الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في صفته الحكم والتشريع المطلقين بإثباتهما لغيره سبحانه
وفيه مدخل وفروع:
مدخل في بيان المقصود بالحكم في هذا الباب، وكون إثباته لغير الله شركًا بالله في الربوبية، وبيان الصور التي تدخل منه في هذا النوع من الشرك.
المقصود بالحكم في هذا البا:
مع الجهل بحقيقة الإسلام والبعد عنه، ومع جهود المحادين لله ورسوله، أخذت عدة مفاهيم شرعية تتغير في عقول الناس وتتبدل، وتنحرف عن معناها الأصلي، ومن تلك المفاهيم التي أصابها الضمور في عقول الناس مفهوم الحكم بما أنزل الله، فقد انحصر مفهوم الحكم بما أنزل الله على شموله واتساعه في بعض أجزائه.
فبعضهم ينحصر في التشريعات والأحكام المتعلقة بالأسرة؛ من زواج وطلاق، وحضانة وغير ذلك.
والبعض الآخر يحصره في العقوبات الشرعية من الحدود وغيرها.
والبعض الآخر يحصره في مجرد كلمة غامضة تكتب في قصاصة من الورق لا قيمة لها يسمونها (الدستور) أو ما شابهه من المسميات.
ونماذج بتر المفهوم الصحيح للحكم بما أنزل الله كثيرة ومتنوعة باختلاف أهواء البشر وضلالاتهم وجهالاتهم. وأبرز هذا المفهوم المبتور ما ترى في كثير من الناس الذين يكفرون الحكام وعامة الناس من غير تفصيل ولا احتياط
في هذا الأمر، ومن غير مراعاة منهج السلف في هذا الباب، بل ترى كثيرًا منهم يسارعون إلى تكفير الحكام لعدم الحكم بما أنزل الله، وتراه لا يحكم بما أنزل الله في نفسه وأسرته، بل زيادة على ذلك تراه يقبل أحكامًا تخالف شرع الله عز وجل من عند رئيس جماعته، ونحلته التي ينتسب إليها، ولما وصل الأمر إلى هذا الحد لزم بيان المفهوم الصحيح للحكم بما أنزل الله.
وإذا رجعنا إلى معنى كلمة (الحكم) نجد لها عدة معان، يتعلق منها بموضوعنا معنيان:
الأول: القضاء والفصل في الأمور المعينة: اعتمادًا على تشريع سابق، ويكون دور القاضي في هذه الحالة: البحث في نصوص التشريع عما ينطبق على الحالةا لمعروضة، ثم يحكم فيها بما يدل عليه ذلك التشريع، ويدل على هذا المعنى لمفهوم كلمة الحكم، قوله تعالى:(وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، وقوله تعالى:(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)، وقوله تعالى:(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا)، وغير ذلك من النصوص المشابهة.
فالمراد بالحكم في هذه النصوص وما شابهها: القضاء والفصل في الأمور على وفق التشريع المنزل من عند الله.
وهذا النوع من الحكم ليس خاصًا بالله، ولا يمنع المسلم من مزاولته فكل مسلم استوفى شروط القضاء المعروفة يمكنه مزاولة هذا النوع من الحكم. وطبيعة هذا النوع من الحكم أنه يتعلق بوقائع معينة محددة، وما خالف في جوازه إلا الخوارج ومن تبعهم من معاصرينا.
الثاني: القضاء والفصل في الأمور بغير اعتماد على تشريع سابق، أو القضاء والفصل في الأمور اعتمادًا على تشريع يضعه القاضي أو الحاكم من قبل نفسه، أو مما خلفته الأمم من التشريعات، أو مما سنته عقول الناس.
فهذا النوع من الحكم يكون الحكم فيه بمعنى التشريع المبتدأ الذي يبتدئه الحاكم من عند نفسه أو من القوانين الأخرى المستوردة، من غير أن يمليه عليه أحد، أو يتبع فيه أحدًا، وقد يصحبه بعد ذلك الحكم بالمعنى الأول، وقد لا يصحبه.
وفعل الحاكم في هذا النوع من الحكم أنه يضع من عند نفسه التشريع ويبين الأحكام المترتبة على الأقوال والأفعال والتصرفات. وقد يحكم الحاكم بعد ذلك في قضية أو واقعة معينة بناء على هذا التشريع ـ القوانين ـ، وقد لا يحكم فيها بنفسه.
ويدل على هذا المعنى لمفهوم كلمة (الحكم) قول الله تعالى: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ)، وقوله تعالى:(وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ)، وقوله تعالى:(أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)، وقوله تعالى: (وَلَا
يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)، وقوله تعالى:(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)، وقوله تعالى:(إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ). وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على هذا المعنى.
فالمراد بالحكم في هذه النصوص وما شابهها: إحداث تشريع مبتدأ للحكم في القضايا، سواء كانت قضايا كلية عامة، أو كانت قضايا معينة محددة.
ومعلوم أن هذا النوع من الحكم مختص بالله رب العالمين، لا يشركه فيه أحد من خلقه.
ومن هنا يتبين جليًا أن مفهوم الحكم بما أنزل الله مفهوم واسع يشمل كل ما جاءت به النصوص الشرعية من الكتاب والسنة أو دلت عليه. فمثلاً:
1 -
مال الدولة الإسلامية: تحديد موارده، وتحديد مصارفه، وكيفية مصارفه، وكيفية الاكتساب في الإسلام، وما يحل منه وما يحرم، كل ذلك يشمله مفهوم الحكم بما أنزل الله.
2 -
ثروات الأمة المخزونة في باطن الأرض أو على ظاهرها: ما يكون منها ملكًا للدولة وما كان منها ملكًا للأفراد، وكيفية توزيع ثروات الأمة بين أبنائها بالحق والعدل، بحيث لا يستأثر بها فريق دون آخر، يشمله الحكم بما أنزل الله.
3 -
صفات الوالي: وما يشترط فيه من الشروط، وواجباته، وحقوقه، وكيفية اختياره أو عزله ـ إن اقتضى الأمر ـ كل ذلك يشمله أيضًا مفهوم الحكم بما أنزل الله.
4 -
العلاقات الخارجية: علاقات الدولة الإسلامية بغيرها من دول الكفر: ما هي حدود العلاقات؟ هل هي حرب أم هي سلم؟ أم هي هدنة مؤقتة أم هي غير ذلك؟ كل ذلك يشمله مفهوم الحكم بما أنزل الله.
5 -
مخالفات الناس ومعاصيهم: وما يترتب على ذلك من عقوبات قد تكون حدًا، وقد تكون تعزيراً، يشمله أيضًا الحكم بما أنزل الله.
6 -
العلاقات الأسرية: من زواج وطلاق، وحضانة، وخلع، وعدة ومتعة، وأحكام الوراثة، وأحكام المهور كل ذلك يشمله الحكم بما أنزل الله.
7 -
كما أنها تشمل حكم الله في الصلاة والصيام والزكاة والحج والزفاف والجنائز واللباس والطعام والشراب، بل في جميع أمور الفرد والأسرة والمجتمع والأمة.
وهكذا، فالحكم بما أنزل الله مدلوله أشمل وأوسع من مجرد ما يظنه كثير من الناس، إذ ما من آية أو حديث فيها حكم من الأحكام الشرعية، إلا كان الحكم بما دلت عليه الآية أو الحديث داخلاً في مفهوم الحكم بما أنزل الله.
ولعله يصبح من الواضح جدًا الآن شيئان:
الأول: أن مطالبة المطالبين بالحكم بما أنزل الله لا تعني تنفيذ بعض هذه الأحكام، بل تعني جميع هذه الأحكام، وأن الأمر لا يخص الأمراء فقط، بل حتى على الأسرة والمجتمع، والمجتمع كلٍّ حسب ما كلف من جهة الشرع، فالرجل مكلف أن يحكم بما أنزل الله في أسرته؛ لأن كل واحد منا راع وكلنا مسئولون عن رعايانا. فما ترى من الناس من أنهم ينصبون جميع اللوم على الحكام والأمراء في عدم الحكم بما أنزل الله ليس ذاك إلا لمجرد القصور في النظر.
الثاني: لما قلنا: إن الحكم بما أنزل الله يشمل كل شئون الفرد والمجتمع، وإذا لم يطبق أحدنا ما حكم الله عز وجل في ما يرعاه، فإن حكمه يختلف حسب ما أداه إليه عمله هذا، من الكبيرة وارتكاب الحرام وكفر دون كفر، إلى كفر أكبر وشرك أكبر؛ لأن للمخالفة درجات في الشرع، فإن كان خالفه بمجرد اتباع هواه فهل يقال له إنه كافر مثلاً؟ ولو قلنا بهذا فما الفرق بيننا وبين الخوراج مثلاً؟ ولهذا من الخطأ ما نرى الآن في الساحة أناسًا يكفرون الناس بدون تفصيل، وبدون النظر إلى عواقب الأمور وإلى أنه هل يوجد هناك عنده شبهة أو مانع أم لا؟ .
