الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأقوال القلبية (شرك الدعوة)
الأقوال القلبية التي تعد عبادة كثيرة، من أفرادها: الدعاء والاستغاثة، والاستعانة، والاستمداد، والاستشفاع، والاستنصار، والنداء، والسؤال، والطلب، وغيرها. ويجمعها كلها لفظ الدعاء، فإن كل هذه الأشياء لا تؤدى إلا بالدعاء، ولهذا أقصر الكلام هنا فقط في شرك الدعاء على أن أحكام البقية تابعة له في الحقيقة.
معنى الدعاء:
الدعاء مصدر دعا يدعو، وهو لغة: يأتي لمعان، منها:
1 -
النداء: يقال: دعوت فلاناً وبفلان: ناديته وصحت به.
2 -
السؤال: دعوت فلاناً: سألته.
3 -
الاستغاثة: دعوت فلاناً: استغثته، والدعاء الغوث، فالدعاء النداء والاستغاثة.
4 -
والطلب: دعوت فلاناً: استدعيته، وطلب جلب النفع ودفع الضر.
5 -
الحث على فعل الشيء والدعوة إليه: دعا إليه: طلبه إليه.
6 -
السوق: يقال: دعاه: ساقه إلى الأمير.
7 -
التسمية: يقال دعوت الولد زيداً، أو بزيد: إذا سميته بهذا الاسم.
8 -
الجعل: (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)، أي جعلوا.
9 -
العبادة: يطلق (الدعاء)، ويراد به (العبادة).
10 -
رفعة القدر، ورفع الذكر.
الدعاء في الشرع:
تنوعت عبارات العلماء في تعريف الدعاء، وتعددت كلماتهم، وكلها تهدف إلى الكشف عن حقيقة معناه الشرعي وإليك بعض تلك العبارات:
* قال أبو سليمان الخطابي: (ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه عز وجل العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة).
* وقال أبو عبد الله الحليمي: (الدعاء: قول القائل: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، وما أشبه ذلك).
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن دعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره، ودَفْعِهِ).
* وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وهو الطلب بياء النداء لأنه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو بأحد أخواتها).
* وعرفه الشيخ حسين بن مهدي النعمي اليمني: (فالمعنى الذي هو راجع وضعًا لا قصدًا إلى القوي القادر، بحيث لا يصلح إلا له، ولا يتحصل إلا به أو عنه، اسم طلبه والتماسه، واللفظ الذي يكون له هو الدعاء وضعاً وشرعًا، والدعاء في لسان أنبياء الله ورسله وكتابه ـ اسم لطلب ذلك المعنى ـ). وقال في موضع آخر: إن الدعاء عند المتشرعة والإسلاميين طبع وهيئة لازمة طلب العاجز للقادر وسؤاله منه).
* وعرفه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ بقوله: (هو السؤال والطلب رغبة أو رهبة أو مجموعهما).
هذه بعض تعريفات العلماء للدعاء، وهي كما نرى خاصة ببعض جوانب الدعاء، ولا تشمل جميع جوانب الدعاء ـ كما سيتضح ذلك لاحقاً ـ.
ولعل التعريف الشامل أن يقال: الدعاء هو الرغبة إلى الله تعالى والتوجه إليه في تحقيق المطلوب، أو دفع المكروه، والابتهال إليه في ذلك إما بالسؤال، أو بالخضوع والتذلل، والرجاء والخوف والطمع. ووجه كونه شاملاً ما سيأتي توضيحه فيما يلي ببيان مدلولات الدعاء في الشرع، وبيان أنواعه، وأن هذا التعريف شامل لجميع جوانب الدعاء ومدلولاته كله.
أنواع الدعاء:
تنوعت عبارات العلماء المحققين في بيان أنواع الدعاء، فمنهم من قسمه
إلى ثلاثة أنواع، ومنهم من قسمه إلى نوعين:
* يقول ابن القيم: الدعاء ثلاثة أنواع:
1 -
دعاء مسألة.
