المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الخامس: الشرك بالله في عبادته بالطاعة - الشرك في القديم والحديث - جـ ٢

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله جل وعلا في الربوبية في صفته العلم المحيط ومظاهره في العصر الحديث

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في صفته الحكم والتشريع المطلقين بإثباتهما لغيره سبحانه

- ‌أما الجانب الثاني: ففي الشرك في الربوبية بالأنداد إثبات صفة المخلوق للخالق سبحانه

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى القاديانية

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى المتصوفة والمتكلمين

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوقات لله جل شأنه لدى الحداثيين

- ‌الفصل الثاني مظاهر الشرك بالله جل وعلا في العصر الحديث فيما يتعلق بعبادته

- ‌المبحث الأول: في بيان مظاهر الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بأعمال القلوب

- ‌المطلب الأول: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالمحبة

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالخوف

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالرجاء

- ‌المطلب الرابع: الشرك بالله في عبادته بالتوكل

- ‌المطلب الخامس: الشرك بالله في عبادته بالطاعة

- ‌المطلب السادس: الشرك بالنية والإرادة والقصد

- ‌المبحث الثاني: في بيان مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأعمال القلبية مع الجوارح (شرك التقرب والنسك)

- ‌المطلب الأول: في بيان شرك التقرب والنسك بالركوع والسجود والقيام وغيرها لغير الله

- ‌المطلب الثاني: في بيان شرك التقرب والنسك بالذبح والنذر لغير الله

- ‌المبحث الثالث مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأقوال القلبية (شرك الدعوة)

- ‌المبحث الرابع أهم شبهات القبوريين وردها

- ‌الفصل الثالث وجوب الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌المبحث الأول في معنى الإخلاص لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثاني وجوب الإخلاص في الدين

- ‌المبحث الثالث موانع الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌الباب الخامس المقارنة بين شرك القديم والحديث

- ‌الفصل الأول مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث أنواعه

- ‌الفصل الثاني مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث توافق الأسباب

- ‌الباب السادس في بيان بطلان الشرك بأوضح الأدلة

- ‌الفصل الأول تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك

- ‌المبحث الأول في بيان تقرير الله عز وجل في القرآن الأدلة الكونية على قبح الشرك

- ‌المطلب الأول: في بيان اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية الدالين على قبح الشرك

- ‌المطلب الثاني: في بيان آية السموات والأرض الدالة على قبح الشرك بالله

- ‌المطلب الثالث: آية الشمس والقمر والليل والنهار الدالة على قبح الشرك

- ‌المطلب الرابع: آية الرياح والمطر والنبات الدالة على قبح الشرك

- ‌المبحث الثاني تقرير القرآن قبح الشرك بضرب الأمثال

- ‌المطلب الأول: الأمثال المضروبة لله وحده ولما يعبد من دونه

- ‌المطلب الثاني: المثل المضروب لكلمة التوحيد وكلمة الشرك

- ‌المطلب الثالث: مثل للحق والباطل

- ‌المطلب الرابع: أمثلة عجز آلهة المشركين

- ‌المطلب الخامس: الأمثال المضروبة لوصف حال المشرك وحالة الموحد

- ‌المطلب السادس: مثل قلب الموحد وقلب المشرك

- ‌المطلب السابع: أمثلة وصف حواس الموحد وحواس المشرك

- ‌المطلب الثامن: مثلان لبيان فساد أعمال المشركين وهما يدلان على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الثالث تقرير الله عز وجل قبح الشرك وبطلانه ببعض القصص القرآني

- ‌الفصل الثاني تنوع دلالات السنة على قبح الشرك وبطلانه

- ‌الفصل الثالث تنوع دلالات الفطرة والعقل على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الأول في بيان معنى الفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في بيان معنى الفطرة

- ‌المطلب الثاني: في معنى العقل

- ‌المبحث الثاني في إثبات كون الشرك مخالفاً للفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في إثبات كون الشرك مخالفًا للفطرة

- ‌المطلب الثاني: في أن الشرك مخالف للعقل

- ‌المبحث الثالث الاستدلال بالأدلة العقلية القرآنية على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المطلب الأول: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالله الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل وبطلانه

- ‌المطلب الثاني: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالأصنام الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل، وبطلانه

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المطلب الخامس: الشرك بالله في عبادته بالطاعة

وسكتنا جاء فيها الفرج سريعًا، وإذا وقع لنا بها اهتمام وعناية انغلق بابها).

