الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالأموال.
أما النوع الأول: فله أفراد:
الأول: الشرك في المحبة.
الثاني: الشرك في النية والإرادة والقصد.
الثالث: الشرك في الطاعة.
الرابع: الشرك بالخوف.
الخامس: الشرك بالرجاء.
السادس: الشرك بالتوكل.
أما النوع الثاني: فهو الشرك بالأعمال القلبية مع الجوارح (شرك التقرب والنسك)، وله أفراد، منها:
الأول: الشرك بالنسك؛ كالقيام والركوع والسجود والحج والصوم والتعظيم وغيرها.
الثاني: الشرك بالذبح والنحر لغير الله.
الثالث: الشرك بالنذر لغير الله.
ونظراً لما يحتوي هذا الفصل من الجزئيات الكبيرة فإني سأبينها في المباحث التالية:
المبحث الأول: في بيان مظاهر الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بأعمال القلوب
وتحته مطالب:
المطلب الأول: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالمحبة
وذلك، بأن يحب العبد أحدًا غير الله كمحبة الله.
قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله).
ومن المعلوم أن المحبة لله تعالى من عبادته جل وعلا، وهو المحبوب لذاته، ولا يمكن أن يكون المحبوب لذاته إلا واحدًا، ومستحيل أن يوجد في القلب محبوبان لذاتهما. كما يستحيل أن يكون في الخارج ذاتان قائمتان بأنفسهما كل ذات منهما مستغنية عن الأخرى من جميع الوجوه، وكما يستحيل أن يكون للعالم ربان متكافئان مستقلان، فليس الذي يحب لذاته إلا الإله الحق الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير بذاته إليه.
وأما ما يجب لأجله فيتعدد، ولا تكون محبة العبد له شاغلة له عن محبة ربه ولا يشركه معه في الحب، فإن المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أقسام: محبة الله، والمحبة له وفيه، والمحبة معه. فالمحبة له وفيه من تمام محبته وموجباتها لا من قواطعها، فإن محبة الحبيب تقتضي محبة ما يحب ومحبة ما يعين على حبه ويوصل إلى رضاه وقربه.
وأما المحبة مع الله: فهي المحبة العبودية الشركية، وهي كمحبة أهل الأنداد لأندادهم، كما في الآية التي سبق ذكرها، وأصل الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك في هذه المحبة. فإن المشركين لم يزعموا أن آلهتهم وأوثانهم شاركت الرب سبحانه في خلق السموات والأرض، وإنما كان شركهم بها من جهة محبتها مع الله فوالوا عليها وعادوا عليها وتألهوها، وقالوا: هذه آلهة صغار تقربنا إلى الإله الأعظم.
ففرق بين محبة الله أصلاً، والمحبة تبعًا، والمحبة معه شركًا، فالمحبة معه هي التي كانت لدى المشركين، حيث قالوا:(تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ). ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق والإماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل.
فالمحبة هي أصل دين الإسلام الذي تدور عليه رحاه، فبكمال محبة الله يكمل دين الإسلام، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، والمراد بالمحبة هنا محبة العبودية، فإن المحبة على مراتب: فأولها: العلاقة، وثانيها: الصبابة، وثالثها: الغرام، ورابعها: العشق، وخامسها: الشوق، وسادسها: ـ الأخير منها ـ التتيم، وهو تعبد المحب لمحبوبه، يقال: تيمه الحب، إذا عبده، وحقيقة التعبد: الذل والخضوع للمحبوب، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، ولهذا كانت أشرف أحوال العبد ومقاماته هي العبودية، فلا منزل أشرف منها، والله سبحانه خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له التي هي أكمل أنواع المحبة مع أنواع الخضوع والذل، ومن أشرك أحدًا في ذلك فقد أشرك مع الله، وهو أصل الشرك بالله.
ولا يعتبر كل ما تطلق عليه المحبة شركًا، بل بعض المحبة تكون محبوبةً إلى الله عزوجل ـ كما ذكرنا ـ فإن المحبة على أنواع:
الأول: محبة الله، وهو التتيم أي الحب مع الذل والخضوع، ويتعلق به
الخوف والرجاء، وهي وحدها لا تكفي للنجاة من عذاب الله، والفوز بثوابه، فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحب الله، وهذه المحبة هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة، وأشدهم فيها.
