الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع أهم شبهات القبوريين وردها
الشبهة الأولى: تغييرهم لبعض الحقائق الشرعية، منها:
أ- عدم التفريق بين التوسل والاستغاثة، وعدم التفريق بين الجائز منها والممنوع:
نتج هذا من سوء فَهم المتصوفة للأحاديث الواردة في التوسل وعدم تفريقهم بين التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين دعائه والاستغاثة به من دون الله، حيث إننا إذا نظرنا في كتب المتصوفة نرى أنهم دائمًا يوردون الأحاديث الواردة في التوسل المشروع ليحتجوا بها على جواز التوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء والاستغاثة، وعلى جواز التوسل بذاته، مع أننا إذا نظرنا في الأحاديث التي تتكلم عن توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نراها لا تخرج عن شيء واحد؛ ألا وهو: التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إن الصحابة كانوا يأتون إلى النبي ويطلبون منه الدعاء فيدعو لهم الرسول، وهنا لا نزاع بيننا وبين المتصوفة في هذا التوسل، ولكن هذا الآن غير ممكن لأن الرسول قد مات.
ثم إن الاستدلال بأحاديث التوسل المشروع على جواز التوسل الممنوع ـ ألا وهو التوسل بذات النبي ـ استدلال بنص ليس نصاً في محل النزاع بل هو خارج عنه، ولذا فلن أناقش المتصوفة في الأحاديث التي وردت في توسلات الصحابة بدعائه في حياته؛ لأن هذا ليس محل النزاع بيننا وبينهم.
واستدلالهم بهذه الأحاديث على جواز التوسل بذات النبي وجاهه ومكانته
عند الله والتوجه إليه بالدعاء والاستغاثة كما يفعل المتصوفة، هذا يعتبر استدلالاً باطلاً؛ لأنه ليس هناك ولو نصاً واحدًا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله يجيز التوجه إلى النبي بالدعاء والاستغاثة، بل العكس كل النصوص تحذر من صرف العبادات لغير الله كائنًا من كان.
وفيما يلي بعض النصوص التي تثبت لنا أن المتصوفة يخلطون بين التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين دعائه والاستغاثة به، وأنهم يرون الكل بمعنى واحد.
فقال قال النبهاني: (وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل والتوجه به صلى الله عليه وسلم، فجدير به من استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه، فإن كلاً من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه للنبي واقع في كل حال قبل خلقه وبعده، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة).
مما تقدم يتضح لنا أن النبهاني لا يرى فرقاً مطلقاً بين التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين التوجه إليه بالدعاء والاستغاثة حيًا وميتًا، ومما يدل على هذا قول النبهاني في مكان آخر من نفس الكتاب وهو يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأوصاف لا تليق إلا بالله، حيث قال:
(فهو الوسيلة إلى نيل المعالي واقتناص المرام، والمفزع يوم الجزع والهلع لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك فيما نزل بك من النوازل، وأمامك فيما تجادل من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد بأقصاه، وتدرك رضا من أحاط بكل شيء علماً وأحصاه).
وقال النبهاني أيضاً: (لقد اتفق العلماء العارفون على جواز التوسل به عليه السلام إلى الله لقضاء الحاجات في حياته وبعد الممات، وقد صار المجريات أن من استغاث به صلى الله عليه وسلم إلى الله بإخلاص وصدق التجاء تقضي حاجته مهما كانت، ولم يحصل التخلف لأحد إلا من ضعف اليقين وحصول التردد وعدم صدق الالتجاء).
ومن المتصوفة الذين خلصوا بين التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه إليه بالدعاء والاستغاثة أحمد زيني دحلان، حيث قال:
(فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلا التبرك بذكر أولياء الله تعالى؛ لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا).
ويقول أيضاً: (ولا فرق في التوسل بين أن يكون بلفظ التوسل أو التشفع أو الاستغاثة أو التوجه؛ لأن التوجه من الجاه وهو علو المنزلة، وقد يتوسل بذي الجاه إلى من هو أعلى منه جاهاً، والاستغاثة معناها: طلب الغوث والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وإن كان أعلى منه، فالتوجه والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره ليس لها معنى في قلوب المسلمين إلا طلب
الغوث حقيقة من الله تعالى ومجازًا بالتسبب العادي من غيره، ولا يقصد أحد من المسلمين غير ذلك المعنى، فالمستغاث به حقيقة هو الله، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو واسطة بينه وبين المستغيث).
المناقشة:
إن التوسل المشروع هو التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبطاعته ومحبته، كذلك التوسل بدعائه في حين حياته، كما كان الصحابة يأتون إليه ويطلبون منه الدعاء.
وأما التوسل الممنوع فهو التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعله كثير من المتصوفة.
وإليك التفصيل في هذا:
أما التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبطاعته ومحبته فهو من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة من الوسائل المشروعة التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد في كل حال باطنًا وظاهرًا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد موته؛ في مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل به بالإيمان به وبطاعته عند أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه إلا بعذر من الأعذار. ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته، وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدرًا
وأعلاهم جاهًا عند الله، وقد قال تعالى عن موسى:(وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً). ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاهًا من جميع الأنيباء والمرسلين لكنَّ شفاعتَه ودعاءَه إنما ينتفع بهما من شفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه كما كان الصحابة يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وسلم.
ولفظ التوسل في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى، والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به: فالكفار والمنافقون لا تغني عنهم شفاعة الشافعين في الآخرة).
ومعلوم أن الاستغاثة شرك بالله في الربوبية بالأنداد في قدرة الله الكاملة إذا كان يعتقد أن الرسول عنده مقدرة على الإغاثة والنفع والضر ـ كما سبق معنا ـ، وشرك الألوهية لازم له في هذا الاعتقاد، وإذا كان مجرد النداء والدعاء للمسألة أو العبادة؛ فهذا شرك في العبادة.
أما التوسل الذي يتشبث به المتصوفة ويستدل به على جواز الاستغاثة بغير الله وطلب النفع والضر من غيره تعالى، فهو توسلهم بالذوات.
وقد احتج المتصوفة لتجويز هذا التوسل بأحاديث كثيرة، يمكن تصنيفها إلى ما يلي:
أ- الأحاديث الصحيحة، ولكنها لا تدل على مقصودهم.
ب- الأحاديث الضعيفة والموضوعة والواهية والآثار الإسرائيلية، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ـ أغلبها في كتابه ((التوسل أنواعه وأحكامه))، وفندها وبين بطلانها واحدة تلو الأخرى، فلا أذكرها هاهنا، وإنما أذكر مما استدلوا به من الأحاديث الصحيحة، وأشهر ما يستدلون به هما الحديثان الآتيان، وهما:
أولاً: حديث الضرير الذي رواه عثمان بن حنيف: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني، قال:((إن شئت أخرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت))، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء:((اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد ني الرحمة، يا محمد، إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في)). قال: ففعل الرجل فبرئ.
وقد استدل المتصوفة كالنبهاني وزيني دحلان والعلوي المالكي بهذا الحديث على جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وبنوا على ذلك أن التوسل به باق ولو بعد موته، ولم يقفوا عند الرسول بل قالوا: يجوزا لتوسل بذوات الأولياء أحياءً وأمواتًا؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه وفعل الأعمى ذلك فعاد بصيرًا.
هذا وجه استدلالهم المتصوفة بهذا الحديث ويا ليتهم وقفوا عند الاستدلال به على جواز التوسل بذات النبي وذلك حتى يهون الشر ـ وإن كان التوسل بالذوات هوا لباب الذي وقع عن طريقه كثير من أفراد الأمة الإسلامية في الإشراك بالله ـ بل تجاوزوا ذلك فأجازوا التوجه إلى الرسول وغيره من الصالحين بالدعاء والاستغاثة وطلب النفع والضر وقضاء الحوائج منهم.
ولو نظرنا إلى هذا الحديث وفهمنا معناه الفهم الصحيح سنرى أنه لا حجة فيه للمتصوفة وغيرهم الذين استدلوا به على جواز التوسل بذات النبي وغيره من الأولياء والصالحين، بل الحديث دليل على التوسل المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو التوسل بدعائه؛ وذلك لأنه لو كان التوسل بذات النبي كاف بدون التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لما جاء ذلك الصحابي الجليل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه الدعاء، بل كان من اللائق به أن يكتفي بتوسله بذات النبي صلى الله عليه وسلم والتوجه إليه بالدعاء والاستغاثة كما يفعل المتصوفة اليوم، ولكن لم كان التوسل المشروع إلى الله هو التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو الله له، وعلى هذا فالحديث دليل عليهم لا لهم كما وهم المتصوفة والقبوريين عامة.
وإليك أقوال العلماء في تحليل ألفاظ هذا الحديث والأحكام التي تستفاد منه:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مرجحًا أن الأعمى توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليرد إليه بصره، ولم يتوسل بذاته كما يزعم الكثيرون من المتصوفة وغيرهم:
(دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين والاستغاثة بهم والشكوى إليهم، فهذا لم يفعله أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم
بإحسان، ولا رخص فيه أحد من أئمة المسلمين.
وحديث الأعمى
…
هو من القسم الثاني من التوسل بالدعاء، فإن الأعمى قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره، فقال له:((إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك)). فقال: (بل ادع)، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويقول:(اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة. يا محمد، يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهم فشفعه في). فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال:(وشفعه في)، فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه.
وهذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره).
ومن العلماء الذين حللوا ألفاظ هذا الحديث تحليلاً دقيقاً الشيخ محمد نسيب الرفاعي، فقد قال رادًا على الذين يستدلون بهذا الحديث على مشروعية التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن قول الأعمى: (ادع الله أن يعافيني) فيه بيان واضح جلي لقصد الأعمى من المجيء؛ وهو أنه ما جاء إلا من أجل أن يدعو له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفاء من ضره، وإن قوله صلى الله عليه وسلم مجيباً الأعمى:((إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير)) لدليل آخر على أن الأعمى ما جاء إلا من أجل الدعاء، وفيه تخيير من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء أو الصبر، حتى إذا شاء الأعمى الدعاء ودعا له، وفي تخييره هذا وعد بالدعاء إن شاءه.
وإن إصرار الأعمى على الدعاء بقوله: (فادعه) لدليل ثالث على أن مجيئه لم يكن إلا من أجل الدعاء، ومن إصراره يفهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له لأنه وعده بذلك إذا شاء الدعاء، وقد شاء بقوله:(فادعه)، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يكون للأعمى كذلك مشاركة في الدعاء ولكنه لم يترك الأعمى أن يدعو ربه بما شاء، بل علمه دعاء خاصًا وأمره أن يدعو الله به بالإضافة إلى دعائه صلى الله عليه وسلم.
وإن قول الأعمى في آخر الدعاء الذي علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فشفعه في) لدليل رابع على الدعاء.
والشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسمى شفاعة ولا تكون إلا بدعاء الشافع للمشفوع له، فدعاء الأعمى أن يقبل الله شفاعة رسوله فيه ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا له فعلاً، والأعمى يطلب من الله قبول دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الشيخ محمد نسيب الرفاعي: (فإذا استجمعنا هذه الأدلة على ثبوت دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للأعمى توحى لنا أمراً هاماً يدور عليه مآل الحديث ويكشف معناه بشكل واضح؛ وهو أن معنى (اللهم إني أسألك بنبيك) أي بدعاء نبيك. ولا يفهم منه التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم وما كان هذا مراد الأعمى من مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى. وإن معنى التوسل المتبادر إلى أذهان الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت كان محصورًا فيها في طلب الدعاء من المتوسل به، وليس له المعنى المتعارف عليه عند البعض في زمننا الحاضر أي التوسل بذات المتوسل به، فقد كان مثل هذا التوسل بنفر منه الصحابة؛ لأنه من مفاهيم الجاهلية التي من أجل وجودها بعث الله رسوله إلى الناس كافة).
ويقول الشيخ ناصر الدين الألباني بعد أن رد على الذين يحتجون بهذا
الحديث على جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الصالحين.
(إذا تبين للقارئ الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذوات، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: (اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم إنما المراد به: (أتوسل إليك بدعاء نبيك)؛ أي حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى:(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) أي أهل القرية وأصحاب العير، ونحن ومخالفونا متفقون على ذلك؛ أي على تقدير مضاف محذوف
…
).
ثم قال الشيخ الألباني: (وثمة أمر آخر جدير بالذكر؛ وهو أنه لما حمل حديث الضرير على ظاهره وهو التوسل بالذات لكان معطلاً لقوله فيما بعد: (اللهم فشفعه في وشفعني فيه). وهذا لا يجوز كما لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات المحمدية والحمد لله).
والخلاصة: أن حديث الضرير ليس فيه أي دليل للذين يقولون بجواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم حيًا وميتًا، وإنما هو دليل عليهم؛ لأنه لا يدل إلا على جواز التوسل بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل كثير من الصحابة في حياته، حيث كانوا يأتون إلى النبي ويطلبون منه الدعاء، ومن جملة الصحابة هذا الصحابي الجليل الذي عمي بصره فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو الله له فدعا له، فبرئ، وعلى هذا فلا حجة للمتصوفة في هذا الحديث.
وبالإضافة إلى ذلك فإن المتصوفة يستدلون بهذا الحديث على جواز
التوجه بالدعاء والاستغاثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأولياء كما اتضح لنا ذلك في الأناشيد الشعرية التي قالها المتصوفة، والتي من أولها إلى آخرها شرك صريح بالله عز وجل وتأليه للرسول صلى الله عليه وسلم.
ولو نظرنا إلى حديث الأعمى فإننا لا نجد فيه لفظًا واحدًا من قريب أو بعيد فيه إشارة إلى جواز التوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأساً بالدعاء والاستغاثة كما رأينا في الأبيات السابقة التي توجه فيها المتصوفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإنني أقول: إن حديث الأعمى في الحقيقة ليس نصاً في محل النزاع، وإنما هو شيء خارج عنه، فإن نزاعنا مع المتصوفة الذين يدعون الأنيباء ليس في التوسل فحسب بنوعيه المشروع والممنوع، وإنما نزاعنا معهم هو في التوجه بالدعاء والاستغاثة إلى الرسول والأولياء الذي يفعلونه يوميًا ويسمونه توسلاً بالأنبياء والأولياء، مع أنه ليس كذلك بل هو دعاء واستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء.
وتسمية المتصوفة له بالتوسل لا يخرجه عن حقيقته وهو كونه دعاء واستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وليس توسلاً به ولا بالأنبياء والأولياء، وهو يعتبر من باب تسمية الشيء بغير اسمه، وتسمية الشيء بغير اسمه لا يغير من حقيقة الشيء، فكون الخمر إذا سماه أحد من الناس عسلاً لا يغير ذلك من حقيقة الخمر بل هو باق على حقيقة الخمرية، وكون المتصوفة يسمون دعاء الرسول والاستغاثة به وكذلك الأولياء بأنه توسل بهم لا يغير ذلك من الحقيقة شيئًا بل هو باق على حقيقته وهو كون هذا الذي يفعله المتصوفة مع الرسول والأولياء دعاء واستغاثة بهم من دون الله، وهو عين الشرك بالله تعالى.
ثانياً: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون)).
ولقد فهم المتصوفة وغيرهم من القائلين بجواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين إلى الله من هذا الأثر بأن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه ومكانته عند الله سبحانه وتعالى، وأن توسله كان مجرد ذكر العباس في دعائه وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله. وأما سبب عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بزعمهم وتوسلاً بدلاً منه بالعباس رضي الله عنه فإنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير.
المناقشة: إن فهم المتصوفة هذا فهم خاطئ، وتفسيرهم للحديث بهذا التفسير السابق مردود عليهم من وجوه كثيرة:
فإن من القواعد المهمة في الشرعية الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضًا ولا يفهم شيء منها في موضع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه؛ وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل، والجميع متفقون على أن في كلام عمر:(كنا نتوسل إليك بنبينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) شيئًا محذوفًا لابد له
من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون كنا نتوسل بجاه نبينا، وإنا نتوسل بجاه عم نبينا على رأي المخالفين، أو أن يكون؛ كنا نتوسل إليك بدعاء نبينا وإنّا نتوسل إليك بدعاء عم نبينا على رأينا نحن، ولابد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء.
وإذا أردنا أن نعرف أي التقديرين أصح لابد من الرجوع إلى السنة لتبين لنا طريق توسل الصحابة الكرام بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا نظرنا إلى الصحابة الكرام هل كانوا إذا أجدبت بلادهم يبقى كل واحد منهم في بلده، أو كانوا يجتمعون في بلد، أو كانوا يجتمعون دون أن يكون معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحياة؛ فيدعون متوسلين بجاه محمد وذاته قائلين: اللهم بنبيك محمد وحرمته عندك ومكانته لديك اسقنا الغيث مثلاً، أم كانوا يأتون النبي ذاته فعلاً ويطلبون منه الدعاء فيحقق صلى الله عليه وسلم طلبهم ويدعو لهم ويسقون؟ .
أما الأمر الأول: وهو التوسل بذات الرسول وحرمته عند الله ومكانته دون الإتيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الدعاء منه فلا وجود له في السنة النبوية الصحيحة ألبتة، ولا عمله الصحابة الكرام. وما ورد في ذلك من آثار فهي كلها موضوعة وضعها المغرضون لإيقاع الناس في الشرك في الدعاء.
وأما الأمر الثاني: وهو التوسل إلى الله بطلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد كثير منه في السنة النبوية وقد كان الصحابة الكرام يفعلونه، حيث أتى كثير من الصحابة يطلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أجدبت بلادهم. وإليك حديثًا واحدًا يدل على أن الصحابة الكرام كانوا يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا بذاته وجاهه وحرمته ومكانته عند الله.
فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بينما
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، قحط المطر فادع الله أن يسقينا، فدعا فمطرنا فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة. قال: فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يصرفه عنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اللهم حوالينا ولا علينا))، قال: فلقد رأيت السحاب يتقطع يمينًا وشمالاً يمطرون ولا يمطر أهل المدينة)).
ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا يتوسلون إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يأتون إليه يطلبون منه الدعاء، ولو كانوا يتوسلون بذاته ومكانته عند الله لما احتاجوا إلى الإتيان إلى المدينة وطلب الدعاء منه، بل لكانوا يتوسلون إلى الله وهم في أهليهم فيقولون:(اللهم بنبيك محمد ومكانته وجاهه وحرمته عندك اسقنا الغيث) فيسقون. ولكن هذا لم يفعله الصحابة الكرام لأنهم يعلمون أنه توسل غير مشروع. ولذا: نقول إن المحذوف في توسل عمر بالعباس هو (أنّا كنا نتوسل إليك بدعاء نبينا فتسقينا وأنّا نتوسل إليك بدعاء عم نبينا فاسقنا). وعلى هذا فتقدير المجيزين للتوسل الممنوع وهو قولهم: إن المحذوف في توسل عمر بالعباس هو كلمة الجاه في الموضعين غير صحيح؛ لأنه ليس لهم دليل يستندون إليه.
وإلى جانب ذلك هناك قرائن كثيرة تدل على أن التوسل من عمر رضي الله عنه كان بدعاء العباس لا بذاته ولا بجاهه ولا بمكانته، وهذه القرائن هي:
1 -
عدول عمر عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أشرف خلق الله وأن التوسل به أولى من التوسل بغيره؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات ولا يمكن طلب الدعاء منه بعد موته؛ ولذلك عدل عمر عن التوسل به إلى التوسل بالعباس بن عبد المطلب، لأنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه الدعاء، ولو كان عمر توجه بجاه العباس إلى الله
لتوسل بجاه النبي لأنه أكبر جاهاً عند الله من العباس بن عبد المطلب.
ولكن لما كان التوسل المشروع هو التوسل بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يمكن طلب الدعاء منه بعد موته فتوسل بدعاء العباس ابن عبد المطلب لطلب السقيا، وعلى هذا نقول: إن استدلال المجيزين للتوسل بذات الشخص وجاهه ومكانته عند الله بهذا الحديث استدلال باطل؛ لأن الحديث ليس دليلاً بل عليهم، ولكن أوقعهم في الاستدلال به سوء مقصدهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رادًا على الذين يقولون بجواز التوسل بذات النبي وذات غيره من الأولياء ومؤكدًا بأن هذا لم يفعله الصحابة ولا التابعون بل هو من البدع المحدثة التي ابتدعها أهل الأهواء:
(فأما التوسل بذاته في حضوه أو مغيبه أو بعد موته ـ مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء، أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم ـ فليس هذا مشهورًا عند الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا واستشفوا بمن كان حيًا كالعباس ويزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره ولا غير قبره بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، بل كانوا يصلون عليه في دعائهم، وقد قال عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا).
فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره ويتوسلوا هناك ويقولوا في دعائهم بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به فيقولون: نسأله أو عليك بنبيك ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس
…
).
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته أو التوسل بدعائه وشفاعته، فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن هذا وهذا، فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئًا من ذلك ولا دعوا بمثل هذه الأدعية ـ وهم أعلم منا وأعلم بما يحب الله ورسوله وأعلم بما أمر الله به ورسوله من الأدعية وما هو أقرب إلى الإجابة منا بل توسلوا بالعباس وغيره ممن ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكناً).
ويقول الشيخ محمود شكري الآلوسي رادًا على المتصوفة الذين يستدلون بتوسل عمر بالعباس على جواز التوسل بالذوات مبينًا أن هذا الحديث دليل على عدم جواز التوسل بالذوات، وأن التوسل المشروع هو التوسل بطلب الدعاء من الرجل الصالح إن وجد، قال: (بل هو أقوى الأدلة وأرجحها وأعلاها وأوثقها وأصحها وأصدقها لما ندعيه، فإن قول عمر: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا
…
إلخ) يدل دلالة ظاهرة على انقطاع ذلك الذي هو الدعاء، بدليل قوله:(إنا كنا)، ولما كان العباس حيًا فطلبوه منه فلما مات فات، فقصرهم له على الموجودين ولو كانوا مفضولين دليل ساطع وبرهان لامع على هذا
المراد. ولو كان المقصود الذوات كما يقولون لبقيت هذه التوسلات على حالها لم تتغير ولم تتبدل إلى المفضولين بعد وجود الفاضلين سيما الأنبياء والمرسلين. فتأمل في هذا فإنه أحسن ما في الأوراق، حقيق بأن يضرب عليه رواق الاتفاق، والله يهديك السبيل، فهو نعم المولى ونعم الوكيل).
وقال الشيخ نعمان خير الدين الشهير بابن الآلوسي البغدادي مبينًا أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنه دليل على جواز التوسل بدعاء الرجل الصالح وعلى منع التوسل بالذوات:
(وأما ما ذكروه من الاستدلال بتوسل عمر بن الخطاب بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما فالمراد بذلك أن يدعو لهم. يدل عليه ثبوت دعائه لهم بطلب السقيا كما جاءت به بقية الروايات، ومثله استسقاء معاوية في الشام بيزيد بن الأسود فإنه قال: يا يزيد، ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الناس حتى سقوا، وهذا المعنى هو الذي عناه الفقهاء في باب الاستسقاء ومرادهم التوجه إلى الله تعالى بدعاء الصالحين؛ فإن دعاءهم أرجى الإجابة.
ولو كان التوسل بالذوات هو المطلوب، والمدلول الذي أقاموا عليه الدليل ـ وهم بمقتضى دليلهم لا يخصون الأحياء بهذا التوسل، ويستحبون التوسل بالذوات الشريفة ولو بندائهم ودعائهم وأنه على معنى أن الشفعاء يدعون لهم وقالوا: لا مانع من ذلك عقلاً وشرعًا فإنهم أحياء في قبورهم ـ لكان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر المهم وهم عنده بالمدينة أولى). ثم
أورد توسل عمر بالعباس وقال: (بل هذا الدليل الذي تمسكوا به من أقوى الأدلة وأرجحها وأظهرها على ما ندعيه من عدم الجواز، فهو عليهم لا لهم عند من له أدنى فهم وإنصاف).
والخلاصة: أن توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه دليل قاطع على أن التوسل المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى هو التوسل بمحبته وطاعته والإيمان به؛ لأن هذه الأمور من الأعمال الصالحة والأعمال الصالحة من أهم الأشياء التي يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، ولأنه هو التوسل الباقي بعد موت الرسول؛ حيث إن الصحابة كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ويطلبون منه الدعاء فكان يدعو لهم، ولكن لما علم الصحابة رضوان الله عليهم أن التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم غير ممكن بعد موته توسلوا إلى الله بدعاء العباس بن عبد المطلب حيث طلب منه عمر أن يدعو فدعا.
ولم يكن التوسل بالعباس بن عبد المطلب بجاهه كما يزعم المخالفون من المتصوفة وغيرهم، وإنما كان التوسل بدعائه، ولو كان التوسل بالذوات والجاه جائزًا لما عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وذاته ومكانته عند الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتفوق على الجميع في هذا، ولكن لما كان التوسل بذاته وجاهه ومكانته غير جائز عدل عن التوسل به إلى التوسل بالعباس بن عبد المطلب.
وبهذا نخلص إلى أن الأحاديث الصحيحة التي استدل بها المتصوفة على جواز التوجه إلى الرسول بالدعاء والاستغاثة وبالأنبياء والصالحين ليس لهم أي دليل فيها، بل هي ضدهم، ومشايخ الصوفية لم يقعوا في هذا لعدم فهمهم
لها، وإنما يستدلون بها لسوء مقصدهم، وفساد معتقدهم من أجل أن يبرروا للناس العوام الأعمال الشركية، وقد فعلوها، فما من بلد إسلامي في هذا العالم الإسلامي ـ إلاّ ما شاء الله ـ إلاّ ويمارس الشرك باسم التوسل رغم أن التوسل بالشخص ودعاءه والاستغاثة به بينهما فرق كبير جدًا، ومع هذا فالصوفية يخلطون بينهما عن عمد ويسمون دعاء الرسول والاستغاثة به وكذلك الأولياء بأنه توسل، وهذا جهل عظيم، وخطأ فادح وقع فيه المتصوفة عن عمد أو خطأ، وعن علم أو جهل، الله أعلم بحالهم.
وللشيخ محمود شكري الآلوسي كلام نفيس في هذا المجال، وهذا نصه:
فقد قال رحمه الله في كتابه غاية الأماني في الرد على النبهاني في معرض رده على النبهاني: (أقول وبالله التوفيق: إن الكلام على ما حواه كلامه من الكذب والزور والبطلان يطول جدًا، فضلاً عما اشتملت عليه عباراته من الغلط وفساد التركيب وسوء التعبير؛ فكلامه كله ظلمات بعضها فوق بعض، فلو تكلمنا على ذلك كله لطال الكلام وكلت عن رقمه الأقلام، فإن النبهاني هذا من أعظم الغلاة المحادين لله ورسوله وكلامه كله باطل وجهل مركب وبهت لأهل الحق، وليس فيه جملة واحدة توافق الحق أصلاً، فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه وجعلهم عبرة لأوليائه وعباده المؤمنين).
ثم دخل الشيخ في التفريق بين دعاء الشخص والاستغاثة به من دون الله وبين التوسل به إلى الله، فقال:
(أما مشروعية الاستغاثة ففيها تفصيل؛ إذ الاستغاثة بالشيء على ما ذكره بعض المحققين: طلب الإغاثة والغوث منه، كما أن الاستغاثة طلب الإعانة منه فإذا كان بنداء المستغيث للمستغاث كان ذلك سؤالاً منه، وظاهر أن ذلك
ليس توسلاً به إلى غيره إذ قد جرت العادة أن من توسل بأحد غيره أن يقول لمستغاثة: أستغيثك على هذا الأمر بفلان. فيوجه السؤال إليه ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المستغاث به ويقول له: أرجو منك أو أريد منك وأستغيث بك. ويقول: إنه وسيلتي إلى ربي.
وإن كان كما يقول فما قدر المتوسل إليه حق قدره وقد رجا وتوكل والتجأ إلى غيره، كيف واستعمال العرب يأبى عنه؛ فإن من يقول: صار لي ضيق فاستغثت بصاحب القبر فحصل الفرج، يدل دلالة جلية على أنه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنه توسل به، بل إنما يراد هذا المعنى إذا قال: توسلت أو استغثت إليك بفلان. فيكون حينئذٍ مدخول الباء متوسلاً به، ولا يصح إرادة هذا المعنى إذا قلت: استغثت بفلان، وتريد المتوسل به، سيما إذا كنت داعية وسائله.
بل قولك هذا نص على أن مدخول الباب مستغاث وليس مستغاثًا به، والقرائن التي تكتنفه من الدعاء وقصر الرجاء والالتجاء شهود عدل، ولا محيد عما شهدت به ولا عدول، فهذه الاستغاثة وتوجه القلب إلى المسئول بالسؤال والإبانة محظورة على المسلمين، لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين.
وهل سمعتم أن أحدًا في زمانه صلى الله عليه وسلم أو ممن بعده في القرون المشهود لأهلها بالنجاة والصدق ـ وهم أعلم منا بهذه المطالب وأحرص على نيل مثل تلك الرغائب ـ استغاث بمن يزيل كربته التي لا يقدر على إزالتها إلا الله، أم كانوا يقصرون الاستغاثة على مالك الأمور ولم يعبدوا إلا إياه، ولقد جرت عليهم أمور وشدائد مدلهمة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، فهل سمعت عن أحد منهم أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم أو قالوا: إنا مستغيثون بك يا رسول الله؟ أم بلغك أنهم لاذوا بقبره الشريف وهو
سيد القبور حين ضاقت منهم الصدور؟ كلا، لا يمكن لهم ذلك، وأن الذي كان بعكس ما هنالك، فلقد أثنى الله عليهم ورضي عنهم فقال عز من قائل:(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)؛ مبيناً لنا أن هذه الاستغاثة أخص الدعاء وأجلى أحوال النجاة وهي من لوازم السائل المضطر الذي يضطر إلى طلب الغوث من غيره، فيخص نداءه لدى استغاثته بمزيد الإحسان في سره وجهره، ففي استغاثته بغيره تعالى عند كربته تعطيل لتوحيد معاملته).
ثم قال: (فلا يقال لأحد حي أو ميت قريب أو بعيد: ارزقني، أو أمتني، أو أحي ميتي أو اشف مريضي. إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد الفرد الصمد).
ثم قال: (والقرآن ناطق بخطر الدعاء عن كل أحد لا من الأحياء ولا من الأموات سواء أكانوا أنيباء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بفظ الاستغاثة أو بغيرها؛ فإن الأمور الغير مقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر ومنشئ البشر، كيف والدعاء عبادة، وهي مختصة به سبحانه).
والمقصود: بيان كون هذه الشبهة التي تعلقوا بها في الشرك بالله عز وجل في قدرته الكاملة من إثبات التصرف في الكون لغير الله عز وجل وإثبات جواز نداء غير الله والاستغاثة بغيره سبحانه من الشبه الواهية، وليس لهم أي مستند من الشرع، وليس هذا من باب التوسل الذي يذكرونه، فإنه شتان بين التوسل وبين الاستغاثة والاستنجاد وطلب النفع والضر ودفع الكربة من الله، ثم ليس كل ما يرون من التوسل جائزًا، بل التوسل الجائز يمنع وقوع مثل هذه الأنواع
من الشركيات بغير الله، فاستدلال المتصوفة بشبهة التوسل على جواز هذه الأمور استدلال في غير محله.
ب- عدم التفريق بين الربوبية والألوهية في المعنى، وفي الحكم، والقول بترادفهما:
وذلك، أنهم لما قالوا بترادفهما نتج عن ذلك اعتبار كل من اعتقد بالله ربًا: مسلماً، عبد بعد هذا من دونه ما شاء، لا يخرجه عن الإسلام.
مع وضوح الدلائل والبينات في ما سبق معنا على أن الرب والإله كلمتان متغايرتان في مفهوميهما في لغة العرب وفي لغة القرآن وفي مفهوم سلف هذه الأمة، فإن هناك من المتأخرين من يتشبث ببعض الشبه على قولهم بترادف الإله والرب، حتى قالوا: من أيقن بالله ربًا فقد جاء بالتوحيد المطلوب، ولهم شبهات كثيرة معظمها ناتجة عن سوء الفهم للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، لبعدهم عن الفهم الصحيح لهذه النصوص. فمن الشبه التي يتمسكون بها ما يلي:
الشبهة الأولى: قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا).
وجه الاستدلال: ـ كما يقولون ـ هذه الآية فيها دلالة على أن الإله هو الرب؛ فإن الله تعالى علم المؤمنين ورد على الكافرين المشركين، والمعنى لو كان في السموات والأرض أرباب غير الله لفسدتا؛ لأن كل رب يريد ما لا يريد الآخر؛ فيلزم فساد هذا النظام الموجود؛ فلما لم تفسدا دل على أن الرب لهذا الوجود واحد في ربوبيته.
ويجاب عن هذه الشبهة: بأن الإله في هذه الآية ليس المراد منه هو الرب الخالق الصانع؛ لأن هذه الآية سيقت للرد على المشركين الذين لم يعتقدوا صانعين أو أكثر للعالم؛ بل اتخذوا آلهة يعبدونها من دون الله؛ ولم يعتقدوا فيها أنها خالقة؛ أرباب، صانعة، بل اعتقدوا فيها أنها عباد مقربون عند الله ويشفعون لهم عند الله، إذن حمل الآية على برهان التمانع (التفسير المذكور) صار باطلاً أيضاً، فإنه سبحانه أخبر: أنه لو كان فيهما آلهة غيره؛ ولم يقل: (أرباب).
وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا، وأيضاً فإنه قال:(لفسدتا)، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم توجدا. فالمراد من الفساد ليس التخريب والهدم الظاهر؛ لأنه لو كان الأمر هكذا لقال الله تعالى: (لم تخلقا) ولم يقل: (لفسدتا) لأن برهان التمانع يقتضي ألاّ توجد السموات والأرض إن فرض وجود صانعين فأكثر لا أن تفسدا بعد خلقهما، وإنما المراد من الفساد في الآية: الفساد بمعنى الظلم والعدوان؛ لأن التوحيد أعدل العدل، والشرك أظلم الظلم.
وأما المراد من الفساد المنفي في هذه الآية فهو الفساد الناشئ عن عبادة غير الله تعالى وفساد نظام صلاح الحق، قال شيخ الإسلام: (فالمقصود هنا: أن في هذه الآية بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشئ من عبادة ما سوى الله تعالى؛ لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته
…
فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة).
الشبهة الثانية: تشبثهم بقوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
قالوا: (لم يقل: ألست بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم: أن من أقر لله بالربوبية فقد أقر الله بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله، بل هو بعينه).
الشبهة الثالثة: تشبثهم بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
قالوا: (لم يقل: (إلهنا)، فهذا يدل على أن توحيد الربوبية كافٍ في النجاة والفوز، لاسلتزامه توحيد الألوهية، فهذا دليل على أن القول بأحد التوحيدين قول بالآخر).
الشبهة الرابعة: استدلالهم بحديث سؤال الملكين في القبر: بـ (من ربك؟ ).
قالوا: (لم يقولا له: (من إلهك)، فدل على أن توحيد الألوهية هو توحيد الربوبية).
الشبهة الخامسة: استدلالهم بحديث: ((قل ربي الله ثم استقم)).
وجه الاستدلال ـ كما سبق ـ حيث لم يقل: قل: (إلهي الله).
ويجاب عن هذه الشبهات الأربعة الأخيرة:
بأنه لا شك في أننا مأمورون باعتقاد أن الله ربنا وحده، ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبودنا، ليس لنا معبود غيره، ولا نعبد إلا إياه. فإذا اتفقنا عليه نستطيع أن نقول: بأن الرب هو الله عز وجل وليس لنا رب سواه، وإذا قلنا: إنه هو الرب لنا يجب علينا أن نؤلهه أي نعبده، فإن الرب هو الذي يرب الناس ـ كما سبق ـ والذي يرب هو الذي يعبد. فقولهم:(ليس الرب غير الإله) لا يخلو من إحدى ثلاث حالات:
الأولى: أن الإله هو الرب نفسه في واقع الأمر. فهذه القضية صحيحة لا شك فيها.
الثانية: أن الإله هو الرب نفسه في اعتقاد الموحدين المؤمنين ـ كما عليه في نفس الأمر ـ فهذا أيضاً صحيح.