وهذه دعوة صارخة إلى ترك الأخذ بالأسباب المشروعة بدعوى التوكل، وهو ممنوع للمتوكل على الله، فكيف بمن اعتمد على الشيخ ولم يأخذ بالأسباب؟ ونظراً لهذه التربية الشركية التي تلقاها هذه الرجل من شيخه فقد وصل به الحال إلى الحضيض فصار يذكر شيخه عند خوفه ورجائه بدل ذكر ربه.

وترى البعض الآخر يأخذ بالتوكل الشركي، حيث يتوكل على غير الله، وهذا واضح، وما زال هناك أناس جهلة متأثرة بالمتصوفة في العالم الإسلامي، يتوكلون على ما يسمونهم الأولياء والمشايخ عندما يخرجون لضرورة أو مهمة، أو كانوا بحرًا، فينادون مثلاً: يا شيخ بدر متوكلاً عليك، خصوصاً الذي هم ملاحون في البحر.

وهناك فئة أخرى من الناس يلتفتون إلى الأسباب، والذي يؤدي بهم إلى الشرك الأصغر.

‌المطلب الخامس: الشرك بالله في عبادته بالطاعة

معنى الطاعة:

الطاعة لغة: اسم من أطاعه طاعة، يقال: طاع له وأطاع سواء، فمن قال طاع يقال: يطاع، ومن قال أطاع قال: يطيع. ومنه الطوع: وهو ضد الكره. وطاع يطاع: معناه: انقاد ولان، وأطاعه إطاعة وانطاع له: كذلك، وقد طاع له يطوع: إذا انقاد له، بغير ألف، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه، فإذا وافقه فقد

ص: 1105

طاوعه.

فعلمنا من هذا أن الطوع: ضد الكرة، والطاعة أبلغ منه بحيث يضاف إليه معنى الليونة والانقياد. حيث قالوا في الطاعة بأن معناها: لان وانقاد. وأطاع أبلغ منه فإن معناه امتثال الأوامر، وطاوع أبلغ منه لأن معناه: الموافقة زيادة على ذلك.

إذ إن الطاعة تتضمن معنى الذل والخضوع اللذين هما أصل معنى العبادة.

أما الطاعة في الشرع:

فمعناها العبادة. قال تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). وجه الدلالة: سمى الطاعة شركًا والمطيع مشركًا، والشرك يستعمل مقابل العبادة غالباً. ولهذا قيل في تعريف العبادة: بأنها الطاعة.

فالطاعة إذن عبادة. ولكنه أخص من العبادة المطلقة، كما تفهم من الآية السابقة، حيث إنه تعالى سمى المطيعين للشيطان في تحليل الحرام وتحريم الحلال عبادة، فليس كل طاعة عبادة، وإنما هي طاعة مخصوصة.

وعلى هذا: الشرك في الطاعة: هو أن يطيع أحدًا أو يتبع شيئًا ما ـ وإن كان حقيرًا ـ في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.

ص: 1106

وقيل: (هو مساواة غير الله بالله في التشريع والحكم). وهذا التعريف منتقض، إذ ليس من شرط الشرك في الطاعة أن يعتقد المساواة، بل مجرد اتباع شيء ما في التحليل والتحريم يعتبر شركًا في الطاعة. فإنه لا شك في أن المشركين الذين أطاعوا الشيطان ما سووه في التحليل والتحريم مع الله، وإنما اتبعوه في التحليل والتحريم.

ألوان من الشرك في الطاعة في العصر الحاضر:

هناك ألوان من الشرك في الطاعة في العصر الحاضر، يمكن بيانها في الفروع التالية:

الفرع الأول: في بيان الشرك في الطاعة في قبول الحكم بغير ما أنزل الله:

الذين أطاعوا المبدلين المغيرين لشرع الله مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فإنه يكون شركًا بالله في الطاعة، ويدل عليه نصوص من القرآن والسنة وأقوال سلف هذه الأمة وخلفهم الذين اتبعوهم بإحسان.