كون إثبات صفة الحكم لغير الله شركًا بالله جل وعلا:
لا شك أن تنحية شرع الله تعالى وعدم التحاكم إليه في شئون الحياة من أخطر وأبرز الانحراف في مجتمعات المسلمين. ولقد كان من عواقب الحكم بغير ما أنزل الله في بلاد المسلمين ما حل بهم من أنواع الفساد وصنوف الظلم والذل والمحق. ولعل أخطر منه إعطاء سلطة التشريع والحكم لغير الله سبحانه.
ونظراً لأهمية وخطورة هذه المسألة من جانب، وكثرة اللبس فيها من جانب آخر، نفصل القول في المسألة على النحو التالي:
منزلة إثبات صفة الحكم والتشريع لله وحده:
فرض الله تعالى الحكم بشريعته، وأوجب ذلك على عباده، وجعله الغاية من تنزيل كتابه، فقال سبحانه:(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ).
وبين سبحانه اختصاصه وتفرده بالحكم، فقال:(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)، وقال سبحانه:(إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ)، وقال عز وجل:(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وقال سبحانه:(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)، كما سبق معنا إيراد النظائر من الآيات الدالة على أن الحكم والتشريع من خصائص الله عز وجل.
فالحكم بما أنزل الله من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أربابًا لمتبعيهم، فقال سبحانه:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وكما يقول الشيخ محمد رشيد رضا ـ في بيان معنى الشرك في الربوبية ـ: هو إسناد الخلق التدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين
في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم من غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلّغه عنه رسله.
ويقول ابن حزم ـ عند قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ) الآية ـ:
(لما كان اليهود والنصارى يُحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويُحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، وقد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف).
ويقول ابن تيمية رحمه الله في هذا الشأن: (وقد قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وفي حديث عدي بن حاتم ـ وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما ـ وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال:((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ )). قال: فقلت: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)). وكذلك قال أبو البختري: ((أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن
يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية
…
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة الرجل، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله:(لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وإذا كانت متابعة أحكام المشرعين غير ما شرعه الله، تعتبر شركًا، وقد حكم الله على هؤلاء الأتباع بالشرك، كما قال تعالى:(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، فكيف بحال هؤلاء المشرعين؟ ! لا شك في كفرهم؛ لأنهم نازعوا الله تعالى في ربوبيته، وبدلوا دين الله وشرعه.
كما أن حقيقة الرضا بالله ربًا توجب إفراد الله تعالى بالحكم، واختصاصه تعالى بالخلق والأمر، حيث قال سبحانه:(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، وقال سبحانه:(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ). فالأمر كله لله تعالى وحده، سواء كان هذا الأمر كونيًا قدريًا، أو شرعيًا دينيًا.
يقول العز بن عبد السلام: وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه
…
وكذلك لا حكم إلا له.
ويقول عبد الرحمن السعدي: فإن الرب والإله هو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى بحيث تكون الطاعات كلها تبعًا لطاعته.
إضافة إلى ذلك، فإن الحَكَم من أسماء الله تعالى الحسنى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:((إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم)). يقول ابن الأثير: (وإنما كره له ذلك لئلا يشارك الله في صفته).
وفي دعاء الاستفتاح في صلاة التهجد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وإليك حاكمت)). يقول ابن منظور في اللسان: (أي: رفعت الحكم إليك ولا حكم إلا لك).
وقال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا).
وقال سبحانه: (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).
وقال عز وجل: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ).
وإن الإيمان بهذا الاسم يوجب التحاكم إلى شرع الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى:(وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). وقال سبحانه: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ).
وقد بين الله تعالى ـ في آيات كثيرة ـ صفات من يستحق أن يكون الحكم له
…
كما قال العلامة الشنقيطي مبينًا ذلك:
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع، قوله تعالى:(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)، ثم قال مبينًا صفات من له الحكم:(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السموات والأرض ـ أي خالقها ومخترعها، على غير مثال سابق ـ، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجًا
…
؟
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعًا من كافر خسيس حقير جاهل.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا).
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السموات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات، وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد
وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومنها قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ).
فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟
ومنها قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكن تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم.
سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم.
وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا): وقد قرأ هذا الحرف عامة القراء
…
(ولا يشرك) بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية، والمعنى: ولا يشرك الله عز وجل أحدًا في حكمه، بل الحكم لله وحده لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله ـ تعالى ـ والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والقضاء ما قضاه. وقرأ ابن عامر في السبعة:(ولا تشرك) بضم التاء المثناة الفوقية، وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله، أو لا تشرك أيها المخاطب في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم، وحكمه جل وعلا المذكور
في قوله: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) شامل لكل ما يقتضيه جل وعلا، ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أوليًا.
وإذا كان القول بأن الله هو الحَكَم، وأن الحُكم له وحده يمثل جزءًا من عقيدة المسلمين في الله ربهم فإنه يعني من جانب آخر أن المسلم لا يقر بذلك لأحد دون الله تعالى. هذا فضلاً عن أن يدعي ذلك لنفسه، أو لغيره.
ومما تقدم تبين أن من ادعى أنه هو الحَكَم وأن الحُكْم له ـ سواء كان هذا المدعي فردًا، أو جماعة، أو هيئة، أو مؤسسة، أو مجلسًا شعبيًا، أو برلمانًا، أو غير ذلك من المسميات ـ فقد ادعى مشاركته لله تبارك وتعالى في ذلك.
والمقصود: بيان كون الحكم والتشريع من خصائص الربوبية، وإعطاء هذه الخصيصة لغير الله شرك بالله جل شأنه في صفة الحكم وفي صفة التشريع.
بقي أن نشير هنا إلى أنه هل وجد هذا النوع من الشرك في العصر الحديث أم لا؟ .
فأقول: لقد وقع في هذا النوع من الشرك جملة من الطوائف في العصر الحديث، ويتمثل ذلك فيما يلي:
إعطاء حق التشريع لغير الله سواء كان من الأمراء والسلاطين، أو القوانين، أو الأنظمة المستوردة.
ومنها: إعطاء حق التشريع للعلماء والأئمة ورؤساء الأحزاب والجماعات.
ومنها: إعطاء حق التشريع لمشايخ التصوف.
وسأذكر كل من وقع في هذا النوع من الشرك في الفروع الآتية:
الفرع الأول: مظاهر الشرك بالله في الربوبية بالأنداد في صفة الحكم والتشريع بإثباتهما لغير الله، سواء كان إنسانًا عادياً، أو أميرًا من الأمراء، أو كان قانونًا من قوانين الكفرة، أو نظامًا من الأنظمة المستوردة
…
:
كل من نصب نفسه حاكمًا مطلقًا أو مشرعًا ـ في أي قضية من القضايا ـ فقد أوقع نفسه في هذا النوع من الشرك؛ لأن الله عز وجل سماه مشرعًا في قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ). كما سماه طاغوتاً، وحرم التحاكم إليه، وبين أن من تحاكم إلى الطاغوت ثم زعم الإيمان أن أمره عجيب؛ لأن دعوى الإيمان يبطلها التحاكم إلى الطاغوت. قال تعالى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً).
وقد سمى الله تعالى الذين يحكمون بغير شرعه كفارًا، وظالمين، وفاسقين، فقال سبحانه:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وقال سبحانه:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وقال
عزوجل: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
وأبرز من وقع في هذا النوع من الشرك:
المشرعون للقوانين الوضعية. والمستوردون لها والمبدلون بها الحكم الشرعي والمستحلون للحكم بها، والمنكرون لأحقية حكم الله ورسوله عليها، والمسوون بينها وبين حكم الله، والقائلون بعدم صلاحية حكم الله في هذا القرن العشرين ـ قرن العلم والنور ـ (كما يقولون)، والمعرضون عن أحكام الشريعة الدالة على عدم الاقتناع بها.
وذلك: (أن طواغيت البشر ـ قديمًا وحديثًا ـ قد نازعوا الله في حق الأمر والنهي والتشريع بغير سلطان من الله تعالى، فادعاه الأحبار والرهبان لأنفسهم؛ فأحلوا به الحرام، وحرموا به الحلال، واستطالوا به على عباد الله، وصاروا بذلك أرباباً من دون الله.
ثم نازعهم الملوك في هذا الحق حتى اقتسموا السلطة مع هؤلاء الأحبار والرهبان، ثم جاء العلمانيون فنزعوا الحق من هؤلاء وهؤلاء، ونقلوه إلى هيئة تمثل الأمة والشعب، أُطلق عليها اسم البرلمان، أو مجلس النواب
…
وغالب الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين ـ من خلال استقراء دساتيرها ـ إنما هو انسلاخ من عقيدة إفراد الله تعالى وحده بالتشريع، حيث جعلت التشريع والسيادة للأمة أو الشعب، وربما جعلت الحاكم مشاركًا في ذلك في سلطة التشريع، وقد يستقل بالتشريع في بعض الأحوال، وكل ذلك تمرد على حقيقة الإسلام التي توجب الانقياد والقبول لدين الله تعالى، والله المستعان).