2 -
دعاء ثناء.
3 -
دعاء تعبد.
* ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الدعاء نوعان: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. وهو قول ابن القيم أيضًا في زاد المعاد، وفي مواضع من بدائع الفوائد، وفي جلاء الأفهام.
وليس هناك تناقض بين قول الإمام ابن القيم الأول وبين قوله الثاني: وقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن دعاء الثناء والتعبد هما في الحقيقة: دعاء العبادة، وإنما أفرد بالذكر، اهتماماً به، وهذين النوعين ـ دعاء العبادة ودعاء المسألة ـ من الدعاء يشمل جميع أنواع الأدعية في الحقيقة، وهو مؤدى كلام كثير من العلماء الذين سبقوهما أيضاً: كالطبري في تفسيره، والبغوي في تفسيره، وغيرهما.
وجه انقسام الدعاء إلى نوعين، وبيان تلازمهما وكونهما من العبادة، والدليل عليهما:
قد ذكرنا في تعريف الدعاء أن معناه هو الرغبة والقصد والتوجه إلى المدعو، وهذا القصد والتوجه إلى المدعو تارة يكون لذاته، وتارة لمسألته أمراً منه، وهذا كالشخص يدعو غيره، ويطلبه، ويقصده، تارة لذاته، وتارة لأمر يطلبه منه.
فالقصد إلى المدعو لذاته هو المسمى بدعاء العبادة والثناء، وتمتلئ القلوب فيه بعظمة الله وجلاله، والقصد إلى المدعو لمسألته هو المسمى بدعاء المسألة، وتمتلئ القلوب فيه بالرغبة والانطراح بين يدي الله تعالى، وهذا هو وجه انحصار وانقسام الدعاء إلى نوعين فقط.
تلازم نوعي الدعاء:
ذكرنا فيما سبق أن الدعاء ينقسم إلى دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهذا التقسيم معناه أن الدعاء يراد به تارة دعاء المسألة وتارة دعاء العبادة، وليس معناه أنهما متضادان بحيث أنه لا يدل إلا على النوع الذي أريد به، بل معناه: أنه في تلك الحالة دلالته على أحد النوعين أظهر، ويدل على النوع الآخر إما بدلالة الالتزام أو بدلالة التضمن، وعلى النوع الذي يكون فيه أظهر بدلالة المطابقة.
فإذا أريد به المسألة والطلب يدل على العبادة بطريق التضمن. لأن
الداعي دعاء المسألة عابد لله تعالى بسؤاله، ورغبته، والتضرع إليه، والابتهال إليه، والانطراح بين يديه، وهو يرجو قبول دعوته وقضاء حاجته، وهو مع ذلك خائف من طرده، وعدم قبول دعوته، فهذا هو لب العبادة ومخها وروحها وحقيقتها. فالآيات التي ورد فيها الدعاء مراداً به دعاء المسألة تدل هذه الآيات بطريق التضمن على دعاء العبادة.
وأما إذا أريد بالدعاء دعاء العبادة، فإنه يدل على دعاء المسألة بطريق دلالة الالتزام. وذلك؛ لأن العابد لله تعالى ـ كالذي يذكر الله مثلاً ـ فهو في الحقيقة سائل وإن كان لا يأتي بلفظ السؤال، كالذي يطوف على بعض الأبواب والأسواق ليدعو الناس، يكون سائلاً وإن حذف لفظ السؤال.
والخلاصة: أن معنى دعاء العبادة بعبارة أخرى: هو العبادة نفسها، فيكون الدعاء والعبادة اسمين مترادفين لمسمى واحد.
وأما دعاء المسألة: فمعناه: النداء والاستمداد والاستنصار والاستغاثة لدفع الضر وجلب النفع، قولاً، وسؤالاً، وطلبًا باللسان، ثم دعاء المسألة ـ فوق الأسباب ـ مخ العبادة، فإذا أردنا من الدعاء: دعاء العبادة يكون الدعاء بعينه العبادة، وهما شيء واحد؛ كالأسد والغضنفر، وغيرهما من المترادفات.
