الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
إلزام المشركين بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية.
وقد تقدم ذكر هذا الكلام بما أغنى عن إعادته هاهنا.
ووجه الدلالة: إنه لو لم يكن المشركون مقرين بربوبية الله وبقبح الشرك على مقتضى فطرتهم لما ألزمهم بالإقرار بألوهيته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فدل على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين به
…
).
فهذه كلها أدلة صحيحة على أن الخلق مفطورون بالإقرار بالله سبحانه والشرك مخالف لهذه الفطرة الصحيحة.
المطلب الثاني: في أن الشرك مخالف للعقل
إن الله ـ جل في علاه ـ قد منَّ على عباده بمنة جليلة ونعمة عظيمة، بها يسمون على كافة المخلوقات إن عملوا بواجبها، وبها يردون إلى أسفل سافلين إن خرجوا عن موجبها، ونقضوا مقتضاها، ألا وهي نعمة العقل. وأراد المنان بمنِّ نعمة العقل على الإنسان الضعيف تقويته على إدراك الآثار الربانية والمطالب الإلهية، ومن ثم جعل حجة مستقلة عليه في بطلان الشرك، وكذا جعل مستندًا من مستندات السمع، وبها قامت حجة الله على خلقه.
قال الإمام ابن القيم: (فإن الله سبحانه ركب العقول في عباده ليعرفوا بها:
صدق وصدق رسله، ويعرفوه بها، ويعرفوا كماله وصفاته، وعظمته وجلاله، وربوبيته وتوحيده، وأنه الإله الحق وما سواه باطل، فهذا هو الذي أعطاهم العقل لأجله بالذات والقصد الأول، وهداهم به إلى مصالح معاشهم التي تكون عوناً لهم على ما خلقوا لأجله، وأعطوا العقول له، فأعظم ثمرة العقل: معرفته لخالقه وفاطره، ومعرفة صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله، وصدق رسله، والخضوع والذل والتعبد له).
وقال رحمه الله: (إن السمع حجة الله على خلقه، وكذلك العقل، فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركب فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من السمع، والعقل الصريح لا يتناقض في نفسه، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه، وكذلك العقل مع السمع، فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض، ولكن تتوافق وتتعاضد، وأنت لا تجد سمعاً صحيحاً عارضه معقول مقبول عند كافة العقلاء أو أكثرهم، ولا تجده ما دام الحق حقاً والباطل باطلاً، بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ويشهد ببطلانه).
ومن ثم كان العقل كافياً في معرفة الله وتوحيده، وكذا بطلان الشرك وقبحه ولو لم يرد بذلك شرع، فالإيمان بالله وحده والابتعاد عن الشرك وكلما يعبد من دون الله مستقر في الفطر والعقول، بل هو أرسخ وأثبت مرتكزاتهما، وبهذا كان العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك ولو لم يأت بحرمته شرع.
فإن النقل والعقل خرجا من مشكاة واحدة، وجاء النقل ليخاطب العباد بمرتكزات العقل ويقيم موجبه، ويفصّل مجمله، ويبين ما عجز عن إدراكه،
ولم يأت قط بمحالاته، ولا بضد تصوراته وموازينه.
وإليك براهين ما سبق من الكتاب والسنة، بفهم فحول أهل العلم، ونظار أهل السنة:
قال القرطبي في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً): (أجمع العلماء على أن: هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب؛ ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب).
وقال ابن القيم: (قال تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، ولم يقل: إلهكم، والرب: هو السيد والمالك والمنعم والمربي والمصلح، والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها، فلا شيء أوجب في العقول والفطر من عبادة من هذا شأنه وحده لا شريك له).
والمراد بالوجوب هنا: استحالة قبول العقول المجبولة ـ من قبل فاطرها ـ الشرك به سبحانه ولو لم يرد بذلك شرع، ومن ثم كان العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك.
وقال رحمه الله في قوله تعالى: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي): (أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفًا لهم، ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب في العقول، مستهجن تركها، قبيح الإخلال
بها، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها بَعْدُ تابعة لإيجاده وخلقه، وقد جبل الله العقول والفطر على شكر المنعم، ومحبة المحسن، ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع).
وقال رحمه الله في ردة على نفاة التحسين والتقبيح الذاتي للأفعال: (قولكم: فكيف يعرفنا العقل وجوبًا: على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالطاعة، وعلى الرب بالثواب والعقاب؟ .
فيقال: وأي استبعاد في ذلك؟ وما الذي يحيله؟ فقد عرفنا العقل من الواجبات عليه ما يقبح من العبد تركها، كما عرفنا، وعرف أهل العقول، وذوو الفطر التي لم تتواطأ على الأقوال الفاسدة: وجوب الإقرار بالله وربوبيته وشكر نعمته ومحبته، وعرفنا قبح الإشراك به، والإعراض عنه، ونسبته إلى ما لا يليق به.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكثير من هؤلاء ـ أي الذين يظنون أن العقل غير مستقل بإدراك التوحيد ـ يعتقدون أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل كالمعاد وحسن التوحيد والعدل وقبح الشرك والظلم والكذب، والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك، وينكر على من لم يستدل بها؛ ويبين أنه بالعقل يعرف بالمعاد، وحسن عبادته وحده، وحسن شكره، وقبح الشرك وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع).
وقال رحمه الله في قوله تعالى: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ـ إلى قوله تعالى ـ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أي وخلق ما تنحتون، فكيف يجوز أن تعبدوا ما تضعون بأيديكم وتدعون رب العالمين؟ فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا؛ إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه).
وقال ابن القيم في تفسير هذه الآية: (فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه ـ الشرك ـ تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح).
وقال رحمه الله في قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ): (أي لو كان في السموات والأرض آلهة تعبد غير الله لفسدتا وبطلتا، ولم يقل (أرباب) بل قال: (آلهة) ـ والإله هو المعبود والمألوه ـ وهذا يدل على أنه من الممتنع المستحيل عقلاً أن يشرع الله عبادة غيره أبدًا، وأنه لو كان معه معبود سواه لفسدت السموات والأرض، فقبح عبادة غير الله قد استقر في الفطر والعقول وإن لم يرد بالنهي عنه شرع، بل
العقل يدل على أنه أقبح القبيح على الإطلاق، ومن المحال أن يشرعه الله قط،
…
).
فحسن التوحيد وعدم جواز الشرك من أثبت الثوابت وأركز المرتكزات في الفطر والعقول، ومن ثم استحال جواز الشرك فيهما ما دامت السماء سماءً والأرض أرضًا، فحسن التوحيد وقبح الشرك حقيقة ثابتة راسخة، ولو لم ترسل الرسل وتنزل الكتب، فالعقل قاطع بوجوب عبادة الفاطر الخالق، المربي المنعم، المالك لجلب النفع، ولدفع الضر، وكذا يقطع بحرمة عبادة كل مخلوق مربوب محدث والشرك معه.
وقد هيأ الله العقول للقيام بالبراهين الباهرة والحجج الدامغة والأدلة الدالة على تلك الحقيقة التي كانت سببًا لانبثاق كافة الحقائق؛ وبهذا كانت الفطر والعقول من أقوى مستندات النبيين والمرسلين على الملحدين والمشركين، وبذلك أصبح العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك، ولو لم يرد بحرمته شرع، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم في هذا الصدد:(وهذا ـ أي فطر الذرية على التوحيد ـ يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا).