المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني وجوب الإخلاص في الدين - الشرك في القديم والحديث - جـ ٢

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله جل وعلا في الربوبية في صفته العلم المحيط ومظاهره في العصر الحديث

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في صفته الحكم والتشريع المطلقين بإثباتهما لغيره سبحانه

- ‌أما الجانب الثاني: ففي الشرك في الربوبية بالأنداد إثبات صفة المخلوق للخالق سبحانه

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى القاديانية

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى المتصوفة والمتكلمين

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوقات لله جل شأنه لدى الحداثيين

- ‌الفصل الثاني مظاهر الشرك بالله جل وعلا في العصر الحديث فيما يتعلق بعبادته

- ‌المبحث الأول: في بيان مظاهر الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بأعمال القلوب

- ‌المطلب الأول: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالمحبة

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالخوف

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالرجاء

- ‌المطلب الرابع: الشرك بالله في عبادته بالتوكل

- ‌المطلب الخامس: الشرك بالله في عبادته بالطاعة

- ‌المطلب السادس: الشرك بالنية والإرادة والقصد

- ‌المبحث الثاني: في بيان مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأعمال القلبية مع الجوارح (شرك التقرب والنسك)

- ‌المطلب الأول: في بيان شرك التقرب والنسك بالركوع والسجود والقيام وغيرها لغير الله

- ‌المطلب الثاني: في بيان شرك التقرب والنسك بالذبح والنذر لغير الله

- ‌المبحث الثالث مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأقوال القلبية (شرك الدعوة)

- ‌المبحث الرابع أهم شبهات القبوريين وردها

- ‌الفصل الثالث وجوب الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌المبحث الأول في معنى الإخلاص لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثاني وجوب الإخلاص في الدين

- ‌المبحث الثالث موانع الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌الباب الخامس المقارنة بين شرك القديم والحديث

- ‌الفصل الأول مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث أنواعه

- ‌الفصل الثاني مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث توافق الأسباب

- ‌الباب السادس في بيان بطلان الشرك بأوضح الأدلة

- ‌الفصل الأول تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك

- ‌المبحث الأول في بيان تقرير الله عز وجل في القرآن الأدلة الكونية على قبح الشرك

- ‌المطلب الأول: في بيان اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية الدالين على قبح الشرك

- ‌المطلب الثاني: في بيان آية السموات والأرض الدالة على قبح الشرك بالله

- ‌المطلب الثالث: آية الشمس والقمر والليل والنهار الدالة على قبح الشرك

- ‌المطلب الرابع: آية الرياح والمطر والنبات الدالة على قبح الشرك

- ‌المبحث الثاني تقرير القرآن قبح الشرك بضرب الأمثال

- ‌المطلب الأول: الأمثال المضروبة لله وحده ولما يعبد من دونه

- ‌المطلب الثاني: المثل المضروب لكلمة التوحيد وكلمة الشرك

- ‌المطلب الثالث: مثل للحق والباطل

- ‌المطلب الرابع: أمثلة عجز آلهة المشركين

- ‌المطلب الخامس: الأمثال المضروبة لوصف حال المشرك وحالة الموحد

- ‌المطلب السادس: مثل قلب الموحد وقلب المشرك

- ‌المطلب السابع: أمثلة وصف حواس الموحد وحواس المشرك

- ‌المطلب الثامن: مثلان لبيان فساد أعمال المشركين وهما يدلان على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الثالث تقرير الله عز وجل قبح الشرك وبطلانه ببعض القصص القرآني

- ‌الفصل الثاني تنوع دلالات السنة على قبح الشرك وبطلانه

- ‌الفصل الثالث تنوع دلالات الفطرة والعقل على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الأول في بيان معنى الفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في بيان معنى الفطرة

- ‌المطلب الثاني: في معنى العقل

- ‌المبحث الثاني في إثبات كون الشرك مخالفاً للفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في إثبات كون الشرك مخالفًا للفطرة

- ‌المطلب الثاني: في أن الشرك مخالف للعقل

- ‌المبحث الثالث الاستدلال بالأدلة العقلية القرآنية على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المطلب الأول: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالله الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل وبطلانه

- ‌المطلب الثاني: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالأصنام الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل، وبطلانه

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني وجوب الإخلاص في الدين

‌المبحث الثاني وجوب الإخلاص في الدين

أما وجوب الإخلاص في الدين: فلأنه من أعمال القلوب، بل هو من أهم أعمال القلوب المندرجة تحت الإيمان، وأعظمها قدرًا وشأنًا، من المعلوم: أن أعمال القلوب عمومًا آكد وأهم من أعمال الجوارح، يقول ابن تيمية رحمه الله عن الأعمال القلبية: (وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين لله، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له

وهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين).

