السماء عجائب من آيات الرحمن وغرائب من أسرار الأكوان لا يسعنا إذاعتها في أهل هذا الزمان. ثم واصل الجيلي افتراءاته فادعى أنه رأى في السماء الثالثة يوسف عليه السلام وأنه دار بينهما حديث، وأنه كان يعلم تلك العلوم التي أخبره بها يوسف قبل أن يتفوه بها.

حيث قال: اجتمعت في هذه السماء مع يوسف عليه السلام، فرأيته على سرير من الأسرار كاشفًا عن رمز الأنوار، عالمًا بحقيقة ما انعقدت عليه أكلة الأحبار، متحققًا بأمر المعاني مجاورًا عن قيد الماء والأواني، فسلمت عليه

ص: 954

تحية وافد إليه فأجاب وحيًا ثم رحّب بي. ثم زعم الجيلي أن السماء الرابعة هيَ قاب الشمس وأن فيها إدريس، وأن أكثر الأنبياء في دائرة هذا الفلك المكين مثل عيسى وسليمان وداود وإدريس وجرجيس

وغيرهم.

وهنا كما نرى ذكر الجيلي اسم نبي لم نجد له ذكر في القرآن ولا في السنة فمن أين علم ذلك (جرجيس)؟ .

ثم واصل الجيلي وصفه للسموات وما تحتويها، فقال في وصف السماء الخامسة:(هي سماء الكوكب المسمى بهرام، وحاكم هذه السماء هو الملك المسمى غزرائيل، وهو روحانية المريخ صاحب الانتقام والتوبيخ).

وذكر الجيلي أيضًا أنه رأى في السماء السادسة موسى عليه السلام ودار بينهما حديثٌ طويلٌ، ثم قال إنه رأى في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام قائمًا في هذه السماء وله منصة يجلس عليها على يمين العرش من فوق الكرسي وهو يتلو آية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).

إلى أن قال: (إنه صعد إلى سدرة المنتهى، وأنه رأى هناك الملائكة وأنها على هيئات مختلفة وأمامهم سبعة ثم ثلاثون ثم ثلاثة ثم ملك مقدم يسمى عبد الله، وأنهم أخبروه أنهم لم يسجدوا لآدم).

ثم بدأ عبد الكريم الجيلي في وصف الأراضي السبعة، فقال:

(وأما الطبقة الأولى من الأرض فأول ما خلقها الله كانت أشد بياضًا من اللبن وأطيب رائحة من المسك فأعبرت لما أهبط آدم عليه السلام عليها بعد أن عصى الله تعالى، وهذه الأرض تسمى أرض النفوس

دورة كرة هذه

ص: 955

الأرض مسيرة ألف عام ومائة عام وستة وستون عامًا ومائتا يوم وأربعون يومًا

ثم سلك الإسكندر الجانب الجنوبي

وهو الظلمات حتى بلغ يأجوج ومأجوج وهم في الجانب الجنوبي من الأرض لم تطلع الشمس على أرضهم أبدًا، ثم سلك الجانب الشمالي حتى بلغ محلاً منه لم تغرب الشمس فيه، وهذه الأرض بيضاء على ما خلقها الله تعالى عليه هي مسكن رجال الغيب وملكها الخضر عليه السلام، وهي قريبة من أرض بلغار، وبلغار بلدة في العجم لا تجب فيها صلاة العشاء أيام الشتاء؛ لأن شفق الفجر يطلع قبل غروب شفق المغرب فيها

وهذه الأرض أشرف الأراضي وأرفعها قدرًا لأنها محل النبيين والمرسلين والأولياء والصالحين).

واسترسل في مكان آخر ببيان الأفراد والأقطاب إلى أن قال: (فكل أحد من الأفراد والأقطاب له التصرف في جميع المملكة الوجودية، ويعلم كل واحد منهم ما اختلج في الليل والنهار، فضلاً عن لغة الطيور، وقد قال الشبلي:

(لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أسمعها لقلت: إني مخدوع أو ممكور بي). وقال غيره: (لا أقول: ولم أشعر بها؛ لأنها لا تدب إلا بقوتي وأنا محركها فكيف أقول: لا أشعر بها وأنا محركها؟ ).

إذا نظرنا في النصوص السابقة نجد أن عبد الكريم الجيلي صرح بأن الأولياء يعلمون الغيب بشتى أصنافها، فليس هناك من حاجة تخفى على الأولياء كبرت أو صغرت، وهذا طبعًا حسب زعمه، وإلا فالغيب علمه خاص

ص: 956

بالله عز وجل لا يشركه فيه أحد من خلقه.

وقال عبد الكريم الجيلي في مكان آخر وهو يتحدث عن الأولياء: (فإذا كشف الحجاب وفتح لهم الباب علم العوالم بأجمعها على ما هي عليه من تفاريعها من المبدأ إلى المعاد، وعلم كل شيء، كيف هو كائن وكيف يكون، وعلم ما لم يكن ولم لا يكون ما لم يكن، ولو كان ما لم يكن كيف كان يكون، كل ذلك علمًا أصليًا حكميًا كشفيًا ذوقيًا من ذاته لسريانه في المعلومات، علمًا إجماليًا تفصيلاً كليًا جزئيًا مفصلاً في إجماله، ومنهم من تجلى الله عليه بصفة السميع، فيسمع نطق الجمادات والنباتات والحيوانات وكلام الملائكة واختلاف اللغات، وكان البعيد عنه كالقريب).