الثالثة: أن الإله هو الرب نفسه في اعتقاد المشركين، فهذا هو محل النزاع، فإن الإله الحق في نفس الأمر واعتقاد الموحدين هو الرب نفسه، إلا أن المشركين كانوا يتخذون غير الله آلهة مع اعترافهم بأن الله هو رب الخالق المدبر، فلا يصح قولهم ـ الذي سبق ـ إرا أرادوا هذا المعنى.
أما استدلالهم بالآية القرآنية والأحاديث النبوية على أن الرب هو الإله
بعينه، فأقول: إن هذا الاستدلال فاسد من وجوه:
الأول: غاية ما تفيد هذه الآيات والأحاديث أنه عند إفراد الربوبية يدخل فيها توحيد الألوهية، ولا تفيد حصر التوحيد في الربوبية فقط، فإن هناك أدلة صريحة تدل على توحيد الألوهية أيضاً.
الثاني: أنها تحتمل أن تكون كنظائرها التي فيها تقرير المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية وليفردوه بالعبادة، فإن الإقرار بتوحيد الربوبية ـ مع ملاحظة قضية بديهية وهي أن غير الرب لا يستحق العبادة ـ يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم، وفهم مستقيم، فيكون الإقرار المذكور حجة عليهم، كما احتج الله تعالى على المشركين بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار
…
على وحدانية الألوهية.
فقال: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ).
وقال: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
الثالث: أن يكون المراد بالرب فيها ـ المعبود ـ كما في قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ). ومن المعلوم:
أن أهل الكتابين ما كانوا يقولون: إن أحبارهم ورهبانهم يخلقون ويرزقون ونحو ذلك، وإنما كان شركهم في طاعتهم المطلقة، وذلك شرك في التشريع والرب يأتي بمعنى المعبود، كما قاله القرطبي.
الوجه الرابع: خاص بقوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ).
إن في الآية اختصاراً، والمقصود: ألست بربكم وإلهكم، يدل عليه أثر ابن عباس رضي الله عنهما:((إن الله لما مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منه الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وتكفل لهم بالأرزاق)) الحديث.
وفي أثر أبي بن كعب رضي الله عنه: ((اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئًا، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا: نسهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يومئذ بالطاعة)).
الوجه الخامس: إن الرب والإله يجتمعان ويفترقان؛ كما في قوله تعالى:
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ). وكما يقال: رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك؟
ومثاله: الفقير والمسكين نوعان في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ). ونوع واحد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) وهذا أيضاً مثل مسألة الإسلام والإيمان، وإذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر:(من ربك) معناه: من إلهك، لأن الربوبية أقر بها المشركون، ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله:(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ). وقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا). فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران، فينبغي التفطن لهذه المسألة. لأن كثيرًا من الكلمات مع اختلاف معانيها قد تأتي إحداها بمعنى الأخرى في بعض السياق، ومع ذلك لا يدل على أنهما شيء واحد؛ لأن الاتحاد في الصدق لا يستلزم الاتحاد في المفهوم فضلاً عن التساوي؛ كما صرح به العلماء.
الشبهة السادسة: استدلالهم بقوله تعالى: (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً). قالوا: إنه يدل على اتحاد الرب والإله. فإن المشركين لم يأخذوهم ربًا ـ كما تدعون ـ.
يجاب عن هذه الشبهة:
بأنه ليس في شيء من هذه الآية أن مشركًا قال في حق غير الله: إنه رب، أي إنه خالق مدبر الكون ونحوه
…
، وإنما في بعضها: اتخاذ الأرباب، وهذا ليس نصاً على أنهم مقرون بربوبيتهم وخالقيتهم ونحوها، بل يحتمل أن يكون اتخاذهم الأرباب بمعنى:
1 -
صرف شيء من العبادة إليهم.
2 -
بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام.
3 -
كما ذكره أحد العلماء ـ إن بعض البشر اتخذوا أربابًا من دون الله، ومن اتخذ ربًا سماه ربًا إن كانت هذه التسمية لغة قومه، وقريش ما كانت تتخذ آلهتها أرباباً، والنصارى يسمون المسيح ربهم، ولا يطلقون اسم الرب على من عبدوهم من دونه وإن اتخذوهم أرباباً وآلهة.
حاصل الجواب: أنه ليس المراد من لفظة (الرب) في مثل هذا السياق (الخالق
الرازق مدبر الكون) حتى يلزم ما زعمه هؤلاء، بل المراد من الرب في مثل هذا السياق هو المعبود، فإنه قد يأتي بهذا المعنى ـ كما سبق ـ فلفظة (الرب) في هذه الآية بمعنى المعبود، ويدل عليه أيضاً ما ذكره المفسرون في بيان سبب نزول الآية: أن بعض اليهود والنصارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معاذ الله أن نعبد غيره، أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني))، فأنزل الله هذه الآية.
الشبهة السابعة: أن المشركين من العرب ما كانوا يعترفون بالربوبية لله جل شأنه، بل كانوا مشركين بالله بعدم إيمانهم بالله رباً، والدليل عليه: قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). والمعنى: لو كانوا صادقين بأن عبادتهم لأصنامهم تقربهم إلى الله زلفى ما اجترءوا أن يسبوه انتقاماً ممن يسبون آلهتهم، فإن ذلك واضح جدًا في أن الله تعالى في نفوسهم أقل من تلك الحجارة.
يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
أولاً: أن سبهم الذي يخشى أن يقع عند سب آلهتهم هو مقابلتهم لمن سب معبودهم بمثل سبه يريدون محض المجاراة فيتجاوزون الحد فيها، كما يقع كثيرًا من المختلفين في الدين والمذهب. وهذا كله من حب الذات والجهل
الحامل على المعاقبة على الجريمة بارتكابها عينها، يهين والده المعظم عنده.
الثاني: ليس المراد أنهم يسبونه صريحاً، ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به، ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما لا يليق بالله تعالى.
الثالث: أن معنى سبهم لله تعالى: عيبهم لأمر المسلمين فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى؛ لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم وإن أشركوا به.
الرابع: أنهم ربما كان في جهالهم من كان يعتقد بأن إله محمد شيطان يحمله على ادعاء الرسالة، وليس خالق السموات والأرض، فكان يشتم إله محمد على هذا التأويل.
الخامس: أن هؤلاء يعلمون أن الله أجل وأعظم من أصنامهم، ولكن تهوى أنفسهم هذه الأصنام أكثر وتحبها حبًا أفضل من حب الله تعالى في أشياء مخصوصة باعتبارات مخصوصة، وليس تفضيلاً مطلقاً.
السادس: معنى السب لله تعالى هو تماديهم في الشرك به، فالشرك مسبة لله، وأي مسبة أعظم من عبادة غيره معه أو ادعاء الولد والصاحبة له؟ .
وهناك وجوه أخرى في توجيه هذه الآية، منها: أن المراد بسب الله: سب رسوله، أو أن الآية في القائلين بالدهر، ونفاة الصانع، وهذه الوجوه ضعيفة لا تناسب سياق الآية.
الشبهة الثامنة: تشبثهم بقوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
وجه الاستدلال: لو كان الله هو الرب المعترف به لديهم لما كان حرمته أقل في نفوسهم من الحجارة والأوثان.
يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن الآية ـ بحمد الله ـ تدل على عكس فهم هذا الزاعم، وذلك أن معناها كما ذكره ابن عباس ومجاهد: أنهم يسمون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءًا، فما ذهبت به الريح أو سقط من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه وقالوا: الله غني عن هذا، وأما ما ذهب من جزء الله إلى جزء أوثانهم لم يردوه وقالوا: إنها فقيرة ومحتاجة.
وقال السدي: (إذا هلك الذي يصنعون لشركائهم وأوثانهم وكثر الذي لله قالوا: ليس بد لآلهتنا من نفقة، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لآلهتهم قالوا: لو شاء أزكى الذي له، فلا يردون عليه شيئًا مما للآلهة).
فهذان التفسيران يدلان على أن الله تعالى أعظم في نفوسهم من آلهتهم، لوصفهم الله تعالى بالغني على التفسير الأول، وبالمشيئة المطلقة على الثاني، ولوصفهم أوثانهم بالفقر والحاجة، وعدم المشيئة.
الشبهة التاسعة: إن قول أبي سفيان يوم أحد (اعل هبل) أن يعلو في تلك الشدة يدل صراحة على أنهم كانوا يعبدون الله كعبادة الأصنام الأخرى وليس لكونه رباً حتى باعترافهم.
يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن معنى (اعل هبل): ظهر دينك، أو أظهر دينك، وعلى هذا فهو يخبر بظهور دين هبل على دين المسلمين وليس على خالق السموات والأرض، أو يدعوه بأن يظهر دينه على دين المسلمين.
ولو سلمنا أن معناه: أن هبل أعلى من إله المسلمين فهو على قصد أن إله المسلمين غير خالق السموات والأرض، فإن المشركين لا يعترفون بأن الله هو الذي أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، بل يقولون: إنه ساحر، وكاذ وشاعر إلى آخر ذلك. ويدل عليه قصة الحديبية صراحة.
وإذا كان هناك احتجاج بكلام الكفار في الحرب فيقال لهذا القائل: ماذا تقول في كلام أبي جهل يوم بدر: (اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه
الغداة فكان ذلك استفتاحًا منه فنزلت: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ).
والمقصود: أن القول بترادف الرب والإله غير صحيح، وبالتالي لا يقال: إن من أقر الله رباً، يكون مسلماً خالصاً فليدع ما شاء من دون الله، لا يخرج ذلك عن إسلامه ـ كما يقول به بعض المتصوفة وبعض الأشاعرة والماتريدية ـ.
الشبهة الثانية: ومن الشبه التي يستدل بها المتصوفة على جواز دعاء غير الله في الشدائد والاستغاثة به هو زعمهم بأنهم يدعون الأنبياء والصالحين ليتوسطوا لهم إلى الله:
ولها صورتان عند المتصوفة قديمًا وحديثًا.
الأولى: صورة فلسفية منطقية كلامية.
والثانية: صورة أمية عامية عادية.
أما الصورة الأولى فتقريرها: أن النفوس التي فارقت أبدانها أقوى من النفوس المتعلقة بالأبدان من بعض الوجوه؛ لأنها لما فارقت أبدانها زال عنها الغطاء والوطاء، وانكشف لها عالم الغيب، فالإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس كامل الجوهر شديد التأثير، ووقف عند قبره ساعة، وتأثرت نفسه من تلك التربة، حصل لنفس هذا الزائر تعلق بتلك التربة، وقد عرفت أن لنفس ذلك الميت تعلقاً بتلك التربة أيضاً، فحينئذ يحصل لنفس الحس ولنفس الميت ملاقاة بسبب اجتماعهما على تلك التربة، فصارت هاتان النفسان شبهتين
بمرآتين صقيلتين وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى.
وبهذا السبب ينعكس النور من نفس الميت المزور إلى نفس هذا الحي الزائر، وبهذا الطريق تصير تلك الزيارة سببًا لحصول المنفعة الكبرى، فهذا هو السبب الأصلي في شرعية الزيارة، ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات. فهذه فلسفة المتفلسفة منهم.
وبطلان هذا القول أظهر من الشمس في رابعة النهار، فلا يشتغل بالرد عليه.
وأما الصورة الثانية: فتقريرها عند العامة على جواز الاستعاثة بالأموات عند الكربات بل على وجوبها ـ عندهم ـ أن الأنبياء عليهم السلام والأولياء ـ كما يزعمون ـ واسطة في العون والمدد والإغاثة بين الله وبين المكروبين المضطرين، لعلو شأنهم ورفيع درجاتهم عند الله، وأن المكروب المستغيث يرى نفسه ملطخًا بالذنوب، فهو بعيد عن الله تعالى لا يصل إليه بواسطة أحبابه من الأولياء الذين يشفعون لهم عند الله تعالى. فكما أنه لا يمكن للرعايا الوصول إلى الملوك إلا بواسطة الوزراء والأمراء، كذلك لا يمكن الوصول إلى الله لإنجاح الحوائج بواسطة الأنبياء والأولياء.
يجاب عن هذه الشبهة في تشبثهم بكلمة الواسطة بما يلي:
1 -
إن المتصوفة في تشبثهم بكلمة الواسطة ملبسون ومدلسون، حيث إنهم خلطوا الباطل بالحق، فإن كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين سائر الناس، يحتمل معنى حقاً ومعنى باطلاً؛ فمن أراد أنهم واسطة في تبليغ أوامر الله ونواهيه، وبيان دينه وشرعه، وتوضيح ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه، فهذا معنى حق وصواب. وإن أراد بالواسطة أن الأنبياء والأولياء واسطة بين العباد وبين رب العباد في جلب المنافع ودفع المضار، والرزق، والنصر، والإغاثة، وكشف الكربات؛ فهذا من أعظم الشرك بالله الذي كفّر الله به المشركين.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام نفيس في هذا المجال أريد أن أنقل منه مقتطفات. قال رحمه الله بعد أن أثبت بأن الأنبياء والرسل واسطة بين الله وبين الخلق في تبليغ الرسالة بكل ما تحمله هذه العبارة من العقائد والعبادات والأحكام الشرعية بشتى أنواعها، قال رادًا على الذين يزعمون بأن الأنبياء والأولياء والصالحين وسائط بين الله وبين خلقه في دفع المضار وجلب المنافع: (وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار. لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها حق، قال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ).
وقال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ).
وقالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزير والملائكة، فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلاً، وأنهم يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه، قال تعالى:(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كفر بإجماع المسلمين
…
ـ إلى أن قال ـ والمقصود هنا أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي
أنكره الله على النصارى، حيث قال:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
ويقول الشيخ عبد اللطيف في رده على ابن جرجيس الحنفي البغدادي الذي استدل على جواز دعاء غير الله والاستغاثة به بكونهم وسائط بين الله وبين عباده، قال:(فالقول بجواز الاستغاثة بغير الله ودعاء الأنبياء والصالحين وجعلهم وسائط بين العبد وبين الله والتقرب إليهم والنذر والنحر والتعظيم بالحلف وما أشبهه مناقضة ومنافاة لهذه الحكمة التي هي المقصودة بخلق السموات والأرض وإنزال الكتب، وإرسال الرسل وفتح لباب الشرك في المحبة والخضوع والتعظيم، ومشاقة ظاهرة لله ورسوله، ولكل نبي كريم، والنفوس مجبولة على صرف ذلك المذكور من العبادات إلى من أهل لكشف الشدائد وسد الفاقات وقضاء الحاجات من الأمور العامة التي لا يقدر عليها إلا فاطر الأرض والسموات) ـ إلى أن قال ـ (الوجه الثاني: أن هذا بعينه قول عباد الأنبياء والصالحين من عهد قوم نوح إلى أن بعث إليهم خاتم النبيين، ولم يزيدوا على ما ذكره هؤلاء الغلاة فيما انتحلوه من الشرك الوخيم، والقول الذميم، كما حكى الله عنهم ذلك في كتابه الكريم، قال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ).
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
وقال تعالى: (فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
فهذه النصوص المحكمة صريحة في أن المشركين لم يقصدوا إلا الجاه والشفاعة والتوسل بمعنى جعلهم وسائط تقربهم إلى الله، وتقضي حوائجهم منه تعالى، وقد أنكر القرآن هذا أشد الإنكار، وأخبر أن أهله هم أصحاب النار، وأن الله تعالى حرم عليهم الجنة دار أوليائه الأبرار. وجمهور هؤلاء المشركين لم يدّعوا الاستقلال ولا الشركة في توحيد الربوبية، بل أقروا واعترفوا بأن ذلك لله وحده، كما حكى سبحانه وإقرارهم واعترافهم بذلك في غير موضع من كتابه.
فحاصل ما ذكر من جواز الاستغاثة والدعاء والتعظيم بالنذر والحلف مع نفي الاستقلال وأن الله يفعل لأجله هو عين دعوى المشركين وتعليلهم وشبههم لم يزيدوا عليه حرفاً واحدًا، إلا أنهم قالوا: قربان وشفعاء، والغلاة سموا ذلك: توسلاً، فالعلة واحدة، والحقيقة متحدة
…
).
ثم قال الشيخ بعد أن ذكر الوجه الثالث الذي أثبت فيه بأن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بإفراده بالدعاء والاستغاثة وإنزال الحاجات به دون غيره، حيث أورد آيات وأحاديث كثيرة في هذا المجال، وأخيراً قال: (وعلى القول بجعل الوسائط بين العباد وبين الله تقلع أصول هذا الأصل العظيم الذي هو قطب رحى الإيمان، وينهدم أساسه الذي ركب عليه البيان، فأي فرح وأي نعيم،
وأي فاقة سدت، وأي ضرورة دفعت، وأي سعادة حصلت، وأي أنس واطمئنان، إذا كان التوجه والدعاء والاستغاثة والذبح والنذر لغير الملك الحنان المنان
…
فصلاح السموات والأرض بأن يكون الله سبحانه هو إلهها دون ما سواه، ومستغاثها الذي تفزع إليه وتلجأ إليه في مطالبها وحاجاتها
…
وأن الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والسنة التي سنها في قبور الأنبياء والصالحين وعامة المؤمنين تنافي هذا القول الشنيع
…
وتبطله وتعارضه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سن عند القبور ما صحت به الأحاديث النبوية وجرى عليه عمل علماء الأمة من السلام عند زيارتها، والدعاء لأصحابها وسؤال الله العافية لهم، من جنس ما شرعه من الصلاة على جنائزهم، ونهى عن عبادة الله عند القبور والصلاة فيها وإليها، وخص قبور الأنبياء والصالحين بلعن من اتخذها مساجد يعبد فيها الله تعالى، ويدعى، وتواترت بذلك الأحاديث خرجها أصحاب الصحيحين وأهل السنن، ومالك في موطئه، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم:((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
…
) ثم قال الشيخ عبد اللطيف: (ومن شم رائحة العلم وعرف شيئًا مما جاءت به الرسل عرف أن هذا الذي قاله الغلاة من جنس عبادة الأصنام والأوثان، مناقض لما دلت عليه السنة والقرآن، ولا يستريب في ذلك عاقل من نوع الإنسان
…
وأن من أعرض عن الله وقصد غيره، وأعد ذلك الغير لحاجته
وفاقته، واستغاث به ونذر له ولاذ به؛ فقد أساء الظن بربه، وأعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن خلاف كماله المقدس؛ فظن به ما يناقض أسمائه وصفاته، ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم كما ذكره تعالى:(وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
وقال تعالى ـ لمن أنكر صفة من صفاته ـ: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
قال الشيخ عبد اللطيف: (أي فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه قد عبدتم غيره، وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره، فو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه غني عن كل ما سواه فقير إليه كل من عداه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمة إلى من يستعطفه.
وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم
أحوال الرعية وحوائجهم من الوسطاء الذين يعينونهم على قضاء حوائجهم وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم. فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء؛ فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح).
والخلاصة: أن شبهة الوساطة التي يحتج بها المتصوفة لدعاء غير الله من الأنبياء والأولياء هي نفس الشبهة التي وقع بسببها أمام كثيرة في الإشراك بالله حيث دعوا الأنبياء والأولياء بحجة أنهم يتوسطون لهم إلى الله، وقد وصفهم الله تعالى بالمشركين لوقوعهم في دعاء غير الله من الأنبياء والصالحين، فكل من فعل مثل فعلهم فهو مثلهم، ويتناوله الحكم الذي حكم الله به على أسلافهم من عبدة القبور.
ثم إن الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا من حبل الوريد، كما ذكره تعالى:(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، فلا حاجة إلى الوسطاء بين الله وبين عباده، ولذا فقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يدعوه ويطلبوا منه ما يريدونه رأساً بلا وسائط، فقال تعالى:(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
وعلى هذا فحجة المتصوفة بأنهم يدعون الأنبياء والأولياء لأنهم وسطاء بينهم وبين الله حجة باطلة أتوا بها من عند أنفسهم، وليس لهم أي دليل يستندون عليه من الكتاب والسنة لإثبات شرعية استدلالهم بهذه الحجة، بل إن دعاء الأنبياء والأولياء بهذه الحجة هو عين الإشراك بالله ـ كما سبق لنا ـ.
2 -
إن المتصوفة القبورية في جعلهم الصالحين واسطة بين الخلق وبين الحق تعالى لدفع المضرات وجلب الخيرات مشبهة مرتين بتشبيهين من جهتين اثنتين، فمرة شبهوا المخلوق بالخالق في صفات الكمال فصاروا مشبهة حيث رفعوا المخلوقين فوق منزلتهم ووصفوهم بصفات الله من العلم والقدرة والسمع والإغاثة ونحوها، فعبدوهم من دون الله تعالى.
ومرة شبهوا الخالق بالمخلوق في صفات النقص، وذلك؛ حيث إنهم قد قاسوا رب العالمين، خالق السموات بالملوك والسلاطين الذين لا يتوصل إليهم إلا بالأمراء والوزراء، ومن المعلوم ـ كما سبق معنا ـ: أن أصل الشرك هو التشبيه والتشبه.
3 -
إن هذه الواسطة باطلة من أصلها؛ إذ فيها قياس الله على الملوك، وهذا من أفسد القياس في العالم، وهو قياس مع الفارق من عدة أوجه:
الأول: أن الملوك لأجل جهلهم بحقائق الأمور وعدم جهلهم بأحوال الرعية ـ يحتاجون إلى وسائط من الأمراء والوزراء والندماء والوجهاء والعرفاء ليبلغوهم أحوال الرعية، ويرفعوا إليهم حوائجهم، بخلاف عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية، فمن ظن أن الله تعالى مثل الملوك فهو كافر.
الثاني: أن الملوك عاجزين عن تدبير أمورهم والقيام على حقوق رعاياهم ودفع أعدائهم، فهم في حاجة إلى أعوان وأنصار من الوزراء ليعينوهم في تدبير مملكتهم وسياسة رعاياهم وحفظ بلدانهم وأوطانهم؛ بخلاف رب الكائنات، الخالق، الحي، القيوم، القادر، المالك، الغني، القاهر، القوي، العزيز، فمن ظن أن الله تعالى مثل الملوك فهو كافر.
الثالث: أن الملوك ليسوا مريدين لنفع الرعية والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركهم من خارج، فاحتاجوا في ذلك إلى الشفعاء والنصحاء ينصحون ويشفعون عندهم للمضطرين والمكروبين من رعاياهم، ليقوموا بقضاءحوائجهم بهذا الترغيب والنصيحة والشفاعة.
بخلاف الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الرؤوف، الذي هو أرحم الراحمين، وأرحم بخلقه من أية والدة بولدها، ومن ظن أن الله تعالى مثل الملوك فقد كفر كفرًا مبينًا.
الرابع: أن الملوك مضطرون إلى قبول شفاعة أمرائهم ووزرائهم لحاجتهم إليهم في حفظ البلاد وسياسة العباد؛ فالملوك يقبلون شفاعتهم بإذنهم وبدون إذنهم لمن يرضون عنه ولمن يسخطون عليه، بخلاف رب الأرباب فإنه غني، حي، قيوم، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وهو مالك الأكوان، ليس له لأحد فيها من شرك، ولا له
من خلقه من ظهير، فهو سبحانه وتعالى لا يقبل الشفاعة إلا لمن أذن له، ورضي له قولاً، ون ظن أن الله تعالى مثل الملوك فقد كفر كفرًا صريحًا.
فتبين أن قياس الخالق على المخلوق قياس مع الفارق.
4 -
إن شبهة الواسطة باطلة من أساسها، بل تصور وجود الواسطة ها هنا غير وارد أصلاً، وذلك لوجوه:
الأول: أن الأموات لا يعلمون بحال المضطرين المكروبين المستغيثين بهم، فكيف يشفعون لهم؟ وكيف يكونون واسطة بينهم وبين الله؟
الثاني: أن الأموات لا تصرف لهم في الكون ـ كما سبق أن استدللنا لهذا القول من القرآن والسنة ـ فكيف يتصرفون تصرف الشفعاء والوزراء؟
الثالث: أن الأموات لا يسمعون دعاء المستغيثين بهم، فكيف يمكن لهم الشفاعة والتوسط بدون أن يسمعوا نداءهم؟
الرابع: أنه لم يثبت في الشرع أن الميت يشفع لمن يسغيث به.
5 -
أن ما زعموا من أن المعاصي ـ نظراً لكثرة ذنوبه ـ ليس له اللجوء إلى الله مباشرة، وأنه أولى به أن يستصحب أحد المقربين قبل مناجاة رب العالمين، أن ذلك كلام لا أصل له في الإسلام قط، لأن إبليس ـ رمز العصاة ورأس الملعونين ـ لما دعا ربه مباشرة أجيبت دعوته:(قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).
6 -
إن كون هذا الرجل صالحاً، أو ولياً من أولياء الله هذا ليس إلا عمله
الخاص، لا دخل فيه للمستغيث أبدًا، فكيف يتدخل أحدنا في عمل الغير؟ أليس يعد من الحمق إذا قلنا: يا رب، أعطنا هذا الشيء لأن فلان الولي عبدك كثيرًا؟ هذا شيء بدهي في العقل ومعلوم بطلانه عند العقلاء.
الشبهة الثالثة: اعتقادهم أن الأنبياء والأولياء أحياء في قبورهم فلا مانع من التوسل بهم:
ويستدلون على ذلك بما يلي:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، بدليل قوله تعالى:(وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً). قالوا: فالنبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، ولذلك لا تجوز مناكحة أزواجه صلى الله عليه وسلم، لأن الحي لا يجوز نكاح زوجته.
الرد على هذه الشبهة باختصار ما يلي:
إن هذا القول الذي قالوه في النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله أحد من المفسرين السابقين، وإنما هو قول مبتدع، وتفسير ـ بل تأويل ـ باطل من قبل هؤلاء المتأخرين، وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف.
ثم إن الصحيح الذي لا مرية فيه: أن حياة الأنبياء برزخية لا نعرف كنهها، وليس ما ذكروه فيه أي دليل على كون تحريم نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
لأجل حياته صلى الله عليه وسلم، وإنما لكونهن كالأمهات، فكما أن الأمهات لا تنكحهن الأولاد بعد موت الآباء فهنا أيضاً هكذا، وأدل دليل على هذا ذهاب بعض العلماء إلى أن مطلقة رسول الله أيضاً لا تحل لأحد.
أو لأنهن زوجاته في الآخرة.
أو لإكرام النبي صلى الله عليه وسلم أن يطأهن أحد بعده.
أو لإكرامهن أيضاً: حيث قصرهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصره عليهن خير لهن.
أو أن الله عز وجل أعطاهن هذا الفضل لما صبرن على الرسول في حياته بدون التفات إلى متاع الحياة الدنيا. قال ابن القيم:
لكن رسول الله خص نساؤه
…
بخصيصة عن سائر النسوان
خيرن بين رسوله وسواه فاختـ
…
رن الرسول لصحة الإيمان
شكر الإله لهن ذاك وربنا
…
سبحانه للعبد ذو شكران
قصر الرسول على أولئك رحمة
…
منه بهن وشكرذي الإحسان
وكذلك أيضًا قصرهن عليه معـ
…
ـلوم بلا شك ولا حسبان
5 -
لا تلازم بين الحياة وبين طلب شيء منهم، فمثلاً: هؤلاء شهداء أحد معروف مكانهم وفضلهم، معروفة قبورهم، لم يذهب إليهم أحد من المسلمين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ولا بعد مماته يسألونهم الدعاء والشفاعة ولا توسلوا بهم.
وهم أحياء حياة برزخية بنص القرآن: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).
فلماذا ترك أولئك طلب الدعاء من هؤلاء الشهداء؟ بل الثابت عنهم أنهم كانوا يدعون لهم، لا أنهم يسألونهم الدعاء. وهم أحياء بنص كريم، لكن حياتهم ليست كحياتنا على الأرض. نعلم منه أنهم وإن كانوا أحياء حياة برزخية لا نعلم حقيقتها فهي مختلفة في ما يقدرون عليه عن حياتهم في الدنيا.
6 -
أخرج مسلم في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم)). وفقه هذا الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عمر أن يطلب الدعاء من أويس وهو تابعي، وأين منزلته من منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يدعو له المفضول ويترك طلب الدعاء من خير الخلق في قبره، وهذا دليل واضح في أن الفرق هو تغير نوع الحياة، وقدرة الحي على الدعاء للمعين، بخلاف من حياته
برزخية.
فإذا كان هذا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحسن حالاً في القبر على الإطلاق، فكيف بمن يطلب الدعاء من الآخرين؟
ثم إن الأولياء ـ الذين يذهبون إلى قبورهم ويتوجهون إلى مشاهدهم طالبين لهم الدعاء ـ ليس لهم أي دليل على وجود حياتهم مثل حياة الأنبياء والشهداء، وإنما قاسوا على حياة الأنبياء والشهداء، ومعلوم أن هذا قياس مع الفارق؛ إذ لا دليل على وجود الحياة لأوليائهم في قبورهم.
ب- زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره بدليل عدم قسمة تركته، كما جاء في الحديث النبوي أنه صلى الله عليه وسلم قال:((لا نورث ما تركناه فهو صدقة)). قالوا: إن علة النهي عن قسمة التركة كونه حياً في قبره حياة دنيوية، فإن الحي لا يورث.
ويرد على هذا القول: بأن العلة ليس كونه حياً كما زعمته المتصوفة، بل قد ذكر الرسول الحكمة فيه في نفس الحديث بأن ما تركه صدقة. وقد جاء في رواية أخري أنه صلى الله عليه وسلم قال:((لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة)).
جـ- استدلال القبورية المتصوفة بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا).
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره، وإلا لما جاز طلب الاستغفار منه. وما دام أنه حي في قبره وقد أمر في الآية بطلب الاستغفار منه، فإنه يكون مرغوباً فيه وليس منهياً عنه.
يجاب عن هذا الاستدلال بما يلي:
إن الآية وردت في قوم معينين، وليس هناك لفظ عام حتى يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا لخصوص المورد، بل الألفاظ الدالة الواقعة في هذه الآية كلها ضمائر. وقد ثبت في مقره أن الضمائر لا عموم لها.
إن المقصود بهذه الآية المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فقط، فإن هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين دعوا الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فصدوا واحتكموا إلى الطاغوت، فظلموا أنفسهم، ولم يجيئوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تائبين منيبين ليستغفر لهم.
إن اللفظ العام لا يتناول إلا ما كان من أفراده، والمجيء إلى قبر الرجل ليس من أفراد المجيء إلى عين الرجل لا لغة ولا شرعًا ولا عرفاً، فإن المجيء إلى الرجل ليس معناه إلا المجيء إلى عين الرجل، ولا يفهم منه أصلاً أمر زائد
على هذا.
(إن أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه هم سلف الأمة ومن سلك سبيلهم، فلم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته، ليستغفر لهم،
…
فلما استأثر الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله، فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت.
أفترى عطّل الصحابة والتابعون وهم خير القرون على الإطلاق هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له من لا توبة له من الناس، ولا يعد من أهل العلم؟ ! وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة فلم يدعوا إليه ولم يحضوا عليه ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم ألبتة، بل المنقول الثابت عنه ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية
…
ومما يدل على بطلانه قطعًا: أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وقد ظلم نفسه ليستغفر له فأعرض عن المجيء وأباه مع قدرته عليه كان مذمومًا غاية الذم مغموصًا بالنفاق، ولا كذلك من دعي إلى قبره ليستغفر له، ومن سوى بين الأمرين وبين المدعوين وبين الدعوتين فقد جاهر بالباطل، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه على الحق.
وأما دلالة الآية على خلاف تأويله فهو أنه سبحانه صدرها بقوله: (وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ)، وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم طاعة له، ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم إن من الواجب على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له، ولو كان هذا طاعة لكان خير القرون قد عصوا هذه الطاعة وعطلوها، ووفق لها هؤلاء الغلاة والعصاة. وهذا بخلاف قوله:(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)؛ فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه، وتحكيمه هو تحكيم بما جاء به حيًا وميتًا، ففي حياته كان هو الحاكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه.
يوضح ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا قبري عيدًا)). ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين، وهذا مضادة صريحة لدينه وما جاء به).
ثم على هذا التفسير الذي ذكروه في الآية بأن المراد منها حث الناس على طلب الاستغفار منه، (على هذا التفسير أن الآية حكمها مستمر، فكما أن مجيء من ظلم نفسه إليه صلى الله عليه وسلم في حياته واستغفاره عنده شرط لقبول توبته فهو
شرط أيضًا في قبول توبة من ظلم نفسه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلابد من مجيئه إلى قبره صلى الله عليه وسلم واستغفاره عنده، واستغفار الرسول له، ولا يخفى ما في هذا من المناقضة لكتاب الله تعالى وسنة نبيه وما عليه المسلمون
…
).
الشبهة الرابعة: هي الحكايات التي تناقلوها كابراً عن كابر، وشحنت بها المتصوفة كتبهم من أن فلانًا استغاث بالولي الفلاني فأغاثه، وفلان ذهب إلى قبر فلان فتعافى وقضى حاجته:
وهذه الشبهة من أقوى الشبه لدى المتصوفة، ويمكن أن تسمى بشبهة التجربة.
الردود على هذه الشبهة بما يلي:
1 -
أن العلماء قد صرحوا بأن هذه الحكايات التي تناقلتها المتصوفة لدعوة المضطرين إلى الاستغاثة بالأموات بحجة أن هذه الحكايات كرامة لهؤلاء الأولياء، هي محض أساطير، وعين الأكاذيب، وليست هي من الكرامات، بل هي أباطيل الحكايات؛ لأن رواتها هم هؤلاء القبورية السفهاء. ومعروف أنهم أكذب الناس ومعادن الكذب، وبيوت الكذب، وبيوت الإفك، فلا اعتبار لرواياتهم، فهم في نقل هذه الحكايات كذبة فسقة.
2 -
أن قضاء الحوائج عند الاستغاثة بالموتى ليس لأجل الاستغاثة بالموتى، بل ذلك بمحض قدرة الله تعالى وتقديره المقدر بوقته، فيصادف
ذلك الاستغاثة بالموتى، فيظن المستغيث أن المستغاث به هو الذي قضى حاجته، فيعد ذلك من كرامته ويجعله دليلاً على كونه وليًا متصرفًا في الكون.
3 -
أن العلماء صرحوا في الجواب عن تلك الحكايات الشركية بأن كثيرًا ما تقضى حاجات المستغيثين بالأموات، لا لأجل أنه استغاث بالمقبور، بل لأجل أن هذا المستغيث يكون مضطرًا مكروبًا فيدعو بحرقة وانكسار وذلة، فيستجيب الله تعالى له، ويقضي حاجته، لصدق توجهه وتضرعه، واضطراره، وانكساره، وذلته، ولكن الجاهل يظن أن للمقبور تأثيرًا في إجابة تلك الدعوة وقضاء تلك الحاجة.
4 -
أن العلماء قد صرحوا في الجواب عن حكايات القبورية بأن الله تعالى كثيرًا ما يستجيب دعاء الكفار والمشركين عند أصنامهم لاضطرارهم، وإظهار انكسارهم، لموافقته أوقات الإجابة، ولما قام من العبودية بقلبه، فيجيب الله تعالى دعاء المضطر، ولو دعا في الخانة، والخمارة، والحمام، والسوق، بل قد يستجيب لمن يدعو عند الأوثان، فيظن الجاهل أن للمقبور تأثيرًا في قضاء الحوائج واستجابة الدعاء.
5 -
أن العلماء قد صرحوا بأنه كثيرًا ما تقضي حوائج القبورية عند التجائهم إلى القبور وأهلها، ولكن لا لأجل أن للمقبور تأثيرًا في ذلك، بل يحدث ذلك
استدراجًا من الشياطين لهذا القبوري المشرك الذي يستغيث بالأموات فتأتي الشياطين وتساعده في بعض حاجاته استدراجًا له، وازديادًا له في الإضلال والإغواء، بل قد تطيعه الشياطين فيقضون بعض حوائجه لما بينه وبينهم من الصلة والأخوة بسبب الشرك وعبادة غير الله تعالى من الاستغاثة بالأموات. وكثيرًا ما تتثمل له الشياطين في صورة صاحب القبر وتكلمه، فيرى أن القبر قد انشق وخرج منه المقبور وهو يظن أن ذلك الولي فيعانقه ويكلمه، فيعد ذلك من كراماته، وهكذا تلعب الشياطين بالقبورية والمتصوفة كما كانت تلعب بالكفار عبدة الأصنام.
