المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث موانع الإخلاص والحذر من الشرك - الشرك في القديم والحديث - جـ ٢

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله جل وعلا في الربوبية في صفته العلم المحيط ومظاهره في العصر الحديث

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في صفته الحكم والتشريع المطلقين بإثباتهما لغيره سبحانه

- ‌أما الجانب الثاني: ففي الشرك في الربوبية بالأنداد إثبات صفة المخلوق للخالق سبحانه

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى القاديانية

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوق للخالق لدى المتصوفة والمتكلمين

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة المخلوقات لله جل شأنه لدى الحداثيين

- ‌الفصل الثاني مظاهر الشرك بالله جل وعلا في العصر الحديث فيما يتعلق بعبادته

- ‌المبحث الأول: في بيان مظاهر الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بأعمال القلوب

- ‌المطلب الأول: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالمحبة

- ‌المطلب الثاني: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالخوف

- ‌المطلب الثالث: الشرك بالله فيما يتعلق بعبادته بالرجاء

- ‌المطلب الرابع: الشرك بالله في عبادته بالتوكل

- ‌المطلب الخامس: الشرك بالله في عبادته بالطاعة

- ‌المطلب السادس: الشرك بالنية والإرادة والقصد

- ‌المبحث الثاني: في بيان مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأعمال القلبية مع الجوارح (شرك التقرب والنسك)

- ‌المطلب الأول: في بيان شرك التقرب والنسك بالركوع والسجود والقيام وغيرها لغير الله

- ‌المطلب الثاني: في بيان شرك التقرب والنسك بالذبح والنذر لغير الله

- ‌المبحث الثالث مظاهر الشرك بالله في عبادته بالأقوال القلبية (شرك الدعوة)

- ‌المبحث الرابع أهم شبهات القبوريين وردها

- ‌الفصل الثالث وجوب الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌المبحث الأول في معنى الإخلاص لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثاني وجوب الإخلاص في الدين

- ‌المبحث الثالث موانع الإخلاص والحذر من الشرك

- ‌الباب الخامس المقارنة بين شرك القديم والحديث

- ‌الفصل الأول مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث أنواعه

- ‌الفصل الثاني مقارنة الشرك بين القديم والحديث من حيث توافق الأسباب

- ‌الباب السادس في بيان بطلان الشرك بأوضح الأدلة

- ‌الفصل الأول تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك

- ‌المبحث الأول في بيان تقرير الله عز وجل في القرآن الأدلة الكونية على قبح الشرك

- ‌المطلب الأول: في بيان اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية الدالين على قبح الشرك

- ‌المطلب الثاني: في بيان آية السموات والأرض الدالة على قبح الشرك بالله

- ‌المطلب الثالث: آية الشمس والقمر والليل والنهار الدالة على قبح الشرك

- ‌المطلب الرابع: آية الرياح والمطر والنبات الدالة على قبح الشرك

- ‌المبحث الثاني تقرير القرآن قبح الشرك بضرب الأمثال

- ‌المطلب الأول: الأمثال المضروبة لله وحده ولما يعبد من دونه

- ‌المطلب الثاني: المثل المضروب لكلمة التوحيد وكلمة الشرك

- ‌المطلب الثالث: مثل للحق والباطل

- ‌المطلب الرابع: أمثلة عجز آلهة المشركين

- ‌المطلب الخامس: الأمثال المضروبة لوصف حال المشرك وحالة الموحد

- ‌المطلب السادس: مثل قلب الموحد وقلب المشرك

- ‌المطلب السابع: أمثلة وصف حواس الموحد وحواس المشرك

- ‌المطلب الثامن: مثلان لبيان فساد أعمال المشركين وهما يدلان على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الثالث تقرير الله عز وجل قبح الشرك وبطلانه ببعض القصص القرآني

- ‌الفصل الثاني تنوع دلالات السنة على قبح الشرك وبطلانه

- ‌الفصل الثالث تنوع دلالات الفطرة والعقل على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المبحث الأول في بيان معنى الفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في بيان معنى الفطرة

- ‌المطلب الثاني: في معنى العقل

- ‌المبحث الثاني في إثبات كون الشرك مخالفاً للفطرة والعقل

- ‌المطلب الأول: في إثبات كون الشرك مخالفًا للفطرة

- ‌المطلب الثاني: في أن الشرك مخالف للعقل

- ‌المبحث الثالث الاستدلال بالأدلة العقلية القرآنية على قبح الشرك وبطلانه

- ‌المطلب الأول: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالله الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل وبطلانه

- ‌المطلب الثاني: الأدلة العقلية القرآنية المتعلقة بالأصنام الدالة على قبح الشرك بالله عز وجل، وبطلانه

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث موانع الإخلاص والحذر من الشرك

‌المبحث الثالث موانع الإخلاص والحذر من الشرك

الأمور المنافية للإخلاص كثيرة ويمكن أن نقسمها قسمين:

1 -

الأمور المنافية له صراحة: وهي الشرك بأنواعه، وقد سبق بيانه في الفصول السابقة.