الثالث: المحبة لله، وفي الله، وهي فرض ومن لوازم محبة ما يحب، لا تستقيم محبة ما يحب إلا فيه وله، كمحبة أوليائه من الرسل والصالحين، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من ضمن هذه المحبة. وبغض أعداء الله أيضًا من هذه المحبة، فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته. ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلابد أن يبغض أعداءه ويحب أولياءه.
الرابع: المحبة مع الله، وهي المحبة الشركية، وكل من أحب شيئًا مع الله، لا الله، ولا من أجله، ولا فيه، محبة متضمنة الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والخوف لمحبوبه فقد اتخذه ندًا مع الله، وهذه هي محبة المشركين قديمًا وحديثًا للأولياء والصالحين، وحتى في النبي صلى الله عليه وسلم عند بغض غلاة المتصوفة والبريلوية.
الخامس: المحبة الطبيعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه، وهي على ثلاثة أقسام:
أ- محبة فطرية: محبة الجائع للطعام.
ب- محبة إشفاق: كمحبة الولد لولده.
ج- محبة الشريك لشريكه، ومحبة الصديق لصديقه.
فهذه لا تذم شرعًا بشروط:
1 -
ألا تشغله عن طاعة الله الواجبة، فإنه حينئذ مذموم.
2 -
ألا تكون داعية إلى معصية الله، فإنه مذموم حينئذ.
3 -
ألا يكون حبه على درجة التتيم، المتضمن الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والخوف. وهو المقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلم:((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)).
وهكذا كل من أحب شيئًا بالحب الذي يكون لله فقد أشرك بالله، وإن كان أصل الحب كان فطريًا، إلا أنه تطور إلى درجة التتيم ـ العبادة ـ، وعلى هذا فهذا النوع من المحبة وإن لم تدخل بذاتها في أنواع الشرك، إلا أنها تكون سببًا للشرك في بعض الأحيان، وهذا ما نراه في عصرنا هذا ـ كما سيأتي بيان نماذج من هذا النوع من المحبة المؤدية إلى الشرك فيما بعد ـ.
وعلى هذا: فالمحبة التي تعتبر شركًا خالصًا هي المحبة مع الله؛ لأنه ـ كما سبق ـ لا يمكن أن توجد محبة لذاته ـ المتضمن للتتيم والعبادة ـ إلا الله، وكل من أحب مع الله أحدًا فقد أشركه في المحبة لذاته، وهي القسم الرابع منها؛ لأنها تستلزم التعظيم والذل والعبودية، وهي المذكورة في قوله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
قال ابن كثير: (يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا لله أندادًا؛ أي أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه. وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له، ولا ند له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك))).
ومعنى الآية كما قال ابن القيم في مدارج السالكين: (أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئًا كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله أندادًا، فهذا ند في المحبة، لا في الخلق والربوبية، فإن أحدًا من أهل الأرض لا يثبت هذا الند في الربوبية، بخلاف ند المحبة، فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادًا في الحب والتعظيم).
وأما قوله تعالى: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)، ففي تقدير الآية قولان:
أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله أندادهم.
الثاني: أن المعنى: يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، فليس فيه إثبات محبتهم لله.
وأما قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)، ففيه أيضًا قولان، ترتبا على الاختلاف السابق في معنى الجزء الأول من الآية.
القول الأول: إن المعنى: والذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين بالأنداد لله؛
فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة ـ التي هي عند المؤمنين ـ أشد من المشتركة ـ التي هي عند أصحاب الأنداد ـ.
القول الثاني: معنى الآية: والذين آمنوا أشد حبًا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها، ويعظمونها من دون الله، ويدل عليه ما رواه الطبري عن مجاهد في قوله تعالى:(يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)، قال:(مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من حبهم لآلهتهم).
ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول: (إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة، ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية هي المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار، أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم.
وهذا أيضًا هو العدل المذكور في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم
…
).
فكان الحب أصل كل عمل من حق وباطل، فأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله، كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله. وكل إرادة تمنع كمال الحب لله ورسوله وتزاحم هذه المحبة، أو شبهة تمنع كمال التصديق فهي معارضة لأصل الإيمان أو مضعفة له، فإن قويت حتى عارضت أصل الحب والتصديق كانت شركًا أو كفرًا أكبر، وإن لم تعارضه قدحت في كماله، وأثرت فيه ضعفًا وفتورًا في العزيمة والطلب.
