الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: في بيان شرك التقرب والنسك بالذبح والنذر لغير الله
أ- أما الذبح: فلا شك أن الذبح والنحر إن قصد بهما التوجه والتقرب إلى الله وحده فهو من العبادات، ويسمى نسكًا؛ لأن النسك هو العبادة والقربة. وقد فرض الله ذلك بقوله تعالى:(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، والنسك ـ هاهنا ـ الذبيحة.
يقول ابن عطية في تفسير الآيات: (قوله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
…
) الآية، أمر من الله عزوجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته، وطاعته من ذبيحة وغيرها، وتصرفه مدة حياته، وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عزوجل، وإرادة وجهه وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به، حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عزوجل).
ويقول ابن كثير في تفسيره: (يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه
على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى:(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، أي أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى).
ومما قاله محمد رشيد رضا في تفسيره لهذه الآيات: (هذا بيان إجمالي لتوحيد الإلهية بالعمل، والمراد بالصلاة جنسها الشامل للمفروض والمستحب، والنسك في الأصل العبادة أو غايتها، والناسك العابد، ويكثر استعماله في القرآن والحديث في عبادة الحج، وعبادة الذبائح والقرابين فيه، ـ إلى أن قال ـ والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقربًا إليه، وتعظيمًا له، وطلبًا لمثوبته ومرضاته، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك، ويقصد به تعظيمه فهو معبود له، سواء عبر فاعله عن ذلك بقول يدل عليه أم لا. فالعبادة لا تنبغي إلا لله رب العباد وخالقهم
…
وكون الصلاة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضروريات الدين).
ويقول سبحانه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).
يقول ابن تيمية عن هذه الآية الكريمة: (أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما: الصلاة، والنسك الدالتين على القرب والتوضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته
وأمره وفضله، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر، وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم، ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى:(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، والنسك هي الذبيحة ابتغاء وجهه، وهو أجل العبادات المالية، وما يجتمع للعبد في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به، وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه، كثير النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثاً وثلاثين بدنة، وكان ينحر في الأعياد وغيرها).
وبهذا يتقرر أن الذبح من أجل العبادات، وأعظم الطاعات.
ب- وأما النذر: فهو عبادة، لا يكون إلا لله وحده لا شريك له (باعتبار الوفاء به، وأما باعتبار ابتداء النذر فقد صح النهي عنه، فالمقصود هنا في كونه عبادة: باعتبار الوفاء به) حيث إن الله عز وجل مدح الموفين بالنذر، فقال سبحانه:(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذه الآية: (يؤخذ منه أن الوفاء بالنذر قربة، للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة). ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بيان معنى الآية: (إن الله مدح الموفين بالنذر، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو
مستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة).
وقال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ). والمعروف أن الإنفاق عبادة، والوفاء بالنذر كذلك.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة، فقال:((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه)).
وقال أيضًا في ذم الذين ينذرون ولا يوفون: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم
…
ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن)). فسوى بين من يخون أمانته، ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة، فيكون ترك الوفاء بالنذر مذمومًا.
ومن خلال ما سبق إيراده، ندرك أن النذر عبادة مدح الله الموفين به، فلا ينبغي أن يكون إلا لله وحده.
الشرك بالله بالذبح والنذر لغير الله ووجوده في العصر الحاضر:
إن الذبح أو النذر لغير الله تعالى شرك بالله تعالى، لأنهما عبادتان يجب
صرفهما لله تعالى وحده، فمن صرفهما لغيره فقد أشرك، كما أن هؤلاء الذين ينحرون لغير الله تعالى سواء كان للأموات، أو للجن، أو للملائكة عليهم السلام، أو لطلعة سلطان ونحوها، إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد باطل، فيعتقدون أنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ومنهم من يقدم تلك النحائر والنذور إلى هذه المعبودات من أجل أن تقربهم عند الله زلفى.
يقول تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ).
ومعنى قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ): (ما ذبح لغير الله تعالى، وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل، وكذلك النصارى، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به، فذلك إهلاله).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) ظاهره أنه ما ذبح لغير الله تعالى، مثل أن يقال: هذه ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن، متقربين إلى الله سبحانه، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له، والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك أولى، وهذا يبين لك
ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس كان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربًا به إليه لحوم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب، بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان).
يقول ابن كثير: (فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ـ يقصد أكل ما ذبح على النصب ـ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب، فهو من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى شيئًا يكتمه الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع، فقيل: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض)).
ومما يبين لك أن هؤلاء الذين ينذرون أو يذبحون لغير الله تعالى إنما هو عن اعتقاد بأنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ما يرى من أحوالهم وأوضاعهم، وقد بين العلماء ذلك في كتبهم، فهذا الصنعاني رحمه الله يوضح هذا الأمر فيقول ـ مناقشًا شبهات من يذبح لغير الله ـ: (فإن قال: إنما نحرت لله، وذكرت
اسم الله عليه، فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم، فقل له: هذا النحر لغير الله تعالى، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينًا أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصدًا له).
ويقول ـ أيضاً ـ مبيناً حكم هذه النذور والنحائر ـ: (فإن قلت: هذه النذور والنحائر ما حكمها؟ قلت: قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها، يسعون في جمعها ولو بارتكاب كل معصية، ويقطعون الفيافي من أدنى الأرض والأقاصي، فلا يبذل أحد من ماله شيئًا إلا معتقدًا لجلب نفع أكثر منه، أو دفع ضرر، فالناذر للقبر ما أخرج ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما أراده، ما أخرج درهماً).