وقد وصل امتهان الشريعة الإلهية ونبذها ـ في بعض تلك الدساتير ـ إلى
حد أنهم جعلوا هذه الشريعة الربانية مصدرًا ثانويًا من مصادر القانون، فتأتي الشريعة متأخرة بعد التشريع الوضعي، والعرف، كما أنهم يجاهرون صراحة بحق التشريع لغير الله تعالى ـ بحيث أن نصوص الشريعة لا تكتسب صفة القانون عندهم لو أرادوا العمل بتلك النصوص إلا بصدورها عمن يملك حق التشريع، وهي السلطة التي يمنحها الدستور الاختصاص بذلك.
أما كون هذه الشريعة منزلة من عند الله تعالى فلا يعطيها صفة القانون عندهم فضلاً أن تكون حاكمة ومهيمنة، بل إن العرف يلغي أي مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية ـ فسحقاً لهم ـ.
كما أن هذه القوانين والدساتير الطاغوتية عند أصحابها قد صار لها من الحرمة والتعظيم كما لو كانت شريعة إلهية، يبين ذلك الشيخ أبو الأشبال أحمد شاكر رحمه الله فيقول:
(هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام
…
هي في حقيقتها دين آخر جعلوه دينًا للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي، لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها وغرسوا في قلوبهم حبًا وتقديسها والعصبية لها، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثير من الكلمات (تقديس القانون)، و (قدسية القضاء) و (حرمة المحكمة) وأمثال ذلك من الكلمات
…
ثم صاروا يطلقون على هذه القوانين ودراساتها كلمة (الفقه) و (الفقيه)، و (التشريع) و (المشرع)
…
وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها).
إن شريعة الله تعالى يجب أن تكون وحدها حاكمة ومهيمنة على غيرها،
وأن تكون المصدر الوحيد للتشريع، فلا ننخدع بما يقوله بعضهم بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، لما تضمنه هذه العبارة الشركية من الإقرار والرضا بمصادر أخرى للتشريع، ولو كانت مصادر فرعية. يقول الله تعالى:(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
وفيما يلي بيان نصوص العلماء المحققين في إثبات ما ذكر:
أولاً: قول شيخ الإسلام ابن تيمية:
قال رحمه الله في كتابه منهاج السنة النبوية: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتباع لما نزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا هي تأمر بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام ويحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية، وكأوامر المطاعين، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي أن يحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيرًا من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون.
فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار).
وقال في موضع آخر: (والإنسان متى حلل الحرام ـ المجمع عليه ـ أو حرم
الحلال ـ المجمع عليه ـ أو بدل الشرع ـ المجمع عليه ـ كان كافرًا باتفاق الفقهاء).
وقال: (ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله، لا بين المسلمين، ولا الكفار ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش، ولا الفقراء، ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى:
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
فيجب على المسلمين أن يُحَكّموا الله ورسوله فيما شجر بينهم، ومن حكم بحكم البندق وشرع البندق، أو غيره مما يخالف شرع الله وشرع رسوله، وحكم الله وحكم رسوله، وهو يعلم ذلك، فهو من جنس التتار الذين يقدمون حكم (الياسق) على حكم الله وحكم رسوله، ومن تعمد ذلك فقد قدح في عدالته ودينه).
وقد سئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن قتال التتار مع تمسكهم بالشهادتين ودعواهم أنهم يتبعون أصل الإسلام، فقال: (كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء وغيرهم، فإنه يجب قتالهم، حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائع الإسلام، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضوان الله عليهم مانعي الزكاة
…
).
وبين ـ رحمه الله تعالى ـ: (أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام
شرائعه ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب).
ثم بين رحمه الله وأجزل له المثوبة ـ: (أن كل طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج، أو امتنعت عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنا أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو امتنعت عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها والتي يكفر الواحد بجحودها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء
…
).
ثم بين رحمه الله أن هؤلاء الممتنعين من هذه الواجبات ليسوا بغاة، وإنما هم كفرة خارجون عن الإسلام، وشتان ما بين الأمرين، قال رحمه الله: (وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسو بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، أما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثانياً: من أقوال العلامة ابن القيم رحمه الله:
يقول ابن القيم رحمه الله: (من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به
الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه). ويعرف رحمه الله الطاغوت فيقول: (الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه، غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله ورسوله إلى التحاكم إلى الطاغوت).
ويقول في موضع آخر: (فالرضا بالله ربًا، ألاّ يتخذ ربًا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره، وينزل له حوائجه، قال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ). قال ابن عباس رضي الله عنه: سيدًا وإلهًا، يعني فكيف أطلب ربا غيره وهو رب كل شيء؟ وقال أول السورة:(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)؛ يعني معبودًا وناصرًا ومعينًا وملجئًا. وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة. وقال في وسطها: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)؛ أي أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم، فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه؟ وهذا كتابه سيد الحكام، فكيف نتحاكم إلى غير كتابه؟ وقد أنزله مفصلاً، مبينًا كافيًا شافيًا
…
وكثير من الناس يرضى الله ربًا، ولا يبغي رباً سواه، لكنه لا يرضى به وليًا
وناصرًا وحده، بل يوالي من دونه أولياء، ظنًا منه أنهم يقربونه إلى الله، وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا شرك
…
وكثير من الناس يبتغي غيره حكمًا، يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضى بحكمه
…
بينما أركان التوحيد الثلاثة: أن لا يتخذ سواه ربًا، ولا إلهًا، ولا غيره حكمًا).
ثالثاً: قول العلامة ابن كثير:
بعد أن ذكر رحمه الله من الياسق التي يحكم بها التتار قال: (وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه! من فعل ذلك فهو كفر بإجماع المسلمين).
فهو يقرر أن التحاكم إلى الشرائع السماوية المنسوخة كاليهودية كفر، فتكفير الذين يتحاكمون إلى غيرها من الشرائع من باب أولى. ثم يقرر أن أمثال هؤلاء يكفرون بإجماع المسلمين.
ويقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ):
(ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات
التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا يقدمونه على الحكم بالكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: قول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
عدّ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رؤوس الطواغيت فكانت خمسة، أذكر منها ما يتعلق بالموضوع:
1 -
الحاكم الجائز المغيّر لأحكام الله تعالى، واستدل على ذلك بقوله تعالى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً).
2 -
الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).
خامساً: قول العلامة الشيخ أحمد شاكر:
بيّن الشيخ شاكر رحمه الله أن القوانين الوضعية تعتبر تشريعًا جديدًا
ودينًا جديدًا، ثم قال:(وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام ويحكمون بها، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئًا من أحكام الشريعة وما خالفها، وكله باطل وخروج؛ لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة، لا اتباعًا لها، ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله، فالموافق والمخالف كلاهما مرتكس في حمأة الضلالة، يقود صاحبه إلى النار، ولا يجوز لمسلم أن يخضع له أو يرضى به).
فهو يقرر أن هذه الشرائع كلها باطلة، وهي خروج على الدين الإسلامي، ولا عبرة بما جاء فيها موافقًا لأحكام الشريعة الإسلامية؛ لأن هذه الموافقة جاءت مصادفة، والتشريع الإسلامي يؤخذ من حيث كونه منزلاً من عند الله دون سواه.
ويقول في موضع آخر: (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام ـ كائنًا من كان ـ في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرؤ حسيب نفسه).
وقال في موضع آخر: (ما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال، والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، وإصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر
على حكم الله تعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة ـ على اختلافهم ـ في تكفير القائل به والداعي إليه).
ثم بيّن أحمد شاكر: (أن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس في رابعة النهار فهي كفر بواح
…
)، قال:(ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين).
لقد قال رحمه الله كلمة الحق غير هياب ولا وجل: (سيقول عني عبيد هذا (الياسق العصري) وناصروه: أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبئت يومًا ما بما يقال عني، ولكني قلت ما يجب أن أقول).
فهو يرى رحمه الله أنه يجب على العلماء إظهار هذه الحقيقة، وبذلك يقومون بمهمة البلاغ التي كلفهم الله تعالى بها، فينجوا أمام الله تعالى من أليم عقابه، ومن ثم يتبين الأمر لعامة الناس، ويأخذوا الأمر بجد، ولا يتهاونوا في مواجهة هذا الباطل، ويهربوا من الكفر الذي يراد لهم أن يدخلوا فيه.
وقد رأى رحمه الله تحريم تعلم هذا الباطل، كما يرى على العلماء تحريم التولي لولاية القضاء في مثل هذه المحاكم التي تطبق شريعة البشر، قال رحمه الله: (أفيجوز لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه، واعتقاده والعمل به، عالمًا كان الأب أو جاهلاً؟ أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء
في ظل هذا (الياسق العصري) وأن يعمل به، ويعرض عن شريعته ألبته؟ ! ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه، ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتاباً محكمًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال ـ ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول، بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلانًا أصليًا، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة).