وهي تحجب الواصل، وتقطع الطالب، وتنكس الراغب، كما هو حال من آثر المحبة الطبيعة على محبة الله، أو على محبة ما يحب الله، أو على المحبة في الله، ولله. ولهذا قال تعالى:(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
وأما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فمن لوازم محبة الله، وإنما يحب الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه ليس في هذه المحبة شيء من شوائب الشرك؛ كالاعتماد عليه ورجائه في حصول مرغوب منه، أو دفع مرهوب منه، أو الرغبة إليه من دون الله، وما كان فيها هذه الأمور، فمحبته تعتبر مع الله ـ ويدخل في الشرك بالله ـ لما فيها من
التعلق على غيره.
بل محبة الرسول واجبة على أنها لله ولأجله، ولأنه كان محباً لله، فحبه ليس لذاته، بل لكونه يحب الله، فكما يحب أحدنا الإيمان والعمل الصالح لكونهما محبوبين عند الله، هكذا الحكم في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا المحبة هي المرادة من قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)). فما يدعيه بعض المتصوفة والجهلة من المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم لذاته ليست إلا عبادة الرسول باسم آخر ـ شاءوا أم أبوا ـ.
والمقصود: أن أعظم أنواع المحبة المحمودة محبة الله وحده، ومحبة ما أحب، وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها.
وأعظم أنواع المحبة المذمومة: المحبة مع الله التي يسوي المحب فيها بين محبته لله ومحبته للند الذي اتخذه من دونه. وهي المحبة الشركية، وهي رأس الشقاوة، فإن كل من اتخذ لله ندًا يدعوه من دون الله ويرغب فيه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته، وتفريج كرباته ـ كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام ـ فلابد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك؛ فإنهم أحبوهم مع الله، وإن كانوا يحبون الله تعالى، ويقولون:(لا إله إلا الله)، ويصلون ويصومون، فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فمن رغب إلى غير الله في قضاء
حاجة أو تفريج كربة، لزم أن يكون محبًا له، ومحبته هي الأصل في ذلك).
فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يصح منه، وهؤلاء وإن قالوا:(لا إله إلا الله) فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة.
وفيما يلي بيان بعض مظاهر الشرك في المحبة لله جل شأنه.
الفرع الأول: مظاهر الشرك في محبة الله لدى المتصوفة:
لقد وقع في هذا النوع من الشرك كثير من المتصوفة، سواء كان هذا بدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بدعوى محبة شيخ التصوف.
أما في محبة الرسول: فترى كثيراً منهم يغلون في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يسمي نفسه: بعبد المصطفى. وليس هذا فحسب، فهناك من يرى الفناء في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول أحد المتصوفة:(ففي حال ذكرك له صلى الله عليه وسلم تصور كأنك بين يديه متأدباً بالإجلال والتعظيم والهيبة والحياء، فإنه يراك ويسمعك كما ذكرت؛ لأنه متصف بصفات الله، هو سبحانه جليس من ذكره).
فهذا القطب الصوفي لا يميز بين صفات الله التي لا يليق إلا به وبين صفات نبيه ورسوله. فيعتقد أنه صلى الله عليه وسلم يرى ويسمع كل ذكر له في العالم. بل إننا نجد في
الكلام المنقول عن هذا الرجل ما يدل دلالة واضحة على أنه يعتقد الإلهية في النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى الفناء فيه كما يدعو غيره من الغلاة إلى الفناء في الله.
يقول ـ وهو يذكر كيفية التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم: (وهي أن تلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم ملء الكون بل عينه، وأنه نور محض، وأنك منغمس في ذلك النور مع تغميض عين البصر لا البصيرة، فإذا حصل لك الاستغراق في هذا النور والتلاشي والعينية فتتصف حينئذ بمقام الفناء فيه، ومن حصل له مقام الفناء فيه ذاق محبته صلى الله عليه وسلم
…
ـ إلى أن قال ـ: فإن لم تجد في جميع وجودك هذه المحبة التي وصفتها فاعلم أنك ناقص الإيمان).