فمن القرآن: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ).

وقوله تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن

ص: 1107

يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ).

وقوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ).

وجه الدلالة من هذه الآيات: أن الله عز وجل سمى المتبع لغير شرع الله كافرًا، والعمل كفرًا، والمقصود من الكفر هنا الشرك، بدليل استخدامه في مقابل الاتباع لغير شرع الله، وقد أثبتنا أن اتباع شرع غير شرع الله شرك بالله في الطاعة والاتباع، ولا تناقض بتسميته كفرًا؛ لأن الشرك من خصال الكفر، فهنا استعمل العام بمعنى الخاص (إذا كان المتبعون يتبعون في التحليل والتحريم). كما يدل على ما قلنا الآيات التالية:

قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، كما قال تعالى:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ).

ص: 1108

وأما من السنة:

فما رواه البيهقي في سننه الكبرى بسنده عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، قال: فسمعته يقول: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ). قال: قلت: يا رسول الله! إنهم لم يكونوا يعبدونهم. قال: ((أجل، ولكن يحلون ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه، فتلك عبادتهم لهم)).

وروى البيهقي أيضاً عن أبي البختري قال: سئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ). أكانوا يصلون لهم؟ قال: ((لا، ولكنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله عليهم فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله لم فيحرمونه، فصاروا بذلك أرباباً)).

أقوال سلف هذه الأمة وخلفها في المسألة:

لقد ذكر المفسرون والمحدثون والعلماء المحققون حكم من اتبع وأطاع غير شرع الله في التحليل والتحريم ـ سأذكر نماذج من هذه الأقوال فيما يلي:

ص: 1109

قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ ر حمه الله ـ: (هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ـ حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ـ يكونون على وجهين:

أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعًا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركًا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركًا مثل هؤلاء.

الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب

ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع؛ فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيبه من الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باللسان واليد، مع علمه بأنه مخالف للرسول؛ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه).

فهذا الكلام من شيخ الإسلام فيه نور، لقد فصل فيه شيخ الإسلام الحكم

ص: 1110

في المسألة، حيث ذكر أن طاعة المحلين للحرام والمحرمين للحلال يكون شركًا أكبر إذا كان هو عالمًا بأن هؤلاء قد غيروا شرع الله ثم اتبعه. وأما من كان اعتقاده وإيمانه بالتحريم والتحليل ثابتًا، ولكن مع هذا تبعهم في ذلك فهذا حكمه حكم المعاصي، وأما إذا كان اتباعه لهؤلاء المشرعين والمحلين والمحرمين لمجرد الهوى فإنه حينئذ يكون مرتكبًا الشرك الأصغر، ولهذا قال بعد هذا: (

وأما إن قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أنه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيباً، لم يكن عمله صالحاً. وإن كان متبوعه مخطئًا، كان آثمًا. كمن قال في القرآن برأيه؛ فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لما أحب المال حبًا منعه من عبادة الله وطاعته، صار عبدًا له. وكذلك هؤلاء؛ فيكون فيه شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك).

وقال رحمه الله ملزمًا كل من علم حكم الله، التمسك به وإن أوذي في ذلك ـ:(ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقاً لعذاب الله، بل عليه أن يصبر، وإن أوذي في الله فهذه سنة الله، في الأنبياء وأتباعهم).

وقال في موضع آخر: (ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله؛ كان مرتدًا كافرًا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا

ص: 1111

يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ).

ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: (وهذا مثل ما ابتلي به الدين درسوا القوانين الأوروبية من رجال الأمم الإسلامية ونسائها أيضًا، الذين أشربوا في قلوبهم حبها، والشغف بها، والذب عنها، وحكموا بها، وأذاعوها، بما ربوا من تربية أساسها صنع المبشرين الهدامين أعداء الإسلام. ومنهم من يصرح ومنهم من يتوارى، ويكادون يكونون سواء، فإنا لله وإنا إليه راجعون).

قول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:

بيّن رحمه الله أنواع التوحيد، وبين أن الشرك مضاد للتوحيد، ثم قسم الشرك إلى ثلاثة أقسام: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي.