ويقول في موضع آخر: (نرى في بعض بلاد المسلمين قوانين ضربت عليها، نقلت عن أوروبا الوثنية الملحدة، وهي قوانين تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، وذلك أمر واضح وبديهي، لا يخالف فيه إلا من يغالط نفسه، ويجهل دينه أو يعاديه من حيث يشعر أو لا يشعر، وهي في كثير من أحكامها أيضًا توافق التشريع الإسلامي، أو لا تنافيه على الأقل، وإن العمل بها في بلاد الإسلام غير جائز حتى فيما وافق التشريع الإسلامي؛ لأن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها إلى قوانين أوروبا أو لمبادئها وقواعدها وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه، فهو آثم مرتد بهذا سواء أوضع حكمًا موافقًا للإسلام أو مخالفًا له
…
).
ويرى فضيلته أن الواقع في هذا الجرم العظيم من الناس ثلاثة، وهم:
1 -
المتشرِّع: (ويقصد به في مصطلحاتهم الهيئة التشريعية، وعلى رأسهم الآمر بذلك، وهو الحاكم الأعلى للدولة، الذين يعين الهيئة ويأمرها بذلك
ويحدد لها مهمتها ويصادق على ما تبناه من تشريعات ـ وإن كانت كلمة التشريعات ما يجوز إطلاقها ولكنه سماه هنا على أساس ما يسمونه ظلمًا وزورً): قال عنه: فإنه يضع هذه القوانين وهو يعتقد صحتها وصحة ما يعمل، فهذا أمره بيّن وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
2 -
المدافع: (وهو الذي يدافع عن هذه القوانين وينفذها): قال عنه: فإنه يدافع بالحق وبالباطل، فإذا ما دفع الباطل المخالف ذلك للإسلام معتقدًا صحته فهو كزميله المتشرع، وإن كان غير ذلك كان منافقًا خالصاً مهما يعتذر بأنه يؤدي واجب الدفاع.
3 -
الحاكم: (وهو الذي يقضي ويحكم بين الناس بهذه القوانين). فعن هذا يقول: قد يكون له في نفسه عذر حين يحكم بما يوافق الإسلام من هذه القوانين، وإن كان التحقيق الدقيق لا يجعل لهذا العذر قيمة، أما حين يحكم بما ينافي الإسلام مما نص عليه الكتاب والسنة ومما تدل عليه الدلائل منها فإنه على اليقين مما يدخل في هذا الحديث ـ يقصد:((وعلى المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) ـ بل بما هو أشد من المعصية أن يخالف كتاب الله وسنة رسوله فلا سمع ولا طاعة، فإن سمع وأطاع كان عليه من الوزر ما كان على آمره الذي وضع هذه القوانين وكان كمثله سواء.
سادساً: قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن عبد اللطيف آل الشيخ: مفتي الديار السعودية رحمه الله، قال:
إن من الكفر الأكر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل:(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لم يحكّموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفيًا مؤكدًا بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى:(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه:(ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ).
والحرج: الضيق، بل لابد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب.
ولم يكتف تعالى أيضًا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليها التسليم وهو كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلون ها هنا من أي تعلق للنفس بهذا
الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم تسليم، ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل شأنه (تسليمًا) المبين أنه لا يكتفي ها هنا التسليم
…
بل لابد من التسليم المطلق.
وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى:(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
كيف ذكر النكرة وهي قوله: (شيء) في سياق الشرط وهو قوله جل شأنه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ) المفيد العموم، فيما يتصور التنازع فيه جنسًا وقدرًا
…
تأمل كيف جعل ذلك شرطًا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله:(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ).
ثم قال جل شأنه: (ذَلِكَ خَيْرٌ).
فشيء يطلق الله عليه أنه خير، لا يتطرق إليه شر أبدًا، بل هو خير محض عاجلاً وآجلاً
…
ثم قال: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
أي: عاقبة في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع شر محض وأسوء عاقبة في الدنيا والآخرة.
عكس ما يقوله المنافقون: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا).
وقولهم: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ).
ولهذا رد الله عليهم قائلاً: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ).
وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم (بل ضرورتهم) إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صِرْف بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، إن هذا لازم لهم.
وتأمل أيضًا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى:(فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ).
فإن اسم الموصول مع صلته مع صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الاجناس والانواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى الله الإيمان عمّن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما قال تعالى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً).
فإن قوله عز وجل: (يزعمون) تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد
حكم بالطاغوت وحاكم إليه. ذلك؛ أنه من حق كل أحد أن يكون حاكمًا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا بخلافه.
كما أن من حق كل أحد أن يحكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوز حده، حكمًا أو تحكيمًا، فصار بذلك طاغوتًا لتجاوزه حده.
وتأمل قوله عز وجل: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).
تعرف منه معاندة القانونيين وإرادتهم خلاف مراد الله حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعًا والذي تُعُبِّدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه، (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).
ثم تأمل قوله: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ).
كيف دل على أن ذلك ضلال، وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصور القانونيون من بُعْدِهِمْ من الشيطان، وأن فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن، وما بعث به سيد ولد عدنان معزولاً من هذا الوصف، ومنحّى عن هذا الشأن. وقد قال تعالى منكرًا على هذا الضرب من الناس، ومقررًا ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحًا أنه لا حكم أحسن من حكمه:(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية، وأنه
ليس بعد حكم الله تعالى إلى حكم الجاهلية، الموضح أن القانونيين في زمرة الجاهلية، شاءوا أم أبوا، بل هم أسوأ منهم حالاً، وأكذب منهم مقالاً، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد.
وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء:(أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا).
ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموا من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عز وجل:(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
سابعاً: مقالة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز:
كتب فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رسالة بعنوان: (وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه)، وجاء في مقدمتها قول فضيلته ـ حفظه الله ـ:(هذه رسالة موجزة ونصيحة لازمة في وجوب التحاكم إلى شرع الله، والتحذير من التحاكم إلى غيره، كتبتها لما رأيت وقوع بعض الناس في هذا الزمان في تحكيم غير شرع الله، والتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، من العرافين والكهان وكبار عشائر البادية، ورجال القانون الوضعي وأشباههم، جهلاً من بعضهم لحكم عملهم ذلك، ومعاندة ومحادة لله ورسوله من آخرين).
ثم تعرض فضيلته لبيان الغاية من خلق الجن والإنس، وأورد الأدلة الدالة على أنهم خلقوا لعبادة الله، وبين معنى العبادة، وبين أن العبادة (تقتضي
الانقياد التام لله تعالى أمراً ونهياً واعتقاداً وقولاً وعملاً، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله، يحل ما أحل الله، ويحرم ما حرم، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله، متجردًا من حظوظ نفسه ونوازع هواه ليستوي في هذا الفرد والجماعة والرجل والمرأة، فلا يكون عابدًا لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته، وخضع للمخلوقين في جوانب أخرى).
وحول سؤال ورد إلى فضيلته لبيان ما يراه في المسلمين الذين يحتكمون إلى القوانين الوضعية مع وجود القرآن الكريم والسنة المطهرة بين أظهرهم. أجاب فضيلته:
(رأيي في هذا الصنف من الناس الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين في الوقت الذي يتحاكمون فيه إلى غير ما أنزل الله، ويرون شريعة الله غير كافية ولا صالحة للحكم في هذا العصر هو ما قال سبحانه وتعالى في شأنهم، حيث يقول سبحانه وتعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)، ويقول سبحانه وتعالى:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، إذن فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير شريعة الله لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام، ويكونوا كفارًا، ظالمين، فاسقين، كما جاء في الآيات
…
والله الموفق).
وقال في موضع آخر: (فالمقصود: أنه لابد من توحيد الله بإفراده العبادة والبراءة من عبادة غيره وعابدي غيره، ولابد من اعتقاد بطلان الشرك، وأن
الواجب على جميع العباد من جن وإنس أن يخصوا الله بالعبادة، ويؤدوا حق هذا التوحيد بتحكيم شريعة الله، فإن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم، ومن توحيده: الإيمان والتصديق بذلك، فهو الحاكم في الدنيا بشريعته، وفي الآخرة بنفسه
…
).
وقال في موضع آخر: (إن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران:
أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
فالأول: يبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله، ويعلم به أن المعبود بحق هو الله وحده.
والثاني: يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، كما يتضح به بطلان الحكم بالقوانين الوضعية والآراء البشرية، ويعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء).
ثامناً: من أقوال الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ حفظه الله ـ:
(إن الحكم بما أنزل الله من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله ـ تعالى ـ المتبوعين في غير ما أنزل الله ـ تعالى ـ أربابًا لمتبعيهم، فقال ـ سبحانه ـ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، فسمى
الله تعالى المتبوعين أرباباً، حيث جُعلوا مشرعين مع الله ـ تعالى ـ وسمى المتبعين عباداً حيث إنهم ذلوا لهم، وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى).
