الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كاذبًا أو صادقًا، فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله).
ب- وكذلك لو أصاب أحدًا منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب.
ج- إن واحدًا من هؤلاء لو أراد أن يظلم أحدًا فاستعاذ بالله منه لم يعذه، ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه أحد ولم يتعرض له بالأذى.
هـ- إن بعض الناس أخذ من التجار أموالاً عظيمة أيام موسم الحج، ثم بعد أيام أظهر الإفلاس، فقام عليه أهل الأموال، فالتجأ إلى قبر في جدة يقال له:(المظلوم)، فما تعرض له أحد بمكروه خوفاً من سر المظلوم.
تلك هي الصورة الحية لحال القبوريين قديمًا وحديثاً. ولعله سيمر علينا نماذج أخرى عندما ندرس موضوع الرجاء وكذلك الاستغاثة، فإن هذه الموضوعات كلها وثيقة الصلة بعضها ببعض ـ كما سنرى قريباً إن شاء الله ـ.
المطلب الثالث: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالرجاء
معنى الرجاء: جاء في اللسان: (الرجاء من الأمل: نقيض اليأس، ممدود. رجاه يرجوه رجوًا ورجاء ورجاوة ومرجاة ورجاة، وهمزته منقلبة عن واو بدليل ظهورها في رجاوة).
ويأتي بمعنى التوقع والأمل.
والمراد بالرجاء: طلب شيء ما من أحد.
ولا يكون شركًا إذا كان المرجو عنده قدرة على إعطاء هذا الشيء.
وأما الرجاء الذي هو العبادة شرعًا: فهو طلب ما عند الله بلا يأس ولا قنوط، والمطلوب كماله وغايته، فيرجو ما عند الله كمال الرجاء، وهو والحالة هذه لا يصلح إلا لله تعالى، كما قال تعالى:(وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا). فالرغب: هو رجاء ما عند الله تعالى، إذ كل فضل فهو واهبه، وكل نعمة فهو معطيها، فهو الصمد المقصود في الحوائج، وهو القيوم الذي قام بنفسه، وأقام مخلوقاته بعظيم لطفه وكرمه وإنعامه وإحسانه. وضده اليأس من روح الله والقنوط من رحمته، كما قال تعالى:(قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ).
وإذا أذنب العبد شهد رجاءه في توبته عليه، كما قال سبحانه:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). وإذا شهد تقصيره في حقه سبحانه وتعالى، شهد فضله وكرمه، وأن رحمته وسعت كل شيء، كما صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرب جل شأنه قال:((سبقت رحمتي غضبي)).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك)). ولا يحصل الرجاء إلا بأمور:
الأول: شهود كرمه وإنعامه وإحسانه على العباد.
الثاني: صدق الرغبة فيما عند الله من الثواب والنعيم.
الثالث: التسلح بصالح الأعمال، والمسابقة في الخيرات.
فلا يكون راجيًا من قصَّر في العمل، ولا من لم تصدق رغبته في الثواب، ولا من شهد كده وتعبه فيما يعمل، ولذا فقد ذم الله قارون على قوله، فيما أخبر عنه تعالى:(إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) واستحق العقوبة على ذلك.
والمقصود: أن الرجاء كالخوف يمثل نوعًا معينًا من أنواع العبادة التي تعبد الله بها عباده، كما يشكل أحيانًا جانباً مهماً من جوانب تحقيق العبودية الحقة، حيث إنه لابد حتى تتحقق لعبوديته من وجود حافز يدفع الإنسان ويحركه. فلولا الخوف والرجاء أو الرهبة والرغبة والحذر والأمل لتعطلت حركات العباد وتفتر نشاط الإنسان ولأصبح الإنسان كالتائه الذي لا يدري أين يذهب ولا ماذا يريد.
ولذا نجد أن الله قد قرن بين الخوف والرجاء في آيات كثيرة، كقوله تعالى:(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا).
وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ).
وقد ورد كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تؤكد أن الرجاء والخوف عاملان
أساسيان وحافزان عظيمان يحركان العبد المؤمن إلى العبادة.
ففي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: ((يا حصين، كم تعبد اليوم إلهًا؟ )). قال: سبعة، ستاً في الأرض وواحدًا في السماء. قال:((فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ )). قال: الذي في السماء
…
الحديث. رواه الترمذي وحسنه. وهو حديث حسن.
فقد تبين من الحديث أن الرجل رغم كثرة معبوداته لابد أن يكون من بينها معبود يتقرب إليه خوفًا من عقابه ورجاء لثوابه.
ونظراً لأهمية الرجاء فقد أرشد الله عز وجل عباده الذين يرجون لقاءه إلى أقرب سبيل يمكن سلوكها لتحقيق مرضاته تعالى، فقال:(فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ). فوجههم إلى إخلاص العبادة لله وموافقة السنة في العمل.
وكذلك وعد من يرجو لقاءه خيراً، فقال:(مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ)، وأوعد من لا يرجو لقاءه فقال:(إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
قال الشاطبي: (فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار، والراجي لنيل مرغوبه يقصر عليه الطويل من المسافة).
ويقول ابن القيم: (الرجاء حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير
…
والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك صاحبه طريق الجد والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل).
متى يكون الرجاء جائزاً ومتى يكون شركًا؟
هذه المسألة ربما يشكل على الناس بأن الإنسان ربما يرجو شيئًا عن الآخر فهل هذا شرك؟ وإجابةً على هذا الإشكال أقول:
لابد من التفريق بين الرجاء المتعلق بالأغراض الظاهرة والرجاء المتعلق بالأغراض الباطنة. فإن الإنسان وهو يمارس حياته العادية لابد أن تعتريه حاجات كثيرة، مثل أن يعتري صحتته بعض العلل، أو يصيب نشاطه المالي بعض الضوائق، إلى غير ذلك، فلو حصل أنه توجه بمثل هذه الحاجات إلى طبيب شرعي خبير بمرضه يرجو شفاءه على يديه، أو إلى أخ رحيم غني يرجو
منه سداد تلك الثغرات المالية، فإنه يكون قد وضع الشيء في محله ولم يرتكب أمرًا يستنكر في الشرع، بل حكم هذا كحكم الخوف الطبيعي.
أما الرجاء السري الباطني الذي يتحكم في تصرفات الإنسان فيتصرف على نحو غير مفهوم لا في الشرع ولا في العقل فهو رجاء العبادة. فلو اعتراه حاجة من الحاجات الدنيوية كالحاجة إلى الصحة أو المال أو الولد أو النجاة من عدو أو خطر داهم، أو الحاجات الأخروية كالتثبيت عند المسألة أو الشفاعة في الخروج من المأزق أو في دخول الجنة والنجاة من النار، فلو توجه بشيء من ذلك إلى مخلوق يطلبه منه ـ وإن كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلاً أو رجلاً صالحاً حياً أو ميتًا ـ فإنه يكون قد اتخذه بذلك إلهًا، وجعله لله ندًا بصرفه هذه العبادة له.
فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يقوي رجاءه في الله، ويعتقد أن كل ما يرجوه الإنسان في حياته الدنيا والأخرى إنما هو بيد الله ولا يمكن أن يتحقق إلا بإذنه تعالى وقضائه وقدره. والولي أو الرجل الصالح مهما علا مقامه عند الناس فهو عبد ذليل لله، لم يصل إلى مقامه في الولاية ـ إن صحت ولايته لله ـ إلا بتحقيقه للعبودية الصادقة لله وبعده عن الإشراك به، وهو في حاجة دائمة مستمرة إلى الله مولاه، كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ). فكل مخلوق محتاج إلى الله في كل شيء، والله لا يحتاج إلى أحد في شيء. والمخلوق لا يملك للمخلوق شيئًا من النفع والضر إلا بإذن الله.
