الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث أنواعه
تم استعراض أنواع الشرك قديمًا وحديثاً في الأبواب السابقة، ومن خلال ما استعرضنا نستطيع أن نقارن بين أنواع الشرك في القديم والحديث من حيث وقوعها في الناس قديمأ وحديثاً على النحو التالي:
المقارنة من حيث وقوع الناس في الشرك في الربوبية قديمًا وحديثاً:
الأولى: الشرك في الربوبية بالتعطيل:
والكلام على التعطيل يأتي على الترتيب الآتي:
أ- تعطيل المصنوع عن صانعه:
ليس عندنا ما يدل على أن الأمم السابقة تورطت بهذا النوع من الشرك على العموم، بل كان في بعض الأفراد كفرعون، والملك الذي حاج إبراهيم في ربه، وإن كان هناك وجود لهذا النوع من الشرك في العرب في الجاهلية، ولكن مظاهره كانت محدودة ومعدودة للغاية، يكاد ينحصر في بعض الناس.
ولكن شرك هذا العصر تميز بسمة بارزة في هذا الجانب، حيث وجد هذا النوع من الشرك بكثرة وغلبة في كثير من نواحي العالم، مع ادعاء أصحابه أنهم على حجة وبرهان، وإن هي إلا سراب ومكابرة وتمرد على فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فهذه المقارنة تدلنا على أن الشرك في هذا العصر ـ المتحضر بزعم أهله ـ بلغ إلى
أخبث مراتب الشرك وأقبحها؛ حيث إنهم أنكروا الصانع مع دعواهم أنهم بلغوا قمة الحضارة والثقافة وأعلاهما.
ب- الشرك في الربوبية بتعطيل الله عن أسمائه وصفاته وأفعاله:
إننا إذا نظرنا إلى الأمم السابقة رأينا أن هناك طائفة من الناس قد وقعوا في هذا النوع من الشرك.
فبالنسبة للشرك في الربوبية في أسماء الله وصفاته، فقد وقع فيه بعض الأمم مثل قوم عاد الذين أنكروا صفة القدرة لله جل شأنه.
أما بالنسبة للشرك في الربوبية بتعطيل أفعال الله، فكل أمة أنكرت إرسال الرسل والشرع والبعث والحشر والنشر وغيرها من أفعال الله، فقد وقعت فيه لا محالة، وقد كانت الأمم السابقة غالباً تنكر هذه الأشياء.
وإذا نظرنا إلى شرك العرب في الجاهلية في هذا الجانب، فإننا نراهم قد أشركوا بالله بتعطيل الله عن أسمائه وصفاته وأفعاله. غير أن ظاهرة الشرك بالتعطيل في أسمائه وصفاته لم تكن منتشرة، بل ربما كانت هذه الظاهرة لدى طائفة من طوائفهم، وكذلك في بعض الأسماء والصفات لا في جميعها.
وأما بالنسبة للشرك بتعطيل أفعال الله فقد كان الشرك في هذا الجانب من السمات البارزة للشرك الجاهلي، فإن العرب في جاهليتهم كانوا ينكرون إرسال الرسل والشرع والقدر والبعث والحشر والنشور. فالجاهليون كإخوانهم من الأمم السابقة وقعوا في هذا النوع من الشرك حذو النعل بالنعل، ولعل هذا امتداد من شرك الأمم السابقة.
وإذا نظرنا إلى شرك العصر الحديث فإننا سنرى كثيرًا من الناس قد وقعوا في هذا النوع من الشرك بالله جل شأنه، بل هذا النوع من الشرك قد تقمص أخبث قمصانه في هذه الأمة، وذلك أن الأمم السابقة والجاهليين ما كانوا ينكرون جميع أسمائه وصفاته، بخلاف كثير من الجهمية والمعتزلة والشيغة وغيرهم من الفرق والطوائف التي وجدت في هذه الأمة حيث أنكروا جميع أسماء الله وصفاته، وطائفة منهم أنكروا بعضها، كما كان هناك طائفة أنكرت كثيرًا من أفعاله، وهذه الظاهرة موجودة في العصر الحديث أيضاً، فكم من الناس ما زالوا ينكرون أسماء الله جل وعلا وصفاته بالتعطيل أو بالتمثيل، وكم من الناس ما زالوا ينكرون أفعال الله جل شأنه، من القضاء والقدر، والشرع، والبعث، والحشر والنشر، وغيرها.
جـ- الشرك في الربوبية بتعطيل ما يجب على العبد تجاه ربه من حقيقة التوحيد:
إذا نظرنا إلى الأمم السابقة نرى أن هذه الظاهرة من الشرك لم تكن موجودة فيهم إلا عند فرعون، وهو أول من قال بهذا القول حسب ما علم من المصادر الموثوقة. ثم قال به من قال من اليهود بالحلول في عزرا، والنصارى القائلين بالحلول في عيسى عليه السلام.
ولا يوجد هذا النوع من الشرك لدى العرب في الجاهلية، إلا ما ذكر عن بعضهم، ولكن الصحيح أن العرب في جاهليتهم أيضاً ما كانوا يشركون بالله بمثل هذه الاعتقادات الماجنة، والمخالفة للفطرة والعقول.