6 -
قد يكون سبب كوني معقول لقضاء بعض حوائج المتصوفة عند بعض القبور، فقد يكون لأحد فرس مريض بمرض الإمساك الشديد، والقبض المؤلم بحيث لا يستطيع أن يتروث، فيذهب به صاحبه إلى بعض القبور التي يكون المقبور فيه كافرًا، أو فاجرًا، يعذب عذابًا شديدًا، ويصيح صيحات مرتفعة مخيفة مهولة، فيسمعها ذلك الفرس، فيخاف خوفًا شديدًا بحيث يسهل ويتروث من شدة الخوف، فيزول منه الإمساك فيتعافى، فيظن ذلك الرجل ـ صاحب الفرس ـ أن المقبور قد قضى حاجته، وشفى فرسه، مع أن الفرس قد تعافى بسبب الإسهال الذي حدث له لأجل خوف شديد لما سمع من صراخ ذلك المقبور الذي كان يعذب في قبره. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثل هذه القصة في بعض كتبه.
7 -
أن العلماء قد صرحوا بأنه لو سُلِّم صحة بعض تلك الحكايات فغاية ما فيها أن ذلك قد يكون سببًا لقضاء الحاجة، ولكن لا يلزم من ذلك جواز الاستغاثة بالأموات، والتضرع عند القبور، والالتجاء إلى أهلها لدفع الكربات وجلب المنافع؛ لأنه لا يجوز تناول كل سبب من الأسباب إلا ما هو مباح شرعًا منها؛ لأن الأسباب منها ما هو حرام، ومنها ما هو مباح، ولا ريب أن الاستغاثة بالأموات والالتجاء إلى القبور وأهلها لدفع البليات، وجلب المنافع من الأسباب المحرمة في دين الله تعالى، فلا يجوز تناول هذا السبب أبدًا؛ لأن الاستغاثة عبادة، بل مخ العبادة، فصرفها لغير الله شرك قطعًا.
وكم من عبد دعا بدعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان ذلك سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، وكثير من الكفار والمشركين يدعون عند الأوثان فيستجاب لهم، وكثير من المقاصد تحصل بأسباب محرمة قطعًا كالسحر، والتكهن، وشهادة الزور، والفاحشة، والظلم، والسرقة، والخمر، بل الشرك، والكفر قد يحصل بهما بعض المقاصد، فليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون مشروعًا؛ فلا يجوز تعاطي الأسباب المحرمة لإنجاح المقاصد. فهذا الجواب يعرفنا أيضًا: أن الغاية لا تبرر الوسيلة كما هو لدى بعض الحركيين.
8 -
لا يمكن إثبات شرع الله تعالى بمثل هذه الحكايات من العوام والجهلة والمتصوفة، فإن هذه الحكايات إنما نسمعها عمن ليس قوله حجة من الحجج
الشرعية؛ فلا يجوز إثبات الشرع بمثله ولا إثبات العبادات أيضاً بمثله. وإنما المتبع في إثبات الأحكام والعبادات إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وهو سبيل السابقين الأولين من هذه الأمة؛ فلا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصًا، أو استنباطًا بحال أصلاً عند المسلمين. وإثبات الشرع بمثل هذه الحكايات إنما هو دأب اليهود والنصارى وأمثالهم ممن ينقلون عن غير الأنبياء؛ فإن لديهم مثل هذه الحكايات شيء كثير.
9 -
أن العلماء قد أجابوا عن تلك الأقوال التي يذكرها المتصوفة في كتبهم عن كثير ممن ينتسبون إلى العلم والفقه والفضل والزهد بأن بعض هذه الاقوال المنقولة عن هؤلاء ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ أو يصيب، أو قاله بقيود أو شروط كثيرة على وجه لا محذور فيه فحرف النقل عنه. وبعضهم قد لا يريدون بلفظة التوسل الاستغاثة بالأموات، ولكن المتصوفة حرفوا عباراتهم وجعلوا التوسل هو الاستغاثة بالأموات.
10 -
أن كثيرًا ممن ينتمون إلى العلم والفضل والصلاح والزهد وقعوا في الشرك بالله، والاستغاثة بالأموات، وبأفعالهم، وأقوالهم الشركية، لأجل عادة العوام التي جروا عليها، لا لأجل أن لهم دليلاً شرعياً على ذلك، ولكن لما كان خطؤهم عن حسن قصد ونية صالحة، ونبهوا على خطئهم انتبهوا ورجعوا عن تلك الشركيات دون عناد أو إصرار.
الشبهة الخامسة: شبهة الكرامة:
وذلك؛ أن هؤلاء المتصوفة في اعتقادهم التصرف في الكون تجاه الأولياء والصلحاء يرون حصول هذه الأشياء لهم عن طريق الكرامة، إذ كرامات الأولياء مسألة ثابتة عند أهل السنة والجماعة (على شروط معينة ـ كما ستأتي ـ).
لقد تشبثت المتصوفة لاعتقادهم التصرف في الكون، وتفريج الكربات تجاه أوليائهم الذين يستغيثون بهم عند الشدائد بقولهم: إنه يجوز الاستغاثة بهم عند الملمات، بحجة أن الله تعالى أكرمهم بالكرامات التي بها يقتدون على كشف كرب المكروبين، وإجابة دعاة المضطرين، وبها يتصرفون في الكون، وبها يعلمون حال الداعين، وبها يسمعون نداءهم.
وهذه الشبهة من أهم الشبهات التي يذكرها عامة القبورية في كتبهم.
ويقولون: إن الكرامة تظهر من الولي بقصده وبغير قصده.
وقصدهم بذلك أن الأولياء لهم قدرة على التصرف في الكون، وأن ذلك منهم كرامة، وأن الكرامة لا تنقطع بعد الموت، وجازف بعض أئمتهم فقال: (الولي في الدنيا كالسيف في غمده فإذا مات تجرد منه، فيكون أقوى في
التصرف).
وهكذا نرى أئمة المتصوفة يصرحون بأن الأولياء أقوى تصرفًا وقدرة بعد الموت منهم في حياتهم. فينفع بعد مماته أكثر مما ينفع في حياته.
يرد على هذه الشبهة بما يلي:
إنه لا ملازمة بين الكرامات وبين الاستغاثة بصاحبها، لأن الكرامة لا تقتضي جواز الاستغاثة بصاحبها ولا تبيحها، بل الاستغاثة بأصحاب الكرامات ليست إلا طريقة أهل الأوثان، وأما أهل الإيمان فليس لهم غير الله دافع. فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وملك وولي أو غيره على وجه الإمداد إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره.
إن الكرامة أمر خارق للعادة يظهرها الله تعالى على يد ولي من أوليائه بدون اختياره، وهي من فعل الله عز وجل ولا يدللولي فيها، بل ليس للولي كسب في الكرامة.
إن العلماء صرحوا بأن الكرامة بمعنى صدور أمر خارق للعادة تسلب بعد موت الولي. فإن الحكمة في صدور الكرامة ـ كما يقول العلماء ـ هو التثبت على الحق واليقين والاجتهاد في العبادة والاحتراز عن السيئات، وهذا لا يحتاج إليه بعد موت الولي، لأن عين اليقين يحصل بعد الموت، وما بعد الموت ليس وقت التكليف، ولأجل هذا صرح العلماء بأن الكرامة ليست مقصودة، وإنما المقصود هو الاستقامة.
أن الكرامة لو ثبتت لشخص من الأولياء فإنه يجتهد في إخفائها ولا يركن إليها، ويخاف أن تكون من قبيل الاستدراج، ويسعى في أن لا يطلع عليه أحد، ويحاول كتمانه، خوفاً من الاغترار والاشتهار.
وليس كل أمر خارق للعادة تعد من الكرامة، ولا دليلاً على الولاية، بل قد يكون الأمر الخارق للعادة من قبيل الاستدراج الشيطاني، والأحوال الشيطانية التي تصدر من الفسقة والفجرة، بل من الكفرة والمشركين، حتى أمثال فرعون، والسامري، والدجال، فلا يدل الأمر الخارق للعادة على أنه كرامة، فلا يقطع المتصوفة أن حصول شيء معين من كرامة ذلك الولي، بل ربما يكون استدراجًا، وهو لا يدري.
إن كثيرًا مما يظنه المتصوفة كرامات ـ هي في الحقيقة ليست بكرامات لأولياء الرحمن، بل الحقيقة أن الشياطين قد تظهر لهم بصورة شيوخهم وأوليائهم، وأتوا بغرائب من الخوارق إضلالاً لهم واستدراجًا لهم، فيظنون أن هذه من كرامات الأولياء، وتتمثل لهم الشياطين فيظنون أن الولي الفلاني قد حضر للإغاثة، وأن فلانًا قد خرج من القبر، وأن الولي الفلاني قد كلمه أو عانقه، والشيطان ربما يقضي بعض حاجته، فيظن أن هذه من كرامات الولي مع أن هذه أحوال شيطانية تصدر من هؤلاء الشياطين.
إن هؤلاء المستغيثين بغير الله كثيرًا ما ينادون الفسقة والفجرة، وتارة يطلبون المدد من الزنادقة والملاحدة، وأخرى يستغيثون بأعداء الله الكفرة، فهل هم من أولياء الله؟ وهل ما صدر منهم يعد من الكرامات؟ كلا بل هم من أولياء الشيطان وخوارقهم ليس إلا من الاستدراجات الشيطانية، ولكن المستغيثين بغير الله وصلوا من الحمق درجة لا ينتبهون لهذا مطلقاً.
إن هؤلاء المتصوفة أكذب الناس على الإطلاق في نقل الكرامات، فكم من الكرامات نقلوا لأوليائهم وهي في الحقيقة من الكذب والافتراء على صاحب القبر.
ثم إن للكرامة حدودًا وضوابط، فليس كل شيء يستطيع أن يفعله الولي مثلاً، ومن هذه الضوابط ما يلي:
أ- أن يكون صاحبها مؤمنًا متقيًا.
ب- ألاّ يدعي صاحبها الولاية.
جـ - ألاّ تكون الكرامات فوق ما كان النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات، إذ الكرامات لا تسبق المعجزات. فالكرامة التي يكرم بها أحد من هذه الأمة لابد أن يكون لها أصل من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كما نص عليه العلماء.
الشبهة السادسة: شبهة المجاز العقلي:
لقد تشبثت هؤلاء المتصوفة لتبرير شركهم، وتجويز استغاثتهم بالأموات عند نزول النوازل وإلمام الملمات، لجلب الخيرات ودفع المضرات بشبهة
أخرى، وهي: أن تصرف الأولياء في الكون وشفاءهم للأمراض، وكونهم يدمرون الأعداء وينصرون الأولياء، ويغيثون المستغيثين إنما نقصد بذلك المجاز العقلي!
فالمتصرف في الكون هو الله في الحقيقة، والشافي للأمراض هو الله في الحقيقة، والناصر والمغيث هو الله في الحقيقة، وهو النافع الضار في الحقيقة، وهو الفاعل في الحقيقة، ولكن نسبة ذلك كله إلى الولي نسبة المجاز العقلي، لا على وجه الحقيقة.
وهذه هي شبهة المجاز العقلي، وهي من أعظم شبهات المتصوفة المشركين بالله قديمًا وحديثاً.
يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن وجود المجاز في اللغة ثم وجود المجاز العقلي مسألة مختلف فيها حتى عند البلاغيين فضلاً عن عدم وجود من قال به من السلف قبل الجهمية والمعتزلة.
لو فتح هذا الباب من التأويل لما وجد الشرك، ولما حكم بالكفر على أحد
أبدًا، وإن سب الله تعالى، وسب الأنبياء عليهم السلام، ولو أنكر البعث والحشر والنشر، وأباح الفواحش، وادعى الألوهية، مثلاً يكون معنى قول القائل:(الرسول خالق السموات والأرض): رب الرسول ـ بحذف المضاف ـ، ومعنى قول فرعون فيما حكاه الله عنه بقوله:(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى): (أنا أقول لكم: ربكم الأعلى) ـ بتقدير القول ـ، وكذلك يكون معنى من قصد الأصنام وتضرع إليها: أنه يدعو الله الذي هو مالك الأصنام، ويتضرع إليه تعالى ـ بحذف المضاف ـ، فما ذكره أحد من المسلمين بهذه التأويلات الفاسدة أبدًا.
إن هؤلاء المستغيثين بغيرا لله وأصحاب اعتقاد التصرف في الكون لغير الله أكثرهم عوام جهال لا يدرون المجاز العقلي الذي اصطلح عليه المجازيون والبلاغيون، ولا يعرفون هذه المسألة. ومعلوم أن إرادة الشيء فرع من تصوره.
إنهم يعتقدون في أهل القبور التصرف والإعطاء ولا يفهمون إلا أنهم أهل للإعطاء والإيجاد، ويسمونهم أقطاباً وأغواثاً.
إنهم إذا نذروا للأموات وتأخروا في إيفاء نذرهم للأموات فيصابوا بسبب ذلك بمصيبة وبلية، يقولون: إن الشيخ الفلاني أصابني بالمصيبة؛ لأني لم أوف بنذره، وهكذا يحذرون من شرورهم. وهذا دليل صريح على أن هؤلاء لا يقصدون المجاز في أقوالهم وعقائدهم، بل يريدون الحقيقة ونسبة الفعل
إلى هؤلاء الأولياء والصلحاء ـ كما يزعمون ـ الأموات على الحقيقة، فلا شائبة في كلامهم للمجاز العقلي ألبتة.
إن المشركين الذي أنزل الله فيهم القرآن إنما كانوا يدعونهم شفعاء لهم عند الله، وكانوا يقولون: إنما ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى، أي منزلة ودرجة، ويشفعوا لنا في حاجاتنا، إذن أنهم لا يعتقدون في أصنامهم إلا بمثل اعتقاد المتصوفة في أوليائهم بأنهم لا يعطون شيئًا ولا يدفعون شيئًا، وإنما المعطي والدافع هوا لله، ولكن هؤلاء الأصنام والمعبودات من دون الله ما هم إلا للمنزلة والدرجة، ومع ذلك وسمهم الله بسمة المشركين، وحاربهم الرسول الأمين في حياته كلها، فما الفرق بين القول بالمجاز وبين القول بالزلفى والقربة والمنزلة؟ ، وإذا ثبت هذا تبين أن هؤلاء المتصوفة أشد شركًا منهم؛ لأنهم اعتقدوا فيهم القدرة والملك، والتصرف في الكون، بل الإحياء والإماتة وغيرها من الكفريات.
إن النسبة المجازية ـ على فرض وجود المجاز ـ هي نسبة الفعل إلى غير الفاعل الذي صدر منه ذلك الفعل، لا يخلو من أمرين:
أحدهما: لكونه ظرفاً للفعل، كقول القائل:(أنبت الربيع البقل)؛ أي: (أنبت الله البقل في وقت الربيع).
ثانيهما: لكونه سببًا في صدور ذلك الفعل، كقول القائل:(بنى الأمير المدينة)؛ أي: (بنى المعماري المدينة بأمر الأمير ونفقته).
وإذا عرف هذا، فإن الذي ينادي ميتًا، أو حيًا غائبًا، ويستغيث به، ويقول: يا فلان! أغثني، أو اشفني أو أنجني مثلاً لا ينطبق عليه أنه ناداه واستغاث به مجازًا من ناحية كونه ظرفًا للفعل؛ لأن الميت والغائب ليسا بظرف للفعل، فلا
يقال: إن الميت أو الغائب ظرف للنداء أو الإغاثة أو الشفاء أو الإنجاء، حتى يقال: إن هذه النسبة مجازية، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، فهذا المجاز لا يتصوره أحد، ولا يصح في مثل هذه الصورة ألبتة.
وأما الصورة الثانية من المجاز التي هي: أن هذا المنادي المستغيث يقصد: أن الشافي والناصر والمنجي والمغيث هو الله تعالى في الحقيقة، ولكن يرى أن الولي الفلاني الذي يستغيث به ويناديه هو مجرد سبب لذلك.
فيقال لهم: إن هذا الاحتمال أيضاً غير وارد، ولا يصح المجاز في هذه الصورة أيضاً، لأن هذا المنادي المستغيث بهذا الولي الميت، أو الحي الغائب، لابد له من أن يعتقد فيه عقائد ثلاثاً:
الأولى: أن هذا الولي الميت أو الحي الغائب يسمع صوته ونداءه فوق الأسباب العادية.
الثانية: أنه يعلم بحاله ويطلع على مصيبته.
الثالثة: أن يعتقد فيه أنه يقضي حاجته بأن يشفع له عند الله.
فلابد من هذه العقائد الثلاث، وإلا لا يمكن جعله سببًا.
وإذا تحقق أنه لابد من أن يعتقد هذا المنادي المستغيث في ذلك المنادى المستغاث ـ الميت أو الحي الغائب ـ السمع المطلق، والعلم المطلق، والقدرة المطلقة، ومعلوم أن هذه كلها من صفات الله الخاصة به سبحانه، فالميت أو الحي الغائب لا يسمع نداء المستغيث، ولا يعلم بحاله ولا يطلع على مصيبته، فقد قال تعالى:(وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)، وقال تعالى: (وَهُمْ
عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ).
ثم إننا لو أولنا إسنادهم الأمور إلى غير الله واستغاثتهم بغير الله وطلب النفع ودفع الضر من غير الله باحتمال المجاز العقلي فماذا نفعل بأعمالهم الشركية فهل يمكن تأويلها أيضاً بالمجاز؟ وإذا قلنا نؤول، فبأي شيء نؤول سجودهم على أعتاب الأضرحة وطوافهم بالقباب، وذبحهم للقرابين وبذلهم النذور؟ فهل هذه الأعمال الشركية والأفعال الكفرية أيضاً: من باب المجاز؟
إن من المعروف أن التأويل والمجاز ـ حتى عند القائلين بهما ـ لا يذهب إليهما إذا إذا كان غير منصوص، وأما إذا كان منصوصاً مثل الأبيات الشعرية التي أوردناها والحكايات التي ذكرناها عن المتصوفة فلم يقل أحد بأن في المنصوص أي مجاز، وإنما المجاز ـ على رأي القائلين به ـ يكون على الظاهر المحتمل له.