وفي الختام أورد نص فتوى من فتاوى اللجنة الدائمة التي جاء فيها ما يلي:
(الشرك الأكبر: أن يجعل الإنسان لله ندًا:
إما في أسمائه وصفاته
…
وإما أن يجعل له ندًا في عبادته
…
وإما أن يجعل له ندًا في التشريع، بأن يتخذ مشرعًا له سوى الله، أو شريكًا لله في التشريع يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم
…
).
هذا، ومما ينبغي التنبيه له: هو أن لا يظن ظان أني كفرت أحدًا من الأمراء أو الحكام، فإن الحكم على العموم شيء، والحكم بالخصوص شيء آخر، والأول سهل إذا وجد ما يدل عليه، وأما الثاني: ـ فكما يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ يحتاج إلى شيئين:
1 -
أن يثبت أن هذا الشيء في نفسه كفر أو شرك،
2 -
أن ينطبق الحكم على الشخص المعين بمراعاة الضوابط والقواعد الشرعية.
ثم الأمر فيه كما قال الشيخ الألباني: (فأنتم أولاً لا تستطيعون أن تحكموا على كل حاكم يحكم بالقوانين الغربية الكافرة أو بكثير منها، أنه لو سئل لأجاب: بأن الحكم بهذه القوانين هو الحق والصالح في هذا العصر، وأنه لا يجوز الحكم بالإسلام، لو سئلوا، لا تستطيعون أن تقولوا: بأنهم يجيبون بأن
الحكم بما أنزل الله اليوم لا يليق، وإلا لصاروا كفاراً دون شك ولا ريب).
وهل مجرد العمل بالقوانين الغربية الكافرة شرك بالله؟ هذه المسألة يرى الشيخ الألباني فيها أنه لابد من ظهور ما يدل على أنه يراه جائزًا أو مبدلاً لشرع الله وإلا لما يحكم عليه بالكفر الأكبر والشرك الأكبر.
بينما يرى الشيخ محمد صالح العثيمين غير ذلك، حيث يقول: (ولكنا قد نخالفه في مسأله أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حل ذلك، هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأننا نقول: من اعتقد حل ذلك ـ حتى لو حكم بحكم الله ـ وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى ـ فهو كافر كفر عقيدة.
لكن كلامنا على العمل، وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونًا مخالفاً للشرع يحكم فيه بعباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من قانون الشرع، هذا هو الظاهر. وإلا فما الذي حمله على ذلك؟ قد يكون الذي حمله على ذلك خوف من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبقه، فيكون هنا مداهناً لهم. فحينئذ نقول: هذا كافر، كالمداهن في بقية المعاصي
…
).
ولكن الذي يظهر: أن هذه القوانين الغربية الكافرة ما طبقها حكام عصرنا، وإنما هي إما من مخلفا الاستعمار وإما من مخلفات الحكام التابعين للاستعمار في عصر دون هذا العصر، فاللوم على المطبقين لها أول مرة، ويكون الحكم عليهم لا على الذين هم ورثوا شيئًا ولم يعلموا أن هذا كفر أو شرك، لغلبة الجهل بحقيقة الدين الإسلامي على أغلب الحكام. والجهل
إذا كان عذراً مقبولاً لمن يقيم بالبادية فكيف لا يعذر من لم يجد من يدله على حقيقة الدين الإسلامي، أو نشأ في بيئة لا تدرس فيها الدين إلا يسيرًا؟ .
ويدخل في هذا النوع ـ الشرك في صفة الحكم ـ أيضاً: ما يسمونه بـ (حكم الأغلبية)، أو الديموقراطية:
ففيه يختار الشعب نواباً عنه يمثلونه في البرلمان يكون إليهم أمر التشريع، ويكون التصويت داخل البرلمان بالأغلبية.
فلو رأت الأغلبية إباحة الخمر أبيح، ولو رأت إباحة الربا أبيح، ولو رأت عدم تطبيق شرع الله فلا يطبق، فالحكم أولاً وأخيراً للأغلبية! ! .
وفي هذا مصادمة واضحة بينة للشرع، وذلك لأن التشريع حق لله وحده والسلطة التشريعية لابد من الرجوع بها لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:(وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)، وقال تعالى:(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، وقال تعالى:(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، وقال تعالى:(وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). والنبي صلى الله عليه وسلم صادق مصدوق قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، إذن فهذه السلطة مصدرها
الشرع المطهر لا الشعب.
فلا يجوز شرعًا إنشاء مجالس تشريعية تبحث هل الربا نتعامل معه أم لا؟ وهل تمنع الخمر أم لا؟ ونعرض ذلك على عقول البشر، فمهمة العقل أن يفهم الشرع وأن يستسلم لحكم ربه ويحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله جل وعلا، قال تعالى:(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)، وقال تعالى:(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
والواجب الإذعان لشرع الله وأن يقتصر دور المجالس على سن القوانين الإدارية فقط التي لا تخالف شرع الله، والمنضبطة بأصول وقواعد الشرع، والمتفقة مع مقاصد الشريعة، ويراعى فيها تحقيق المصالح ودرء ودفع المفاسد، كقانون المرور مثلاً فهو نظام مطلوب للحفاظ على أرواح الناس وتيسير سبل الحركة في الطرق ونحو ذلك.
الناس جميعًا ـ حكاماً كانوا أو محكومين وسواء كانوا في السلطة التنفيذية أو القضائية ـ يجب عليهم أن ينقادوا لشرع الله ويقودوا الناس به ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته)).
ولا شك أن الحاكم دوره خطير ومسئوليته أعظم وبصلاحة واستقامته ينصلح خلق كثير ويستقيمون على أمر الله، كما قيل:(إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، وليس له أن يتابع آراء أو أهواء البشر قلَّت أو كثرت إذا صادمت شرع الله وبحجة أنه ينزل على إرادة شعب، هذا إذا كان الشعب يرفض الرجوع لدين الله.
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: وهو يعلق على تفسير ابن كثير قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) الآية وما بعدها ـ: (هذه الآيات وما في معناها تدمغ بالبطلان نوع الحكم الذي يخدعون به الناس ويسمونه الديموقراطية، إذ هي حكم الأكثرية الموسومة بالضلال، هي حكم الدهماء والغوغاء).
والأمر الذي ينبغي التنبيه عليه هو: أن رأي الأغلبية أو الأكثرية لا قيمة له عند الله تعالى إن كانت تعمل بمعصية الله، قال تعالى:(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ)، وقال تعالى:(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، وقال تعالى:(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).
قال الإمام ابن القيم: وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن
إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً.
لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأدي: صحبت معاذاً باليمن، فما فارقته حتى واريته التراب الشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاته، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك! ! وفي طريق أخرى: فضرب على فخذي وقال ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل. قال نعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك. فإنك أنت الجماعة حينئذ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين: يحتج بعض الناس إذا نُهي عن أمر مخالف للشريعة أو الآداب الإسلامية بقوله: الناس يفعلون كذا؟
فأجاب بقوله: هذا ليس بحجة؛ لقوله تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ)، وقوله تعالى:(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). والحجة فيما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو ما كان عليه السلف الصالح.
ولقد حذرنا الله عز وجل من الخوض مع الناس في الضلال وفي المعصية، قال تعالى:(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) أي كلما غوى غاو غوينا معه.
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة هذا الصنف من الناس الذي يسير بلا إرادة وبلا وعي حين يوضع في قبره؛ كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، أتاه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله
…
وأما الكافر أو المنافق ـ وفي رواية: وأما الكافر والمنافق ـ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت، ولا تليت)).
فينبغي لكل مسلم التفطن لهذا الأمر وأن يعلم أن الجماعة هي الحق، وأنه لا يجوز لمسلم أن يكون إمعة لا رأي له يسير مع الناس حيث ساروا في أي طريق كان، بل الواجب عليه أن يبحث عن الحق وأن يتمسك به ويؤثره على غيره مهما قل أتباعه.
الفرع الثاني: مظاهر الشرك بالله في الربوبية بالأنداد في صفته الحكم والتشريع باتصاف العلماء وأئمة الدين بهما:
لقد وقع في هذا النوع من الشرك قديمًا ـ كما سبق معنا ـ اليهود والنصارى، والعرب في جاهليتهم، وتجد نفس هذا الشرك في هذه الأمة وفي العصر الحديث.
فأغلب الفرق التي خرجت عن دين الإسلام إنما خرجت لأجل غلوها في أئمتها، وحسن الظن بأفعالهم الشنيعة المخالفة للقول الحق، وإضافة بعض خصائص التشريع لهؤلاء الأئمة.