ولكن هذه الظاهرة موجودة بصفة عامة لدى كثير من الناس في العصر الحديث، كالمتصوفة، ومن نحا نحوهم وتأثروا بأقوالهم وآرائهم، وكالمذاهب الأخرى الهدامة الموجودة في العصر الحديث.
الثانية: الشرك في الربوبية بالأنداد (أو بالتمثيل):
والكلام على هذا النوع من الشرك قديمًا وحديثاً يشتمل على النقاط التالية:
أ- من حيث ذاته:
إن كان المقصود به إثبات إلهين متماثلين في الصفات والأفعال، فليس هناك من يثبت إلهين متماثلين في الصفات ولا في الذات لا قديمًا ولا حديثاً.
وإن كان المقصود إثبات إلهين أو آلهة متعددة، فقد كان في الأمم السابقة من أثبت مثل هذه الآلهة، بل كان أغلب الأمم متورطين في هذا الجانب، حيث كانوا يسمون من يعبدونها من دون الله آلهة.
كما كان العرب في جاهليتهم يثبتون مثل هذه الآلهة المزعومة، ويعبدونها من دون الله.
وما زال بعض الناس في العصر الحديث يثبت مثل هذه الآلهة مع الله، وإن كانت هذه الظاهرة ليست منتشرة بصفة عامة إلا لدى بعض الفرق المنتسبة إلى
الإسلام، ولكنها موجودة.
ب - أما من حيث إثبات أسماء الله وصفاته وأفعاله لغير الله من المخلوقات، ومن حيث إثبات أسماء الخلق وصفاتهم وأفعالهم لله:
فباستعراضنا لشرك الأمم السابقة فإننا لم نجد فيهم من أشرك بالله بإثبات أسمائه لغير الله، إلا اليهود والنصارى، فإنهم كما أثبتوا أسماء الله وصفاته وأفعاله للمخلوقين هكذا أثبتوا أسماء المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم لله جل شأنه، ولكن هناك من أثبت بعض الصفات لغير الله، كالشرك في القدرة الكاملة لله، كإثبات القدرة الكاملة لأنفسهم من قوم عاد، وظاهره التطير، والسحر في الأمم الأخرى، فهذه الظواهر قد وجدت في الأمم السابقة، ولكن ليست بصفة عامة.
وبالنسبة لشرك العرب في الجاهلية فإننا نراهم قد أثبتوا بعض أسماء الله لغيره سبحانه، والذي يمثل ذلك إثباتهم اسم الرحمن لمسيلمة الكذاب، وأما في إثبات صفات الله لغيره سبحانه فمن أمثلة وقوع العرب في هذا النوع وقوعهم في الطيرة، والسحر والتنجيم، والاستسقاء بالأنواء، والاستقسام بالأزلام، وأخذ الحكم والتشريع من الكهان والصناديد وغيرها.
وأما إثبات أسماء الخلق وصفاتهم وأفعالهم لله جل شأنه، فقد وقع فيه من الأمم السابقة اليهود والنصارى؛ وذلك بإثبات البعث والنوم والنسيان والفقر وغيرها لله سبحانه من اليهود، وإثبات البنوة والأبوة والموت وغيرها لله تعالى
من النصارى، ومن العرب في الجاهلية من وقع في هذا النوع من الشرك بجعل الأصنام من بنات الله، والقول بأن الملائكة من بناته سبحانه، والقول بوجود المصاهرة بن سروات الجن وبين الرب جل شأنه ـ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيراً ـ.
وأما في هذه الأمة وفي العصر الحاضر ففي إثبات الأسماء والصفات والأفعال المختصة بالله لغيره، إذا نظرنا إلى الشرك بإثبات أسماء الله لغيره فلا نجد له وجودًا، ولكن إذا نظرنا إلى الشرك بإثبات صفات الله جل شأنه فإننا نرى أن هذا النوع من الشرك قد عمت البلاد به وطمت، وقد فاق شرك الأمم، وشرك الجاهلية أيضاً في هذا الجانب، فكم من الناس يثبتون صفات الله المختصة به لغيره سبحانه؛ كإثبات صفة القدرة الكاملة بجميع فروعها، وإثبات صفة العلم المحيط الشامل، وإثبات صفة الحكم والتشريع وغيرها لغيره سبحانه.
وأما في جانب إثبات أسماء المخلوقات وصفاتهم وأفعالهم فقد وقع فيه كثيرون؛ منهم: الفلاسفة بتسميته بالعلة، والباطنية بتسميته بالسابق، والمتصوفة وذلك في تسميتهم سبحانه ـ (هو)، والحداثيون، والقاديانيون.