وبيّن رحمه الله أن الشرك الأكبر لا يغفر لصاحبه في يوم القيامة، ثم قسمه إلى أربعة أنواع: وجعل أحد هذه الأنواع الأربعة: شرك الطاعة، واستدل على ذلك بقوله تعالى:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ثم قال: (وتفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله

ص: 1112

فقال: لسنا نعبدهم، فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية.

ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: بعد أن أورد عدة آيات من القرآن الكريم، قال:(وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور، أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان في ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم، إلا من طمس الله على بصيرته).

وقال: (ويفهم من هذه الآيات كقوله: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) أن متبعي غير ما شرعه الله تعالى أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبينًا في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله:(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). فصرح أنهم مشركون بطاعته، وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرع الله ـ تعالى ـ هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى:(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). وقوله عن إبراهيم: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا). وقوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً

ص: 1113

وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَرِيداً). أي ما يعبدون إلا الشيطان، أي وذلك باتباع شريعته، ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى:(وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ).

ويقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ حفظه الله ـ عند بيانه معنى قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ): (وسمى المتبعين عبادًا حيث إنهم ذلوا لهم، وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى).

ويقول الشيخ صالح الفوزان ـ حفظه الله ـ: (اعلم ـ وفقني الله وإياكم ـ أن من الشرك طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله

وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله بأنه ليس معناه الركوع والسجود لهم، وإنما معناه: طاعتهم في تغيير أحكام الله وتبديل شريعته بتحليلهم الحرام وتحريمهم الحلال، وأن ذلك يعتبر عبادة لهم من دون الله، حيث نصبوا أنفسهم شركاء لله في التشريع، فمن أطاعهم في ذلك فقد اتخذهم في تحكيم القوانين الوضعية المخالفة للأحكام الشرعية في تحليل الحرام؛ كإباحة الربا والزنا وشرب الخمر، ومساواة المرأة للرجل في الميراث، وإباحة السفوروالاختلاط، أو تحريم الحلال؛ كمنع تعدد الزوجات، وما أشبه ذلك من تغيير أحكام الله واستبدالها بالقوانين الشيطانية، فمن وافقهم

ص: 1114

على ذلك ورضي به واستحسنه فهو مشرك كافر ـ والعياذ بالله ـ).

فهذه أقوال العلماء على أن طاعة المشرعين في التحليل والتحريم شرك بالله على التفصيل الذي سبق معنا.

الفرع الثاني: في بيان شرك الطاعة في قبول التشريع والتحليل والتحريم عن العلماء ـ الأئمة ـ:

لا شك أن من أطاع عالمًا من العلماء في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله مع علمه به فإنه أشرك بالله في الطاعة. وقد سبق معنا بعض الأدلة الدالة عليه؛ فإن آية التوبة إنما نزلت في شأن العلماء منصوصًا، وإن كان يشمل الأمراء ظاهرًا. ومن الأدلة عليه:

قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبع في ذلك هواه، ونصره باللسان واليد، مع علمه أنه مخالف للرسول فهذا شرك يستحق العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه).

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعليقًا على قوله تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ): (وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد، وهو من هذا الشرك ـ أي

ص: 1115

الأكبر ـ، ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل والحالة هذه يكره أو يحرم، فعظمت الفتنة، ويقول: هم أعلم منا بالأدلة

).

ويقول الشيخ صالح الفوزان: (ومن ذلك ـ الشرك في الطاعة ـ تقليد الفقهاء باتباع أقوالهم المخالفة للأدلة إذا كانت توافق أهواء بعض الناس وما يشتهونه، كما يفعل بعض أنصاف المتعلمين من تلمس الرخص، والواجب أن يؤخذ من قول الفقهاء ما وافق الدليل ويطرح ما خالفه

).