ويقول ابن القيم: (وأعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح).

وبهذا تدرك أهمية أعمال القلوب، وعلو شأنها، ووجوب تحقيق هذه الأعمال عمومًا، ومن أهمها وأخصها: الإخلاص.

فالإخلاص حقيقة الدين، ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام، وإذا تمكن الإخلاص من طاعة ما، فكانت هذه الطاعة خالصة لوجه الله تعالى، فإن الله تعالى

ص: 1281

يجزي الجزاء الكيبر والعطاء العظيم لهؤلاء المخلصين، وإن كانت الطاعة في ظاهرها يسيرة أو قليلة.

يقول ابن تيمية في هذا الشأن: (والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه عبوديته لله، فيغفر الله به كبائر، كما في حديث البطاقة

فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم يقولون التوحيد، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة) ـ ثم ذكر ابن تيمية رحمه الله حديث البغيّ التي سقت كلبًا فغفر الله لها،

والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له ـ ثم قال: (فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يغفر لها، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال).

وفي المقابل إن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله، لا قيمة لها، ولا ثواب، بل صاحبها متعرض للوعيد الشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير، وقتال الكفار، ونيل العلم الشرعي كما سيأتي معنا حديث الثلاثة؛ من المجاهد، والعالم، والجواد.

وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة، وكثرة أقوال الأئمة في اشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية، وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصًا وابتغي وجهه. قال تعالى:(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

ص: 1282

قال ابن كثير: (هذه الآية فيها توجيه من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين أنه لا يصلي إلا لله، ولا يذبح إلا له، وأن محياه ومماته كل ذلك لله وحده لا شريك له، بخلاف المشركين، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله ـ تعالى ـ بمخالفتهم، والابتعاد عما هم عليه والإقبال بالقصد والنية والعزم والإخلاص لله تعالى).

وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

قال الفضيل بن عياض: ـ في بيان معنى (أَحْسَنُ عَمَلًا) ـ: هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصاً صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)

فلا يمكن أن يكون العمل خالصًا إلا إذا جرد الإنسان المتابعة للكتاب والسنة في عبادته، واقتفى ما خط له فيهما، فقبول الأعمال مرهون وموقوف بصدق الإخلاص.

ص: 1283

يقول ابن القيم تعليقًا على كلام الفضيل بن عياض: (والأعمال أربعة: واحد مقبول، وثلاثة مردودة، فالمقبول ما كان خالصًا لله، وللسنه موافقًا، والمردود ما فقد منه الوصفان أو أحدهما، وذلك أن العمل المقبول هو ما أحبه الله ورضيه، وهو سبحانه إنما يحب ما أمر به وما عمل لوجهه، وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبها، بل يمقتها ويمقت أهلها

فإن قيل: فقد بان بهذا أن العمل لغير الله مردود غير مقبول، والعمل لله وحده مقبول، فبقي قسم آخر وهو أن يعمل العمل لله ولغيره، فلا يكون لله محضًا ولا للناس محضًا، فما حكم هذا القسم؟ هل يبطل العمل كله أم يبطل ما كان لغير الله ويصح ما كان لله؟ قيل: هذا قسم تحته أنواع ثلاثة:

أحدها: أن يكون الباعث الأول على العمل هو الإخلاص، ثم يعرض عليه الرياء وإرادة غير الله في أثنائه، فهذا المعول فيه على الباعث الأول

الثاني: عكس هذا،

فهذا لا يحتسب له بما مضى من العمل، ويحتسب له من حين قلب نيته

الثالث: أن يبتدئها مريدًا بها الله والناس،

فهذا لا يقبل منه العمل.

وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).

فإسلام العبد وجهه لا يتحقق إلا بإخلاص قصده وعمله لله تعالى، والإحسان في ذلك لا يتحقق إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد أخبر الله تعالى أن الأعمال التي تكون على غير الكتاب والسنة أو قصد بها غير وجه الله تعالى فإنها تصير هباء منثورًا ليس لها قيمة وليس فيها نفع لصاحبها. قال تعالى: (وَقَدِمْنَا

ص: 1284

إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا). والآيات الواردة في الحض على إخلاص العبادة لله ـ وحده لا شريك له ـ كثيرة جدًا في كتاب الله تعالى وكلها تدل على اهتمام الإسلام بإصلاح الفرد ظاهرًا، وباطنًا.

من هذه الآيات الكريمات قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

قال ابن كثير: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله وما جاءوا به من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك).

وقوله تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ).