2 -

الأمور المنافية له خفيًا: وهذه الأمور هي التي يقع فيها الناس كثيرًا حتى من عنده إيمان راسخ، وهي كثيرة من أهمها:

أ- حب الدنيا والمال وحب الشهرة.

ب- حب الشرف والرياسة.

ج- الرياء.

د- السمعة.

هـ - العجب، وغيرها.

فهذه الأمور كلها منافية للإخلاص، لا تجتمع مع الإخلاص أبدًا، ولهذا لا يفوتنا أن نذكر هنا كلمة لابن القيم وضعها رحمه الله كنبراس لتحقيق الإخلاص في القلب، قال رحمه الله: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع، والزهد في الثناء والمدح،

ص: 1295

سهل عليك الإخلاص.

فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟

قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينًا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتي العبد منها شيئًا سواه.

وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله ـ وحده ـ كما قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم أن مدحي زين، وذمي شين، فقال:((ذلك الله عز وجل). فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر من غير مركب.

قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).

وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).

فهذه بعض وسائل القضاء على حب الشرف والرئاسة والثناء كما ذكره الإمام ابن القيم، ولكن بقية الموانع من الإخلاص كالرياء والسمعة والعجب، أما الرياء: فهو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس، فيحمدوا صاحبها، فهو يقصد التعظيم والمدح والرغبة أو الرهبة فيمن يرائيه، وأما السمعة: فهي

ص: 1296

العمل لأجل سماع الناس، وأما العجب: فهو قرين الرياء، وقد فرق بينهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال:(فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس).

والكلام عليها طويل جدًا، وحسبنا أن نشير هنا إلى بعض المسالك الدقيقة للرياء وخفاياه على النحو التالي:

أولها: ما ذكره أبو حامد الغزالي في إحيائه حيث قال ـ أثناء ذكره للرياء الخفي ـ: (وأخفى من ذلك أن يختفي (العامل بطاعته) بحيث لا يريد الاطلاع، ولا يسر بطهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب ان يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه، وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه، ووجد لذلك استبعادًا في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطع عليه، ولو لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله، ولم يكن خاليًا عن شوب خفي من الرياء لم يسلم منه إلا الصديقون).

وأما ثانيها: فهو أن يجعل الإخلاص لله وسيلة ـ لا غاية وقصداً

ـ لأحد المطالب الدنيوية.

وقد نبه شيخ الإسلام على تلك الآفة الخفية فكان مما قال رحمه الله: (حكي أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يومًا تفجريت ينابيع

ص: 1297

الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يومًا فلم يتفجر شيء فذكرت ذلك بعض العارفين، فقال لي: إنك إنما أخلصت للحكمة، ولم تخلص لله تعالى

).

ثم قال ابن تيمية: (وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب، وقد عرف أن ذلك يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطالب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضًا، لأن من أراد شيئًا لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول: يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا قصد أن يخلص لله ليصير عالماً أو عارفاً أو ذا حكمة، أو صاحب مكاشفات وتصرفات ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد الله، بل جعل الله وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى

).

ولذا يقول الشاطبي رحمه الله: (إن الفاعل للسبب عالمًا بأن المسبب ليس إليه، إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه كان أقرب إلى الإخلاص، فالمكلف إذا لبى الأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي، خارج عن حظوظه، قائم بحقوق ربه، واقف موقف العبودية، بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب ورعاه، فإنه عند الالتفات إليه متوجه شطره، فصار توجهه إلى ربه بالسبب، بواسطة التوجه إلى المسبب، ولا شك في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص).