والسؤال هنا: هل كان أحد من الخلفاء الراشدين أو من العشرة المبشرين بالجنة أو من أهل بدر أو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهم من السلف الصالح يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم ملء الكون؟ وأنه نور محض؟ أو ادعى الفناء فيه؟ أو عرف ما هو بمعنى ذلك؟ ومتى كان هذا شعبة من شعب الإيمان حتى يوصف من لم يعتقده بنقص الإيمان؟ على رسلك يا صوفي إن إمامنا كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الجيل الأول من السلف الصالح وتفاصيل فهمهم للنصوص، وما لم يكن يومئذ دينًا فلن يكون اليوم دينًا، ومن اتخذه دينًا فهو ضال، وإذا دعا إليه فهو مضل، وإن وصف بأفخم أوصاف الصوفية كالقطب والغوث ونحوهما.
بل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تعرف بطاعته صلى الله عليه وسلم وتقديمها على طاعة كل أحد وإن كان أحد الوالدين أو أكثر المشايخ مهابة وجلالة في العيون، وإن كان النفس أو الهوى، قال تعالى:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). فهذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن
ادعى ذلك دعوى مجردة، فمن ادعى محبة الله ولم يظهر ذلك في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فدعواه كاذبة.
ولا ريب أن دعوى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدم فقه هذا الأمر حدث بالمبتدعة إلى أن يبتدعوا بدعاً كثيرة ظنوها من مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، كإقامة الموالد، وترديد القصائد، ومخالفته في أمره بعدم إطرائه عدم الإحداث في الدين، ولا يخفى أن محبته لا تجتمع مع مخالفة أمره.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
…
هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
قلت: بهذا نعلم أن هؤلاء كما أنهم لم يفرقوا بين حق الله على عباده وبين حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فكذلك لم يفرقوا بين حقه صلى الله عليه وسلم وبين حق شيوخهم. وهذا هو الضلال المبين الذي يجب الحذر منه. والله المستعان.
وأما الشرك في دعوى المحبة للأولياء ومشايخ التصوف فمن ملامحه ما يلي:
تصوير الولي أو الشيخ في صورة المتوجه إليه بالعبادة فيحب المحبة التي لا تجوز لغير الله، وعامة كتب التراث الصوفي مملوءة بذلك، ولذا نجد أن القبوريين منهم وأهل تقديس (الأولياء) سرعان ما يتهمون دعاة التوحيد الذين يدعون إلى إخلاص العبادة بكل أنواعها لله عزوجل بأنهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم والأولياء، ولهذا يصرحون في نصوص كثيرة لا تكاد تحصى بأن المريد يجب أن يفرد شيخه بالمحبة ولا يشرك به غيره، فإليك شيئًا يسيراً منها:
يحكي الشعراني عن أحد المتصوفة أنه مكث عند شيخه إلى أن توفي لم يذق له طعامًا، فقيل له في ذلك، فقال:(أنا لم آكل لشيخي طعامًا خوفاً أن أشرك في طلبي للشيخ شيئًا آخر).
ويجب عندهم أن لا يزاحم أحد في محبة المريد لشيخه، لا زوجته ولا ولده، وفي ذلك يقص أحمد بن المبارك ـ راوي الإبريز ـ قصة مع شيخه الدباغ مفادها:
أن ابن المبارك كان قد تزوج بنت الفقيه محمد بن عمر السلجماسي وكان يحب البنت حبًا شديدًا، وكان الدباغ يسأله: هل تحبني مثل فلانة؟ فيصارحه الرجل (أن لا) فيتأثر الشيخ بذلك ـ يقول ابن المبارك: وحق له، فإن المريد لا يأتي منه شيء حتى لا يكون في قبه غير الشيخ والله والرسول.
ومما قاله الشعراني في هذا الباب: (أخذ علينا العهد أن لا نأخذ العهد على فقير بالسمع والطاعة لما نأمره من الخير إلا إن كنا نعلم منه يقينًا أنه لا يقدم علينا في المحبة أحدًا من الخلق مطلقًا حتى أهله وولده).
ويقول الشيخ التيجاني: (من أكبر الشروط الجامعة بين الشيخ ومريده هو أن لا يشارك في محبته غيره ولا في تعظيمه ولا في الاستمداد منه ولا في الانقطاع إليه بقلبه، ويتأمل ذلك في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإن من ساوى رتبة نبيه صلى الله عليه وسلم مع رتب غيره من النبيين والمرسلين في المحبة والتعظيم والاستمداد والانقطاع إليه بالقلب والتشريع، فهو عنون على أنه يموت كافرًا إلا أن تدركه عناية ربانية
بسبق محبة إلهية، فإذا عرفت هذا فليكن المريد مع شيخه كما هو مع نبيه صلى الله عليه وسلم في التعظيم والمحبة والاستمداد والانقطاع إليه بالقلب، فلا يعادل غيرهه في هذه الأمور ولا يشارك غيره. ومن أكبر القواطع عن الله أن ينسب ما عنده من الفتح والأسرار لغير شيخه).