كما أنك ترى كثيراً من الأحزاب والجماعات تأخذ بأقوال مؤسسيها من ألفها إلى يائها، دون أن ينظر إلى حكم الشرع في هذه الأقوال. ولهذا تراهم دائماً يلوون أعناق النصوص كي توافق أقوال رؤسائهم، ولا يقبلون بأي وجه من الوجوه أي نفذ نزيه تجاه من يقدسونهم، بل في بعض الأحيان تراهم يستدلون على فعلهم الشنيع بأقوال مؤسسي جماعاتهم، ويريدون أن يلزموا بها الآخرين، كأنهم في ذلك أضافوا صفة التشريع والحكم لهؤلاء الرؤساء.
والفرق التي خرجت من الإسلام، أو حادث عن الطريق السوي إذا فُتش
السبب يظهر جليًا بأن السبب في ذلك يرجع إلى الأخذ بأقوال مؤسيسها بحذافيرها دون تمحيصها، ووزنها بميزان نصوص الكتاب والسنة ومفهوم سلف هذه الأمة. وسأذكر فيما يلي بعض من حاد عن الطريق السوي وأضاف صفة التشريع والحكم إلى أئمتهم نتيجة الغلو في هؤلاء الأشخاص.
أ- الشيعة:
أوسع من رأيت وقع في هذا النوع من الشرك هم الشيعة، وذلك؛ أن الرافضة قد أوجبوا تقليد أئمتهم، واعتبروهم حجة الله على العباد، وزعموا أنهم معصومون كالأنبياء.
وفي هذا يقول عبد الله نعمة ـ وهو من دعاة الرافضة المعاصرين ـ: (ينظر الشيعة إلى الأنبياء والأئمة من أهل البيت جميعًا نظرة مثالية، ويحوطونهم بهالة مقدسة، لا تقتحمها الظنون والشكوك، فهم لديهم شخوص كريمة، يتجسد فيها المثل الأعلى للإنسان في الخير والحق والعدل والعلم، لا يلتوون، ولا ينحرفون، ولا يجورون، ولا يظلمون، قد تساموا بأنفسهم عن الأهواء والشهوات والمطامع والخطايا والذنوب).
وهم يرون أن فتاوى من يزعمونهم معصومين قطعية الدلالة، لا تجوز مخالفتها (فأمرهم أمر الله، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول صلى الله عليه وسلم، والراد على الرسول صلى الله عليه وسلم كالراد على الله، فيجب التسليم لهم، والانقياد لأمرهم، والأخذ بقولهم).
ولا شك أن هذا غاية الغلو في التقليد وإضفاء صفة التشريع والحكم لغير الله.
وقد نعى عليهم الدكتور موسى الموسوي ـ وهو أحد الرافضة المتأخرين من أقران الخميني الخبيث ـ فعلهم ذلك، وشنع عليهم بقوله:(الشيعة الإمامية خضعت بلا دليل ولا برهان، لما ادعاه فقهاؤها بوجوب الانقياد والطاعة العمياء لهم باسم (التقليد)، حيث قالوا: إن الفروض الشرعية التي تؤديها الشيعة عاطلة باطلة، إذا لم تلزم نفسها بالاتباع لفقيه من الفقهاء، وأضاف بعضهم: يجب إطاعة الفقهاء، ليس في المسائل الشرعية فحسب، بل حتى في الموضوعات، أي في شؤون الدين والدنيا معاً).
فهذا هذا هو ما تعبد الله به الناس؟
إن هذا المنهج، منهج ترفضه الشرائع السماوية بأسرها، وترفضه العقول الصحيحة، والفطر السليمة؛ إذ التشريع ليس من اختصاصات الأئمة، بل من اختصاصات الرب جل شأنه.
ب- المقلدة:
إذا قدم المقلدة أقوال أئمتهم على قول الله ورسوله، بعد أن وضح لهم الحق، فإنهم حينئذ يضفون صفة الحكم والتشريع إلى أئمتهم، وقد كان هذا التقليد موجودًا بصفة عامة في كثير من ديار المسلمين.
وما زالت مثل هذه الظاهرة موجودة في بعض الديار، فترى بعض المتعصبة الفقهاء يأبون الرجوع عن اجتهادات الأئمة رحمهم الله ولو استبان لهم الدليل، ولا شك أن هذا خطير، ومن الشرك بطاعة العلماء في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل.
وقد بوّب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه التوحيد لهذا بعنوان: (باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله، فقد اتخذهم أرباباً)، كما ذكر في كتابه مسائل الجاهلية بقوله:(السابعة والثلاثون: التعبد باتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله).
وحديث عدي بن حاتم السابق إنما ورد في العلماء منصوصًا؛ لأن اليهود والنصارى كانوا قد أعطوا سلطة التشريع والحكم في القضايا الدينية لأحبارهم، ورهبانهم.
ويقول صاحب الدين الخالص في قوله تعالى: (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ): (تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منه، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه وحرم ما حرموه عليه. فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده ربًا).
ونقل أيضًا عن أبي العالية أنه قال: (إنهم ـ يقصد اليهود ـ ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم الله تعالى).
فطاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله، ويستن بسنته من علماء هذه الأمة، مع مخالفته لما جاءت به النصوص، وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله،
للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا، وحللوا ما حللوا. وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء، بل يدل على لسان حالهم ما قال به بعض الشعراء:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزية أرشد
والمقصود: أن عدم الرجوع إلى الحق بعد وضوحه فيه إضفاء ضفة الحكم إلى العلماء، وليس هذا إلا شرك بالله في ربوبيته في الحكم.
الفرع الثالث: مظاهر الشرك بالله في الربوبية بالأنداد في صفة الحكم والتشريع لدى المتصوفة:
وذلك؛ أن بعض المتصوفة تعتقد في مشايخهم بأن لهم حق التشريع نتيجة اعتقاد العصمة في أوليائهم، وذلك (أنهم يقرأون عن شيوخ طريقتهم شيئًا من الأحوال التي تنافي الأحكام الشرعية، فيعتقدون أنها من التشريع الذي خص الله به عباده المقربين، وأن شيخهم لا يفعل إلا حقاً، ولا يقول إلا صدقًا، والفقه للعموم، وهذه طريق الخصوص، فيتبعونه في كل ما يؤثر عنه من قول أو فعل، على أنه الطريق المقرب الموصل إلى رضاه).
ومن صور التشريع عند المتصوفة ما يلي:
أ- تشريع أنواع العبادات التي ليس لها أصل في الشرع، منها:
1 -
تشريع صلوات ليست في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة.
لقد أقدم كبار مشايخ الصوفية الذين اشتهروا بين الناس بالعبادة والزهد
فاكتسبوا حسن ظن الناس بهم وقلدوهم تقليدًا أعمى أقدموا على اختراع صلوات معينة في أيام معينة، رتبوا عليها أجوراً محددة، يقصدون بذلك زيادة التقرب إلى الله عزوجل، وغني عن البيان أن يقال: إن التقرب إلى الله ليس طريقة الابتداع في الدين بعد أن بين الرسول صلى الله عليه وسلم: أن ((كل بدعة ضلالة)). وبعد أن سمى الله تعالى الرهبانية بدعة في قوله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ). علمًا بأن هؤلاء كانوا يقصدون برهبانيتهم زيادة التقرب إلى الله. وقد ذكر القرطبي أن المعنى: (ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله)، وذكر أيضًا أن الآية الدالة على أن كل محدثة بدعة، وعليه فإن الواو في قوله:(ورهبانية) للاستئناف، والاستثناء منقطع، بمعنى: لكن.
وقال الشوكاني عن المعنى: (ما كتبناها نحن عليهم رأساً ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله)، وعليه، فإن الواو للاستئناف.
فإذا تقرر توجيه الذم إلى هؤلاء مع سلامة مقاصدهم علمنا أن حسن النية وحده لا يكفي لكي تنتج العبادة ثمرتها المرجوة، بل لابد مع ذلك من توفر أصلين عظيمين: (أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة.
وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
وفيما يلي نماذج قليلة من الصلوات التي شرعوها لأتباعهم:
صلاة الكفاية: وهي ركعتان تؤدى أي وقت كان، ويقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشر مرات ـ و (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) خمسين مرة، ثم يسلم.
صلاة الخير: وهي الصلاة في ليلة النصف من شعبان مائة ركعة يقرأ فيهن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ألف مرة، في كل ركعة عشر مرات. وأن من صلى هذه الصلاة في هذه اللية نظر الله إليه سبعين نظرة، وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة.
صلاة الخصماء: وهي أربع ركعات بتسليمة واحدة يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إحدى عشر مرة، وفي الثانية: الفاتحة و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشر مرات، وثلاث مرات (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وفي الثالثة: الفاتحة و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشر مرات، و (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) مرة. وفي الرابعة: الفاتحة و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) خمس عشرة مرة، وآية الكرسي مرة. ثم يجعل ثوابها لخصمائه؛ يكفيه الله أمرهم يوم القيامة. ويصلي هذه الصلاة في سبعة أوقات: أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وآخر جمعة من رمضان، ويومي العيدين، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء.