الأهم من هذا كله هو أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن الكريم، وحكم بكفرهم كانوا يعتقدون السببية والتوسط، وهذا هو حجة من يرى المجاز العقلي، ويبيح إسناد الأمور الخاصة بالله في ربوبيته وألوهيته لغير الله، فلو أن اعتقاد السببية والتوسط ينفع في حمل كلام من يدعو غير الله تعالى على المجاز العقلي، ويمنع من الحكم عليه بالشرك؛ لكان الله تعالى أعذر المشركين الذين يعتقدون التسبب والوساطة، ولحكم بالكفر على من يعتقد الاستقلال فقط. ولكن الله عز وجل حكم بالكفر على هؤلاء المشركين القائلين بالتسبب والتوسط، كما سيأتي ذكرهما في الشبهة التالية.
وبهذا بطل دعوى المجاز الذي يتشبثون به قديمًا وحديثًا.
الشبهة السابعة: شبهة الكسب والسبب:
تشبثت المتصوفة بهذه الشبهة لتبرير شركهم بالله، واستغاثتهم بالأموات، عند إلمام الملمات ونزول النوازل والكربات لدفع المضرات وجلب الخيرات، وتبرير أكاذيبهم وكفرياتهم وعقائدهم الباطلة من التصرف في الكون، والإحياء والإماتة، والقدرة، والعلم بالغيوب، وتسخير الأمور وغير ذلك. فقالوا:
إن الاستغاثة بالأنبياء والأولياء من أعظم الأسباب لاجتلاب البركات، واستنزال الرحمات والخيرات، واستجابة الدعوات وسرعة قضاء الحاجات، والتوسل بهم من قبيل الأخذ بالأسباب. وليس ذلك من باب الشرك بالله ولا من قبيل عبادة غير الله، وإن طلب الغوث منهم على سبيل الكسب والتسبب، ومن الله تعالى على سبيل الخلق والإيجاد. وغاية ما يعتقد الناس في الأموات أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء، لا أنهم خالقون موجدون، والتسبب والتكسب مقدوران للميت، وفي إمكانه كالحي، فمن يستطيع أن يقول: إن ذلك شرك؟ . هذه كانت شبهة الكسب والسبب التي يتشبث بها المتصوفة قديمًا وحديثًا.
يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن احتمال التكسب والتسبب في الاستغاثة بالأموات المقبورين،
والأحياء الغائبين لا يمكن صحته ولا يتصور وقوعه، لعدم قدرتهم على ذلك، فاحتمال الكسب والسبب هنا باطل من أساسه، يقول الآلوسي: (فإن قلت: إن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى
…
قلنا له: إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلا الله، أو السؤال بما لا يعطيه ولا يمنعه إلا الله، وأما فيما عدا ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس واستغاثة بعضهم ببعض ـ فهذا شيء نقول به ولا نمنعه ولا ننكره، ونعد منعه جنونًا، كما نعد إباحة ما قبله ـ وهو ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ـ شركًا. والعراقي ـ عامله الله بعدله ـ أورد نصوص المباح في الممنوع، واستدل بدلائل المشروع على غير المشروع
…
وكون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية، فتحقق أنه لا يستغاث به ـ أي بالعبد ـ، ولا يتوكل عليه، ولا يلتجأ في ذلك إليه إلا بالله وعليه وإليه. فلا يقال لأحد ـ حي، أو ميت، قريب، أو بعيد ـ: ارزقني أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشف مريضي
…
).
أن الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات على أن هؤلاء الأموات سبب في دفع المضرات وأنهم من الأسباب لجلب المنافع والخيرات هي بعينها عقيدة المشركين السابقين، فإن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم وآلهتهم التي عبدوها مع الله إلا التسبب والتوسل والتشفع، ليس إلا، ولم يدعوا الاستقلال، والتصرف لأحد دون الله، ولا قاله أحد منهم سوى
فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه؛ وقد قال تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).
فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده، قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره:(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ)، وقال تعالى:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). فأخبر أنهم تعلقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله بالجاه والمنزلة، ولم يريدوا منهم تدبيرًا، ولا تاثيرًا، ولا شركة، ولا استقلالاً.
إن الأموات ليسوا من أسباب قضاء حوائج المستغيثين بهم في شرع الله عز وجل، فأين في شرع الله تعالى: أن الله سبحانه وتعالى جعل الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك سببًا لقضاء حوائج المستغيثين بهم؟ بل شرع الله تعالى كله على نقيض ذلك.
يقول السهسواني في صيانة الإنسان: (ونحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، ولكن نقول: من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببًا في الأمور التي لا يقدر عليه إلا الله؟ ! ومن ذا الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب ـ من البشر كان أو غيره ـ كان ذلك سببًا في حصول الرزق، والنصر، والهدى، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن ذا الذي
شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعله من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ ! فإن هذا المقام يحتاج إلى إثبات مقدمتين: إحداهما: أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها
…
).
ولو سلمنا ـ جدلاً ـ أن الأموات والاستغاثة بهم سبب لقضاء الحاجات فإن قضاء هذه الحاجات لا يكون إلا سببًا كونياً فحسب، لا سببًا شرعيًا، وكم من الأشياء هي أسباب كونية للمنافع، ولكنها لما كانت محرمة في شرع الله، لم يصح كونها أسباباً شرعية، فلا يجوزت عاطي أي سبب إلا إذا علم أنه سبب شرعي وأمر مباح.
الشبهة الثامنة: شبهة الشفاعة أو شبهة الاستقلال:
وهي: أن الصالحين أحياءً وأمواتًا يشفون للمستغيثين بهم عند الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقبل شفاعتهم فيهم فتقضى حوائجهم.
هذا حاصل تقرير المتصوفة لشبهة الشفاعة وهي في الحقيقة شبهة الواسطة. ولكن غيروا العبارة موهمين أنها من الأدلة لهم على ما يزاولونه، وقد سبق الرد على جوانب هذه الشبهة في الرد على الشبهة الثانية، وإنما يكتفي هنا ببيان معنى الشفاعة وهل يصح الاستدلال بها أم لا؟ .
فيقال في الرد عليهم:
الشفاعة في اللغة: شفع، يشفع، شفاعة، وتشفع: طلب. والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيرها، وشفع إليه: في معنى طلب إليه، والشافع: الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب. فمعنى الشفاعة: الدعاء. وعلى هذا يفسر موارد اللفظ في القرآن والسنة، في لفظ الشفاعة.
وأصله في الجمع والضم، ومنه يقال: الشفع بمقابل الوتر، ويطلق على الشفيع لأنه يكون إلى جانب من يشفع له.
فهذه الشفاعة لها حكمها في الإسلام، حيث جاءت آيات كثيرة في كتاب الله الكريم، فبعضها تنفي الشفاعة مطلقاً عن أحد غير الله يوم القيامة، مثل قوله تعالى:(قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)، وقوله تعالى:(لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ)، وقوله تعالى:(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وهناك آيات أخرى ذكر الله فيها أن الشفاعة موجودة يوم القيامة، مثل قوله تعالى:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ)، وقوله تعالى:(يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ)، وقوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا
تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى). وغير ذلك من الآيات في الذكر الحكيم.
وهناك آيات أخرى ذكرت الانتفاع بالشفاعة يرضى الله، واتخاذ الشافع والمشفوع له عهدًا عند الله. مثل قوله تعالى:(وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)، وقوله تعالى:(لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)، وقوله تعالى:(يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا). وآيات أخر لا تخفى على من تتبع ما في الباب من آيات.
فإذا تبين أن الله تبارك وتعالى قد نفى في كتابه شفاعة، وأثبت شفاعة، وجب على طالب الحق أن ينظر في هذه الشفاعة المنفية، والشفاعة المثبتة، ومعنى هذه وهذه، حتى لا يضل في هذا الأمر الذي ضل فيه فئام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان سبب ضلالهم أن كل فرقة أخذت بآية وبنت عليها أحكام ولم تتتبع آيات الشفاعة في القرآن، فضربوا كتاب الله بعضه ببعض. والقرآن حق كله، والحق لا يناقض حقاً أبدًا.
فالآيات الأولى دلت على أن هناك شفاعة منفية ليست لأحد من الخلق، وهذه الشفاعة هي ذلك النوع الذي يظنه المشركون في الجاهلية.
وأولئك المشركون ظنوا أن الشفاعة عند الله كالشفاعة عند غيره، وهذا
أصل ضلال النصارى أيضاً.
فمن ظن أن الشفاعة المعهودة من الخلق للخلق ينفع عند الله مثل أن يشفع الإنسان عند من يرجوه المشفوع إليه، أو يخافه، كما يشفع عند الملك ابنه، أو أخوه، أو أعوانه، أو نظراؤه الذين يخافهم ويرجوهم، فيجيب سؤاله، لأجل رجائه أو خوفه منهم، أو أن لهم حقاً عنده يوجب عليه الإجابة فيمن يشفعون فيه عنده، وإن كان يكره شفاعتهم، ويشفعون بغير إذنه. فهذه الشفاعة هي التي نفاها الله جل وعلا في الآيات الأول، وهي أن يكون للشافع حق عند الله كما للشفعاء حق عند الملوك ونحوهم.
وهذا النوع الشركي هو الذي أشرك به من أشرك بالله، واتخذ وسائط يسألهم الشفاعة. كما كان يفعله النصارى، وأشباههم في ذلك من هذه الأمة، ويعتقدون أن لهم أن يسألوا المقبورين من الأنبياء والصالحين شفاعتهم، وهم يعتقدون أن لهم حقاً عند الله به يجيب شفاعتهم ولا يرد شفاعتهم.
وحقيقة هذه الشفاعة عند المتصوفة والضلال من هذه الأمة: طلب الشفاعة من غير الله على جهة أن المطلوب يملك الشفاعة ويستحق الإجابة على الله، وذلك لا شك تنقص لربوبية الله تعالى وتقييد لمشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، فالكلام في استحقاق الله للشفاعة وكونها حق خالص له وحده فرع عن الكلام في إرادة الله وعمومها وشمولها وكونها نافذة في جميع مخلوقاته.
فمن أثبت لغير الله حق الشفاعة عند الله فقد قيد إرادة الله بإرادة المخلوق وجعل إرادة المخلوق نافذة وحاكمة على إرادة الله سبحانه. بينما المخلوق هو الذي لا يكون له فعل إلا بإرادة الله تعالى، فمشيئة المخلوق محكومة بمشيئة الله،
وقد قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
فالعبد هو الذي تقيد مشيئه بمشيئة الله، وليس الله هو الذي تقيد مشيئته بمشيئة العبد، ولأن مشيئة الله نافذة على كل مخلوق، وهو سبحانه لا مكره له ولا استحقاق لأحد عليه، فمقتضى ذلك أن لا يكون لأحد حق الشفاعة عنده، بل الشفاعة لله وحده يأذن فيها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء. ولهذا نفى الله سبحانه أن يكون غيره يملك الشفاعة من دونه في آيات كثيرة، وقد سبق إيراد بعض هذه الآيات فيما قبل. فهناك شفاعة منفية وشفاعة مثبتة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التفريق بين الشفاعة المنفية والشفاعة المثبتة: (الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته.
فأما إذا أذن له أن يشفع فشفع، لم يكن مستقلاً بالشفاعة، بل يكون مطيعًا له؛ أي تابعًا له في الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولاً، ويكون الأمر كله للآمر المسؤول).
والله مع أنه مالك الشفاعة فإنه قد يأذن فيها لمن يشاء من عباده، ولا يلزم من ذلك أن يكون المأذون له في الشفاعة قد ملكها مع الله، بل هي لله وحده قبل الإذن وبعده. وإنما يكرم بها الله بعض عباده، ويشرفهم فيقبل شفاعتهم إذا كانت شفاعتهم عنده مرضية شرعًا. فحقيقة الشفاعة: إظهار كرامة الشافع وإرادة رحمة الله للمشفوع، وإلا فالأمر كله بيد الله، ليس فيه أي حق لنبي مرسل ولا لملك مقرب، ولا لأحد من خلقه مطلقاً.
كما أنه لا يلزم أن من أذن الله له في الشفاعة وأكرمه بذلك أن يكون الإذن له مطلقاً؛ لأنه لا فرق في الحقيقة بين ملكية الشفاعة والإذن المطلق فيها، وإنما يكون الإذن مقيدًا في كل شفاعة على الخصوص.
ولهذا لم يقبل شفاعة بينا محمد صلى الله عليه وسلم في أمه، ولا في أن يستغفر لبعض المنافقين، كما لم يؤذن لإبراهيم عليه السلام في أبيه، ولا لنوح عليه السلام في ابنه، مع أنهم أعظم الناس جاهًا ومنزلة عند الله، وإنما منع قبول الشفاعة منهم عدم رضى الله عن عمل المشفوع لهم لكونهم على الكفر، وسيأتي الكلام عن هذا قريباً.
ومن كل ما تقدم يتبين لنا أن من جعل المرجح والأصل في قبول الشفاعة مجرد إرادة الشافع، وأنه يشفع عند الله كما يشفع خواص الملوك ومن لهم منزلة عندهم، فإنه يكون بذلك مشركًا؛ لأ، هـ قد جعل على الله ضرورة من غيره، وقيد إرادة الله ومشيئته بإرادة المخلوق مهما كان جاهه ومنزلته عند الله، فإنه بهذا الاعتقاد وقع في الشرك في قدرة الله الكاملة، حيث تدخل فيه بعنصر خارجي.
وحقيقة الإذن للشافع في الشفاعة أن يقبل منه شفاعته فتكون نافعة، كما ذكره تعالى:(وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)، وقوله تعالى:(يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا).
والمقصود من الآيتين: أن الشفاعة عنده لا تنفع إلا من أذن له فقبل شفاعته التي تتضمن الشفاعة بما يحبه الله.
فالشفاعة لا تقبل عند الله إلا بشرطين اثنين: الرضا عن الشافع، والإذن له، ولابد أن تكون الشفاعة موافقة لشرع الله، فهذا هما شرطا الشفاعة المقبولة.
1 -
أما اشتراط الرضا عن الشافع فقد ورد في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
يقول ابن كثير: (هذا استثناء منقطع؛ أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له).
فهذه القاعدة التي ذكرها ابن كثير رحمه الله هنا عامة في كل آية تنفى فيها الشفاعة، أو ينفى ملكها، ثم يستثنى فيها الإذن للشافع الذي رضي الله عنه.
وليس المقصود نفي الشفاعة مطلقاً؛ لوجود الاستثناء فيها، وليس الاستثناء متصلاً؛ لأن المأذون له في الشفاعة لا يؤذن له فيها إذنًا مطلقاً، ولا يملكها بمجرد الإذن فيها.
ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)، وقوله تعالى:(وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى)، وقوله تعالى:(لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى).
فرضا الله عن الشافع شرط في الإذن له في الشفاعة. هذا عن شرط الرضى عن الشافع لكي يأذن له.
فهذا الشرط يتضمن شرطين في الحقيقة، هما: الرضا عن الشافع، وإذنه
للشافع بالشفاعة.
2 -
أما شرط كون الشفاعة مرضية لله أيضاً فقد جاءت آيات تنص على ذلك كمثل قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا).
وقد تقدم أن الإذن للشافع لا يكون إلا إذا رضي الله عنه، ولا يرضى عنه إلا إذا كان على التوحيد. وأما رضى الله لقوله فالمقصود رضاه لشفاعته، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت حقاً وصواباً. وقوله تعالى:(وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا). موافق لقوله تعالى في الآية الأخرى: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا).
فإذا لم تكن الشفاعة بالحق والصواب لم تقبل ولو تحقق الشرط الأول الذي هو الرضى عن الشافع.
ولهذا لم يقبل الله شفاعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أن يستغفر لأمه، بل قال صلى الله عليه وسلم:((استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي)). ولم يأذن الله له صلى الله عليه وسلم ولم يقبل شفاعته في بعض المنافقين مع استغفاره لهم، بل قال تعالى:(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ).
والسبب في ذلك: أنهم ماتوا على الكفر، والكافر لا يغفر الله له.
ومثل ذلك شفاعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في أبيه أن يدخله الله الجنة فلم تقبل شفاعته، وقد جاء في الصحيح مصرحًا هذا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((يلقى إبراهيم أباه فيقول: يارب، إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون. فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين)).
فالسبب في عدم قبول شفاعة إبراهيم عليه السلام مع عظيم منزلته عند الله هو كفر أبيه وأن الله لا يدخل من كان كافرًا الجنة.
ومثل ذلك أيضاً: شفاعة نوح صلى الله عليه وسلم في ابنه أن ينجيه الله من العذاب العام الذي حل بالقوم الكافرين الذين كذبوه وكان منهم ابنه، ولكن ما قبل منه، بل قال تعالى:(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً).
ولا يناقض ما سبق كونه صلى الله عليه وسلم يشفع في عمه أبي طالب، لأن شفاعته فيه ليست في إخراجه من النار ولو شفع في ذلك لعمه أبي طالب لم تقبل منه؛ لأنه مات على الكفر، كما لم يقبل شفاعته ودعاءه صلى الله عليه وسلم في أبويه. وإنما شفاعته لأبي طالب لتخفيف العذاب عنه.
وخلاصة الكلام: الشفاعة تنقسم إلى قسمين:
الأول: الشفاعة في الدنيا إلى الأحياء: وهي مشروطة بشرطين:
أ- ألاّ يكون في حد من حدود الله.
ب- ألاّ يترتب عليه تحليل حرام أو تحريم حلال.
الثاني: الشفاعة في الآخرة: وهي مشروطة أيضًا بشرطين هما:
أ- الرضا من الله على الشافع.
ب- كون الشفاعة مرضية لله أيضًا، وبالتالي: الإذن ـ أو الأمر ـ له تفضلاً منه وكرمًا.
فهذا هو معنى الشفاعة وأسباب حصولها، ولكنه في مفهوم الناس غير هذا، كما سبقت الإشارة إليه ويتمثل ذلك في قولهم:
(فالقائل: يا نبي الله اشفني، واقض ديني، لو فرض أن أحدًا قال هذا، فإنما يريد: اشفع لي في الشفاء، وادع لي بقضاء ديني، وتوجه إلى الله في شأني، فهم ما طلبوا منه إلا ما أقدرهم الله عليه، وملكهم إياه من الدعاء والتشفع).
