الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ .... )، وقال تعالى:(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).
فانظر هذا البيان الإلهي لسفه عقول المشركين، حيث إنهم يلتجئون إلى الله الواحد عند كل كرب في البحر والبر لتيقنهم أن أصنامهم لا تملك دفع المكروه عنهم وأن الله وحده هو الكاشف للبلاء، ثم يصرون على عبادتها وإشراكها مع الله في الألوهية.
والعقل السليم لا يرضى بالتجاء صاحبه إلى إله في الشدة وإله آخر في الرخاء؛ لأن الإله المنجي من الكربات حقيق أن يكون إلهاً معبوداً وحده هو في الرخاء، كما في قصة إسلام حصين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عمران بن حصين: ((كم تعبد اليوم إلهًا)) قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك، قال: الذي في السماء)).
المطلب الثاني: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالأصنام الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل، وبطلانه
لقد نوّع الله ذكر الآيات العقلية المتعلقة بالأصنام الدالة على قبح الشرك
وبطلانه، وفيما يلي بعض هذه الأدلة على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
1 -
دليل النقص:
وبيان هذا الدليل أن هذه الأصنام التي يعبدونها أنقص من عابديها، ويتضح ذلك بثلاث نقاط:
أ- أن هذه الأصنام ميتة لا حياة فيها، وأما عبادها فهم أحياء.
ب- أن هذه الأصنام لا تنطق، وأما عبادها فينطقون.
جـ - أن هذه الأصنام ليس لها أرجل، وأيد، وسمع، وبصر، وعبادها لها ذلك.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
أ- فقد الأصنام الحياة:
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).
أخبر تعالى في هذه الآيات أن من صفات آلهة المشركين كونها مخلوقة لا تخلق شيئًا ـ وهذا ما أشار إليه إبراهيم عليه السلام بقوله: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) ـ ثم هي ميتة لا أرواح فيها، بل هي جمادات لا تعقل، وما تدري متى تكون الساعة، فكيف يرتجى عندها ثواب وجزاء؟ .
ب- فقد الأصنام النطق:
قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ
يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)، وقال تعالى:(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا).
ذمّ الله تعالى بني إسرائيل في هاتين الآيتين على عبادتهم عجلاً من ذهب زاعمين أنه إلههم، فاحتج عليهم سبحانه وتعالى بأنه لا يتكلم ولا يملك أن يهديهم طريق الخير لا يملك لهم ضرًا ولا نفعاً، وهذه صفات نقص يستحيل أن يتصف الإله بها، فلو كانت لهم عقول لفكروا بها وعرفوا أن هذا العجل لا يستحق العبادة، وهم أنفسهم أكمل من هذا العجل؛ لأنهم يتكلمون ويعبرون عما يريدون، وأما عجلهم فليس له إلا الخوار، ولكن جهلهم وضلالهم عطى على بصائرهم.
يقول الطبري: (يخبر ـ جل ذكره ـ أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل؛ وذلك أن الرب جل جلاله الذي له ملك السموات والأرض ومدبر ذلك لا يجوزأن يكون جسدًا له خوار لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير).
جـ - فقد الأصنام السمع والبصر والأطراف:
قال تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ
ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ).
ففي هذه الآيات يتضح إنكار الله على المشركين الذين عبدوا معه الأنداد والأوثان التي هل مخلوقة مربوبة لا تملك من الأمر شيئًا ولا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تنتصر لعابديها لأنها جماد، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم، ولهذا قال:(سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ)، فهي لا تسمع الدعاء، وسواء لديها من دعاها وغيره من عبادها؛ لأنها مخلوقات مثلهم، بل هي لا تفعل ما يفعله عبادها من الحركة والبطش والسمع والبصر، فهي في غاية المهانة والحقارة. فلا يليق بالعاقل أبدًا أن يعبد إلهًا دونه، وأقل منه، والعابد هو أكمل من معبوده وأقوى بروحه التي بها حياته، وبحواسه التي بها يصرف أموره، وبنطقه الذي به يفهم عن الناس ويفهمون به عنه.
2 -
دليل العجز:
وفيه نقطتان:
أ- عجز الأصنام في الدنيا.
ب- عجز الأصنام في الآخرة.
أ- عجز الأصنام في الدنيا:
قال تعالى: (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ
كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا)، وقال تعالى:(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ)، وقال تعالى:(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).
في هذه الآيات يذم الله تعالى عبدة الأوثان؛ لأن هذه الأوثان لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًا عن نفسها ولا عن عابديها، ويأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجابههم سائلاً إياهم عن آلهتهم لتقريرهم بأنها لا تملك ضراً ولا نفعاً، ولا تملك كذلك حماية عبادها من الله إن أرادهم بمكروه، فالحافظ الوحيد لخلقه ليلاً، ونهاراً هو الله، فكيف آثرتم الإشراك على التوحيد بإيثاركم الأصنام على الخالق الرازق المحيي المميت رب السموات والأرض؟ فما أبين ضلالكم وبعدكم عن الحق.