فأنت ترى أن هذا النص أقل ما فيه التسوية بين الشيخ وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مجاهرة برفض قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).
ويقول الشعراني: (إذا أراد الله عز وجل أن يعرف عبدًا من عبيده بولي من أوليائه ليأخذ عنه الأدب ويقتدي به في الأخلاق طوى عنه شهود بشريته وأشهده على وجه الخصوصية فيه فيعتقده بلا شك ويحبه أشد المحبة. وأكثر الناس الذي يصحبون الأولياء لا يشهدون منهم إلا وجه البشرية، ولذلك قل نفعهم وعاشوا عمرهم كله معهم ولم ينتفعوا منهم بشيء).
والمقصود: بيان كون المتصوفة قد وقعوا في شرك العبادة بالمحبة وذلك بإعطائهم هذه العبودية لغير الله.
الفرع الثاني: مظاهر الشرك في محبة الله لدى بعض المعاصرين في عقد الولاء والبراء على غير أسس المحبة في الله والمحبة لله:
الولاء: بالواو واللام والياء: أصل صحيح يدل على قرب، وتأتي هذه الكلمة بمعنى: الملك والقرب والنصرة والقرابة والمحبة. ووالى فلان فلانًا:
أحبه، وهكذا التولي: فإنها تأتي بمعنى الولاء: أي النصرة والموالاة. وتأتي بمعنى أخص من عموم الموالاة، بمعنى: اتخذه وليًا. كما قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ: (التولي كفر يخرج من الملة، وهو كالذب عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي). وعلى هذا تراه فرّق بين الموالاة والتولي.
ولعل الصحيح أن التولي والموالاة كلاهما بمعنى جعلهم أولياء، ولذا ترى جميع المفسرين ابن جرير رحمه الله في عدة مواضع من تفسيره يفسر معنى اتخاذ الكفار أولياء بمعنى جعلهم أنصارًا، وهو بمعنى توليهم.
فعلم من ذلك كله: أن أصل الموالاة: الحب، والموالاة لا تكون إلا لله تعالى بذاته، وتكون لرسوله وللمؤمنين لأمر الله عز وجل بموالاتهم، فمن كان عنده موالاة لغير الله مثل ما كان ينبغي لله، فقد أشرك مع الله غيره في الحب، ويدخل في شرك المحبة لا محالة. والأدلة على هذا كثيرة، منها:
1 -
قوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ).
2 -
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
3 -
قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
4 -
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن من أحب قومًا حشر معهم)).
وإنما تدخل الموالاة لأهل الشرك في الشرك، لكونها مضادة لكلمة التوحيد، فإن من شروط كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) محبة هذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، وبغض ما ناقض ذلك.
فتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي (أن لا يحب إلا الله، ولا يبغض إلا الله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله).
فإن شطر العقيدة وركنها الثاني الذي لا تتم إلا به: هو الكفر بالطاغوت.
قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى). فلا يكون مؤمناً من لا يكون كافرًا بالطاغوت، وهو كل متبوع أو
مرغوب أو مرهوب من دون الله.
لكن موالاة الكفار تقع على شعب متفاوتة وصور مختلفة، ولذا فإن الحكم فيها ليس حكمًا واحدًا، فإن من هذه الشعب والصور ما يكون شركًا، ومنها ما يكون ردة، وينقض الإيمان بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك في المعاصي، وهذه الموالاة التي تناقض التوحيد قد تكون اعتقادًا فحسب، وقد تظهر في أقوال وأعمال.
وأما الاعتقادي ـ كما سبق أن بيناه ـ: فهو ولاؤهم في الظاهر والباطن، وموافقتهم في الباطن بتوليهم دون الظاهر، فهذا يسمى نفاقاً، وهو أيضًا شرك اعتقادي، فإنه أشرك في محبة الله غير الله، ولا يتأتى ممن يفعل مثل هذا الولاء إلا بعد أن يشرك بالله في محبته غيره، أو محبة شرعة غير شرع الله.