ففي هذا النص نرى شيئين واضحين:
أ- اعتقاد المتصوفة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع لهم الآن إذا سئل منه، وأن شفاعته مقبولة مطلقاً.
ب- اعتقادهم أن الرسول قد ملك هذا الأمر فلا يحتاج إلى الإذن ـ الذي هو
الأمر من الله سبحانه بخصوص الشفاعة ـ.
وقبل أن نرد على هاتين الشبهتين يحسن بنا أن نذكر الأدلة التي يتشبثون بها على هذا المعتقد، فأقول:
إن للمتصوفة تجاه هذا المعتقد ثلاثة أنواع من الاستدلالات.
منها: استدلالهم ببعض الأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة ولكنها لا تدل على المدّعي بأي شكل من الأشكال، بل تدل على ضد مقصدهم. فمثلاً تراهم كثيرًا ما يستدلون بحديث الشفاعة العظمى في ميدان المحشر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم له حق الشفاعة مطلقاً، ولكنهم لا ينظرون إلى آخر الحديث الذي فيه:((ارفع رأسك، سل تعط، اشفع تشفع)). حيث هذا الجزء من الحديث دل دلالة صريحة على أن الرسول ما بدأ بالشفاعة حتى أذن له بها، وأمر بها.
ومنها: استدلالهم ببعض الأحاديث الموضوعة والواهية: مثل ما روي: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)). ومعلوم أن هذا من الأحاديث الواهية المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم عند المحققين.
ومنها: قياسهم الخالق على المخلوق، حيث إن المخلوق غالباً يتوسط في الوصول إلى الكبار للحصول على مقاصدهم فيقيسون الخالق عليه للوصول إليه. وقد سبق معنا أن هذه هي الشبهة الرئيسة للمشركين الأولين والآخرين وقد أطلنا الكلام في الرد عليها في شبهة الواسطة فلينظر ها هنا.
أما الرد على معتقداتهم في باب الشفاعة التي تم إيرادها آنفاً: فيرد عليهم بما يلي:
الرد على شبهة جواز طلب الشفاعة من الرسول أو الأولياء وأنه يشفع لمن يطلب منهم الشفاعة، وأن شفاعتهم مقبولة مطلقاً فلا عبرة باشتراط الإذن:
هذه العقيدة مشتملة على ثلاثة أشياء كلها باطلة:
الأول: جواز طلب الشفاعة من الرسول بعد موته.
الثاني: أنه يشفع لهم.
الثالث: أن شفاعة الرسول مقبولة مطلقاً.
أما الأول: فنقول في الرد عليه:
ليس هناك دليل يدل على جواز طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، بل الأدلة صريحة في المنع من وجوه عدة.
منها: ما مر معنا أن الشفاعة بمعنى الدعاء، والدعاء هو العبادة، ولا يجوز العبادة لغير الله مطلقاً، سواء كان نيباً مرسلاً أو ملكًا مقرباً.
ومنها: أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ كان شأنهم أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وأما بعد موته فما كانوا يأتون إليه، بل أجمع أهل القرون الثلاثة المفضلة على أمرين:
الأول: عدم مشروعية طلب الشفاعة منه في قبره، وإنما ظهر خلاف من خالف من شذاذ الناس بعد نشاط الدعوات الباطنية كالإسماعيلية والفاطمية، ومن تأثر بها كالموسوية الجعفرية وشبهها، فروجوا هذا في الناس، فأشكل على بعضهم. فقد كان المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة لا يعرفون طلب
الشفاعة منه بسؤاله إياها، بل مضى الخلفاء الراشدون ولم يسأل أحد منهم نبي الله الشفاعة بعد موته، ولوكانت مشروعة لكانوا أحرص عليها، ولم يتركوا طلبها منه بعد موته، فلو لم يكن تغير نوع الحياة له أثر عندهم لما تركوا ذلك. وكذلك مضى التابعون وتابعوهم بإحسان وتابعوهم. حتى نشطت الدعوات الباطنية التي تسترت بالتشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم ألفوا الكتب باسمهم، وهذا ظاهر لمن درس حركة إخوان الصفا والعبيديين. فالمقصود من هذا: أن الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بسؤاله الشفاعة بعد موته محدث أحدثه الباطنيون.
الثاني: ـ وهو الأهم ـ أن أهل السنة مجمعون على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الشفاعة يشفع بها، ولم يذكروا منها طلبها منه في قبره، بل كلها يوم القيامة.
وأما الرد على الدعوى الثانية: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع الآن في قبره، فيقال:
أولاً: شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره لأمته ليس عليه دليل صحيح لا من الكتاب والسنة ولا من العقل، إذ انتقل الرسول إلى دار غير هذه الدار وهي دار الآخرة، وحياة الرسول في قبره حياة برزخية، لا يدري كنهها إلا الله، ولم يخبرنا الرسول عن حقيقة هذه الحياة، فقياس الحياة البرزخية على الحياة الدنيا قياس مع الفارق.
ثانياً: لم يأت نص صحيح دال على شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن يتشفع به، بل النصوص كلها متضافرة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يشفع يوم القيامة، فإنه قد جاء في حديث الشفاعة، ((أول شافع أول مشفع))، وهذه الشفاعة هي الشفاعة
العظمى لأهل الموقف بالنص والإجماع. فهذا قوله صلى الله عليه وسلم نحكمه على من ادعى محبته وتصديقه، فقوله:((أنا أول شافع وأول مشفع)) يقتضي أولوية مطلقة لا استثناء فيها، على كل من قامت قيامته.
ومن زعم أنه بعد موته في قبره يشفع وأن الصالحين يشفعون بعد موتهم في قبورهم فلا معنى لقوله: ((أنا أول شافع)) عند ذلك الزاعم، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في قبره لكان يشفع من حين موته إلى أن ينفخ في الصور، وحينئذ فلا معنى لقوله:((أنا أول)) إذ لو كان يشفع في قبره لانتفى تخصيصه صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة يوم القيامة. فإذا كان في حياته يشفع لهم بالدعاء، وبعد موته يشفع وبعد قيام قيامة الناس يشفع، فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم:((أنا أول شافع))؟ !
فإذا كان هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فما ظنك الآخرين؟ !
الرد على الدعوى الثالثة التي فيها: إن شفاعته صلى الله عليه وسلم مقبولة مطلقاً، يقال في الرد عليها:
هذا غلط: فإن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد يرد، وليس كل ما دعوا به أجيب، بل ربما امتنعت الإجابة لحكمة يعلمها الله عزوجل، إما أنه قد سبق في القضاء ما يخالف ما دعوا به، وإما لأنهم دعوا وشفعوا فيمن لمن يرض الله قوله، أو نحو ذلك من الموانع.
ومن المتقرر في الكتاب والسنة أن الأنبياء ليس لهم حق في أن يجاب جميع ما دعوا به، ودعاؤهم حري بالإجابة وهم أرفع من غيرهم من أممهم، فإجابة سؤالهم إما إعطاؤهم عين ما سألوا، أو تأخير ذلك بالأجر الجزيل لهم.
وقد سبق معنا بيان نماذج من أدعية الأنبياء التي ما قبلت، منها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في أمه، ودعوة نوح عليه السلام في ابنه، ودعوة إبراهيم عليه السلام في
أبيه، فإذا كان هذا حال من هو مقرب إلى الله بلا شك، مع من هم أقرب لديهم، فكيف إجابة الدعاء لمن ليسوا بأقرباء لهم؟ وكيف بمن هو أبعد الناس لهم في سيرهم وهديهم وسننهم؟ وكيف حال غير الأنبياء كالصالحين الذين هم صالحين لدينا وربما يكونون من أخبث الخلق عند الله؟
قال الحافظ في الفتح: (دعواتهم على رجاء الإجابة). وقال آخر: (إن لكي نبي دعوة مجابة ألبتة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهو على رجاء إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب).
الشبهة التاسعة: شبهة التبرك:
سبق معنا بيان معنى التبرك، وقد جاء فيه أنه بمعنى طلب الخير واستدامته، ومعلوم أن جلب الخير ودفعه ليس في قدرة البشر، وإنما التبرك من الله، وقد جعل الله في الدنيا أشياء مباركة، ولكن ليس منها طلب الخير ودفع الشر من غير الله كالأنبياء والرسل بعد موتهم بذواتهم، كما أنه ليس منها طلب الخير ودفع الشر بالأولياء والصالحين. فالمتصوفة الذين يرون أن الاستغاثة والدعاء والتوجه إلى غير الله ما هي إلا تبرك بهؤلاء الكرام على حصول المقصود غير مشروع أصلاً، فلا يجوز التبرك في غير ما ورد عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المتصوفة الذين يتبركون بالقبر، إن كان قصدهم طلب الخير والنماء من المتبرك به فلا شك أنه كفر وشرك أكبر، وإن كان مقصدهم: طلب الخير والبركة من الله ولكن بواسطتهم فلا شك أنه بدعة مذمومة، بل ربما
يكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد ذلك سببًا، فإن اعتقاد ما ليس بسبب مشروع سببًا شرك أصغر.
الشبهة العاشرة: تشبثهم بسوء فهمهم لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: ومن هذه الآيات والأحاديث ما يلي:
فمن الآيات:
أ- قوله تعالى: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ).
ب- قوله تعالى: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ).
جـ - قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ).
د- قوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ).
هـ - قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
و- قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
ز- قوله تعالى: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ).
فهذه بعض الآيات الكريمات التي استدل بها بعض المشركين بالله جل وعلاه على تبرير عملهم الشركي؛ من الدعاء والاستغاثة والنداء والاستعانة والتشفع والالتجاه إلى غير الله.
أما الأحاديث النبوية التي استدلوا بها على تبرير شركهم في كثيرة، أبرزها ما يلي:
أ- حديث الشفاعة العظمى.
ب- أحاديث ترغيب المسلم في قضاء حاجة أخيه.
الجواب عن الاستدلال بهذه الآيات والأحاديث:
إن الذين استدلوا بهذه الآيات والأحاديث هم في الحقيقة ملبسون، ومحرفون الكلم عن مواضعه، ويتلاعبون بنصوص الكتاب والسنة، ويضعون النصوص الشرعية في غير موضعها؛ لأن هذه النصوص إنما تدل على جواز مناصرة بعض الناس بعضاً، واستغاثة بعضهم ببعض فيما يقدرون عليه، وهو المعنيّ بما تحت الأسباب.
ولا تدل إطلاقاً بحال من الأحوال على جواز استغاثة الناس بعضهم ببعض فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهو المعنيّ بما فوق الأسباب.
ولكن هؤلاء الملبسين تراهم يستدلون بنصوص الاستغاثة المباحة على
الاستغاثة المحرمة الشركية، كدأب أهل التحريف من اليهود والمتفلسفة المتكلمة الجهمية، ولعل بعضهم لجهله لم يتصور محل النزاع، ولا عرف منار البحث والدفاع، فإن طلب الدعاء من الأحياء مسألة.
ونداء غير الله تعالى أمواتًا وأحياءً بما هو من خصائص الألوهية مسألة أخرى.
وبين المسألتين بون بعيد، وفرق ما عليه من مزيد.
فهذان النوعان من الاستغاثة والاستعانة، والاستنصار والاستمداد، أمران متضادان، ومسألتان متباينتان، وهما حقيقتان مختلفتان، ومفهومان متغايران، لكل واحد حكم مغاير لحكم الآخر، فلا يجوز الخلط بين الحكمين حتى لا يكون تلبيسًا.
فالنوع الأول جائز بلا ظنون، لابد منه، ولا ينكره إلا مجنون، لكنه خارج عن محل النزاع.
وأما النوع الثاني فهو محل النزاع، وهو لا يجوز؛ لأنه إشراك بالله عز وجل، ومتضمن لعبادة غير الله سبحانه وتعالى.
الشبهة الحادية عشرة: استدلال القبوريين ببعض الآيات القرآنية التي هي ليست في محل النزاع:
مثل قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ). قالوا: أمرنا الله بالاستعانة
بالأعراض ولم يقل: استعينوا بالله. ويقول آخر: من قال: لا ينبغي الاستعانة بغير الله فقد كفر، لمخالفته نص الكتاب في قوله تعالى:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ).
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بجواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات، والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله رب العالمين، بل هذه الآية من أقوى الأدلة على وجوب الالتجاء إلى الله والاستغاثة به عند الملمات، والتوسل إلى الله بالأعمال الصالحات، إذ الصلاة والصبر من أعظم الأعمال الصالحات التي يتوسل بها إلى الله عند الكربات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر توسل إلى الله بالصلاة.
بل الآية من قبيل قوله تعالى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)؛ فكما أن المراد منها الاعمال الصالحة على تفسير السلف من الأثر والرأي، هكذا هنا المراد من هذه الآية: التوسل بالأعمال الصالحة.
الشبهة الثانية عشرة: استدلال المتصوفة القبورية بقصة هاجر رضي الله عنها:
والقصة: أن إبراهيم عليه السلام لما ترك ابنه إسماعيل عليه السلام وهاجر رضي الله عنها بوادي مكة قبل أن يبني فيها الكعبة، وقبل ظهور ماء زمزم، ولم
يكن بمكة يومئذ أحد، ولا ماء، ووضع عندها جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، فجعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء، حتى نفد ما في السقاء فعطشت وعطش إسماعيل عليه السلام، وجعل يتمرغ من شدة العطش، فوجدت هاجر الصفا أقرب جبل إليها، فقامت عليها لترى أحدًا، فهبطت من الصفا ثم أتت المروة، فقامت عليها فلم تر أحدًا، فعلت ذلك سبعاً، (فلما أشرفت المروة سمعت صوتًا .. فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث)، وفي رواية:(أغث إن كان عندك خير).
فهذه القصة من أقوى الأدلة عند المتصوفة والقبورية على الإطلاق، فإن فيها تنصيصًا بلفظ الغوث وفيها استغاثة بالغائب عن البصر، وعلى طلب الغوث والمدد من الغائب عن النظر.
يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن هذه القصة لا صلة لها بالاستغاثة بالغائب الذي لا يقدر ولا ينفع أو الميت الذي لا يعلم ولا يرى ولا يسمع، كما لا علاقة لها بطلب ما لا يقدر عليه إلا الله، بل تدل على جواز الطلب من الحي الحاضر فيما يقدر عليه، فإن هاجر لما نفد الماء ما نادت أحدًا بالاستغاثة، بل إنما نادت لما أحست صوتًا وسمعها، حيث سمعت الصوت من جبريل الحاضر الحي، فطلبت منه ما كان يقدر عليه وإن لم تكن تراه، ومن ظن غير ذلك فقد افترى على أمنا هاجر،
ورماها بالشرك، وحاشاها أن تشرك بالله.
الشبهة الثالثة عشرة: استدلال المتصوفة القبورية على تبرير نداء الغائب والاستغاثة ببعض الأحاديث الضعيفة:
1 -
بما روي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه والذي فيه: ((إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا، يا عباد الله احبسوا، فإن لله عز وجل في الأرض حاضرًا سيحبسه)).
يجاب عن هذه الشبهة: بأن الحديث ضعيف لعلتين: الأول: أنه منقطع، ثانياً: أن في إسناد رجلاً ضعيفاً، فلا يصح الاستدلال به.
وما أحسن ما جاء في ذم الكلام: أن عبد الله بن المبارك ضل في بعض أسفاره في طريق، وكان قد بلغه أن من اضطر في مفازة فنادى: عباد الله أعينوني! أعين، قال: فجعلت أطلب الجزء أنظر إسناده. والمقصود: أنه لم يستجز أن يدعو بدعاء لا يرى إسناده، هكذا فليكن الاتباع.
واستدلوا أيضًا بما جاء في رواية أخرى:
2 -
((إذا ضل أحدكم شيئًا، أو أراد عونًا، وهو بأرض ليس بها أنيس،
فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عبادًا لا نراهم)).
يقولون: إن في الحديث تنصيصًا على نداء الغائب.
يجاب عن هذه الشبهة:
بأن الحديث ضعيف لانقطاعه.
وعلى فرض صحة الحديثين السابقين: ففيهما نداء للأحياء وطلب منهم ما يقدرون عليه، وهذا مما لا نزاع في جوازه.
ويقول الشيخ الألباني ـ حفظه الله ـ: (ومع أن الحديث ضعيف كالذي قبله، فليس فيه دليل على جواز الاستغاثة بالموتى من الأولياء والصالحين، لأنهما صريحان بأن المقصود بـ (عباد الله) فيهما خلق من غير البشر، بدليل قوله في الحديث الأول:((فإن لله حاضرًا سيحبسه عليهم))، وقوله في هذا الحديث:((فإن لله عبادًا لا نراهم)). وهذا الوصف إنما ينطبق على الملائكة أو الجن، لأنهم الذين لا نراهم عادة)).
وقد جاء في حديث آخر تعيين أنهم طائفة من الملائكة، أخرجه البزار كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: ((إن لله تعالى ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من
ورق الشجر، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله أعينوني)). وقد رواه البيهقي في الشعب موقوفًا على ابن عباس. فهذا الحديث يعين أن المراد بقوله في الحديث الأول: ((يا عباد الله)) إنما هم الملائكة، فلا يجوز أن يلحق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يسمونهم برجال الغيب منالأولياء والصالحين، سواء كانوا أحياء أو أمواتًا، فإن الاستغاثة بهم وطلب العون منهم شرك بيّن؛ لأنهم لا يسمعون الدعاء، ولو سمعوا ما استطاعوا الاستجابة وتحقيق الرغبة، وهذا صريح في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).
الشبهة الرابعة عشرة:
قولهم: إن النصوص التي تنهى عن دعاء غير الله والاستغاثة بغيره سبحانه إنما وردت في الأصنام والأوثان فقط، والأولياء والصالحون ليسوا مثل الأصنام.