ب- عجز الأصنام في الآخرة:
يقول تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وقال تعالى:(مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ).
إن الأصنام عاجزة عن نفع عابديها في الآخرة، فلن يجدوا يوم القيامة ما كانوا يتمنون من شفاعتها لهم، ولكن يجدوا منها العداء والتبرؤ، ويأمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتهكم بهم وبما ادعوه من شفاعتها لهم لأن ذلك محال غير واقع؛ إذ كيف يزعمون شفاعتها والله يخبر أنها لا تشفع؟ يقول تعالى:(وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، والمعنى:(أتنبؤون الله بشفعاء لا يعلمهم في السماء والأرض وهو العالم بما فيهما المحيط علمه بكل شيء؟ إن عليكم إخلاص العبادة لله وحده وإفراده بالألوهية؛ لأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه تعالى، وهذا وارد في قوله تعالى: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فبهذا الاستثناء نفى سبحانه الشفاعة عن الأصنام وأثبتها لمن عبد من دون الله من الموحدين كالمسيح وعزير والملائكة، إذا أراد الله ذلك، لأنهم ممن شهد بالحق ووحدانية الله تعالى).
وبما أن الأصنام لا تملك الشفاعة في الآخرة، فموقفها من عبادها سيكون موقف التبرؤ والعداء والتنكر لعبادتهم إياها، يقول تعالى:(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا).
ويقول تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ)، وقال تعالى:(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)، وقال تعالى:(وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ).
هكذا يتبرأ المعبودون من عبدتهم يوم القيامة قائلين: يا ربنا، ما أمرناهم بعبادتنا ونتبرأ إليك من عبادتهم لنا، فكلنا عبيدك ولا نتخذ ولياً من دونك.
فإذا كانت هذه المعبودات الباطلةكلها تتبرأ من عابديهم ولا تجلب لهم نفعًا ولا تدفع عنهم ضرًا، فمن كان عنده مسكة من العقل هل يشرك بهم من يملك النفع والضر؟ .
هذا بالنسبة للأصنام والأوثان والملائكة والجان الذين ما أمروا عابديهم بعبادتهم، وأما الذي أمر الناس بعبادته بطاعته، فلننظر إلى حاله مع عابديه يوم القيامة؛ حيث ذكر الله هذه الصورة في سورة الرعد بقوله:(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يخبر تعالى عما خطب به إبليس أتباعه بعدما قضى الله بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات؛ وأسكن الكافرين الدركات: فقام فيها إبليس ـ لعنه الله ـ يومئذ خطيباً ليزيدهم حزناً إلى حزنهم وغبناً إلى غبنهم وحسرة إلى حسرتهم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) أي على ألسنة رسله ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعدًا حقاً وخبراً صدقًا، وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم، ثم قال:(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أي ما كان لي دليل فيما دعوتكم إليه ولا حجة فيما وعدتكم به (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه (فَلَا تَلُومُونِي) اليوم (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) فإن الذنب لكم أنكم خالفتم الحجج وابتعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه:(وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) أي بنافعيّ بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ).
قال قتادة: أي بسبب ما أشركتمون من قبل؛ وقال ابن جرير: يقول: إني جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل، وهذا الذي قاله هو الراجح
…
وقوله: (إِنَّ الظَّالِمِينَ) أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل لهم عذاب أليم.
والظاهر من سياق الآية أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار كما قدمنا، ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وهذا لفظه وابن جرير
…
عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين، فقضى بينهم ففرغ من القضاء قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربنا فمن يشفع لنا؟ فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم وذكر نوحًا، وإبراهيم،
وموسى، وعيسى فيقول عيسى: أدلكم على النبي الأمي، فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم إليه
…
ثم يقول الكافرون هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا، فيأتون إبليس فيقولون
…
قم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم
…
ـ ثم ذكر هذه الآية ـ (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) الآية).
هذا ما ذكره ابن كثير ولم يعقبه بشيء، فإن صحت الرواية تكون خطبته في المحشر وإلا تكون خطبته بعد دخولهم النار، وعلى كل: ثبت كونه يتبرأ من عابديه ومطيعه يوم القيامة.
فهذا حال الشيطان مع عابديه ومطيعيه، وهو قد تبرأ من عابديه. فهل العاقل يعبده بعد أن يعرف حقيقة أمره ووبال طاعته؟
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الخاتمة