قال الحافظ ابن كثير: أي فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك وأعلمهم أنه لا تصح العبادة إلا له وحده وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد، ولهذا قال تعالى:(أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له. قال قتادة في تفسير قوله تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ): (شهادة أن لا إله إلا الله). وعلى هذا التفسير يكون

ص: 1285

معنى الآية: أي: التوحيد الصافي من شوائب الشرك وهو المستحق لذلك وحده.

وقوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ). فهذه الآية أيضًا تأمر بعبادة الله ـ تعالى ـ العبادة الخالصة البعيدة عن كل إشراك.

وقوله تعالى: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) في هذه الآية إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يخص الله تعالى وحده بالعبادة مخلصًا له دينه ولا يعبد أحدًا غيره. فقوله: (اللَّهَ أَعْبُدُ) يفيد الحصر؛ أي: لا أعبد أحدًا غير الله تعالى.

وقوله تعالى: (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). قال الحافظ ابن كثير: أي فاخلصوا لله وحده العبادة والدعاء وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم.

وقوله تعالى: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

(قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: قال تعالى: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي هو الحي أزلاً وأبدًا لم يزل ولا يزال، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي لا نظير له ولا عديل له (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو، الحمد لله رب العالمين.

وقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ).

قال ابن كثير: (قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كقوله:

ص: 1286

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، ولهذا قال:(حُنَفَاءَ) أي متحنفين عن الشرك إلى التوحيد كقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). قوله: (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) وهي أشرف عبادات البدن (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي الملة القائمة العادلة أو الأمة المستقيمة المعتدلة. وقد استدل كثير من الأئمة بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان ولهذا قال: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

فهذه الآيات الكريمات كلها تدل على أهمية الإخلاص وتدل على أنه يجب على كل إنسان أن يحققه في عبادته لربه، لتكن عبادته مقبولة عند الله ـ تعالى ـ، والقرآن الكريم عند ما يطلق اسم الإخلاص لا يريد به التوجه إلا الله في عمل من الأعمال، بل المقصود به أن يتوجه المكلف بأعماله كلها إلى الله وحده دون سواه، فلا يقصد بعبادته ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً ولا يعبد شجرًا ولا حجرًا ولا شمسًا ولا قمرًا، فالإخلاص يعني أن يتوجه بالأعمال القلبية لله وحده، كما يتوجه بالأعمال الظاهرة، والإخلاص هو الدين الذي بعث الله به الرسل جميعًا، فكان محور دعوتهم ولبها، وهو الدين الذي طالبت به الرسل الأمم التي أرسلت إليها (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)، وطالما أن للإخلاص هذه الأهمية في القرآن فإنه ينبغي أن نعرف أهميته من السنة النبوية:

ص: 1287

لقد أكدت السنة النبوية على أهمية الإخلاص في عبادة الله في أحاديث كثيرة، منها:

1 -

ما رواه الشيخان عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).

فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن القتال الذي يكون لله وفي سبيله إنما هو القتال الذي يكون الغاية منه رفع راية الإسلام، أما القتال لأجل مراءات الناس، وإظهار الشجاعة، أو للحمية، كل هذا في سبيل الشيطان، وليس في سبيل الرحمن.

2 -

وروى الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).

قال العلامة ابن القيم: (أي لا يبقى فيه غل، ولا يحمل الغل معهذه الثلاثة بل تنفي عنه غلة وتنقيه منه، وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة، والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤه غلاً، ودغلاً، ودواء هذا الغل، واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة الرسول).

ص: 1288

وقال في موضع آخر: (أي: لا يحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنها تنفي الغل والغش وفساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه، يخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل والغش، كما قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)، فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء. ولهذا لما علم إبليس أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص استثناهم من شرطه التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال:(فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ). فالإخلاص هو سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان).

3 -

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا قصد بعمله وجه الله ـ تعالى ـ زاده الله رفعة ودرجة في دنياه وآخرته. دل على ذلك حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله يعودني في حجة الوداع من وجع اشتد بي .. فقلت: يا رسول الله أخلّف بعد أصحابي، قال: ((إنك لن تُخلّف فتعمل عملاً

ص: 1289

تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة

)).

4 -

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن العمل بقصد الرياء والسمعة محبط للعمل وموجب للنار، كما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، (قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله).

فقارئ القرآن قرأه ليقال: فلان قارئ، والمجاهد جاهد ليقال: فلان شجاع، والمتصدق تصدق ليقال: فلان جواد، ولم تكن أعمالهم خالصة لله ـ تعالى ـ فكانوا من أصحاب النار؛ لأنهم قصدوا بأعمالهم غير الله فوقعوا في الشرك، والله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك. كما في حديث آخر قدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي تركته وشركه))، وقال تعالى:(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ).

