الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: الشرك بالنية والإرادة والقصد
النية في اللغة: القصد والعزم والإرادة.
وفي الشرع: تستعمل على معنيين:
الأول: تمييز العبادات بعضها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر مثلاً، وتمييز صيام رمضان عن صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات؛ كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم. وهذا غير مقصود عندنا هاهنا.
الثاني: تمييز المقصود بالعمل وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله ولغيره؟ ، وهذه النية هي المقصودة عندنا هاهنا. وهي التي حث الشرع في العبادة أن تكون لله جل شأنه.
أما الشرك في النية والإرادة والقصد: فالمقصود به: أن ينوي ويقصد العبد بعمله جملة وتفصيلاً غير الله. وهو الشرك في الاعتقاد. ودليل ذلك قوله سبحانه: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فبين سبحانه أن من كان غرضه الدنيا لا غير لا يريد إلا إياها ولا يحب إلا
من أجلها، فليس له من الدنيا إلا ما قدر له، وهو في الآخرة من أهل النار، وما كان من الأعمال الحسنة التي أراد بها تحصيل الدنيا باطلة لا قيمة لها؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم:((إنما الأعمال بالنيات))، فلما كانت أعماله كلها للدنيا لم تنفعه في الآخرة، إذ كل عمل لا يكون لله لا خير فيه ألبتة، ولذا فإن المؤمن دومًا يلحظ في أعماله ابتغاء رضا ربه وثوابه وجنته والنجاة من النار. قال تعالى:(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
فهذا الشرك في مقابل الإخلاص، فمن لا يكون مخلصاً يكون مشركًا، وهذا الشرك يكون من وجهين:
1 -
أن يراد بعمله غير وجه الله.
وذلك بأن يعمل العمل لا يريد به وجه الله، بل يريد به غيره من صنم أو وثن أو قبر أو ميت أو قائد أو راية ونحو ذلك. وهو أعظم أنواع الشرك.
2 -
نوى شيئًا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه.
يقول الإمام ابن القيم: (وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئًا غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاص: أن يخلص لله في أفعاله وأقواله، وإرادته ونيته، وهذه هي الحنفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ). وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء).
قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)؛ أي كما أنه إله واحد، ولا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة، وكان عمر رضي الله عنه من دعائه:(اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا).
لكن الشرك في النية والإرادة له درجات: قد يكون شركًا أكبر، وقد يكون دون ذلك. ويكاد يكون محصورًا في شيئين:
الأول: الرياء. فالرياء كله شرك، فإن كان يسيرًا فهو شرك أصغر، كما سبق معنا في التمهيد. وإن كان كثيرًا فهو من الشرك الأكبر. قال تعالى في بيان خصال الكفار والمشركين والمنافقين:(وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً)، وقال:(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ).
وفي السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: ((أنا أغنى الشركاء
عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)).
قال ابن رجب رحمه الله موضحًا ذلك: (اعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياءً محضًا، بحيث لا يراد سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي؛ كحال المنافقين في صلاتهم
…
وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت والعقوبة
…
).
الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا (هذا أعم من الرياء): قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). قال قتادة: (من كانت الدنيا همه وسدمه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء).
ويدل عليه حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار قبل كل واحد يوم القيامة.
وجود هذا النوع من الشرك في العصر الحديث:
هذا النوع من الشرك ـ كما قال ابن القيم ـ (بحر لا ساحل له)، وله وجود بصفة عامة في جميع الديار، وقلّ من ينجو منه، فكم من الناس تراه يعمل أعمالاً صالحة من صلاة وصوم وصدقة وإحسان إلى الناس وترك ظلمهم ونحو ذلك لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، وإنما يريد أشياء دنيوية بحتة.
وكم من الناس يعمل أعمالاً كثيرة ولا يريدون إلا حطام الدنيا، كالمال يأخذه، أو امرأة يتزوجها.
وكم من الناس يقوم بالتدريس أو يقوم بالإمامة وليس من نيته إلا الحفاظ على الوظيفة.
وكم من الناس يقوم بتهمة القتال، وليس من نيته إلا الدفاع عن اللغة أو الدولة أو الجنس مثلاً.
ولكن لا يعرف هذه الأمور لكونها مخفية في قرارة نفسه، فليحذر الإنسان ربه وليخلص نيته.
* * *