الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث توافق الأسباب
لقد بينا فيما سبق الأسباب التي أوقعت الأمم السابقة في الشرك بأن هناك سببين رئيسين لوقوعهم في الشرك، هما:
الأول: الغلو في المخلوقات.
الثاني: إساءة الظن الناتج عن عدم قدر الله حق قدره.
وإذا نظرنا إلى أسباب الشرك في هذه الأمة وفي العصر الحاضر نجد أن هذين السببين هما أوقعا الناس في الشرك.
فمثلاً: الشرك بالله في الربوبية بتعطيل المصنوع عن صانعه، ما أوقع الناس في هذا النوع من الشرك إلا سوء ظنهم بالله والذي نتج عن عدم قدر الله حق قدره، فالمعطل والدهري والملحد ما استطاع أن يقدر الله حق قدره فأساء الظن به، حيث ظن أن المخلوقات لا صانع لها، وأنه ليس هناك قوة فوقه تسيطر عليه من فوقه، وسوف يحاسبه على هذا الاعتقاد، فلم يدرك حقيقة ذاته ولا أسمائه وصفاته وأفعاله وحكمته، فأساء الظن به، ولم يقدر الصانع قدره الواجب له.
ومن جانب آخر: نرى أنه غلا في بعض المخلوقات سواء كان عقله، أو من يقدسه من الملحدين، أو كان مذهبًا من المذاهب الفكرية، أو رأياً من أراء الرجال، أو كان هوى من الأهواء الجانحة، فألحد بسبب الغلو في هذه الأشياء المخلوقات، ولم يفتح عينه وبصره ولم ينفد بصيرته إلى أنه لابد لكل ظاهرة في
الكون من سبب أصلي ينتهي إليه كل شيء؛ لأنه غلا في بعض مظاهر الكون فلم يصعد نظره القاصر إلى ما فوقه، بل صار هذا الغلو حجاباً مانعًا بينه وبين الحقائق الأصلية.
وأما بالنسبة لشرك الربوبية بالتعطيل بتعطيل الله عز وجل عن أسمائه وأوصافه وأفعاله؛ فإننا نرى نفس هذين السببين هما اللذين أوقعاهم في هذا النوع من الشرك.
فمثلاً: إن الذي أشرك بالله في الربوبية بتعطيل أسمائه وصفاته فهو أساء الظن برب العالمين، فعطل أسمائه وصفاته ظنًا منه أن هذه الأسماء والصفات لا تليق بالله سبحانه، وجعله أنقص من مخلوقاته، وذلك لأنه لم يقدر الله حق قدره.
قال ابن القيم رحمه الله: (هنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
وقال أيضاً: (وقال لمن أنكر صفة من صفاته: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وقال أيضاً: (ولا قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته
العلى، فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره، وعلوه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد).
وقال أيضاً: (وما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا من نفى حقيقة فعله، ولم يجعل له فعلاً اختياراً يقوم به، بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه، فنفى حقيقة مجيئه وإتيانه واستوائه على عرشه، وتكليمه موسى من جانب الطور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه، إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها، وزعموا أنهم بنفيها قد قدروه حق قدره).
وقال في موضع آخر: (ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه، وتمثيل، وترك الحق، لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزًا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة لم يصرح به، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى
والبيان، فقد ظن به ظن السوء
…
).
وقال أيضاً: (ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظنه به أن لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السموات والأرض، ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئًا من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر، ولا علم له، ولا إرادة، ولا كلام يقول به، وأنه لم يكلم أحدًا من الخلق، ولا يتكلم أبدًا، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه فوق سماواته على عرشه بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل، كما أنه أعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه
…
وبالجملة: فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسله أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفته به رسله، فقد ظن به ظن السوء).
فهذا الكلام كله من ابن القيم رحمه الله يدل على ما ذهبنا إليه بأن الذي أوقع الناس في الشرك في الربوبية بتعطيل أسماء الله عز وجل وصفاته إنما هو سوء الظن برب العالمين.
وهكذا الأمر بالنسبة لمن عطل أفعال الله عز وجل، فإنه ما عطل أفعاله إلا
لعدم قدر الله حق قدره، ولسوء الظن به جل شأنه.
يقول ابن القيم: (ومن ظن به أن يترك سدى، معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملاً كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبه بما لا صنع فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة، ولا إرادة في حصوله، بل يعاقب على فعله سبحانه به
…
فقد ظن به ظن السوء).