قالوا: لا يقاس الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ودعائهم والنذر لهم على عبادة الأصنام والأحجار والأوثان التي لا مكانة لها ولا احترام لها عند الله ولا تضر ولا تنفع، لأن المشركين كانوا يعبدونها على أساس أنها تستقل بالنفع والضر، وأن لها تأثيرًا وشرفًا ذاتيًا وتدبيرًا، وأما نحن فنستغيث بالأنبياء والأولياء الذين لهم مكانة عند الله، وهم أحياء يعلمون ويسمعون. فأين هذا من ذاك؟
يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن هذه الشبهة تتضمن شبهات كثيرة
الأولى منها: أن دعاء الأموات والاستغاثة بالأموات عند الكربات ليست من العبادة فليست من الشرك بالله تعالى. ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
هذا القول ناتج عن الانحراف في مفهوم العبادة، حيث حصرت العبادة لدى البعض في عدة أعمال ظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وبعض الأعمال القلبية من اعتقاد الربوبية، وبناء على ذلك أخرجوا الدعاء والاستغاثة من مفهوم العبادة، فقالوا: إن الدعاء والاستغاثة، ونداء الأولياء وطلب المدد منهم عند البلاء ليست هذه الأمور من العبادة في شيء، ولا من الشرك بالله، لأن العبادة لا تتحقق إلا إذا اعتقد في غير الله القدرة الكاملة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر، والربوبية، ونفوذ المشيئة لا محالة، وإذا كان الأمر كذلك فمن استغاث بالأولياء ودعاهم لدفع الضر وجلب النفع، وطلب منهم المدد فهو لم يعبد غير الله، وإذا لم يعبد غير الله لم يشرك به أيضًا.
ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
سبق معنا بيان معنى العبادة في مفهوم الشرع، وقد بينا بالأدلة والبراهين أن ما ذكروه من العبادة والنداء والسؤال، والشفاعة والاستشفاع، والنصر والاستنصار، والمدد والاستمداد، والعون والاستعانة، والغوث والاستغاثة، والدعاء والحب، والتوكل والخضوع، والإبانة، والخوف والرجاء، والطاعة، هذه كلها وما شاكلها من العبادة الشرعية. فإخراجهم هذه الأشياء كونها من العبادة باطل شرعًا، وقد سبق معنا بيان هذا الأمر مفصلاً فلا نعيده هنا، ويكتفي هنا بالردود على بعض هذه الأفكار بما يلي:
أولاً: إن هذا القول يصادم النصوص الواضحة التي سمت دعاء المسألة عبادة، وهي كثيرة:
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)). وقد سبق إثبات ذلك بالتفصيل.
ثانياً: إن أكثر استعمال الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان العرب ومن بعدهم من العلماء في السؤال والطلب. ومن الأدلة على ذلك: صنيع المؤلفين من المحدثين وغيرهم، حيث يعتقدون في كتبهم بباب الدعوات أو
كتاب الدعوات أو مثل هذه العبارة ثم يوردون ما يتعلق بدعاء المسألة فقط. وأغلبهم لا يتعرضون لدعاء العبادة في تلك الكتب والأبواب.
ومثل هؤلاء آخرون الذين أفردوا كتبًا خاصة بالدعاء وهي كتب كثيرة للمتقدمين والمتأخرين، لم يذكروا في تلك الكتب إلا ما يتعلق بدعاء المسألة. فهذا يدل على أن الاستعمال لكلمة الدعاء في لسان المصنفين من العلماء إنما هو دعاء المسألة.
ثالثاً: لو سلمنا أن المراد بالدعاء في الآيات دعاء العبادة، لا نسلم أن دعاء المسألة لا يدخل في العبادة، فإنه إن لم يكن الدعاء من العبادة فلا عبادة يمكن تصورها، لأن الدعاء يتضمن أنواعًا من العبادات وليس عبادة واحدة فقط، فهو يتضمن الرجاء والخوف والتوكل والتضرع والابتهال والخشية والطمع والتوجه إلى الله والإقبال عليه والانطراح بين يديه وحسن الظن بالله والمراقبة لله، كما أنه يتضمن سؤاله وذكره وثناءه والتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
فإذا لم تكن هذه الأمور عبادة فلا يمكن أن نتصور عبادة، وقد وردت الأدلة الصحيحة بأن الدعاء هو العبادة وأنه مخها وروحها، قال صلى الله عليه وسلم:((الدعاء هو العبادة)) (فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات فإن لم يكن الإشراك فيه شركًا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولي أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادات).
فتحصّل من هذا أن الدعاء داخل في العبادة، وأن الآيات والأحاديث
الواردة في العبادة والتحذير من صرفها لغير الله تعالى تشمل وتعم جميع أنواع العبادات ومن أجلّها دعاء المسألة، وقد قدمنا تلازم نوعي الدعاء وأن دعاء العبادة يستلزم الطلب والسؤال، فلا ينفع الخصم تأويل معنى الدعاء إلى العبادة وتضييقه لمفهوم العبادة حيث يظن أنها خاصة بالصلاة والصوم والحج.
وما وقع من وقع في الشبهة المذكورة إلا لحصره العبادة في بعض الأعمال الظاهرة. وقد سبق معنا بيان أبعاد العبادة وأنواعها، فمن عرف أنواع العبادة يعرف جيدًا أن هذه الشبهة ما تطرق إلى الأذهان إلا لقلة العلم وعدم معرفة مقاصد الشرع ومفهوم الشرع في العبادة.
الثانية منها: أن الشرك لا يتحقق باعتقاد الربوبية والخالقية والاستقلال بالنفع والضر في غير الله، وقد سبق أن تعرضنا لشبهة الاستقلال، وذكرنا أيضًا: أن المشركين باعتقاد الاستقلال بالنفع والضر في الأصنام والأوثان لم يكن عليه حتى العرب في جاهليتهم، ولم يكن عليه شرك الأمم السابقة أيضاً.
الثالثة منها: إن تلك النصوص إنما وردت فيا لأصنام فقط، والأولياء والصالحون ليسوا مثل الأصنام، فمن يدعوهم ليس مثل من يدعو الأصنام.
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
1 -
إن المشركين الذين وردت فيهم تلك النصوص ليسوا كلهم يعبدون الأصنام فإن منهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الملائكة،
ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الأحجار وهي في الأصل صور رجال صالحين، والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن الكريم، ومن أوضحها قوله تعالى:(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا).
فهذه الآية في العقلاء بدون شك وإن اختلف المفسرون في تعيينهم:
أ- فقيل: الجن، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:(كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجن واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ). وفي رواية: (فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون).
ب- وفي رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود أنها نزلت في الملائكة، ومثله عن عبد الرحمن بن زيد.
جـ - وفي رواية أنهم عزير وعيسى وأمه والملائكة، روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
فهذه الأقوال المنقولة عن السلف عن تفسير هذه الآية ليس بينها اختلاف، لأنها عامة تشمل كل هذه الأقوال، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم إنه ليس مراد من فسرها بالجن أو الملائكة أنها خاصة بذلك، وإنما مراده مجرد التمثيل.
قال شيخ الإسلام: (وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدًا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز؟ فيريه رغيفًا فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه.
وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه، وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس).
فمعنى الآية أن الذين يدعوهم المشركون هم أنفسهم يتقربون إلى الله بالطاعات ويرجونه ويخافونه فكيف يجوز دعاؤهم؟ وهذا كقوله تعالى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ).
وأما القول بأنها لا تعم إلا الذين كانوا أحياء في وقت النزول ـ وهم الملائكة والجن لأنهم هم الذين يتقربون ويرجون ويخافون وقت نزول الآية، وأما
الذين ماتوا مثل عزير ومريم فلا تشملهم ـ ففيه نظر؛ لأنه يمكن أن يقال: إن الآية تذكر صفتهم في حال حياتهم فقد كانوا يتقربون إلى الله تعالى، ويمكن أن يقال أيضاً: إنهم لا زالوا يتقربون كما ورد أن موسى يصلي في قبره، وأما الرجاء والخوف فلا ينقطع إلا بعد دخول الجنة يوم القيامة.
فتبين بهذا أن الآية في المعبودين من العقلاء بدون تخصيص صنف دون صنف. وقد اتفقت أقوال المفسرين على أن هذه الآية في المدعوين العقلاء وليست في الأصنام: يقول الرازي: (وليس المراد: الأصنام، لأنه تعالى قال في صفتهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)، وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة).
ومما يدل على أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن يعبدون غير الأصنام ما بينه الله سبحانه وتعالى في كتبه من الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالصالحين، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام، والشرك بالجن، وأصل ذلك كله الشرك بالشيطان. وقد سبق معنا بيان أنواع الشرك التي كانت موجودة في الجاهلية، واستدللنا لكل هذه الأنواع من الشرك بدلالات من القرآن والسنة ومن أخبار العرب وتاريخهم بما لا مزيد عليه.
2 -
لو سلمنا أن تلك النصوص وردت في الأصنام فقط على سبيل التنزل فإننا نقول: إن تلك الأصنام هي تماثيل لقوم صالحين؛ فقد ثبت في ود وسواع ويغوث
…
إلخ إنها أسماء رجال صالحين من قوم نوح. كما ثبت أن اللات رجل يلت السويق للحجيج، وقد تقدم معنا ذكر ذلك كله بالتفصيل.
فعلى هذا فعبادة الأصنام ترجع في الحقيقة إلى عبادة الصالحين فهي الأساس في العبادة وأصل الفتنة ورأس البلية. وقد ذكر كثير من علماء الإسلام هذا المعنى وبينوا أن عبادة الأصنام ترجع إلى عبادة العقلاء من الملائكة والأنبياء والصالحين أو الكواكب.
3 -
إن تلك النصوص عامة شاملة لجميع المدعوين من دون الله سواء كانوا من الأصنام الجامدات أو العقلاء؛ لأن تلك النصوص وردت بألفاظ العموم فتشمل الجميع.
وبعض تلك النصوص جاءت بألفاظ خاصة بالعقلاء، نحو (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). وليست هذه الآية في الأصنام كما يزعمه من لم يتدبر، لأن (الذين) لم يخبر به إلا عن العقلاء، ولأن الأصنام من الأخشاب والأحجار لا يحلها الموت.
وبهذا يتبين أن النصوص عامة لكل المدعوين من العقلاء وغيرهم، ومن ادعى التخصيص بغير العقلاء فعليه البرهان ولا برهان له يدل على الفرق بين العقلاء وغيرهم؛ (لأن الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسماً آخر، فلا اعتبار بالاسم قط
…
وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة والتقرب إليها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور
…
).
وإنما قلنا بأن الآيات جاءت بألفاظ العموم لأنها جاءت بصيغة الموصول وهي من صيغ العموم؛ كقوله: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)، وقوله:(وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ)، وقوله:(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ).
فهذه الموصولات في كلام الله وكلام رسوله واقعة على كل مدعو ومعبود
نبيًا كان أو ملكًا أو صالحًا، إنسيًا أو جنيًا، حجرًا أو شجرًا متناولة لذلك بأصل الوضع، فإن الصلة كاشفة ومبينة للمراد، وهي واقعة على كل مدعو من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية.
وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب، والمعهود عند من يعقل من أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين قد عبدوا مع الله وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم.
الشبهة الخامسة عشرة: شبهة تنزيل الآيات القرآنية المنزلة على المشركين على المؤمنين:
إن القبوريين لما كانوا يدعون الأولياء والصالحين، واستدل عليهم العلماء بالآيات القرآنية والأحاديث الواردة في أن الدعاء والطلب والشفاعة وغيرها من العبادة، وأن الله عز وجل قد كفّر المشركين الأول لهذه الأعمال، قالوا: إن المشركين الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ونحن نشهد الشهادتين ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم
…
فكيف تجعلوننا مثلهم بمجرد قصدنا الأولياء للشفاعة؟
واحتجوا على هذا بحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا
…
)) وحديث أسامة، وغيرها من الأحاديث الآمرة بالكف عمن قال: لا إله إلا الله.
يجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
الإقرار بالشهادتين والاعتراف بالشريعة الإسلامية لا يغني عن الاحتراز من الوقوع في نواقض الإسلام، ولا يلزم من ذلك بقاء الرجل على الإسلام ولو أتى بالكفريات وربما يناقض الشهادتين، والأدلة على ذلك كثيرة:
1 -
إجماع العلماء رحمهم الله على أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء يكفر، قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا).
وقد علم أن التوحيد أهم أركان الإسلام، فمن أنكره أو أنكر بعض جوانبه فقد كفر.
2 -
وقد وقع في التأريخ الإسلامي ما يدل على إجماع العلماء على تكفير من أنكر بعض الشيء من الدين، ومن ذلك:
أ- إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال المرتدين بعد مناقشة عمر لأبي بكر وبيانه له، فلم يحصل بينهم في قتالهم خلاف مع أن بعضهم لا زال يقر بالإسلام.
ب- قد حرق علي رضي الله عنه الذين غلوا فيه وألهوه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا من التابعين، وقد أنكر عليه ابن عباس الإحراق بالناس ـ لما جاء
عنده عن الرسول منع الإحراق بالنار ـ لا أصل قتلهم.
3 -
فقهاء المذاهب يعقدون أبواباً في أحكام الردة، ولو أن المسلم لا يمكن وقوع الكفر منه لما كانت حاجة إلى عقد تلك الأبواب، وقد ذكروا في تلك الأبواب ما هو أقل بكثير مما نحن فيه.
4 -
قد وردت آيات تدل على ارتداد من ارتكب بعض الكفريات مع كونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه، ويقاتلون الكفار، قال تعالى:(يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)، وقال سبحانه:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ). وهؤلاء كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلو كان مجرد الشهادتين يمنع الحكم بالكفر لما كفرهم، وحكم بأنهم كفروا بعد إيمانهم.
5 -
كما أنه قد وردت آيات أخر تبين أن من أشرك يبطل عمله حتى ولو كان من الأنبياء والمرسلين مع أن الله عز وجل عصمهم، فكيف بغيرهم؟ قال تعالى بعد ذكر جملة من الأنبياء:(وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
6 -
الأنبياء والرسل الكرام وجلة الصالحين كانوا يخافون على أنفسهم الشرك، ولو كان مجرد النطق بالشهادتين يكفي ولا يضر الإتيان بما يناقض ذلك لما خافوا على أنفسهم من الشرك. قال إبراهيم عليه السلام:(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ). وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك وقال إنه أخفى في أمته من دبيب النمل على الصخرة الصماء في ليلة ظلماء.
7 -
يقال أيضًا: إن الجامع بين المشركين من الأولين والآخرين موجود وهو الشرك، فالحكم في ذلك واحد لا فرق فيه لعدم الفارق ووجود الجامع. وفي أصول الفقه: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويلزم من هذا الاعتراض أن يقال: كل حكم نزل على سبب مخصص في قضية سالفة فهو لا يتعداها إلى غيرها.
وهذا باطل، وتعطيل لجريان الأحكام الشرعية على جميع البرية؛ لأنه يلزم من اعتقاد أن الآيات لا تشمل إلا المشركين الأوائل الذين نزلت فيهم أنها لا حكم لها الآن، فالذي يجب على الإنسان إذا قرأ القرآن أن لا يحسب أن المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا، بل الواقع أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم بطريق الأنموذج. بحكم الحديث: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذور القذة بالقذة
…
)).
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في الرد على مثل هذه الشبهة: (إن من منع تنزيل القرآن، وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل تحت العموم اللفظي، فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن، وهجراً له وعزلاً عن الاستدلال به في موارد النزاع، فنصوص القرآن وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب.
وما المانع من تكفير من فعل ما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به، مع معرفته؟ ).
ويقول ابن سحمان: (فمن فعل كما فعل المشركون من الشرك بالله، بصرف خالص حقه لغير الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، واستغاث بهم كما يستغيث بالله، وطلب منهم ما لا يطلب إلا من الله، فما المانع من تنزيل الآيات على من فعل كما فعل المشركون، وتكفيره، وقد ذكر أهل العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن إذا عميت قلوبهم عن معرفة الحق، وتنزيل ما أنزله الله في حق المشركين على من صنع صنيعهم واحتذا حذوهم فلا حيلة فيه).
وأما احتجاجهم بالأحاديث الآمرة بالكف عمن قال: لا إله إلا الله، فيقال: إن الأحاديث تدل على وجوب الكف عمن قالها إلا أن يتبين منه ما يناقض تلك الكلمة، كدعاء غير الله تعالى، والاستغاثة بالأولياء وما إلى
ذلك.
وقد ثبت في بعض طرق الأحاديث ما يفيد ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث له: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)). فقوله صلى الله عليه وسلم: ((يؤمنوا بي وبما جئت به)) يدل على وجوب الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي مجرد الإيمان بالشهادتين فقط.
كما ورد نحوه في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله)).
فدل على اشتراط الكفر والبراءة مما يعبد من دون الله، وأنه لا يكتفي بمجرد النطق بلا إله إلا الله.
ويدل لذلك أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يحتجون به ((إلا بحقها)) وفي رواية: ((إلا بحق الإسلام)). وحقها: إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا الإلهية والعبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة؛ فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء.
وقد صرح بعض العلماء بأن حديث الأمر بالكف بالإقرار بالشهادة خاص بمشركي العرب، وأما من كان يقر بالتوحيد كاليهود فلا يكتفي بقوله: لا إله إلا الله؛
لأنها من اعتقاده، فلابد من إيمانه بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم من المعروف إن لكلمة (لا إله إلا الله) شروطًا لصحتها، فليس كل من قال لا إله إلا الله يكون إيمانه صحيحًا، بل لابد من مراعاة الشروط فيها، فقد سئل بعض السلف: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: نعم، ولكن للمفتاح أسنان ـ وذكر أشياء ثم قال: ـ كما أنه لا يفتح بالمفتاح الذي لا أسنان له، هكذا مجرد النطق بالكلمة لا تجدي ولا تنفع.
فاتضح بما سبق: أن كلمة الشهادتين وإقامة الصلاة
…
إلخ إنما يفيد من التزم بمقتضى ذلك، ولم يأت بما يناقضه، وأما من لم يلتزم بذلك وأتى بالنواقض فلا يمنعه.
هذا، وقد أعرضت عن شبهات أخرى يتشبث بها المتصوفة القبورية كالاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والمنامات والإلهامات ـ إذ يكفي أن يقال عنها كلها: إنها مردودة ـ فأما الأحاديث الموضوعة فمردودة مطلقاً، وأما موافقة للشرع، والأمر فيه كما في مراقي السعود:
وينبذ الإلهام بالعراء
…
أعني به إلهام الأولياء
قال شارحه عن الإلهام: (وليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسه الشيطان فيها).
وقال: (وكذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يأمره وينهاه لا يجوز اعتماده
…
لعدم ضبط الرائي.).