هذه نماذج من تشريعات المتصوفة في الدين وخصوصًا في الصلاة، وكلها واهية لا مستند لها من الكتاب والسنة.
ومن أراد الاستزادة من هذه التشريعات فلينظر إلى كتاب الإحياء لأبي
حامد الغزالي وما جاء في كتاب الغنية.
2 -
تشريع أذكار وصلوات على الرسول ما أنزل الله بها من سلطان، بألفاظ وهيئات معينة، وأجور مقدرة.
معلوم من الشرع ضرورة: إن من أعظم العبادات وأكبر المطالب الدينية ذكر الله تعالى، فقد أمر الله تعالى به في غير ما آية من كتابه، ووعد الذاكرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. كما أوعد الغافلين عن ذكره في كثير من الآيات القرآنية. وكذلك أتت الأحاديث النبوية مؤكدة لما جاء في آيات القرآن الكريم ومبينة إجمالها وكيفيتها؛ لأن من لازم كونه رسولاً أن يكون مبلغاً لكل ما يوحى به إليه مفصلاً لكل ما يحتاج إلى ذلك؛ ولذا قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وقال تعالى:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
فكان عمله صلى الله عليه وسلم على مقتضى هذا الأمر فلم يترك شيئًا يقرب إلى الله إلا بلغه وبينه وحث عليه، ولا شيئًا يبعد منه إلا بلغه وبينه وحذر منه، الأمر الذي جعل المشركين في حيرة من أمرهم لما رأوا من استقصائه في تبليغ أوامر الله، حتى قالوا لصحابي:((قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل)).
وإذا تقرر هذا، فليعلم أن من بين الموضوعات التي حظيت بالبيان الشافي موضوع الأذكار والصلوات، فلم يترك صلى الله عليه وسلم مجالاً من مجالات الذكر ولا موقعاً
من المواقع التي يؤمر فيها بذكر معين إلا بين صيغة الذكر المطلوب في ذلك الظرف.
وهكذا بالنسبة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما نزل الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن أشكل على الصحابة فسألوه عن كيفيتها، فبين النبي صلى الله عليه وسلم صيغها كما هو مألوف في الصلوات الخمس، وهناك عدد آخر من صيغ الصلاة علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بناء على استفسار منهم.
فالأذكار والصلوات توقيفية، لا مجال للاجتهاد فيها، ولا حاجة إلى الزيادة فيها، كما أن التحديد إذا لم يرد في الشرع به لا يحدد، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي فيه إنكاره رضي الله عنه على الذين قالوا: سبحوا مائة، وكبروا مائة، وهللوا مائة، ولا يخترع الإنسان أجراً محددًا من تلقاء نفسه؛ لأن الأجر إنما مرده إلى الله، وليس لأحد أن يقول: إن في الشيء الفلاني أجر كذا إلا بالنص الوارد عن الله أو رسوله. ولا ينبغي أن يضاف إلى العبادات أي شيء من الكيفيات والهيئات التي لم ترد عن الشارع.
ولكن ماذا ترى في المتصوفة؟ ستراهم قاموا بتشريع أذكار وصلوات لم ينزل بها قرآن، ولا نطق بها رسوله في السنة، ولا أرشد إليها، فمن هذه التشريعات ما يلي:
أولاً: الذكر بلفظ المفرد:
قال ابن عربي: (دخلت على شيخنا
…
من أهل العيا، وكان مستهتراً بذكر الاسم المفرد (الله) لا يزيد عليه شيئًا، قلت له: يا سيدي، لم لا تقول: لا إله إلا الله؟ فقال لي: يا ولدي! الأنفاس بيد الله، ما هي بيدي، فأخاف أن يقبض الله روحي عندما أقول (لا) أو (لا إله) فأقبض في وحشة النفي. وسألت
شيخًا آخر عن ذلك فقال لي: ما رأت عيني ولا سمعت أذني من يقول: (أنا الله) غير الله، فلم أجد من أنفي، فأقول كما سمعته يقول: الله، الله).
هكذا تمادى المتصوفة في تجاوزاتهم وغلوهم فأباحوا للشيوخ أن يشرعوا لأنفسهم ولأتباعهم ذكراً غريباً لم يعرفه الجيل الأول من الصحابة والتابعين ومن تبعهم على السنة، بل ولا عرفه نبي الأمة صلى الله عليه وسلم؛ ألا وهو الذكر باللفظ المفرد مظهرًا كقولهم: الله، الله، الله، أو حي، حي، حي، أو مضمرًا كقولهم: هو، هو، هو، أو ها، ها، ها.
وبدعية هذا النوع من الأذكار أمر واضح لا يحتاج إلى كثير بيان، بل هو ذريعة إلى ضلالات لا يعلم مداها إلا الله، حتى قال شيخ الإسلام:(وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً فلا أصل له، فضلاً عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات، وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد).
والمتصوفة حاولوا الاستدلال على ذكرهم هذا بالقرآن والسنة. أما القرآن: فقد تشبثوا بقوله تعالى: (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). فزعمو أن معنى (قل الله) اذكر الله بهذا الاسم المفرد وهو استدلال باطل كما ذكره محققو الإسلام. وأما السنة: فحاولوا الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم
الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله)). ومعلوم أن هذا الذي ذهبوا إليه لم يذهب إليه أحد من شراح الحديث المشهورين. بل الحديث قد جاء في رواية أخرى عن نفس الراوي بلفظ:((حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله)). ومعلوم أن الأحاديث تفسر بعضها بعضًا.
ثانياً: تشريع صيغ مستقلة بأعداد معينة، وأجور مقدرة من قبل المتصوفة:
يقول أحدهم: (إنه اجتمع بالخضر، فأعطاه وردًا يدعو به كل يوم سبعة آلاف مرة، ولفظه: (اللهم يا رب بجاه سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم اجمع بيني وبين سيدنا محمد بن عبد الله في الدنيا قبل الآخرة)).
ويقول التيجاني: (الحرز اليماني ـ وهو دعاء السيفي
…
ـ من فضله، أن من ذكره مرة تكتب له عبادة سنة، ومرتين بسنتين، وهكذا، ومن حمله معه كتب من الذاكرين كثيرًا ولو لم يذكر)، ويقول أيضًا عن صلاة الفاتح:(وليكن من جملة أورادكم التي تحافظون عليها بعد الورد هو لازم الطريقة: الحزب السيفي، وصلاة الفاتح لما أغلق، فإنهما يغنيان عن جميع الأوراد).
ومعلوم أن مثل هذه الأوراد والصلوات ليس من دين الله من شيء، حيث لا
يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست من مدلولاتها ما تفيد أن لها أي أهمية أو قيمة، بل هي مجرد كلام، وجمل، ويستطيع كل واحد من بني آدم أن يخترع مثل هذا الكلام ويقول: إن لها من الفضل كذا وكذا.
ثالثاً: القيام أثناء الذكر عند ذكر الولادة:
معلوم من الدين أن القيام للتعظيم ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والقيام إذا كان للتقديس فإنه يكون عبادة. وهؤلاء المتصوفة ـ والعوام في العالم الإسلامي ـ في الوقت الراهن يزعمون أن ذكر الميلاد من العبادة، وليس هذا إلا تشريع جديد في الدين، فعمل المولد من البدع المحرمة، والذين بدأوا به هم العبيديون الباطنيون (الفاطميون)، وهم الذين شرعوا مثل هذه المواليد، ومن كان يريد أن يكون المشرع له الباطنيون الملاحدة فليبك على دينه، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: ترى المتصوفة ـ والغوغاء من الناس معهم ـ قد شرعوا تشريعًا جديدًا، وهو القيام تقديسًا للرسول، ومعلوم أن في هذا جمع بين شركين: الأول: شرك الربوبية بالأنداد في صفة التشريع، والثاني: شرك العبادة حيث وجهوا القيام المقدس لله جل شأنه وحده للرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما اعتقاد بعضهم: أن الرسول يحضر مجالسهم فهذا من الاعتقادات الخطيرة في الدين، فالرسول ميت، وهو في عالم ليس في عالمنا، فكيف يمكن له الخروج من القبر؟ وكيف يمكنه الحضور في آن واحد في جميع مجالس المولد؟ وقبل كل هذا كيف يعلم الرسول بهذه المجالس؟ وكيف يعرف مكانها؟ هل هو عالم بالغيب؟ هذه تساؤلات لا يستطيع هؤلاء المتصوفة أن يجيبوا عنها، بل كل من عنده أدنى مسكة من عقل سليم يعرف أن
هذا من البدع والخرافات.
رابعاً: السماع والذكر:
من تشريعات المتصوفة: السماع، وهو عبارة عن اللحن والموسيقى للرقص، والغناء والاستماع إليه.