ولما ذكر الشاطبي حكاية: (من أخلص لله أربعين يومًا

) قال رحمه الله: (هذا واقع كثيرًا في ملاحظة المسببات [النتائج والعواقب] في الأسباب،

ص: 1298

وربما غطت ملاحظتها فحالت بين المتسبب وبين مراعاة الأسباب، وبذلك يصير العباد مستكثرًا لعبادته، والعالم مغترًا بعلمه، إلى غير ذلك).

وأما ثالثها: وهو ما أشار إليه ابن رجب رحمه الله بقوله: (وهاهنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه؛ فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء).

علاج الرياء:

إن لكل داء دواء علمه من علمه وجهله من جهله، ولداء الرياء ـ وكذا غيره مما يضاد الإخلاص ـ أنواع من العلاج والدواء، فمنها:

* أن يعلم المكلف علمًا يقينيًا بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضًا ولا أجرة، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته، فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه وإحسان إليه لا معارضة.

* مشاهدة لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه، وأنه بالله لا بنفسه، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو، فكل خير فهو مجرد فضل الله ومنته.

* مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان، فكل عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب وإن قل، وللنفس فيه حظ.

* سوء ظنه بنفسه وعمله وبغضه لها، وكراهته لأنفاسه وصعودها إلى الله، فإنه يحول بينه وبين الرضى بعمله والرضى عن نفسه والعجب والرياء.

ص: 1299

* تذكير النفس بما أمر الله تعالى به من إصلاح القلب، وإخلاصه، وحرمان المرائي من التوفيق.

* خوف مقت الله تعالى إذا اطلع على قلبه وهو منطو على الرياء.

* الإكثار من العبادات غير المشاهدة، وإخفاؤها؛ كقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء خاليًا من خشية الله، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها.

* تحقيق تعظيم الله تعالى، وذلك بتحقيق التوحيد والتعبد لله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.

* تذكر الموت وسكراته، والقبر وأهواله، واليوم الآخر بأحواله التي تشيب لها الولدان.

* معرفة الرياء ومداخله وخفاياه؛ حتى يتم الاحتراز منه.

* النظر في عاقبة الرياء في الدنيا ومضاره؛ فليعلم العبد أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء، لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له كما جاء في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس، ولذا قال بعض السلف: من عرف الناس استراح، وقال بعضهم: جاهد نفسك في دفع أسباب الرياء عنك، واحرص على أن يكون الناس عندك كالبهائم والصبيان، ولا تفرق في عبادتك بين وجودهم وعدمهم، وعلمهم بها أو غفلتهم عنها، واقنع بعلم الله وحده.

ورضي الله عن عمر الفاروق القائل: (فمن خلصت نيته في الحق ولو على

ص: 1300

نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله). يقول ابن القيم رحمه الله معلقًا على عبارة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:(ومن تزين بما ليس فيه شانه الله): (لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص، فإنه يظهر للناس أمرًا وهو في الباطن بخلافه، عامله الله بنقيض قصده، فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعًا وقدرًا، ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس، عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه الله بين الناس؛ لأنه شان باطنه عند الله، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا

).

* النظر إلى عاقبة الرياء في الآخرة ومضاره وفضيحته: فإن مما يدفع الرياء معرفة عاقبته في الآخرة، والتي منها: رد عمله كما في حديث الثلاثة المذكور سابقًا، الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة مع أنهم كانوا فعالين للخير إلا أنهم لم يريدوا به وجه الله وإنما أرادوا به العباد، كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)).

يقول ابن حجر رحمه الله: قال الخطابي: (معناه: من عمل عملاً على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله

ص: 1301

ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه). فإذا علم الإنسان أن هناك يوم حساب، وعلم شدة حاجته في ذلك اليوم إلى العمل الصالح، وعلم عاقبة الرياء غلب على نفسه الحذر من الرياء كي يقبل عمله وكيلا ينفضح في ذلك اليوم.

* معرفة عظم جزاء المخلص في دنياه وآخرته. يقول عمر رضي الله عنه: (فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته! )؛ يريد به تعظيم جزاء المخلص أنه رزق عاجل إما للقلب أو للبدن أو لهما، ورحمته مدخرة في خزائنه؛ فإن الله سبحانه يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا ولابد، ثم في الآخرة يوفيه أجره، كما قال تعالى:(وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). فما يحصل في الدنيا من الجزاء على الأعمال الصالحة ليس جزاء توقية، وإن كان نوعًا آخر كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:(وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

فأخبر سبحانه أنه أتى خليله أجره في الدنيا من النعم التي أنعم بها عليه في نفسه وقلبه وولده وماله وحياته الطيبة، ولكن ليس ذلك أجر توفية. فإذا نظر الإنسان إلى عاقبة الإخلاص في الدنيا والآخرة فإنه يترك ما يخالفه لا محالة.

