المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: في بيان شرك التقرب والنسك بالركوع والسجود والقيام وغيرها لغير الله - الشرك في القديم والحديث - جـ ٢

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله جل وعلا في الربوبية في صفته العلم المحيط ومظاهره في العصر الحديث

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في صفته الحكم والتشريع المطلقين بإثباتهما لغيره سبحانه

- ‌أما الجانب الثاني: ففي الشرك في الربوبية بالأنداد إثبات صفة المخلوق للخالق سبحانه

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى القاديانية

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى المتصوفة والمتكلمين

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوقات لله جل شأنه لدى الحداثيين

- ‌الفصل الثاني مظاهر الشرك بالله جل وعلا في العصر الحديث فيما يتعلق بعبادته

- ‌المبحث الأول: في بيان مظاهر الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بأعمال القلوب

- ‌المطلب الأول: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالمحبة

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالخوف

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالرجاء

- ‌المطلب الرابع: الشرك بالله في عبادته بالتوكل

- ‌المطلب الخامس: الشرك بالله في عبادته بالطاعة

- ‌المطلب السادس: الشرك بالنية والإرادة والقصد

- ‌المبحث الثاني: في بيان مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأعمال القلبية مع الجوارح (شرك التقرب والنسك)

- ‌المطلب الأول: في بيان شرك التقرب والنسك بالركوع والسجود والقيام وغيرها لغير الله

- ‌المطلب الثاني: في بيان شرك التقرب والنسك بالذبح والنذر لغير الله

- ‌المبحث الثالث مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأقوال القلبية (شرك الدعوة)

- ‌المبحث الرابع أهم شبهات القبوريين وردها

- ‌الفصل الثالث وجوب الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌المبحث الأول في معنى الإخلاص لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثاني وجوب الإخلاص في الدين

- ‌المبحث الثالث موانع الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌الباب الخامس المقارنة بين شرك القديم والحديث

- ‌الفصل الأول مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث أنواعه

- ‌الفصل الثاني مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث توافق الأسباب

- ‌الباب السادس في بيان بطلان الشرك بأوضح الأدلة

- ‌الفصل الأول تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك

- ‌المبحث الأول في بيان تقرير الله عز وجل في القرآن الأدلة الكونية على قبح الشرك

- ‌المطلب الأول: في بيان اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية الدالين على قبح الشرك

- ‌المطلب الثاني: في بيان آية السموات والأرض الدالة على قبح الشرك بالله

- ‌المطلب الثالث: آية الشمس والقمر والليل والنهار الدالة على قبح الشرك

- ‌المطلب الرابع: آية الرياح والمطر والنبات الدالة على قبح الشرك

- ‌المبحث الثاني تقرير القرآن قبح الشرك بضرب الأمثال

- ‌المطلب الأول: الأمثال المضروبة لله وحده ولما يعبد من دونه

- ‌المطلب الثاني: المثل المضروب لكلمة التوحيد وكلمة الشرك

- ‌المطلب الثالث: مثل للحق والباطل

- ‌المطلب الرابع: أمثلة عجز آلهة المشركين

- ‌المطلب الخامس: الأمثال المضروبة لوصف حال المشرك وحالة الموحد

- ‌المطلب السادس: مثل قلب الموحد وقلب المشرك

- ‌المطلب السابع: أمثلة وصف حواس الموحد وحواس المشرك

- ‌المطلب الثامن: مثلان لبيان فساد أعمال المشركين وهما يدلان على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الثالث تقرير الله عز وجل قبح الشرك وبطلانه ببعض القصص القرآني

- ‌الفصل الثاني تنوع دلالات السنة على قبح الشرك وبطلانه

- ‌الفصل الثالث تنوع دلالات الفطرة والعقل على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الأول في بيان معنى الفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في بيان معنى الفطرة

- ‌المطلب الثاني: في معنى العقل

- ‌المبحث الثاني في إثبات كون الشرك مخالفاً للفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في إثبات كون الشرك مخالفًا للفطرة

- ‌المطلب الثاني: في أن الشرك مخالف للعقل

- ‌المبحث الثالث الاستدلال بالأدلة العقلية القرآنية على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المطلب الأول: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالله الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل وبطلانه

- ‌المطلب الثاني: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالأصنام الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل، وبطلانه

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المطلب الأول: في بيان شرك التقرب والنسك بالركوع والسجود والقيام وغيرها لغير الله

‌المبحث الثاني: في بيان مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأعمال القلبية مع الجوارح (شرك التقرب والنسك)

وهذا النوع من الشرك أفراده كثيرة، لأن ما من عبادة ظاهرة إلا وله مدخل فيها، ولعل الضابط فيه:(التعظيم لغير الله بأعمال العبادات الظاهرة على وجه الذل والخضوع والحب لغير الله). فكل من الركوع والسجود والقيام والطواف والذبح والنحر والنذر والتوبة وحلق الرأس تذللاً وخضوعًا وتعبدًا وغيرها من العبادات الظاهرة، صرفها لغير الله يكون من الشرك الأكبر في العبادة.