المقارنة من حيث وقوع الناس في الشرك في العبادة والألوهية قديمًا وحديثاً:
الشرك في العبادة والألوهية موضع اتفاق بين مشركي الأمم السابقة ومشركي العرب في الجاهلية، وبعض من انتسب إلى الإسلام من مشركي هذه الأمة، وفي العصر الحديث، فالأمم السابقة أشركت بالله بعبادة غير الله سبحانه بصرف أنواع من العبادات، وهكذا نرى العرب في الجاهلية كان شركهم في العبادة لغير الله سواء كانت هذه المعبودات من الآلهة الأرضية من بين إنسان أو جن أو شجر أو حجر أو حيوان أو الهوى أو غيرها، أم كانت هذه المعبودات من الآلهة السماوية من الملائكة أو الأجرام السماوية الأخرى، بصرف أنواع من العبادات سواء كانت هذه العبادات من الأقوال القلبية أو كانت من الأعمال القلبية.
وهكذا نرى مشركي هذه الأمة وهذا العصر يشركون بالله جل شأنه بالمعبودات الأرضيةسواء كانت من الأشياء الحسية أو كانت معنوية، بصرف أنواع من العبادات سواء كانت هذه العبادات من الأقوال القلبية أو كانت من الأعمال القلبية.
ونظرًا لما سبق معنا ستكون هذه المقارنة من جهتين اثنتين:
الأولى: منحيث طبيعة المعبودات.
الثانية: من حيث طبيعة العبادات.
أما الأولى فهي:
المقارنة بين الشرك في القديم والحديث من حيث طبيعة المعبودات:
إذا نظرنا إلى طبيعة المعبودات في الأمم السابقة فإننا نرى أنها ما بين: تماثيل وصور وقبور للصالحين أو الأنبياء أو الملائكة أو الأصنام أو الأوثان أو الأشجار أو الأهواء وغيرها، وبين هياكل ومعابد على خيالهم للأجرام السماوية الكبرى من
الشمس والقمر، والنجوم وغيرها. وهذه المعبودات ما بين محسوس وغير محسوس.
وإذا نظرنا إلى طبيعة المعبودات في العرب فإننا: سنجد أمامنا هذه الأشياء هي نفسها من معبوداتهم.
وبالمقابل إذا نظرنا إلى معبودات مشركي زماننا فإننا نرى أن هذه الأشياء كلها موجودة بحذافيرها، بل زيادة عليه نرى هناك من يعبد الشيطان أيضاً. وهناك من يعبد دستوراً، أو راية، أو قائدًا، أو رئيس حزب، أو علمًا من الأعلام، أو فكرة من الأفكار.
ولكن الغالب على مشركي معاصرينا هو عبادة الهوى، وهو أعظم ما يعصى به الرب جل شأنه في العصر الحاضر.
المقارنة بين شرك القديم والحديث من حيث طبيعة المعبودات:
كما سبق إننا إذا نظرنا إلى طبيعة العبادات في الأمم السابقة، نرى أنهم كانوا يصرفون أنواعًا من العبادات سواء كانت من الأقوال القلبية أو كانت من الأعمال القلبية. ولكن صرف هذه العبادات يتميز بميزتين:
1 -
يصرفونها في حالة الرخاء دون الشدائد.
2 -
يصرفونها للأنبياء والأولياء والصالحين، دون الطالحين، بغية التشفع
والتوسط إلى الله.
هكذا نرى في طبيعة عبادات العرب في الجاهلية أن طبيعة العبادات هي سجود وركوع وحج وطواف وذبح ونذر لغير الله، والمحبة والتوكل والطاعة، والدعاء، والخوف، والرجاء، والنية والإرادة والقصد، وغيرها من الأعمال القلبية. وهم يصرفونها لغير الله مع ملاحظة الميزتين السابقتين، وهما:
1 -
يصرفونها لغير الله في حالة الرخاء دون الشدة.
2 -
يصرفونها إلى الصالحين دون الطالحين ـ على زعمهم ـ لكي يشفعوا لهم ويتوسطوا لهم إلى الله، ولا يرجون من معبوداتهم فعل أي شيء استقلالاً.
ولكن لو نظرنا إلى طبيعة العبادات لدى مشركي هذه الأمة ومشركي زماننا فإننا سنرى هذه الأشياء كلها موجودة، بل زيادة عليه نجدهم قد فاقوا المشركين الأولين بخصائص، منها:
1 -
يصرفونها لغير الله حتى في حال الشدة.
2 -
يصرفونها لكل واحد سواء كان من الأنبياء والصالحين أو كان من الفسقة الفجرة الضالين، بل يعتبرون حصول المقصد ـ أي التجربة ـ دليلاً على جواز ذلك.
3 -
يطلبون من غير الله استقلالاً؛ بدعوى وجود القدرة الكاملة لديهم، ووجود العلم المحيط لديهم بكل شيء.
يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:
أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء كما قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ
كَفُورًا). وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ). وقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا) ـ إلى قوله ـ (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ). وقوله: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين ـ الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضراء والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم، تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟ والله المستعان.
الأمر الثاني: أن الأولين يدعون من دون الله أناساً مقربين عند الله إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو يدعون أحجاراً أو أشجاراً مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك. الذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي ـ مثل الخشب والحجر ـ أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به).
الفصل الثاني
مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث توافق الأسباب