وأما إذا أردنا من الدعاء: دعاء المسألة ـ فإن كان فيما فوق الأسباب ـ
يكون الدعاء نوعًا من أنواع العبادة، وفردًا من أفرادها، وجزئيًا من جزئياتها، فيكون دعاء غير الله شركًا في العبادة، بل أمًّا للشرك؛ لأن العبادة أمر كلي شامل لعدة من الجزئيات التي تندرج تحتها، ومن تلك الجزئيات (دعاء المسألة)، فيكون دعاء المسألة خاصًا وأخص من (العبادة)، التي هي أمر عام وأعم، فتكون النسبة بينهما عموم وخصوص مطلقاً، بأن يكون الدعاء أخص مطلقاً، والعبادة أعم مطلقاً، وأن كل دعاء عبادة ولا عكس.
فنوعا الدعاء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، فحيث ما ذكر أحدهما دخل معه الآخر إما تضمنا وإما التزاماً. وبهذا التقرير يندفع ما يردده بعض المخالفين من أن الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله ـ تعالى ـ المراد بها العبادة فقط، وليس المراد بها السؤال والطلب فلا يدخل فيها طلب الشفاعة من الأموات والتوسل بهم بل ولا دعاؤهم والاستغاثة بهم والهتاف باسمهم من مسافات بعيدة، هكذا زعموا، وأولوا كل الآيات التي فيها التحذير من دعاء غير الله ـ تعالى ـ بالعبادة، ولم يقتصروا على هذا فقط، بل ضيقوا معنى العبادة حيث زعموا أن مفهومها لا يشمل إلا السجود والركوع ونحو ذلك، بل زيادة على ذلك بعضهم زادوا على ذلك أن يكون الركوع والسجود على اعتقاد الربوبية في المسجود والمركوع له، وأما الدعاء، والاستغاثة والنذر، والذبح، وما إلى ذلك فليست داخلة في العبادة. وقد ذكرنا مناقشة بعض هذه الأقوال فيما قبل. وسيأتي مناقشة بعض هذه الأقوال فيما بعد.
فعلمنا بذلك: أن الدعاء عبادة، وسأسوق جملة من النصوص المتضمنة
على نوعي الدعاء، الدالة على أنهما في القرآن والسنة على معنى العبادة.
الأدلة من القرآن والسنة على أن الدعاء بنوعيهما عبادة:
الأدلة من القرآن:
قد ورد إطلاق الدعاء في القرآن الكريم على ثلاثة أوجه:
1 -
أن يراد منه دعاء المسألة.
2 -
أن يراد منه دعاء العبادة.
3 -
أن يراد منه مجموعهما.
فهذه الأوجه الثلاثة هي التي تدور عليها إطلاقات الدعاء في القرآن الكريم، إما أن يراد منه أحدهما، أو يراد منه ما يشمل النوعين.
وهذه الاستعمالات الثلاثة كثيرة في القرآن الكريم، قد ورد بكل منها عدة آيات:
فمما ورد في دعاء المسألة على الأظهر ما يلي:
* الآيات التي تتحدث عن التجاء الإنسان إلى الله تعالى في وقت الشدائد والمصائب والاضطرار، وعن كشف الله لتلك الشدائد: فمن ذلك:
1 -
قوله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ). فالآية ظاهرة في أنها في دعاء المسألة. فإنها سيقت في بيان الطلب من الله.
2 -
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ). فإن الآية لا شك في كونها دالة على دعاء المسألة، وليس المراد منها دعاء العبادة.
3 -
قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ). وغيرها من الآيات.
* الآيات التي تتحدث عن طلب الأمم من أنبيائهم دعاء الله تعالى لهم والتوسل لهم: فمن ذلك:
4 -
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا).