وسأذكر فيما يلي بعض هذه الأفراد التي يكثر وقوعها في العصر الحديث في المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: في بيان شرك التقرب والنسك بالركوع والسجود والقيام وغيرها لغير الله

الركوع والسجود والقيام والطواف وغيرها من العبادات الظاهرة لله، ففي السجود والركوع أبلغ معاني الخضوع والتذلل والانقياد، مما لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، وقد أخبر الله تعالى بانقياد هذا الكون كله لله وحده لا شريك له، وسجوده له تعالى، فقال سبحانه: (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ

ص: 1124

وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ). وأمر الله سبحانه بالسجود والركوع له وحده في مواضع كثيرة من كتابه، فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وبالجملة: فالقيام والركوع والسجود حق للواحد المعبود خالق السموات والأرض، وما كان حقاً خالصاً لله لم يكن لغيره نصيب

فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له).

وقد منع الشرع توجيهها لغير الله، يقول تعالى:(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)؛ أي: لا تشركوا به، فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به.

قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: (إن من أراد أن يكون عبدًا لله خالصاً، فلا يسجد إلا له سبحانه، ولا يسجد للشمس والقمر، نبه بهما على غيرهما من المخلوق العادي، فالسفلي من الأحجار والأشجار والضرائح نحوها بالأولى. وقد دلت هذه الآية على أن ديننا هو أن السجود حق للخالق، فلا يسجد لمخلوق أصلاً كائنًا من كان، فإن المخلوقية يتساوى فيها الشمس والقمر، والولي والنبي، والحجر والمدر والشجر، ونحوها).

ص: 1125

وأيضًا: فإن الله تعالى قال ـ بعد الآية السابقة ـ: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ).

فمن سجد لله وحده، فقد خضع وانقاد لله وحده، وحقق كمال الذل والمحبة لله تعالى وحده. وضده من استكبر عن إفراد الله بالعبادة ـ ومنها السجود والركوع ـ، وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستكبرين بالعذاب المهين. فقال سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).

ويقول القرطبي: (وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال الصوفية عادة في سماعهم، وعند دخولهم على مشايخهم، واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال ـ بزعمه ـ يسجد للأقدام لجهله، سواء كان للقبلة أو غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب أملهم).

ويقول ابن القيم في بيان هذا الشرك: (ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ، فإنه شرك من الساجد والمسجو له، والعجب أنهم يقولون: ليس هذا سجود، وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراماً وتواضعًا، فيقال لهؤلاء: ولو سميتموه ما سميتموه، فحقيقة السجود: وضع الرأس لمن يسجد له، وكذلك السجود للصنم، وللشمس، وللنجم، وللحجر، كله وضع الرأس قدامه.

ومن أنواعه: ركوع المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة، وهذا سجود في اللغة، به فسر قوله تعالى:(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً) أي: منحنين، وإلا

ص: 1126

فلا يمكن الدخول بالجبهة على الأرض، ومنه قول العرب: سجدت الأشجار إذا أمالتها الريح).

ويقول أيضاً: جاء شيوخ الضلال والمزاحمون للربوبية فزينوا لمريديهم حلق رؤوسهم لهم، كما زينوا لهم السجود لهم وسموه بغير اسمه، وقالوا: هو وضع الرأس بين أيدي الشيخ، ولعمر الله إن السجود لله تعالى هو وضع الرأس بين يديه سبحانه، وزينوا لهم أن ينذروا لهم، ويتوبوا لهم، ويحلفوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذهم أرباباً وآلهة من دون الله، قال تعالى:(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وأشرف العبودية عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضاً ركع له كما يركع المصلي لربه سواء، وأخذ الجبابرة منهم القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطيها مخالفة صريحة له؛ فنهى عن السجود لغير الله وقال:((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد)). وتحريم هذا معلوم من دينه

ص: 1127

بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله، وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوزا لعبودية لغير الله، وأيضًا فالانحناء عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى:(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً) أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه.