وقال أيضاً: (وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل كتاباً، بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتضييعهم وتركهم سدى، وخلقم باطلاً وعبثاً
…
وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي المحسن فيه بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه
…
).
وهكذا الأمر بالنسبة للشرك بتعطيل الله عما يجب على العبد من حقيقة
التوحيد، فإنه ما وقع في هذا النوع من الشرك إلا لما لم يقدر الله حق قدره نتيجة سوء الظن به سبحانه. قال تعالى:(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). فمن جعله سبحانه عين الموجوات فلم يقدر الله حق قدره.
قال الإمام ابن القيم: (وكذلك ما قدره حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان، وصانه عن عرشه أن يكون مستوياً عليه
…
ثم جعله في كل مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان، أن يكون فيه
…
وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولدًا، أو جعله سبحانه يحل في مخلوقاته، أو جعله عين هذا الوجود).
هكذا نرى أن سبب الشرك في الربوبية بالتعطيل في الغالب إنما هو نتيجة عدم قدر الله حق قدره، وسوء الظن به، ومن جانب آخر: الغلو في تقديس العقول، والآراء والأهواء السائدة في المجتمع وفي العباد والبلاد.
وبهذا يتضح لنا جلياً: توافق أسباب الشرك بين القديم والحديث في الربوبية بالتعطيل. فإننا عند استعراضنا لأسباب الشرك في القديم رأينا نفس هذين السببين هما اللذين أوقعا الناس في القديم في الشرك في الربوبية بالتعطيل.
وإذا نظرنا إلى أسباب الشرك بالأنداد في العصر الحديث سنرى أن الأسباب توافقت بين القديم والحديث، فإننا قد ذكرنا أن الغلو وإساءة الظن بالله هما اللذان أوقعا الناس في القديم في الشرك في إثبات الأنداد في الربوبية وفي الألوهية والعبادة.
هكذا الأمر بالنسبة للشرك في العصر الحديث، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
قال ابن القيم: (فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره ممن لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره
…
).
ويقول أيضاً: (فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، هو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه. وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم. فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته، وإلهيته، وتوحيده، وظن سوء به).
والمقصود: بيان كون سوء الظن بالله جل شأنه من أهم أسباب الشرك قديمًا
وحديثاً. فكل من أثبت لغير الله تصرفًا في الكون أو علم الغيب، أو حق التشريع والتحليل والتحريم، أو تعلق قلبه بالغير بالحب والتوكل والطاعة المطلقة، وصرف له من السجود والركوع، والطواف والنذر والذبح والدعاء والاستغاثة، إنما هو من أجل سببين رئيسين، هما:
1 -
الغلو في بعض من اعتقد فيه هذه الخصائص حتى أثبت له هذه الأشياء المختصة بالله جل شأنه. وأنزل المخلوق منزلة فوق منزلته فيصرف له شيء من حقوق الله، وهذا الأمر جلي وواضح يبينه ما سبق معنا من إثبات صفة القدرة الكاملة الثابتة لله وحده لبعض المخلوقات، وإثبات صفة العلم لبعض المخلوقات، وإعطاء حق التشريع والتحليل والتحريم لغيره سبحانه، وهكذا تعلق العبادات ـ سواء كانت من الأقوال القلبية أو من الأعمال القلبية ـ لغيره سبحانه.
2 -
إساءة الظن بالله جل شأنه، وذلك نتيجة عدم قدر الله حق قدره، فقاس الخالق بالمخلوقات.
والمقصود: أن هذين السببين توافقا لوقوع الناس في الشرك قديمًا وحديثاً.
وبعد أن تمت مقارنة الشرك بين القديم والحديث، فإننا نستطيع أن نصل إلى نتيجة من خلال هذا الاستعراض؛ وهي:
أ- أن الشرك الموجود في العصر الحاضر تفوق على شرك الأمم السابقة، وعلى شرك الجاهلية من حيث الكمية.
ب- ولكن الشرك الذي كان في الأمم السابقة، والذي كان في الجاهلية لدى العرب تفوق على الشرك في هذه الأمة من حيث الكيفية.
فالشرك في العصور القديمة كان بحيث يغطي على جميع الناس إلا من رحم الله، وهم الأنبياء والدعاة إلى الله، ولكن الشرك في هذه الأمة وفي هذا العصر لا يمكن أن يغطي على جميع الناس؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرّ ببقاء طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي وعد الله، وهم الطائفة المنصورة، وهم طائفة أصحاب الحديث والأثر. فبمقتضى البشارة السابقة لا يقع فيهم الشرك مطلقاً.