وهكذا كما رأينا في النصوص السابقة التي أوردتها عن عبد الكريم الجيلي نرى بوضوح كامل بأنه ادعى أن الأولياء يعلمون علم الغيب، وأنه بهذا القول فقد زعم بأن الأولياء يشاركون الله في هذه الخاصية التي أخبرنا الله عز وجل كما سيأتي ـ بأنها خاصة به، وأنه لا يعلم الغيب إلا هو.

ومن الصوفية الذين زعموا أن الأولياء يعلمون الغيب أحمد الرفاعي المتوفى سنة (578 هـ)، فقد قال متحدثًا عن الدرجات التي يمر بها الإنسان حتى يصل إلى مرحلة الغوثية التي إذا وصلها الإنسان يصبح الغيب عنده كالمشاهدة، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهذا نص كلامه:

(إن العبد ما يزال يرتقي من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث، ثم ترتفع صفته إلى أن تصير صفة من صفات الحق يطلعه على غيبه حتى لا تنبت شجرة ولا تخضر ورقة إلا بنظره، ويتكلم هناك عن الله بكلام لا تسعه عقول

ص: 957

الخلائق

وكان يقول: إن القلب إذا تجلى من حب الدنيا وشهوتها صار كالبلور وأخبر صاحبه بما مضى، وبما هو آت من أحوال الناس).

إذا نظرنا إلى النص السابق نجد أن الرفاعي صرح بأن الولي إذا وصل إلى مرحلة الغوثية يطلعه الله على الغيب فلا يخفى عليه شيء، وهذا فيه تقرير عن اعتقادهم علم الغيب في أوليائهم.

كما أن الرفاعي يزعم أن الله اطلعه على سبعة مدائن، وكل سكانها لا يذكرون الله، وهم ليسوا من الجن ولا من الإنس، وأن الله يأمر الملائكة بأخذ ذنوب أمة محمد وقذفها على تلك المدن السبعة، وكل من يصاب منهم بذنب من الذنوب التي ارتكبها فرد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم يصبح من أهل الجنة.

واليك نص كلامه، فقد قال إبراهيم الأعزب: كنت قائمًا في بعض الليالي في موضع هناك للسيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه، فأيقظني وقال: أي إبراهيم، ألا أخبرك؟ أظهرني الله سبحانه في هذه الساعة على سبعة مدائن كل مدينة منها بقدر هذه الدنيا سبع مرات، وهي مملوءة من الخلق ليسوا من الجن ولا الإنس وما فيهم من يذكر الله تعالى، وكل ليلة عند غروب الشمس يأمر الله تعالى الملائكة فيأخذون ذنوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وينفضوها على تلك المدائن السبعة، وكل من أصاب منهم ذنبًا فهو من أهل الجنة.

ومن المتصوفة الذين زعموا بأن الأولياء يعلمون الغيب عبد الوهاب الشعراني (973 هـ)، وهاك نماذج من كلامه:

فقد قال الشعراني: في معرض حديثه عن شيخه وأستاذه علي الخواص

ص: 958

البرلس: (كان

أميًا لا يكتب ولا يقرأ، وكان

يتكلم على معاني القرآن العظيم والسنة المشرفة كلامًا نفيسًا يحتر فيه العلما! ! ! وكان محل كشفه اللوح المحفوظ عن المحو والإثبات، فكان إذا قال قولاً لابد وأن يقع على الصفة التي قال، كنت أرسل له الناس يشاورونه عن أحوالهم فما كان قط يحوجهم إلى كلام، بل كان يخبر الشخص بواقعته التي أتى لأجلها قبل أن يتكلم، فيتحير الشخص

وسمعت سيدي ـ سيده ـ محمد بن عنان يقول: الشيخ برلس أعطى التصريف في ثلاثة أرباع مصر).

ونقل الشعراني أيضًا عن شيخه علي الخواص أنه قال: (لا يكمل إيمان عبد حتى يصير الغيب عنده كالشهادة في عدم الريب، ويسري منه الإيمان في نفس العالم كله فيأمنوه على القطع على أنفسهم وأموالهم وأهليهم).

وقال الشعراني عن إبراهيم العريان: (أنه كان إذا دخل بلدًا سلم على أهلها كباراً وصغاراً بأسمائهم حتى كأنه تربى بينهم، وكان

يطلع على المنبر ويخطب عرياناً

وكان يخرج الريح بحضرة الأكابر ثم يقول: هذه ضرطة فلان، ويحلف على ذلك فيخجل ذلك الكبير منه).

ففي هذا النص مع ادعاء علم الغيب له من المخازي ما يستحي منه من عنده أدنى مسكة من عقل.

ويقول الشعراني: وأما سيدي علي الخواص فسمعته يقول: (لا يكمل

ص: 959

الرجل عندنا حتى يعلم حركات مريده في انتقاله في الأصلاب وهو نطفة من يوم (ألست بربكم) إلى استقراره في الجنة أو في النار).

وهنا ـ كما نرى في هذا النص ـ فقد ساوى هذا الرجل بين علم الله وعلم الأولياء، فماذا بقي لله؟ ! سبحانك هذا بهتان عظيم.

وقال محمد محيي الدين الأحمدي الشناوي حفيد الشعراني الصوفي وهو يتحدث عن مناقب جده الشعراني:

(وكان

يشهد بقلبه تطور أعماله ثم تصعد إلى أماكنها من السموات والأفلاك، ومعرفة الأملاك الذين شاركهم في العمل من حملة العرش ملائكة الستور، والملائكة الذين نصفهم نار ونصفهم ثلج، وذلك لأن أعماله الموافقة لأعمالهم تصعد مع أعمالهم إلى حضرة الله تعالى، ومعلوم أن أهل كل حرفة يعرفون).