وأما من كان ولاؤهم لهم في الظاهر فقط فهو على نوعين:
الأول: أن تكون الموافقة والولاء في الظاهر بسبب الإكراه (الملجيء) فهذه الحالة لا تدخل في الموالاة ما دامت الموافقة والموالاة باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان، لقوله تعالى:(إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ).
الثاني: أن يكون الولاء والموافقة في ظاهره مع مخالفتهم في الباطن لغرض دنيوي، كحب رئاسة وطمع في جاه ومنزلة ونحو ذلك، فاختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إنه من المعاصي، ومنهم من قال: إنه يدخل تحت شرك الإرادة والنية والقصد ـ وسيأتي بيانه فيما بعد ـ وهو الصحيح لظاهر قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ). وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). ومعلوم أنه ليس شيء يحبط العمل مثل الشرك، ثم إنه أشرك بالله في الاتباع أيضًا، وحيث اتبع هواه، ولم يلتفت إلى رضى الله، فدخل تحت وعيد قوله تعالى:(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ).
أما الموالاة العملية فهي كثيرة في العصر الحديث، أذكر منها ما يلي:
أ- من أقام ببلاد الكفار رغبة واختيارًا لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين، أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، فهذا لا شك في خروجه عن الملة.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: (والإقامة ببلد يعلو فيه الشرك والكفر، ويظهر الرفض وين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والإلهية وترفع فيها شعائرهم، يهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان
…
فالإقامة بين أظهرهم والحالة هذه لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين
…
بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، فإن الرضا بهذه الأصول الثلاثة قطب الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وقد جاء في قصة صحابي جاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين)).
وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام).
ب- من أطاع الكفار والمشركين في التحليل والتحريم، فأظهر الموافقة على ذلك، فهو أيضًا مشرك خارج عن الملة، والدليل عليه قوله تعالى:(وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
فصرح تعالى بأنهم مشركون في طاعة الكفار حينما وافقوهم في تحليل أو تحريم، وقال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ). فهذا النوع من الموالاة كان سببًا في ردة أولئك القوم. وسيأتي مزيد من البيان بمشيئة الله في بيان شرك الطاعة، وإنما ذكرهم هاهنا لكون الباعث على هذه الطاعة هو المحبة لغير الله والولاء والبراء على غير محبة الله.
ويمكن أن يلحق بطاعة ومتابعة الكفار في التحليل والتحريم، وموافقتهم في التشريع ما قد أفتى به بعض علماء هذا العصر في مسألة التجنس بجنسية أمة غير مسلمة. إلا في إحدى الحالات الثلاثة التالية:
1 -
الإقامة لغرض الدعوة إلى الله مع الأمن على الدين، والقدرة على الجهر بشعائر الإسلام، بلا معارضة في شيء منها، وقادرًا على الولاء والبراء، ومن هذه ما هو مستحب كالسفر للجهاد في سبيل الله.
2 -
السفر من أجل التجارة، وهو عارف بدينه، آمن عليه قادر على الجهر بشرائعه، قادر على الولاء والبراء.
3 -
المستضعفون من النساء والولدان والرجال الذين لهم ظروف جغرافية أو سياسية تحول في الرجوع إلى ديارهم
…
وأما في غير هذه الحالات الثلاثة فإن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة يدخل في الشرك بالولاء والبراء.
ج- التشبه المطلق بهم، أو التشبه فيما يوجب الخروج عن الملة، فالموالاة وإن كانت متعلقة بالقلب (بالحب والنصرة) لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومجانبتهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالمشركين:((من تشبه بقوم فهو منهم)).
وهذا التشبه له ألوان لا تعد ولا تحصى في العصر الحاضر.
د- أيضًا من الموالاة العملية التي فيها مناقضة للتوحيد، وشرك مع الله في محبته، ومحبة دينه: إقامة مؤتمرات وتنظيم ملتقيات من أجل تقرير وحدة الأديان، وإزالة الخلاف العقدي وإسقاط الفوارق الأساسية فيما بين تلك الديانات، وهذه الفكرة الخبيثة قد وجدت قديمًا عند ملاحدة الصوفية، كما وجدت عند التتار. ويأتي النظام الدولي الجديد عاملاً رئيسياً في إحياء تلك الشجرة الخبيثة، كما هو ظاهر في مثل هذه الأيام القريبة.
هذا كله في ما يتعلق بالشرك بموالاة الكفار.