والمقصود: أن النفوس الجاهلية الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه، وأشركت فيها من تعظمه من الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيام الصلاة، وحلفت لغيره، ونذرت لغيره، وحلقت، وذبحت لغيره، وطافت لغير بيته

، وسوت من تعبده من المخلوقين برب العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل، وهم الذين بربهم يعدلون، قال تعالى:(تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

وإذا تقرر كون السجود لغير الله تعالى شركًا بالله تعالى، فينبغي أن نفرق بين سجود العبادة، وسجود التحية، فأما سجود العبادة فقد سبق الحديث عنه، وأما سجود التحية فقد كان سائغاً في الشرائع السابقة، ثم صار محرمًا على هذه الأمة، فهو معصية لله تعالى، فمن المعلوم أن سجود العبادة القائم على الخضوع والذل والتسليم والإجلال لله وحده هو من التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وإن صرف لغيره فهو شرك وتنديد، ولكن لو سجد أحدهم لأب أو عالم ونحوهما وقصد التحية والإكرام فهذه من المحرمات التي دون الشرك، أما

ص: 1128

إن قصد الخضوع والقرابة والذل له فهذا من الشرك، ولكن لو سجد لشمس أو قمر أو قبر، فمثل هذا السجود لا يتأتى إلا عن عبادة وخضوع وتقرب، فهو سجود شركي، وإليك توضيح ذلك من خلال النصوص التالية:

يقول الله تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا).

يقول ابن عطية ـ في معنى السجود ـ: (واختلف في هذا السجود، فقيل: كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض، وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه، مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود ـ على أي هيئة كان ـ فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم).

ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وقد كان سائغاً في شرائعهم، إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصًا بجناب الرب سبحانه وتعالى، هذا مضمون قول قتادة وغيره ـ إلى أن قال ـ: والغرض أن هذا كان جائزًا في شريعتهم، ولهذا خروا له سجدًا).

ويقول محمد رشيد رضا عند تفسيره لقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ): (وهو سجد لا نعرف صفته، ولكن أصول الدين تعلمنا أنه ليس سجود عبادة؛ إذ لا يعبد إلا الله تعالى، والسجود في اللغة التطامن والخضوع والانقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان، ووضع الجبهة على التراب، وكان عند القدماء من تحية الناس للملوك والعظماء،

ص: 1129

ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليه السلام.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها)).

وعن قيس بن سعد رضي الله عنه قال: (أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له، قال: فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: ((أرأيت لو مررت على قبري أكنت تسجد له؟ )) قال: قلت: لا، قال:((فلا تفعلوا، لو كنت آمراً أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق))).

قال الطيبي: (أي اسجدوا للحي الذي لا يموت، ولمن ملكه لا يزول،

ص: 1130

فإنك إنما تسجد لي الآن مهابة وإجلالاً).

ويبين ابن تيمية هذه المسألة فيقول:

(أما تقبيل الأرض، ووضع الرأس، ونحو ذلك مما فيه السجود، مما يفعل قدام بعض الشيوخ، وبعض الملوك، فلا يجوز بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضًا، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل منا يلقى أخاه، أينحني له؟ قال: لا

).

وأما من فعل ذلك تدينًا وتقربًا فهذا من أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة وتدينًا فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل).

ويقول أيضاً: (وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهي عنه).

ويقول في موضع ثالث: (وحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم وحجرة الخليل، وغيرهما من المدافن التي فيها نبي أو رجل صالح، لا يستحب تقبيلها، ولا التمسح بها باتفاق الأئمة، بل منهي عن ذلك، وأما السجود لذلك فكفر).

وإذا انتقلنا إلى الطواف: فإن المراد بالطواف الذي يكون شركًا هو الطواف بغير الكعبة مع قصد التقرب لغير الله تعالى، كالطواف بالقبور والمشاهد

ص: 1131

ونحوها، فالطواف عبادة لقوله تعالى:(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، وصرف العبادة أو شيء منها لغير الله تعالى شرك، وأما لو طاف بتلك القبور بقصد التقرب إلى الله تعالى فهو محرم، وبدعة منكرة، ووسيلة لعبادة تلك القبور.

يقول ابن تيمية في هذه المسألة:

(وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب، فقال: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينًا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره).

ويقول أيضًا: (ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة

فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر مرتد يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكانًا يطاف به كما يطاف بالكعبة؟ والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال

).

وإذا تقرر حكم هذه الأعمال، فإنه يمكن بإيجاز أن نقول: إن هذا شرك يناقض توحيد العبادة.

وقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم قديمًا وحديثاً عندما زعموا أن شرك التقرب والنسك ليس شركًا بإطلاق، ما لم يتضمن عندهم الشرك في التوحيد العلمي الخبري؛ لأنهم حصروا التوحيد في الربوبية، ومن ثم فالشرك عندهم هو الشرك في هذا التوحيد.

ص: 1132

ومثال ذلك ما توهمه بعضهم بأن السجود لغير الله لا يكون كفرًا إلا إذا اعتقد الربوبية فيمن سجد له. والصحيح أن السجود لغير الله شرك يناقض توحيد العبادة، وإذا انضم إلى ذلك اعتقاد الربوبية فيمن سجد له، فهذا شرك في الربوبية، وليس الشرك محضور في اعتقاد الربوبية بالمسجود له.