ومن الصوفية الذين يزعمون بأن الأولياء يعلمون الغيب على حرازم بن العربي برادة، فقد قال واصفًا شيخه التيجاني:

ومن كماله

ونفوذ بصيرته الربانية وفراسته النورانية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب، وفي غيرها من إظهار مضمرات وإخبار بمغيبات، وعلم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات، وغير ذلك من الأمور الواقعات.

وقال في رماح حزب الرحيم: (وينبغي على المريد أن يعتقد في شيخه أنه

ص: 960

يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزجاجة).

وقال في بغية المستفيد: (وأما مكاشفته

بمعنى إخباره بالأمر قبل قوعه يقع وفق ما أخبر به، فلا يكاد ينحصر ما حدث به الثقات عنه

ومن إخباره بالغيب عن طريق كشفه

إخباره بأمور لم تقع إلا بعد وفاته إما بالتصريح أو التلويح).

إذا نظرنا في النصوص السابقة نرى بوضوح أن علي حرازم قد وصف شيخه بأنه كان يعلم ما في ضمائر الناس، وكان يخبر بالمغيبات ويعلم عواقب الأمور التي تصير عليها في النهاية، وأنه كان يخبر الأمر قبل وقوعه، وأنه ينبغي على كل مريد أن يعتقد أن شيخه مطلع عليه أينما كان، وهذه أمور غيبية لا يمكن أن يعلم بها أي مخلوق مهما كان؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي؛ لأن علم الغيب خاص بالله عز وجل، وكما نرى علي حرازم فقد اعتقد في شيخه بأنه يعلم الغيب وبهذا يصبح بأنه أشرك شيخه في خاصية اختص الله بها من بين مخلوقاته جميعًا.

وقال البريلوي أحمد رضا مؤسس الطريقة البريلوية إحدى الطرق الصوفية بالقارة الهندية ناقلاً عن أمثاله من المتصوفة:

(إن النبي لا يخفى عليه شيء من الخمس المذكورة في الآية الشريفة، وكيف يخفى عليه ذلك والأقطاب السبعة من أمته الشريفة يعلمونها وهم دون الغوث فكيف بسيد الأولين والآخرين الذي هو سبب كل شيء ومنه كل شيء؟ !

ص: 961

ثم قال: وكيف يخفى أمر الخمس عليه والواحد من أهل التصرف من أمته الشريفة لا يمكنه التصرف إلا بمعرفة هذه الخمس، فاسمعوا هذا يا منكرين، ولا تكونوا لأولياء الله مكذبين، فإن تكذيبهم خراب للدين، وسينتقم الله من الجاحدين، وأعاذنا الله بعباده العارفين).

وقال البريلوي أيضًا: (الكامل قلبه مرآة الوجود العلوي والسفلي كله على التفصيل).

وقال أيضًا: (ليس الرجل من يقيده العرش وما حواه من الأفلاك والجنة والنار، وإنما الرجل من نفذ بصره إلى خارج هذا الوجود كله).

ونقلوا عن عبد القادر الجيلاني أنه قال:

وعُلِّمَ نبت الأرض كم من نباتة

وعلم رمل الأرض كم هو رملة

وعلم علم الله أحصى حروفه

وأُعلم موج البحر كم هو موجة

أنا الواحد الفرد الكبير بذاته

أنا الواصف الموصوف علم الطريقة

ملكت بلاد الله شرقًا وغربًا

وإن شئت أفنيت الأنام بلحظة

وقالوا يا هذا تركت صلاتك

ولم يعلموا أني أصلي بمكة

مريدي تمسك بي وكن بي واثق

فأحميك في الدنيا ويوم القيامة

قلت: إن هذا القول لم يقل به عبد القادر، بل هو تقول عليه، وكذب صريح. فأين هذا الكذب من قول عبد القادر الجيلاني الثابت في كتابه الغنية: (فإن قيل: لِمَ لم يطلع الله عباده على ليلة القدر يقينًا وقطعًا؟ قيل: لئلا يتكلوا

ص: 962

على عملهم فيها). ففي هذا النص له ما يدل على أنه لا يعرف الغيب، بل الغيب من خصائص الربوبية، حتى إنه لم يثبت لنفسه علم ليلة القدر بل أسنده إلى أنه من علم الغيب. وهذا يدل أيضًا على مدى كذب القوم حتى على عبد القادر.

فهذه عقيدة المتصوفة في علم مشايخها وأوليائها، كما بينها أقطابها في دواوين فكرهم، ولا شك أن من له أدنى حظ من شعب الإيمان، أو له مسكة من العقل والفطر السليمة، أو رزق شيئًا من الإنصاف ـ يعلم علم اليقين أن هذا الفكر لا يتجاوز كونه ضرباً من الخيال، وأنه من قبيل الهراء المحض الذي لا يروج إلا على من فقد الإحساس بأهمية الإيمان بالله وحده. ورقّت روابط انتمائه إلى حزب الله، ولا يعتقد صحة هذه الدعاوى والملفقات إلا من لا يعرف التوحيد الذي أنزل الله على رسوله، ولا يعرف الشرك الذي أرسل الله رسله وأنزل الله كتبه للنهي عنه والابتعاد عنه بشتى الطرق.