وأما النصرة: فأظهر من الشمس في رابعة النهار بأن نصرة المشركين على المسلمين شرك بالله جل وعلا في محبته، ولذا عده العلماء من نواقض التوحيد.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير التتار، فإن التتار فيهم المكره وغيره المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة.
ويقول ابن القيم: إنه سبحانه قد حكم، ولا أحسن من حكمه أن من تولى
اليهود والنصارى فهو منهم: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم. وهذا القول لابن القيم على التفسير الثاني لكلمة (التولي) على أنها أبلغ من الموالاة ـ كما سبق معنا في بداية الكلام ـ.
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله ـ: (وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة، فهو كافر مثلهم).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ): (وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليًا تامًا، كان ذلك كفرًا مخرجًا عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه). ويقول عند تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ): (إن التولي يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يكون العبد منهم).
وعلى كل: إن مظاهرة الكفار ونصرتهم والذب عنهم، يناقض الإيمان سواء سمي ذلك تولياً أو موالاة، فإن مظاهرة المشركين ضد المسلمين خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين. فمثل هذه الموالاة تتضمن بغضًا لدين الله تعالى، وحربًا
لعباد الله الصالحين ونصرة للكفار، ولا شك أن هذه الأشياء كلها منافية لمحبة الله، الذي هو حقيقة التوحيد، فمن ذلك الباب يدخلون في الشرك، فإنه ما أعان أحدًا على دين الله إلا أحبه أو أحب ما يتعلق به، ومن أحب شيئًا مع الله فقد أشرك مع الله غيره. فإن موالاة المتعاديين لا يجتمعان.
الفرع الثالث: حب الدنيا وزينتها أكثر من حب الله، أو مثل حب الله:
لقد وجد في هذا العصر كثير من الناس تراهم يحبون أشياء حبًا كأنهم يعبدونها، حيث يجتمع عندهم في محبتها التعظيم لهذه الأشياء مع الذل والخضوع والاستكانة لها، ومظاهرها كثيرة يتضح لمن تدبر ذلك على ملاحظة قاعدة هامة؛ والقاعدة في المسألة هي: أن كل من أحب شيئًا ـ سواء كان حقيرًا أو ثمينًا في نفسه ـ بحيث تعلق قلبه به ـ وهي درجة التتيم في الحب ـ مع الذل والخضوع له فقد أشرك بالله جل شأنه، وعلامة ذلك: كونه يقدم هذا الشيء على محبوبات الله عز وجل ويفكر فيه ليلاً ونهاراً.
فمثلاً: إن الذي أحب زوجته مثل هذا الحب بحيث تعلق قلبه بها، وذل وخضع له إلى درجة لا ينبغي أن يكون إلا له سبحانه فإنه حينئذ يكون قد عبد زوجته، ويقاس عليه أشياء كثيرة، منها مثلاً: المسئولية، أو الوظيفة، أو الكرة، أو الموضة أو الأزياء، أو مغنيًا، أو غناء، أو شيخًا معينًا، أو قبرًا، أو راية كالقومية أو الوطنية، أو حزباً أو قائداً أو هوى متبعًا إذا كانت محبة
إحداها بهذه المثابة والصفة التي سبق ذكرها فإنه يكون قد عبد هذا الشيء، فالأصنام كانت في السابق تظهر بصورة مادية محسة، يتخذونها من خشب أو ذهب أو فضة على صورة إنسان، وقد تتخذ من حجر فتسمى وثنًا، ولكنها قد تظهر في العصور المتأخرة ـ زيادة على ما سبق ـ بصور أخرى ومظاهر جديدة؛ قد تكون مذهبًا من المذاهب الفكرية الجاهلية كالديموقراطية، أو الوطنية، أو القومية
…
وقد تكون مذهبًا اقتصاديًا كالرأسمالية والاشتراكية
…
وقد تكون أهواء وشهوات يخضع لها الناس، فلا يهوون شيئًا إلا عبدوه، قال تعالى:(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، وقال:(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)، وقال:(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ).
وقد تكون الأصنام مجموعة من القيم الاجتماعية أو القيم المادية التي تسيطر على الناس فيخضعون لها، ويتحركون بحركتها، فتكون لهم دينًا ومذهبًا. إذ كل هذه الأشياء منشؤها الحب لغير الله، والحب هو أصل العبادة في الحقيقة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (وجماع القرآن هو الأمر بتلك المحبة ولوازمها، والنهي عن هذه المحبات ولوازمها، وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين، وذكر قصص أهل النوعين).