وكذلك الشوكاني رحمه الله يقرر أن هذه الأعمال الشركية صادرة عن الباطن، وأن أصحابها يعتقدون فيها النفع والضر، فيقول: (وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال، والخضوع والاستكانة عبادة الله عز وجل بلا خلاف، ومن زعم أن ثمة فرق بين الأمرين فليهده إلينا، ومن قال: إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر لهم عبادتهم، فقل له: فلأي مقتضى صنعت هذا الصنع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر بك ألا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عرض
الحاجات من دون اعتقاد منك لهم، فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله، وتنذر لله، فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره، فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، أو أمر قد أردته).
ويعلل صاحب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) كون النذر لغير الله تعالى من الشرك قائلاً: (لأن الناذر لم ينذر هذا النذر لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، إما بطبعه، وإما بقوة سببية فيه، ويجلب الخير والبركة، ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم: حكيهم وقولهم: إنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة، فنذروا لفلان وفلان
…
فانكشفت شدائدهم واستراحت خواطرهم، فقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن وسنة المبعوث به صلى الله عليه وسلم، ونظر أحوال السلف الصالح، علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى:(هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا).
ويتحدث الشيخ مبارك الميلي عن واقع أولئك الناس الذين يذبحون لغير الله تعالى، ويبين أنهم إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد وطلب للقربى من تلك
المعبودات، فكان مما قاله رحمه الله: (إن كل من خالط العامة، يجزم بأن قصدهم بذبائح الزردة التقرب من صاحب المزار، ويكشف عن ذلك أشياء:
أحدها: أنهم يضيفون الزردة إلى صاحب المزار، فيقولون: زردة سيدي فلان، أو طعام سيدي عبد القادر مثلاً:
ثانيها: أنهم يفعلونها عند قبره، وفي جواره، ولا يرضون لها مكاناً آخر.
ثالثها: أنهم إن نزل المطر إثرها، نسبوه إلى سر المذبوح له، وقوي اعتقادهم فيه، وتعويلهم عليه.
رابعها: أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة، نكسوا على رؤوسهم، وقالوا: إن وليهم غضب عليهم، لتقصيرهم في جانبه).
وفي ختام مسألة الذبح أو النذر لغير الله تعالى، يحسن بنا أن ننبه على عدم الخلط بين ما يذبح لغير الله تعالى تقربًا أو تعظيمًا، فهذا من باب العبادات والقربان، وبين ما يذبح عادة بقصد الأكل أو إكرام ضيف ونحوهما. فالأول: شرك في العبادة والألوهية، وأما الثاني: فليس بشرك ويختلف حكمه حسب النية.
كما يجب التفريق بين النذر الشركي المخرج من الملة وبين نذر المعصية
فيما دون ذلك، وذلك؛ أن (النذر الغير جائز قسمان:
أحدهما: نذر فعل المعصية، كشرب الخمر، وقتل المعصوم، فيحرم الوفاء به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من نذر أن يعصي الله فلا يعصه))، ولأن معصية الله تعالى لا تباح في حال من الأحوال
…
الثاني: النذر لغير الله تعالى؛ كالنذر لإبراهيم الخليل، أو محمد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، أو ابن عباس، أو عبد القادر، أو الخضر
…
فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي). إذا اعتقد فيهم النفع أو الضر، ومن جانب الوفاء به من الشرك في العبادة والألوهية.
شبهة في باب الذبح والنذر والجواب عنها:
قد لبس خصوم عقيدة التوحيد في هذه المسألة، فزعموا: أن الذبح لغير الله، وكذا النذر لغيره، إنما هي من المحرمات التي دون الشرك
…
وذلك بسبب سوء فهمهم للنصوص الشرعية، وكلام أهل العلم، بل ربما نسبوا هذا التلبيس لبعض أئمة السلف أيضاً.
وقد قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بكشف هذا التلبيس، وبيان
الحق في هذه القضية، فكتب جواباً في الرد على أحد الخصوم له، حين زعم الأخير أن النذر لغير الله حرام ليس بشرك، فقال الشيخ في الرد عليه:
(فدليلك قولهم: إن النذر لغير الله حرام بالإجماع، فاستدللت بقولهم: حرام على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك، فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك! ما تصنع بقول الله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر؟ يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ـ إلى قوله ـ (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا). هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ ! يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك: أن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال: ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في الإقناع: أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها: لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره، كيف لا يكون شركًا؟ ).
وأيضاً يورد الشيخ قاعدة مهمة أثناء جوابه على من ادعى أن الذبح للجن منهي عنه فهو معصية وليس بردة، حيث قال رحمه الله:(قوله: الذبح للجن منهي عنه، فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ (التحريم والكراهة)، و
…
(لا ينبغي) ألفاظ عامة تستعمل في المكفرات،
والمحرمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المكفرات قول:(لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له)، وقوله تعالى:(وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا). ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: (يحرم كذا)، لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم:(يكره) كقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ـ إلى قوله ـ (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا). وأما كلام الإمام أحمد في قوله: (أكره كذا) فهو عند أصحابه على التحريم، إذا فهمت هذا فهم صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج، وقالوا: الذبيحة حرام، ولو سمي عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أهل لغير الله، والثاني: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى عليها).