5 -

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في حديث آخر أن من لم يخلص لله في عمله لا يقبل منه، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاء رجل إليه صلى الله عليه وسلم وقال:(أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له)) فأعادها ثلاث مرار، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا شيء له))، ثم قال: ((إن الله عز وجل لا يقبل

ص: 1290

من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه)).

6 -

كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله)).

7 -

كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)). وفي رواية: ((وأعمالكم)).

ففي هذا الحديث ذكر إخلاص النية بقوله: ((إلى قلوبكم))، وذكر وجوب كونه صواباً في نفس الأمر بقوله:(وأعمالكم))؛ حيث تجب الأعمال أن تكون على وفق هدي الرسول.

8 -

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخرًا ورياءً وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف)).

فهذه بعض الأحاديث النبوية تدل على أهمية الإخلاص ووجوبه في أعمال العباد القلبية والبدنية والقولية.

فعلى الإنسان أن يجتهد في تحقيق الإخلاص في أقواله وأفعاله ـ القلبية

ص: 1291

والبدنية ـ التي يتقرب بها إلى الله جل وعلا ـ، وأن يحاول جاهدًا أن يربي نفسه ويعودها الأخذ بالإخلاص في جميع أعماله؛ إذ الإخلاص من أشق الأشياء عليها.

قال الإمام أحمد رحمه الله: (أمر النية شديد).

وقال سفيان الثوري: (ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي لأنها تنقلب علي).

وقال آخر: (تخليص النية من فسادها أشد على العالمين من طول الاجتهاد).

وقال سهل بن عبد الله التستري: (وليس على النفس شيء أشق من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب).

وقال آخر: (أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر، فيجب على من نصح نفسه أن يكون اهتمامه بتصحيح نيته، وتخليصها من الشوائب فوق اهتمامه بكل شيء لأن الأعمال بالنيات ولكل امري ما نوى).

ص: 1292

ويقول بعضهم: المخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس، من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.

ولا شك أن الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة كبيرة حتى يناله العبد تماماً، فإن النفس الأمارة بالسوء تشين الإخلاص في قلوب المكلفين، وكما يقول ابن القيم: (وتريه صورة الإخلاص في صورة ينفر منها، وهي الخروج على حكم العقل المعيشي، والمداراة والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشيه بين الناس، فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئًا تجنبهم وتجنبوه، وأبغضهم وأبغضوه

).

فالسلف كانوا يجتهدون غاية الاجتهاد في تصحيح نياتهم ويرون الإخلاص أعز الأشياء، وأشقها على النفس، وذلك لمعرفتهم بالله، وما يجب له، ويعلل الأعمال وآفاتها، ولا يهمهم العمل لسهولته عليهم، وإنما يهمهم سلامة العمل وخلوه من الشوائب المبطلة لثوابها أو المنقصة له، فقلب الإنسان هو الأساس في عبادة الله ـ تعالى ـ وهو موضع نظر الله تعالى، ومحل عنايته، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق ذكره.

والذي نخلص إليه مما تقدم أن الإنسان مأمور أن يصفي وينقي عمله من جميع شوائب الشرك، وأن يفعل كل الطاعات على وجه الإخلاص ولابد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فكل ما يفعله المسلم من القرب الواجبة والمستحبة كالإيمان بالله، ورسوله، والعبادات البدنية، والمالية، ومحبة الله ورسوله، والإحسان إلى عباد الله بالنفع، والمال هو مأمور بأن يفعله

ص: 1293

خالصًا لله رب العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن يطلب عليه جزاء لا دعاء، ولا غير دعاء).

فصلاح القلب أساس قبول العمل ولا يعتبر العمل مقبولاً إلا إذا كان عن نية خالصة لوجه الله ـ تعالى ـ، أما العمل إذا كان مقصوراً به مراءات الناس، أو السمعة فإن ذلك مبطل للعمل من أساسه بالكلية، ويفضح الله سريرته صاحبه يوم القيامة بين الخلائق عامة، فعلى العبد أن يتقي الرياء ويخلص العمل لله ـ تعالى ـ فإن الرياء من الأعمال الدنيئة التي تهبط بالإنسان إلى أسفل الدرجات، أما إذا أظهر الإنسان الطاعات للناس دون قصد منه، وكانت مصحوبة بالإخلاص، فأعجبهم عمله وحمدوه على ذلك فهذا لا يحبط عمله، ولا ينافي ذلك إخلاصه.

برهان ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أريت الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه؟ قال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)).

ص: 1294