الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني في إثبات كون الشرك مخالفاً للفطرة والعقل
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في إثبات كون الشرك مخالفًا للفطرة
لقد خلق الله ـ جل في علاه ـ عباده حنفاء مسلمين موحدين لرب العالمين بالألوهية، ومتبرئين من الشرك والتأله لما سواه، وجعل ذلك لوازم فطرهم، بحيث لو تركوا ودواعيها لما كانوا إلا عارفين بالله، وبتوحيده وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى القائم عليها والمنبثق منها: وحدانية تألهه، وبذلك شهدت فطرة الموحدين وعقولهم؛ بأن الله أهل أن يعبد، ولو لم يرسل بذلك رسولاً ولم ينزل به كتاباً، وعليه أصبحت الفطرة بينة التوحيد وشاهده في أنفس الموحدين. فلا جرم أن الفطر يقتضي: عبادة الفاطر، وأن من كان مفطورًا مخلوقًا فحري به أن يتفرغ لعباده فاطره وخالقه لا سيما إذا كان أمره بيده ومنتهاه إليه، قال سبحانه:(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
ومن هنا استحال جواز الشرك في الفطر السليمة والعقول المستقيمة ولو لم يرد بذلك خبر، كيف وقد أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في فطر خلقه من حسن التوحيد وحل الطيبات، ومن قبح الشرك وحرمة الخبائث.
وبهذا تكون الفطرة حجة مستقلة في بطلان الشرك، فهي أسبق من كافة الحجج الواهية وسائر المعاذير الساقطة التي يتشبث بها المشركون.
قال ابن القيم: (قوله تعالى حاكيًا عن صاحب يس أنه قال لقومه محتجًا عليهم بما تقر به فطرهم وعقولهم: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فتأمل هذا الخطاب كيف تجد تحته أشرف معنى وأجله، وهو أن كونه سبحانه فاطرًا لعباده يقتضي عبادتهم له، وأن من كان مفطورًا مخلوقًا فحقيق به أن يعبد فاطره وخالقه، ولا سيما إذا كان مرده إليه، ومبدؤه منه، ومصيره إليه، وهذا يوجب عليه التفرغ لعبادته، ثم احتج عليهم بما تقر به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره، وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره، فقال:(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أفلا تراه كيف لم يحتج عليهم بمجرد الأمل بل احتج عليهم بالعقل الصحيح ومقتضى الفطرة).
وقال في موضع آخر: (وقال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
أي فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره
…
فإن إدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح
…
).
فالشرك مخالف للفطرة لا محالة، والذي يزيد هذا البيان وضوحًا ما يلي:
1 -
لجوء الإنسان وفزعه إلى خالقه سبحانه، سواء كان هذا الإنسان موحدًا أو مشركًا عند الشدة والحاجة.
فإن بني آدم جميعًا يشعرون بحاجتهم وفقرهم، وهذا الشعور أمر ضروري فطري، إذ الفقر وصف ذاتي لهم، فإذا ألمت بالإنسان ـ حتى المشرك ـ مصيبة قد تؤدي به إلى الهلاك فزع إلى خالقه والتجأ إليه وحده واستغنى به ولم يستغن عنه، وشعور هذا الإنسان بحاجته وفقره إلى ربه تابع لشعوره بوجوده وإقراره، فإنه لا يتصور أن يشعر الإنسان بحاجته وفقره إلى خالقه إلا إذا شعر بوجوده، وإذا كان شعوره بحاجته وفقره إلى ربه أمرًا ضرورياً لا يمكنه دفعه، فشعوره بالإقرار به أولى أن يكون ضروريًا.
قال الله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا).
وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ
قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).
فرجوع الإنسان وإنابته إلى ربه إلى ربه عند الشدائد دليل على أنه يقر بفطرته بخالقه وربه سبحانه، وأنه لا يرضى بالشرك، وهكذا كل إنسان إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الباري سبحانه في تكوينه في رحم أمه وحفظه له، وعرف كذلك افتقاره إليه في بقائه وتقلبه في أحواله كلها ويتقوى هذه المعرفة في نفسه حجة قوية لأن الحاجة استلزمتها، فتكون أوضح من الأدلة الكلية مثل افتقار كل حادث إلى محدث.
2 -
التصريح بأن الفطرة مقتضية للإقرار بالخالق وتوحيده وحبه، ومخالفة الشرك وقبحه في الأدلة السمعية، وقد سبق معنا الأدلة الدالة على هذا القول.
3 -
ورود التكليف بتوحيد العبادة أولاً، كأن هذا تذكير لما فطروا عليه من ذبح الشرك. فإنه لم يكن الإقرار بالله جل وعلا وبربوبيته فطريًا، والشرك مخالفاً للفكرة لساغ لمعارضي الرسل عند دعوتهم لهم بقول الله تعالى:(فَاعْبُدُونِ) أن يقولوا: نحن لم نعرفه أصلاً فكيف يأمرنا؟ فلما لم يحدث ذلك دل على أن الفطرة مخالفة للشرك (في الربوبية)، وأن المعرفة كانت مستقرة في فطرهم. فإن الأمر يتوحيده في عبادته فرع الإقرار به وبربوبيته فيكون بعده.