الفرع الثالث: في بيان شرك الطاعة في اتخاذ تشريعات المتصوفة دينًا ملزمًا:

من ألوان شرك الطاعة لدى المتصوفة وأتباعهم من الجهلة: (طاعة علماء الضلال فيما أحدثوه في دين الله من البدع والخرافات والضلالات؛ كإحياء أعياء الموالد والطرق الصوفية، والتوسل بالأموات ودعائهم من دون الله، حتى إن هؤلاء العلماء الضالين شرعوا ما لم يأذن به الله، وقلدهم فيه الجهال السذج واعتبروه هو الدين، ومن أنكره ودعا إلى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبروه خارجًا من الدين، أو أنه يبغض العلماء والصالحين، فعاد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، حتى شب على ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وهذا من غربة الدين وقلة الدعاء الصالحين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وإذا كان لا يجوز اتباع أئمة الفقه المجتهدين فيما أخطأوا فيه من الاجتهاد مع أنهم معذورون ومأجورون فيما أخطأوا فيه من غير قصد ـ إلا أنه يحرم اتباعهم على الخطأ ـ فكيف لا يحرم تقليد هؤلاء المضللين والدجالين الذين أخطأوا

ص: 1116

فيما لا يجوز الاجتهاد فيه وهو أمر العقيدة). وقد سبق معنا بيان بعض التشريعات عند بيان الشرك في الربوبية بالأنداد في صفة الحكم والتشريع لله جل شأنه.

يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (المسألة الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين).

على كل: إن هذا اللون من الشرك يعم وجه الأرض اليوم؛ فأما الأرض غير الإسلامية فقد حوت كل صنوف الكفر والشرك، ومن أبرزها: شرك الطاعة في التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله، واتخاذ الأنداد والأرباب المختلفة من دون الله يطيعونهم في أعمالهم. وأما الأرض الإسلامية فقد وقع أهلها في هذا النوع من الشرك، كل من رضي بشريعة غير شريعة الله، مجلوبة من الشرق أو الغرب، أو من المتصوفة أو من العلماء الكبار، وكل من رفع راية التحزب وليست تحت راية الإسلام، من قومية أو وطنية أو علمانية أو غيرها من الرايات التي لم يأذن بها الله. فهؤلاء يطيعونهم في التحليل والتحريم، وإن كانت الأرباب التي أخذوها إنما هي أفكار، وليست بمحسوسة.

فالذي ينادي بالقومية أو الوطنية ويتخذ ذلك وسيلة وذريعة لإقامة وطن لا تحكم فيه شريعة الله، هو في الواقع يتخذ القومية أو الوطنية ربًا يعبده من دون الله، سواء في ذلك من يقيم هذه الراية ومن يرضى بها، لأن الأول يصدر باسمها تشريعات تحل وتحرم بغير ما أنزلا لله، والآخر يتلقى منها ويطيعها ولا يتوجه

ص: 1117

بالتلقي والطاعة إلى الله.

والذي ينادي بوجوب الإفطار في نهار رمضان للعمال، معللاً أن الصيام يضر بالإنتاج المادي، يتخذ الإنتاج المادي في الحقيقة ربًا يعبده من دون الله، لأنه يطيعه مخالفًا أمر الله.

والذي ينادي بخروج المرأة سافرة متبرجة مخالطة للرجال باسم التقدم والرقي وباسم التحرر، يتخذ التقدم والرقي والتحرر في الحقيقة أربابًا معبودة من دون الله، لأنه يحل باسمها ما حرم الله، ويطيعها من دون الله.

والذي يدعو إلى إبطال شريعة الله أو تبديل الأحكام الإسلامية التي تصون الأخلاق والأعراض لكي نبدو في نظر الغرب متحضرين غير متخلفين، يتخذ الغرب وتقاليده أرباباً من دون الله، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم.

والذي اتبع هواه في التحليل والتحريم فيأخذ ما يحلو له من الدين ويترك ما يخالف هواه فهو أخذ هواه ربًا يعبده بطاعته. وما أكثر هذا الشرك بالهوى في العصر الحاضر.

والذي اتبع عقله في دين الله من غير مبالاة بالكتاب والسنة، وغير محرم لما حرم الله، وغير محلل لما حلل الله بحجة مخالفة العقل، فهو يأخذ العقل ربًا يطيعه في التحليل والتحريم.

وهكذا نرى صورًا متعددة من صور شرك الطاعة والاتباع تعم حياة الناس اليوم دون أن يتبينوا ما هم واقعون فيه من الشرك.

فهؤلاء المتبعون والمطيعون لغير الله في الشرع والتحليل والتحريم حكمهم على التفصيل الذي سبق معنا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.

ص: 1118