الرد على هذه العقيدة الشركية:

الرد عليهم من القرآن:

أ- إثبات الله في القرآن الكريم في عدة آيات منه بأن علم الغيب من خصائصه الربوبية، واستدلاله به على أن يعبدوه وحده لا شريك له، حتى لا يتوكل ولا يطلب شيئًا إلا من الله، ويدل عليه عدة آيات من القرآن الكريم، منها:

1 -

قوله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ).

2 -

قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ

ص: 963

الصُّدُورِ).

3 -

قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

4 -

قوله تعالى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ).

5 -

قوله تعالى: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

6 -

قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ).

7 -

وقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

8 -

وقال تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ).

ص: 964

9 -

وقوله تعالى: (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

10 -

وقوله تعالى: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ).

11 -

وقوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ).

12 -

ب - إخباره تعالى بأن علم الساعة وعلم المغيبات الخمسة لا أحد يتدخل فيه، بل هو في علم الله فقط. يدل عليه قوله تعالى:(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

13 -

وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ).

14 -

وقوله تعالى: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا).

15 -

وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا).

16 -

ج - إخباره تعالى عن علم الغيب بأنه صفة له خاصة، فقال:(عَلَاّمُ الْغُيُوبِ).

ص: 965

17 -

وقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ).

18 -

قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ).

19 -

د- إخباره تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعلم الغيب؛ فقال تعالى آمرًا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ).

20 -

ومثله أيضًا قوله تعالى: (قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ).

21 -

ونحوه أيضًا قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ).

22 -

وقال تعالى حكاية عن نبيه قوله: (قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

23 -

وهكذا أمره أن يقول بأنه لا يعرف ما يفعل الله به ولا بغيره من الناس، بل كل هذا بيد الله، فقال: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ

ص: 966

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ).

24 -

ويدل عليه قوله تعالى لنبيه بصيغة (لا تدري): (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا). فهذه الآيات كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.

25 -

هـ - وهكذا أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو الأنبياء يحدث القرآن عنه بأنه لا يعلم الغيب: كما يدل عليه قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ)، ففي هذه الآيات بيان كون إبراهيم عليه السلام لا يعرف الغيب، وهذا واضح.

26 -

وقوله عز وجل: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ). فنبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ما علم الغيب وإلا لما حصل له ما حصل.

ص: 967

27 -

وقوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ). فلم يعرف إبراهيم صلى الله عليه وسلم ضيوفه حتى أخبروه عن أنفسهم، فلو كان يعلم الغيب لما كانت هناك هذه المحاورات التي حصلت، بل عرفهم إبراهيم عليه السلام في أول وهلة ولم يقدم لهم أي طعام.

28 -

وإخباره تعالى عن نبي الله لوط صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعلم المغيبات: فقال: (وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ

).

29 -

قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ

ص: 968

نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ).

30 -

ز - إخباره تعالى عن سليمان صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعلم الغيب: فقال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).

31 -

ح - إخباره تعالى عن داود عليه السلام بأنه لا يعلم المغيبات: فقال: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ).

32 -

ط - إخباره عن موسى صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعلم الغيب: فقال: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) - إلى قوله تعالى: - (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) - إلى أن قال: - (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) - إلى أن قال: - (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا).

33 -

وقوله تعالى: (قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولىَ).

ص: 969

34 -

وقوله تعالى: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).

35 -

وقوله تعالى: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ). فلو كان عالمًا بالغيب لما كان لإخباره تعالى عن أمر الحية معنى، ولما فر من الخوف.

36 -

وقوله تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) فلو كان عالمًا بالغيب لما غاب عنه ضلال قومه بالسامري.

37 -

ي - إخباره تعالى عن يعقوب صلى الله عليه وسلم بأن لا يعلم الغيب: فقال: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ). فلو كان عالمًا بالغيب لقال: إنه في الحب الآن، وأنتم لكاذبون، ولما حصل ما حصل له من الأسى والحزن.

38 -

ك - إخباره تعالى عن زكريا عليه السلام بأنه لا يعلم الغيب: فقال: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ

ص: 970

لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).

39 -

وقال عنه أيضًا: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا).

40 -

ل - قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

41 -

م - وقال تعالى عن جميع أنبيائه مطلقاً: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

42 -

ن - قوله سبحانه عن الملائكة نافيًا عنهم علم الغيب والعلم المحيط الشامل لكل شيء: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

43 -

س - وقوله تعالى عن الجن: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).

44 -

ع - وفي الرد على استدلالهم بأن الأولياء يعلمون المغيبات يورد قوله

ص: 971

تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ).

45 -

وقال تعالى في الأولياء الكرام أصحاب الكهف: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ) إلى أن قال: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا).

46 -

وقوله تعالى في حق الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم ممن كان المشركون ينادونهم عند الكربات: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

47 -

وقوله تعالى أيضًا في حق الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم ممن كان المشركون ينادونهم عند الكربات ويدعونهم لدفع المضرات وجلب الخيرات: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).

48 -

وقوله تعالى أيضًا في حق الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم ممن

ص: 972

كان المشركون ينادونهم عند الكربات ويدعونهم لدفع المضرات وجلب الخيرات ويستغيثون بهم عند إلمام الملمات ونزول البليات: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ).

49 -

ف - قال تعالى في حق مريم التي هي من أعظم وليات الله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ).

50 -

وقوله تعالى: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا).