5 -
وقوله تعالى: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ).
* الآيات التي تتحدث عن نداء الأنبياء لربهم وسؤالهم له: ومن ذلك:
6 -
قوله تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ).
7 -
وقوله تعالى: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) ـ إلى قوله ـ (وَلَمْ
أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). فهذا في دعاء المسألة أظهر، والمعنى: إنك عودتني إجابتك وإسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه.
* الآيات التي تتحدث عن عدم سماع المدعوين من دون الله دعاء من دعاهم، ومن ذلك:
8 -
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ). والآية صريحة في دعاء المسألة.
9 -
قوله تعالى: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ).
10 -
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ). والآية دالة على دعاء المسألة.
وأما الآيات التي تدل على دعاء العبادة على الأظهر فقد ورد في القرآن
الكريم استعمال الدعاء بمعنى العبادة وكثر ذلك، منها ما يلي:
1 -
قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ). فالدعاء هنا أظهر في العبادة؛ بدليل قوله: (أن أعبد).
2 -
وقوله تعالى: (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ).
3 -
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ـ إلى قوله تعالى ـ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا).
4 -
وقوله تعالى: (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). فهذا في دعاء العبادة: (والمعنى: اعبدوه ووحّدوه وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره).
5 -
وقوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما يمكن اعتباره ضابطًا للآيات التي يكون فيها حمل الدعاء على العبادة أظهر، فقال: (وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء
المسألة، فهو في دعاء العبادة أظهر، لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم.
الثاني: أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في موضع آخر، كقوله تعالى:(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ).
وقوله تعالى: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)، وهو كثير في القرآن فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها.
الثالث: أنهم كانوا يعبدونها في الرجاء فإذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة).
وهناك آيات يراد بالدعاء فيها مجموع الأمرين ـ دعاء العبادة ودعاء المسألة ـ منها:
قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، فهذه الآية
فسرت بنوعي الدعاء، فقيل في المعنى: أعطيه إذا سألني، وقيل: أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني.
ومثله قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). فقد فسرت الآية بالمعنيين.
وقوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا). فالدعاء بالأسماء الحسنى يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة.
المقصود: أن الدعاء في القرآن الكريم ـ سواء كان دعاء عبادة أو مسألة ـ جاء بمعنى العبادة، وهو دليل واضح وصريح على أن الدعاء عبادة.
ومن أوجه دلالة القرآن أيضاً على أن الدعاء عبادة، أن الله عز وجل صرح بالعبادة بعد ذكر الدعاء، فمن هذه الآيات ما يلي:
* قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). حيث صرح ببيان سبب الوعيد
الذي أوعده بأن من لم يدعه لم يعبده، ومن لم يعبده يدخل ناره جزاء لاستكباره.
* قوله تعالى في شأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ). حيث بين الله عز وجل سبب إعطاء إبراهيم الجائزة، بأنه ترك عبادة غير الله، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما قال:(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ) فلم يذكر إبراهيم عليه السلام لفظ الدعاء ومع ذلك ذكر الله بأنه لم يعبد غيره، مما يدل على أن الدعاء المذكور في قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما هو العبادة.
* وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ). ففي هذه الآية نرى أن الله عز وجل ينعى على عقول الكفار والمشركين الذين يدعون لغير الله، ثم أردف قوله بأن هؤلاء يوم القيامة يكفرون بعبادة عابديهم، فسمي دعاء الداعين لأوليائهم الميتين، ولأصنامهم بالعبادة. فهذه الآيات الثلاث فيها تصريح من الله بأن الدعاء عبادة، فهل أحد أعلم من الله؟ .
الدليل من السنة على أن الدعاء عبادة:
جاءت السنة النبوية مبينة ومستقلة تدل على أن الدعاء عبادة، فمن هذه الأحاديث التي جاءت مبينة قوله صلى الله عليه وسلم:((إن الدعاء هو العبادة)). يقول الراوي: ثم قرأ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ).