نماذج من الشرك بالرجاء:
لقد وجد هذا النوع من الشرك لدى المتصوفة؛ وذلك أنهم خرقوا كل هذه الأسس العقدية فتوجهوا بالرجاء الباطن إلى الأموات المقبورين والأحياء
الغائبين، وحثوا أتباعهم على التوجه إليهم بالحاجات، حتى إن بعضهم يصرح لبعض أتباعه بأنه قريب ممن آمن به، فكأنه يريد أن يقول:(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ).
قال الدسوقي مخاطبًا تلميذه: (يا ولدي، إن صح عهدك معي فأنا منك قريب غير بعيد، وأنا في ذهنك، وأنا في سمعك، وأنا في طرفك، وأنا في جميع حواسك الظاهرة والباطنة، وإن لم يصح عهدك لا تشهد مني إلا البعد).
ولا يخفى أن نتيجة الاعتقاد بأن الشيخ معك أينما كنت هي ألا تقصد غيره بالحاجات والرغبات، وهو المقصود بصحة العهد.
وينقل آخر عن كرامات الدباغ: أن بعض الناس كان أسلفني دراهم وترك دراهم أخر أمانة عندي، ثم قام ليأخذ سلفه وأمانته، ولم يكن عندي شيء مما أسلفني ولا تيسر لي ما أبيعه في قضائه، وكنت أظنه بطيء الاحتجاج له، فأخرجت له الأمانة، وجعلت أذكر الشيخ بقلبي لكي لا يذكر لي السلف، فسكت ولم يذكر لي ذلك إلى الآن، وذلك نحو الستة أشهر، مع أنه قدم ليأخذ الأمرين لا محالة).
يقول الشعراني عن أحد شيوخه: (ولقد قصدته في حاجة وأنا فوق سطوح مدرسة أم خونذ بمصر، فرأيته خرج من قبره يمشي من دمياط وأنا أنظره إلى أن
صار بيني وبينه نحو خمسة أذرع، فقال: عليك بالصبر، ثم اختفى
…
).
ومن العجيب أيضًا دعوى الشعراني أنه من الذين يقضون الحاجات بالقلب، حيث يقول:(سألت شيخنا: هل أقضي حوائج الناس بقلبي وأرسلهم في الظاهر إلى بعض الإخوان ليسألوهم في قضائها سترة أو تكبيرًا له وربنا سبحانه يميز كل عمل لصاحبه؟ فقال: لا تفعل، لأنك تؤذيه من حيث لا يشعر فيظن أنه الذي قضى الحاجة فندخله في القوم الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا).
ومن الأباطيل المضحة في هذا الباب ما قرره الدباغ بقوله:
(فقد يكون الرجل مشهوراً بالولاية عند الناس وتقضي للمتوسل به إلى الله الحوائج، ولا نصيب له في الولاية، وإنما قضيت حاجة المتوسل به على يد أهل التصرف (يقصد أهل الديوان الصوفي)، وهم
…
الذين أقاموا ذلك الرجل في صورة الولي ليجتمع عليه أهل الظلام مثله).
أقول: ما فائدة هذه التمثيلية التي يقوم بها أهل التصرف؟
ألأجل أن يضل الناس ويزداد أهل الظلام ظلاماً؟ ونحن نعلم يقينًا أن أولياء الله لا هم لهم سوى إرشاد الناس إلى الحق وإلى سواء السبيل. ألا ما أكثر الفواقر والمخازي التي تصدر عن أعضاء هذه الحكومة الخفية في أذهان الصوفية.
بهذه الجهالات وتلك الضلالات زرع كبار المتصوفة في قلوب أتباعهم الرهبة منهم والرغبة إليهم وإفرادهم بذلك، فتم لهم ما أرادوا من رفعهم فوق كل مقام وتقديسهم تقديسًا لا يليق بمخلوق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.