51 -

ص - وأما ما ادعت البريلوية بأن الرسول عنده جميع علوم المخلوقات فيرد عليه بقوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ).

52 -

ق - ومن الآيات التي تبطل زعم البريلوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر كل حين وآن وأنه موجود في السموات والأرض وفي كل مكان وفي كل زمان قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

53 -

وقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

ص: 973

54 -

وقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).

55 -

وقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).

56 -

وقوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ).

57 -

وحكى الله عز وجل في كتابه ذهابه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقال:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)؛ أي ذهب به إلى المسجد الأقصى حيث لم يكن هناك من قبل، وإلا لم يخبر بذهابه هناك، ولم يتعجب به قومه.

58 -

وقال جل من قائل: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). أي أخرجوه من مكة وذهب بأبي بكر إلى الغار، وبعد خروجه لم يكن في مكة، وقبل خروجه لم يكن بالغار.

59 -

وقال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ص: 974

60 -

وقال: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)؛ أي نصر الله رسوله عند نزوله ببدر وفي العدوة الدنيا عند نزول الكفار في العدوة القصوى، حيث خرج من المدينة مع أصحابه الثلاث مائة وثلاث عشرة مجاهدًا، ولم يكن في المدينة بعد خروجه كما لم يكن في البدر قبل خروجه، إليها.

61 -

وقال: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا). فكان في الحديبية في العام السادس بعد الهجرة، حيث لم يكن في المدينة، وكما لم يكن في مكة ولم يكن في الحديبية موجودًا قبله، ولم يبق فيها بعد رجوعه إلى المدينة. وقال:(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ)، وغير ذلك من الآيات الكثيرة، والوقائع اليومية التي كانت تحدث في حياته صلى الله عليه وسلم؛ من وجوده في الحجرة الشريفة، وانتظار الصحابة إياه في المسجد، وخروجه من البيت، ووجوده في المسجد، وعدم وجوده في المسجد عند وجوده في السوق، وغير ذلك من الحوادث الظاهرة والأمور الجلية التي لا خفاء فيها إلا لمن أعمى الله قلبه مع عمى بصره، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، فكيف يقول هؤلاء المتصوفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه مكان بل كل شيء أمام عينيه، وأنه يعلم جميع أحوال الموجودات والمخلوقات ولا تخفى عليه خافية؟

ص: 975

فهذه بعض الآيات القرآنية الدالة على أن علم الغيب صفة مختصة بالله تعالى، وأن الأنبياء عليهم السلام، والأولياء، والملائكة، والجن، لا يعلمون المغيبات.

والله تعالى هو وحده عالم الغيب والشهادة، وهو وحده علام الغيوب، وعنده وحده مفاتيح الغيب، وهو وحده يعلم الأمور الخمسة المذكورة في آخر سورة لقمان، وهو وحده يعلم السر وأخفى، وهو وحده يعلم ما في الصدور، وهو وحده لا تخفى عليه خافية، وقد تقدم في هذه الآيات أنه لا يعلم أحد في السموات والأرض الغيب غير الله تعالى، وأن الأنبياء لا يعلمون الغيب.

وأن الأولياء كأصحاب الكهف، ومريم، وغيرهم لم يكونوا يعلمون الغيب، وأن الله تعالى قد ساق في كتابه كثيرًا من أخبار أنبيائه وأوليائه دليلاً على أنهم لم يكونوا يعلمون الغيب، كقصة آدم والملائكة وإبراهيم، ولوط ويعقوب ويوسف وزكريا وعزير ومريم وأصحاب الكهف، وغيرها، وهي كلها أدلة قاطعة على أنهم لم يكونوا يعلمون الغيب كله، وهكذا الجن لم يكونوا يعلمون الغيب.

الرد عليهم من السنة النبوية ووقائع من السيرة العطرة:

السنة النبوية مليئة بالأدلة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب، فضلاً عما يدعيه المتصوفة معرفة علم الغيب لأوليائهم. سأورد فيما يلي بعض الأحاديث الدالة على أن علم الغيب ليس إلا عند الله جل وعلا.

الحديث الأول:

حديث جبريل المعروف المشهور، وفيه قال جبريل:(متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))

في خمس لا

ص: 976

يعلمهن إلا الله ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية).

وقد استدل العلماء بهذا الحديث على أن جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكونا يعلمان الوقت المحدد لقيام الساعة، بل لا يعلم ذلك أحد غير الله تعالى، من ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي، لدلالة الحصر. وهذه الأمور الخمسة هي مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

الحديث الثاني:

قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)).

الحديث الثالث:

ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال:((إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم ولعل بعضكم أبلغ من بعض، فأحسبه أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها)).

فعلم من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب، فلم يكن يعرف الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل في الخصمين، ولذلك حذرهما

ص: 977

بهذه الكلمة الجامعة التي فيها عبرة لكل مسلم.

الحديث الرابع:

حديث الحوض، وقد روي بعدة روايات، منها:

1 -

((أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن معي رجال منكم، ثم ليختلجن دوني، فأقول: يارب أصحابي؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ )).

2 -

وفي رواية: ((خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، ثم قال: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) إلى آخر الآية، ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يارب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح:(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)).

3 -

وفي رواية: ((فأقول: إنهم مني؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقاً سحقًا لمن غير بعدي)).

ص: 978

4 -

وفي رواية: ((إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك؟ فأقول: سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي)).