ومما جاء في السنة مستقلاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يدع لله ندًا دخل النار)).
فالحديث فيه دلالة واضحة على كون دعاء الند موجب لدخول النار، وليس شيء أوجب في دخول النار من عبادة غير الله، فالدعاء هنا بمعنى العبادة.
فثبت بهذه النصوص أن الدعاء عبادة.
الدعاء لغير الله شرك بالله جل شأنه في العبادة:
بعدما أثبتنا بنصوص القرآن والسنة كون الدعاء عبادة، يثبت لنا تلقائياً أن الدعاء بجميع أنواعه من الاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة كلها ـ التي هي من نوع الدعاء والطلب ـ عبادة لله جل شأنه، لا يجوز صرفه إلا لله وحده، فمن صرف أي فرد من أفراده لغير الله فهو مشرك بالله جل شأنه، لذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأعظم الاعتداء والعدوان والذل
والهوان، أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم، (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
ويبين ابن القيم شناعة هذ الشرك فيقول:
ومن أنواعه (الشرك الأكبر) طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده.
ويجب أن يعلم أن من قصد غير الله بدعاء أو استعاذة أو استعانة فهو كافر، وإن لم يعتقد فيمن قصده تدبيراً، أو تأثيراً، أو خلقاً، فمشركو العرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون عن معبوداتهم إنها تخلق، وترزق، وتدبر أمر من قصدها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه، بل كانوا يدعونها، ويستغيثون بها مع إقرارهم بأن الله هو المدبر الخالق الرازق
…
.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
ومن أنواع العبادة الدعاء، كلما كان المؤمنون يدعون الله وحده ليلاً ونهاراً
في الشدة والرخاء، ولا يشك أحدًا أن هذا من أنواع العبادة، فتفكر رحمك الله فيما حدث في الناس اليوم من دعاء غير الله، في الشدة والرخاء، فهذا تلحقه الشدة في البر أو البحر، فيستغيث بعبد القادر أوشمسان أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء أن ينجيه من هذه الشدة، فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله هو المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة، فكيف تدعو مخلوقاً ميتاً، وتترك الحي القيوم الحاضر الرؤوف الرحيم القدير؟ .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن موضحًا أن الطلب من الأموات شرك: (إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله).
ومع وضوح هذه القضية فقد وقع في هذا النوع من الشرك كثير من المتصوفة والجهلة من الناس، بل هذا النوع من الشرك هو الذي يغلب على العالم الإسلامي، وقد بدأ هذا النوع من الشرك من الشيعة، وانتشر بين المتصوفة، ثم عمت العباد والبلاد على حين غفلة من العلماء والدعاء، حتى أصبح الإنكار عليه منكراً، والأمر به معروفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ذكرنا نماذج من وقوع الناس قديمًا وحديثًا في هذا النوع من الشرك عند بيان الشرك في الربوبية بالأنداد في إثبات صفة القدرة الكاملة لغير الله لدى المتصوفة، فإن كل من أثبت لغير الله التصرف في الكون إنما يثبت ذلك كي يجوِّز النداء والدعاء لغير الله، وقد ذكرنا مجمل النصوص من المتصوفة التي تدل على جواز النداء والطلب والاستغاثة والاستعانة بغير الله ـ في اعتقادهم ـ
لارتباط الكلام بعضه مع بعض بين اعتقاد التصرف في الكون لغير الله وبين دعاء غير الله والنداء والاستغاثة بغيره سبحانه، فلا نعيده هاهنا.
ولكن هل هناك شبهة في اعتقادهم جواز دعاء غير الله والاستغاثة بغيره سبحانه؟ .
لقد وجد هناك شبهات ـ بل هذا المكان بالذات محل أغلب شبهاتهم ـ سأذكر هذه الشبهات مع الردود عليها في المبحث التالي بمشيئة الله.
* * *