ويبدو أن السماع له وزنه واعتباده عند المتصوفة، فقد اهتم به مصنفو كتب القوم اهتماماً بالغاً، فأغلب من كتب في هذا المجال أعطى باباً مستقلًا أو فصلاً خاصاً لهذا الموضوع. فهؤلاء كلهم يرون أن السماع عبادة، وبهذا نصبوا أنفسهم في منزلة التشريع من دون الله، فإنه لا يعلم لهذا السماع أصل في الشرع. فاعتباره من العبادة ما هو إلا تشريع، وقد صرح بعضهم بأنه (مستحب). فهذا تصريح منهم بأنه عبادة، ولكن من شَرَّعه؟ لقد شرعته المتصوفة، فهم وقعوا في شرك الربوبية في صفة الحكم والتشريع.
خامساً: تشريع هيئات في الذكر لم يرد بها الشرع، كالاجتماع للذكر:
إن اشتراط الجماعة في الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم محدث لم يكن معروفاً عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يكن دينًا يومئذ لن يكون دينًا اليوم أو غدًا أو إلى يوم القيامة.
ونقل الشعراني: أن أول مرة ابتدعت إضافة الاجتماع للذكر على الهيئة المعروفة وأسست مجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في جميع العالم الإسلامي في سنة: 944 هـ. ومعنى هذا: أن الناس منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تلك السنة
كانوا على هديه، فواظبوا على ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرادى، من غير اشتراط الجماعة.
وهذا الأمر لا ريب أنه ذم، وإن كان الشعراني لم يرد به إلا الثناء وذكر الأولياء. وقد سبق معنا بيان إنكار ابن مسعود رضي الله عنه على القائلين: سبحوا مائة، وكبروا مائة، وهللوا مائة.
ب- الطرق وما فيها من تشريعات صوفية:
لقد وقعت المتصوفة في أنواع أخرى من الشرك في التشريع، نذكر من أهمها ما يلي:
1 -
القول بوجوب المبايعة على طريقة من الطرق:
واستدلوا على هذا القول ـ ظلماً وزوراً ـ بقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى). يقول أحدهم: (هو طاعة الأكابر من السادات والمشايخ). كما استدلوا بقوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ). يقول أحدهم: (وإذا كان الأتباع يدعوهم الله تعالى بأسماء مشايخهم ويدعو كل أهل طريقة إلى منازل شيخهم ويلحقهم بدرجته ظهر بأدنى تأمل أن أتباع ختم الأولياء
…
لا يلحق درجتهم غيرهم).
يقال في الرد عليهم: إن التفسير الذي ذكروه لهاتين الآيتين ليس لهم سبق
بمثل هذا التفسير، بل هو تحريف للنصوص وليّها على غير مرادها اتباعًا للهوى. أما الآية الأولى فأين فيها وجوب المبايعة على طريقة من الطرق؟ وأما الثانية فالمراد من الآية عند المفسرين شيئان، هما:
أ- صحف الأعمال.
ب- من يقتدون ويأتمون به في الدنيا.
أما على القول الأول فلا علاقة للآية بالناس، بل الآية تكلمت عن المرء وصحف أعماله.
وأما على القول الثاني: فهل يريد أحد أن يكون إمامه غير النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيكون إمام أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإمام الكفرة، الكفار والملحدون، ومن ترك الائتمام بالنبي وفضل الائتمام بآخر غير النبي صلى الله عليه وسلم فهو محروم في الدنيا والآخرة لا محالة.
فلما لم يبق لهم أي متمسك بهاتين الآيتين علمنا أن الوجوب الذي قالوا به إنما هو تشريع من عند أنفسهم.
ومن تشريعاتهم المتعلقة بالطرق:
2 -
القول بوجوب طاعة الشيخ طاعة عمياء:
إن من الأمور المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة أن السمع والطاعة المطلوبين شرعًا ليس الأمر فيهما على إطلاقه، بل لابد من تقييد ذلك بما إذا كان المأمور به طاعة الله تعالى، أما إذا كان معصية فلا طاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا
طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل. ذلك لأن القول بوجوب الطاعة المطلقة لأي أحد من الناس يجعله مشرعًا ويرفعه إلى مقام النبوة والرسالة، كما يؤدي إلى اتخاذه وليًا من دون الله، وقد يصل إلى اتخاذه ربًا يعبد، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال:(وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء).
قال البغوي: (أي لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله تعالى).
وقال ابن كثير: (أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره).
أما أهل التصوف فقد جعلوا للمشايخ من القداسة ما لا حدود له، ودعوا كافة المريدين إلى طاعة الشيوخ طاعة مطلقة عمياء. وفيما يلي نصوص صوفية تدل على مذهب القوم في وجوب طاعة الشيوخ طاعة مطلقة:
يرى الجيلاني أن المريد يجب عليه (ترك مخالفة شيخه في الظاهر، وترك الاعتراض عليه في الباطن).
ويرى أيضًا أن المريد (هدية من الله للشيخ فعليه قبوله).
ومن ينظر إلى ما يقرونه تجاه الشيوخ يجد أنهم لا يقدمون حق أحد كائناً من كان على ما سموه حق الشيوخ، فهذا أحد شيوخهم يقول:(لا تنتفع بشيخك إلا إذا كان اعتقادك فيه فوق كل اعتقاد، وهناك يجعلك في حضوره ويحفظك في مغيبه).
بل يصرح آخر بما هو أفدح من ذلك، فيقول:(طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه) ـ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا ـ.
فهذه عقائد القوم، ولا شك أن في القول بوجوب طاعة الشيخ طاعة عمياء إضفاء بصفة الحكم والتشريع الخاصين لله جل وعلا إلى شيوخهم وأوليائهم.
ومن مظاهر التشريعات المتعلقة بالطرق:
3 -
قولهم وجوب قطع جميع الصلات والروابط مع المشايخ والصالحين خارج الطريقة:
هذا القول مخالف لهدي القرآن والسنة، فالقرآن يأمرنا بأن نكون ـ نحن المسلمين ـ إخوة، قال تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). ويذكر لنا القرآن أن الولاء والبراء مردهما إلى الإيمان بالله والكفر به، وليس النسبة إلى الشيخ الفلاني، أو الطريقة الفلانية، حيث قال:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
وجاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
فهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الحزبية الصوفية أم كان هديه مخالفاً لهديهم؟ ثم إن هذا الوجوب الذي يدعونه ليس إلا تشريعاً جديدًا، وشركًا بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات حق التشريع لأنفسهم.
يقول ابن عربي: (إنما كان المريد لا يفلح قط بين شيخين قياسًا على عدم وجود إلهين، وعلى عدم وجود المكلف بين رسولين، وعلى عدم وجود امرأة بين رجلين).
يقال في الجواب على هذا القياس الذي أورده: إن هذا ليس بشيء أصلاً، إذ لا علاقة بين وجود المريد بين شيخين، ووجود العالم بين إلهين، لأن هذا محال، وذلك حاصل، وواقع، وقد يكون محمودًا، إذا كان الشيخان فاضلين من عباد الله الصالحين، وكان مقصد الشخص الاسترشاد بهما. وأما وجود المكلف بين رسولين فأمر ممكن وواقع، ولا غرابة فقد أرسل الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وقومه، فما المانع في ذلك؟ وأما وجود امراة بين زوجين فمحرم شرعًا، وليس هناك دليل شرعي يحرم قيام المسلم بالتتلمذ على العلماء والأخذ منهم، بل الأدلة الشرعية تدل على عكسها.
وبعد، فهذه بعض النماذج من تشريعات المتصوفة، وقد ترى هؤلاء أوسع من ارتكبوا هذا المحظور من زمان قديم، وما زالت هذه التشريعات من دأبهم وديدنهم، وهم موجودون بصفة عامة في جميع أقطار العالم الإسلامي.
ج- إباحة الشرك الأكبر من الركوع والسجود، والقيام والحلق، والنذر،
والذبح، وذلك بسنة للأتباع، أفيظن عاقل يدري ما يخرج من رأسه، أن أولئك الذين يركعون ويسجود ويقومون ويحلقون وينذرون ويذبحون وينحرون لغير الله هم يعتقدون حرمته؟ لا أعتقد ـ والله ـ أن أحدًا يظن ذلك. فإباحتهم هذه الأشياء تشريع جديد في دين الله.
د- استباحة البدع على اختلاف أنواعها: فما من مبتدع بدعة إلا هو يرى حلها.
هـ - استباحة المتصوفة لكثير من المحرمات: كالزنا، واللواط.
و- التعبد بتحريم زينة الله، والطيبات من الرزق.
ز- مضاهاة المشركين الأوائل في تبحير البحائر وتسييب السوائب، فهذه الخصلة لا تزال موجودة في بعض البلاد.
ح- مضاهاة المشركين في تحريم بعض أنواع الأطعمة والاقتصار على جنس دون آخر.
ط- استباحة أكل أموال الناس بالباطل، عن طريق ما يسمى (صناديق النذور) الموجودة في مساجد المشركين القبوريين.