وهناك روايات أخرى لهذا الحديث عن أكثر من عشرة صحابي ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ في كلها إما إنك لا تدري، أو لا علم لك، أو هل شعرت، ونحو ذلك من ألفاظ هذا الحديث المتواتر القاطع للنزاع، ودل هذا الحديث بهذه الألفاظ كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم أعمال أمته، وأن روحه ليست بمطلعة على أحوال الناس.

وإذا كان هذا حال أفضل الرسل، فكيف بالأنبياء الآخرين فضلاً عن الأولياء والصالحين؟ ! .

الحديث الخامس:

الذي ذكره الحافظ ابن حجر: وقال قبل إيراده: (إن بعض من لم يرسخ في الإيمان كان يظن أن صحة النبوة تستلزم اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المغيبات، كما وقع في المغازي لابن إسحاق أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ضلت، فقال زيد بن اللصيب: يزعم محمد أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن رجلاً يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في شعب كذا قد حبستها شجرة)) فذهبوا فجاءوا بها).

ص: 979

الحديث السادس: ما روي في أسباب النزول: أنه صلى الله عليه وسلم: ((جاءه رجل بفرس له يقودها عقوق ومعه مهرة له يبيعها فقال: من أنت؟ قال: أنا نبي الله، قال: وما نبي الله؟ قال: رسول الله، قال الرجل: متى تقوم الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله))، قال: متى تمطر السماء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله. قال الرجل: ما في بطن فرسي هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((غيب ولا يعلم الغيب إلا الله)). قال: أرني سيفك، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سيفه، فهزه الرجل ثم رده إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لم تكن تستطيع الذي أردت

)).

الحديث السابع:

وروى البخاري في صحيحه: عن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بنى عليّ، فجلس على فراشي كمجلسك، فجعلت جويرات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال صلى الله عليه وسلم:((دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين)).

ص: 980

فالرسول صلى الله عليه وسلم حرص على تصحيح العقيدة الإسلامية في مسألة الغيب ولو أغنية من الأغنيات مما كانت الجارية تنسب إليه صلى الله عليه وسلم شيئًا من علم الغيب، حتى أمرها من فوره بأن تترك هذا القول.

الحديث الثامن: ما روي عن عائشة رضي الله عنها وله حكم الرفع:

تقول عائشة رضي الله عنها: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:(قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه). رواه مسلم.

وفي رواية للبخاري عنها: ((من حدثك أنه يعلم الغيب فقد كفر)).

الحديث التاسع:

حديث قصة الإفك التي رواها البخاري ومسلم وغيرهما:

وقد جاء فيها: ((يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه)).

ومن نتائج هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه كان قد وطن نفسه لمواجهة كل بلية أو أذى يقوم بها المنافقون؛ لأنه كان على علم وبصيرة بمكايدهم، إلا

ص: 981

أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتوقع منهم النيل من عرضه، والإساءة إليه في أحب أهله إليه، ولذا كانت الحادثة شديدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحمل في طياتها دروسًا وعبرًا؛ من أهمها بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه لا يعلم الغيب، بل الغيب من علم الله الخالص، إذ لو كان يعلم الغيب لبادر إلى تكذيب المفترين لأول وهلة، وبادر إلى بيان تبرئة عائشة دون أي شك ولم يلبث القلق والضيق معه إلى شهر، ولم يذهب إلى زوجه ولم يقل:((يا عائشة، قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه)).

فهذه الحادثة صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم المغيبات.

الحديث العاشر: ما جاء في قصة بيعة الرضوان:

ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الحديبية في عمرته بركت ناقته هناك لأمر يعلمه الله، ثم أوفد عثمان رضي الله عنه إلى مكة لإعلامهم بأنه لم يأت ليشن حربًا عليهم، وإنما جاء زائرًا للبيت ومعظمًا لحرمته.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل قال: ((لا نبرح حتى نناجز القوم))، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة.

ومن أهم الدروس التي ينبغي الاهتمام بها في هذه القصة أن خبر مقتل عثمان لما أشيع وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم صدقه واقتنع بصحته إلى حدٍ كبير، فتحول في

ص: 982

لحظة عن خيار السلم الذي جاء معه وأعلن حالة استنفار قصوى، ودعا أصحابه للبيعة على القتال وعدم الفرار، فبادروا رضي الله عنهم إلى البيعة.

ولما تمت البيعة رجع عثمان رضي الله عنه فظهر أن نبأ مقتله كان مجرد شائعة لا أساس لها من الصحة، ولو كان صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب لخبرهم بالواقع ولأفادهم أن عثمان حي معافى، لم يصبه مكروه، ولكنه ـ وهو على مقربة من مكة ـ لم يكن يدري ما يجري بداخلها.

الحديث الحادي عشر:

ما جاء في قصة عثمان بن مظعون رضي الله عنه التي وردت في حديث أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها؛ وهي أنه لما توفي أبو السائب عثمان بن مظعون رضي الله عنه وفرغوا من تكفينه، دخل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت أم العلاء:(رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: ((أما هو فقد جاءه والله اليقين، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله ـ وأنا رسول الله ـ ما يفعل بي)). قالت: فوالله لا أزكي أحدًا بعده).

وهذا النص أيضًا دليل آخر صحيح صريح على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن

ص: 983

علمه ببعض المغيبات دليلاً على علمه بكل غيب، فلئن كان بشر بعض أصحابه بالجنة إطلاع الله له على حالهم، فإنه لم يكن ما حال بعضهم الآخر، ذلك لأن معرفة ما يئول إليه حال الإنسان يوم القيامة غيب لا يعلمه إلا الله.