ومنهم من قال: إن السجود للصنم أو الشمس ونحوهما علامة الكفر وإن لم يكن في نفسه كفر. وهذا ليس بصحيح، بل السجود للصنم أو الشمس في حد ذاته كفر وشرك بالله تعالى في العبادة، فهو خضوع ورجاء وتذلل لغير الله تعالى، ولا تقوم عبودية الله تعالى إلا بتحقيق السجود له سبحانه، كما قال تعالى:(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

ثم إن هذه الأعمال ـ السجود والركوع والطواف بغير بيت الله والذبح والنحر والنذر ـ فيها تشبيه المخلوق الضغيف العاجز بالخالق القدير القوي سبحانه. وقد سبق معنا: أن أصل الشرك هو التشبيه والتشبه كما ذكره ابن القيم رحمه الله في عدة من كتبه، وذكره المقريزي في تجريد التوحيد المفيد.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يكن يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك،

ص: 1133

بل نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله).

وكما يقول أيضًا: (كان من أتباع هؤلاء المشركين من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كما يدعو الله تعالى، ويصوم لها وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدتُ أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سببًا وواسطة لم أكن مشركًا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك).

فالخلاصة: أن الركع والسجود والقيام إذا كان المقصود منها التعظيم لغير الله فإنها حينئذ تكون من الشرك بالله جل شأنه بالتقرب والنسك، وأما إذا كان المقصود منها التحية أو الاحترام ـ كما يسمونه ـ فهذه شرك بالله في الطاعة؛ لأنها منهية محرمة في الشرع، ومن عرف نهي الشرع ومع ذلك عمل به فهو أطاع الشيطان، ومن أطاع الشيطان في التحليل والتحريم فقد عبده، وبهذا يكون هو مرتكبًا الشرك بالله شركاً أكبر في الطاعة، وقد سبق بيانه فيما سبق.

وأما إن كان المسجود أو المركوع له من الحجر أو الشجر أو القبر أو مثل هذه الأشياء فهذه السجدة والركو ليسا من التحية، بل هذه السجدة سجدة عبادة، فليسميها المفترون بما شاءوا.

وإذا علم هذا، فكم من الناس تراهم يركعون ويسجدون ويقومون ـ بالذل والخضوع مع الحب القلبي ـ لمن يعظمونهم ويعتقدون فيهم القداسة أو الولاية. وإذا أردت معرفتها فلتنظر إلى عباد القبور، وعباد الرؤساء، وعباد الكبار من أصحاب المناصب.

ومن أمثلة هذه العبادة في العصر الحاضر:

القيام في البرلمان مطأطئًا الرؤوس لمدة خمس دقائق ـ كما هو منصوص

ص: 1134

في أغلب دساتير برلمان العالم الإسلامي ـ لموتى الدولة في أول جلسة البرلمان. وكما سبق أن هذا النوع من الركوع والسجود لا يمكن أن يكون فيه شبهة التحية، بل هي سجدة العبادة لا محالة.

والدخول راكعًا في البرلمان، احتراماً للبرلمان الذي مكنه من الكلام أمام الناس.

كما أن من أفراده في العصر الحاضر الركوع من قبل بعض المغنيين وأصحاب البرامج للمستمعين للأغنية أو للمشاهدين للمسرحية أو التمثيلية مثلاً.

وهكذا إعطاء الزهور في اليوم الوطني لقبور شهداء الدولة والوقوف أمام قبورهم شبه ساجد بضع دقائق احترامًا لهؤلاء الذين ماتوا في استقلال الدولة، ووصل الأمر إلى حد أن بعض الدول تستضيف الضيوف الدولية أول ما تستضيف في هذه القبور وبإعطاء باقة من الزهور إلى هذه القبور، وصار الأمر هينًا عندهم لكونه منصوصًا في الدساتير بأنه من احترام المضيف والضيف، فالله المستعان.

ومن مظاهره أيضًا: تعظيم التماثيل والنصب التذكارية سواء كان بالسجود لها أو الركوع أو القيام لها بالصفة التي تقدمت معنا.

ومن مظاهره أيضًا: الوقوف في الأصنام التذكارية لكبار الدولة عند ما يسمونه باليمين الدستوري ـ مع أنه شرك في نفسه، فإن اليمين لا يكون إلا بالله أو بأسمائه أو صفاته وهؤلاء يحلفون بالدستور حلفاً يقصدون به تعظيم المحلوف عليه، وهذا معلوم كونه من الشرك الأكبر، وليس من الشرك الأصغر الذي هو مجر إرادة التأكيد ـ.

ص: 1135