فهذه بعض نصوص الشرع تدل على أن علم الغيب من خصائص الربوبية لا يعلمه أحد إلا ما أعلمه الله عز وجل أحد خلقه، فمن أثبت هذا العلم لغير الله فقد نازع الله في ربوبيته في علمه المحيط الشامل لكل شيء، ومعلوم أن هذا شرك بالله في ربوبيته بالأنداد في صفته العلم المحيط.

الفرع الثالث: مظاهر الشرك بالله في الربوبية بالأنداد في صفته العلم المحيط لدى السحرة:

لقد سبق معنا كيف يكون السحر شركًا في الربوبية، ومتى يكون، وإنما ذكرته هاهنا لوجود ظاهرة السحر والتسحر في العصر الحديث بصفة عامة في جميع دول العالم، بل ترى الآن هناك محافل وأندية للسحرة ولهم سلطة عجيبة على كثير من الملوك، وقل ما تجد صحيفة يومية أو أسبوعية إلا وفيها إعلان عن تعليم السحر، وإبرازه بأنه فن من الفنون المحمودة. والناس دائمًا يهرولون إليهم بغية معرفة الأخبار السرية أو طلبًا للتنبؤات ـ كما يسمون ـ المستقبلية، ويعتقدون معرفتهم بالمغيبات. وهذا لا شك في كونه شركًا بالله في الربوبية في صفته العلم المحيط.

الفرع الرابع: مظاهر الشرك بالله في الربوبية بالأنداد في صفته العلم المحيط لدى الكهنة والمنجمين والعرافين وأصحاب الطرق:

سبق معنا ذكر كون الكهانة والتنجيم والعرافة شركًا بالله جل شأنه في صفته

ص: 984

العلم المحيط لكل شيء، وهنا أذكرهم على أن هذه الظاهرة من الكهانة والعرافة والتنجيم موجودة بشكل عام في جميع بلدان العالم، فقل ما تذهب إلى دولة إلا تجد هناك في الشوارع أناساً جالسين وأمامهم لوحة كبيرة مكتوب عليها:(تعرّف على مستقبلك)، أو (هنا نستطيع أن نقرأ خطوط أيديك ونخبرك بما سيحدث لك أو ما حدث)، أو (نحن نستطيع أن نختار لك أحسن الحجر الذي سينفعك في مستقبل عمرك بمعرفة برجك)، أو مثل هذه العبارة.

وهناك من العلماء ما زالو ينظرون إلى حروف أبي جاد المعروف، حيث يأخذون اسم الرجل واسم والدته ثم يقسمونه على عدد معلوم ثم يقولون له: إنه سيحدث لك مثل هذا أو ذاك، ومعلوم أن هذه كلها من العرافة التي فيها ادعاء علم المغيبات التي اختص الله بها نفسه.

وهناك طائفة أخرى من الناس تراهم يعلنون دائمًا في الصحف: (إن كان ولادتك في يوم كذا فأنت من حظ الجدي مثلاً، أو العقرب مثلاً، وأنت ستكون محظوظًا في يومك هذا، أو شهرك هذا، أو يقولون: ستكون محظوظًا في يومك هذا، أو شهرك هذا، أو يقولون: ستكون لك مصائب عن قريب، أو سيكون هناك انحطاط جسدي أو فكري أو تجاري، أو مثل هذه العبارة. ولا شك أن هذه كلها من الشرك بالله في الربوبية بالأنداد في صفته العلم المحيط.

وأعظم من تتمثل فيهم الصوفية، فإن الذي يسبر أحوالهم، ويطلع عليها، يعلم علم اليقين أن أكثر مشايخ الطرق ما بين كاهن وعراف، فادعاء علم الغيب عندهم كأنه من مستلزمات الولاية والكرامة، ويسمون ذلك بـ (الكشف).

كما أن الكهانة منتشرة بين كثير من الخرافيين الذين يدعون معرفة الغيب،

ص: 985

ويزعمون أنهم يرشدون الناس إلى ما يريدون، ويأكلون أموالهم بالباطل.

كما أن من مظاهر وجودها: ما يوجد عند بعض من يتطبب بما يسمى بالطب الشعبي، فيزعم أنه يعرف سبب المرض الفلاني، وأن علاجه كذا وكذا، عن طريق الشياطين.

كما أن من مظاهرها أيضًا: ما يدعيه الفلكيون من المنجمين من معرفة ما يحصل بما يسمى بالطالع سواء كان نحسًا أو سعيدًا، وهذا موجود في أكثر الصحف والمجلات.

وأما الطرق: التي هي ضرب من ضروب الكهانة التي كان العرب يتوصلون ـ بزعمهم ـ بها إلى معرفة المغيبات. وذلك بالخط على الأرض على طريقة مخصوصة. وهذه الظاهرة ما زالت موجودة في هذا العصر، فمنها:

الخط على الرمل، وضرب الودع منتشران انتشاراً كبيراً، وكذا التنبؤ ـ كما يسمون ـ بها.

ومما يلحق بها مما هو موجود في هذا العصر، ما يسمى بـ (زهر الطاولة)، (والدومينو) وهذا يقومان على التنبؤ بالشيء عن طريق الأرقام، بحيث توضع دائرة على الأرض، ثم يلقى بالزهر المرقم داخلها، فإن لم يدخل فيها، فهو يعني أن ثمة شقاقًا سيقع، وإن دخل فيها تمت قراءة الأرقام الموجودة على الزهر، وكل رقم يدل على حادثة معينة.

ومنها: قراءة النار: حيث إنهم يستدلون على ما يقع ـ بزعمهم ـ من الأحداث في المستقبل بصور الجمر، وتلهب النار.

ص: 986

ومنها: ما يسمى بقراءة الفنجان، وهو فنجان القهوة، حيث يعتمد الكاهن على ما يتبقى من القهوة فيه، فيرسم به على جوانب الفنجان خطوطًا، ثم يتنبأ بما يحصل.

ومنها: ما يسمى بقراءة الكف، حيث يعتمد مدعي الغيب على خطوط الكف، وما فيها من تقاطعات، وتعرجات، وانقطاعات، واتصالات، ثم يزعم أنه يكون كذا، وكذا.

ومنها ما يسمى بـ (قراءة الكوتشينة)، وهي كزهر الطاولة التي سبق الكلام عليها قبل قليل.

ومنها: الضرب بحباب الفول.

الفرع الخامس: مظاهر الشرك بالله في الربوبية بالأنداد في صفته العلم المحيط في الروحية الحديثة:

فإن في اعتقاد بعض الناس أن الأرواح ـ التي هي جنات في الحقيقة ـ تعلم المغيبات.

وهذه الظاهرة قد انتشرت في الآونة الأخيرة في أغلب دول أوروبا، وفي بعض الدول الآسيوية أيضًا، وقد سبق معنا تفصيل البيان في كيفية مزاولة الوسيط الشيطاني من الإنس هذه الأعمال، وكيف أنها أشرك بالله من عدة جهات، وإنما أوردتهم هاهنا لأنهم يعتقدون في الأرواح أنها تعلم المغيبات.

يقال في الرد عليهم:

ص: 987

1 -

كما قال الشيخ محمود شلتوت في الفتاوى: لم يرد شيء فيما يختص بتحضيرها، وتسخيرها لدعوة الإنسان، كما لم يدل عليه حس موثوق به أو تجربة صادقة، وكل ما نسمعه في ذلك لا يخرج عن مظاهر خداع وإلهاء بالخيالات لا يلبث أن ينكشف أمره.

2 -

ما الذي أعلمهم أنها أرواح؟ هل يعرفون الروح؟ يمكنهم أن يقولوا: إنهم يحضرون قوى خفية، ولكن أرواحًا فلا، وكل ذلك غير مقبول، وليس هذا ثابت بالبحث العلمي؛ لأن البحث العلمي يحتاج إلى المعمل وإلى التجربة، وهذا لا يتوفر فيه التجربة والمعمل.

3 -

ما هذه الأرواح التي يزعمون أنهم يحضرونها؟ هل هي أرواح الصالحين؟ كلا، فهؤلاء عرفوا الله عن طريق الأنبياء والمرسلين، فيستحيل أن يخرجوا على كتبهم، ويتنكبوا طريقهم، ولو أتيحت فرصة العودة إلى الدنيا ـ جدلاً ـ لما دعوا الناس في هذا الزمان إلا إلى اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والأخذ من قرآنه، أم هي أرواح الفجار؟ كلا، فهؤلاء بعد ما غادروا الحياة ملكتهم حسرة قاتلة على زيغهم أيام الدنيا، ثم هو في أيدي حراس غلاظ شداد، قد أمسكوا بخناقهم توطئة لحسابهم الشاق، فكيف يتصور أنهم عادوا إلى الحياة الدنيا عن طريق الاتصال الروحي يستأنفون التزوير والتضليل؟ !

إننا لا نشك في أن مبادئ الروحية الحديثة هي من عبث مردة الجن الذين استغفلوا نفرًا من أبناء آدم، واصطادوهم إلى هذه المجالس؛ مجالس الأشباح والأوهام، مجالس تحضير الأرواح ـ كما يقال ـ ليملوا عليهم هذا المنكر من

ص: 988

القول.

وما أكثر عبث الجن بالإنس وأوسع طرقه، ولذلك يندد القرآن الكريم بأطراف هذه الفتنة فيقول:(وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَاّ مَا شَاء اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ).

ولا غرو، فإن الشيطان يستحلي إغواء أبناء آدم، كما يستحلي أبناء آدم أكل السحت وارتكاب الزنا، وما هذه الدعوى من تحضير الأرواح إلا من الشياطين. فالصحيح الذي لا مرية فيه: أن ما يسمونه بالأرواح ما هي إلا شياطين.

وأما كيفية معرفتهم لبعض ما يغيب على الناس، فهذا لا يخلو عن ثلاثة أمور:

1 -

إما أنه من قرين الميت الذي كان يعرف كثيرًا من أعمال الميت، فيخبرهم عن أحواله.

2 -

وإما أنه من قبيل الجن العابر الذي تعرف على حال المسئول عنه عن طريق استخباره عن الجن الذي هو قرين المسئول عنه.

3 -

وإما أن يخبر عن أشياء هي غائبة بالنسبة لدينا، وليست بغائبة لديهم؛ فمثلاً: كل ما في جيب الإنسان لا يراه إنسان آخر، ولكن الجنات يرون هذه الأشياء كرؤيتنا للمشهودات.

فإخبارهم بهذه الأشياء ليس من قبيل المغيبات.

فهذا آخر ما أمكن من بيان المشركين بالله في الربوبية بالأنداد في صفة العلم المحيط في العصر الحاضر.

ص: 989