* الاستعانة بالله على الإخلاص، والتعوذ به من الرياء، فعلى المسلم أن يكثر من الدعاء والتضرع إلى الله؛ بأن يقيه الرياء ودواعيه، كما جاء في الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه علم الدعاء للتخلص مما يخالف الإخلاص،

ص: 1302

حيث قال: ((تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم

)).

فهذه بعض أنواع العلاج للرياء، وهي تصلح للأنواع الأخرى من موانع الإخلاص أيضًا كما هو ظاهر.

مزالق وتنبيهات في أن هناك بعض الأمور التي يظن أنها مخالفة للإخلاص وهي في الحقيقة ليست مخالفة له:

هناك أمور يعملها العبد قد يظنها بعض الناس أنها تخالف الإخلاص وهي ليست مخالفة له، ولهذا يجري التنبيه عليها رفعًا للبس.

منها ما يلي:

تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس إنما هو ليراه الناس، كذلك كل تجمل لأجلهم، حيث إن كثيرًا من الناس لا يحبون أن يراهم أحد بعين نقص في أي حال، ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه فهذا ليس منافيًا للإخلاص.

وكذلك كتمان الذنوب وعدم إظهارها، بل هو واجب شرعي؛ لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها.

وكذلك نشاط العبد بالعبادة عند رؤية العابدين، كأن يبيت الرجل مع المتهجدين فيصلون أكثر الليل وعادته قيام ساعة فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولا الله ثم هم ما انبعث هذا النشاط، هذا ليس مخالفًا للإخلاص على الإطلاق بل فيه تفصيل، ولمعرفة العبد ذلك عليه في مثل هذه الحالة أن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه، فإذا رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله،

ص: 1303

وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم غير صادر عن الإخلاص، وعلى هذا فقس.

وكذلك إذا عمل العبد العمل لله خالصًا ثم ألقي له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين ففرح بفضله ورحمته لم يضره ذلك ولم يعد مخالفاً للإخلاص، وقد سبق معنا بيان الحديث الدال عليه.

ومن الأمور التي قد يقع الخلط فيها عند بعض الناس، عدم التفريق بين الرياء ومطلق التشريك، حيث أشكل ذلك على بعض أهل العلم، فحكموا على العبادات التي قصد بها العابد أمرًا أقره الشارع بالبطلان، كمن يجاهد الكفار ولكي ينال الغنيمة ونحوهما، ولقد بين القرافي رحمه الله الفرق بينهما، فقال: (الفرق الثاني والعشرون والمائة بين قاعدة الرياء في العبادة وبين قاعدة التشريك فيها: اعلم أن الرياء شرك وتشريك مع الله تعالى في طاعته، وهو موجب للمعصية والإثم والبطلان في تلك العبادة، فالرياء أن يعمل العمل المأمور به المتقرب به إلى الله تعالى، ويقصد به وجه الله تعالى، وأن يعظمه الناس أو بعضهم، فيصل إليه نفعهم، أو يندفع به ضررهم.

وأما مطلق التشريك كمن جاهد لتحصيل طاعة الله بالجهاد، وليحصل له المال من الغنيمة، فهذا لا يضيره، ولا يحرم عليه بالإجماع؛ لأن الله جعل له هذا في العبادة، ففرق بين جهاده ليقول الناس: هذا شجاع، أو ليعظمه الإمام فيكثر عطاؤه من بيت المال، هذا ونحوه رياء وحرام، وبين أن يجاهد لتحصيل السبايا والكراع والسلاح من جهة أموال العدو مع أنه قد شرّك، ولا يقال لهذا:

ص: 1304

رياء، بسبب أن الرياء أن يعمل ليراع غير الله من خلقه، والرؤية لا تصح إلا من الخلق.

وكذلك من حج وشرّك في حجه غرض المتجر، وكذلك من صام ليصح جسده، أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصوم، ولا يقدح هذا في صومه، بل أمر بها صاحب الشرع في قوله صلى الله عليه وسلم:((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) فلو كان ذلك قادحًا لم يأمر به صلى الله عليه وسلم في العبادة.

فهذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق، بل هي تشريك أمور من المصالح ليس لها إدراك ولا تصلح للإدراك، ولا للتعظيم، ولا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر، وأن العبادة إذا تجردت عنها زادت الأجر وعظم الثواب).

وقد تحدث العز بن عبد السلام عما هو قريب من تلك المسألة فعقد

ص: 1305

فصلاً بعنوان: (فصل في بيان أن الإعانة على الأديان وطاعة الرحمن ليست شركًا في عبادة الديان وطاعة الرحمن)، فقال: (إن قيل: هل يكون انتظار الإمام المسبوق ليدركه في الركوع شركًا في العبادة أم لا؟ قلت: ظن بعض العلماء ذلك وليس كما ظن، بل هو جمع بين قربتين لما فيه من الإعانة إلى إدراك الركوع، وهي قربة أخرى، والإعانة على الطاعات من أفضل الوسائل عند الله

). ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأدل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)).

وقد كان مالك بن الحويرث رضي الله عنه يقول: (إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة) أي حضور صلاة معينة .. (أصلي كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي).

قال الحافظ ابن حجر: (فيه دليل على جواز مثل ذلك، وأنه ليس من باب التشريك في العبادة). وقال الشاطبي ـ في مثل هذا المقام ـ: (إن ما تعبد العباد به على ضربين: أحدهما: العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة

والثاني: العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق،

ص: 1306

وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق

فأما الأول فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويًا أو أخرويًا، فإن كان أخرويًا فهذا حظ وقد أثبته الشرع

وإذا ثبت شرعًا فطلبه من حيث أثبته صحيح، إذ لم يتعد ما حده الشارع، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره، ولا قصد مخالفته، إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال، فصار العامل ليقع له الجزاء عاملاً لله وحده على مقتضى العلم الشرعي، وذلك غير قادح في إخلاصه؛ لأنه علم أن العبادة المنجية، والعمل الموصل ما قصد به وجه الله، لا ما قصد به غيره).

ويقول أيضاً: (فحظوظ النفس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات، إلا ما كان بوضعه منافيًا لها، كالحديث والأكل والشرب والنوم والرياء وما أشبه ذلك، أما ما لا منافاة فيه فكيف يقدح القصد إليه في العبادة؟ هذا لا ينبغي أن يقال، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدينوية أولى

).

وقد سئل ابن تيمية رحمه الله عن رجل يتلو القرآن مخافة النسيان، ورجاء الثواب، فهل يؤجر على قراءته للدراسة ومخافة النسيان أم لا؟ فأجاب رحمه الله (إذا قرأ القرآن لله ـ تعالى ـ فإنه يثاب على ذلك بكل حال، ولو قصد بقراءته أن يقرأه لئلا ينساه، فإن نسيان القرآن من الذنوب، فإذا قصد القرآن أداء الواجب عليه من دوام حفظه للقرآن، واجتناب ما نهي عنه من إهماله حتى ينساه، فقد

ص: 1307

قصد طاعة الله فكيف لا يثاب

).

يجتهد بعض العباد للتخلص من الرياء والسلامة منه، لكنهم يشتطون في ذلك، فينزلقون في مسلك:(ترك العمل خوف الرياء)؛ فترى أحدهم قد اعتاد فعل الخير، فيعرض في نفسه عارض الرياء، فيترك هذه الطاعة خوفًا من هذا العارض، ولا شك أن هذا خطأ وانحراف لا يقل خطرًا عما يقابله من الرياء والسمعة، ولقد كشف الفضيل بن عياض رحمه الله عن هذا الانحراف فقال:(ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما).

قال النووي رحمه الله: (ومعنى كلامه رحمه الله أن من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس، فهو مراء؛ لأنه ترك العمل لأجل الناس، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب إلا أن تكون فريضة أو زكاة واجبة، أو يكون عالمًا يُقتدى به فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل

).

ويقول ابن تيمية رحمه الله: (ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى، أو قيام ليل، أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس، إذا علم الله من قلبه أن يفعله سرًا لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص

ـ إلى أن قال ـ: ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء، فنهيه مردود عليه من وجوه:

أحدها: أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفًا من الرياء بل يؤمر بها

ص: 1308

وبالإخلاص فيها

فالفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء

الثاني: لأن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة

الثالث: إن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين، إذا رأوا من يظهر أمرًا مشروعًا، قالوا: هذا مراء، فيترك أهل الصدق إظهار الأمور المشروعة حذرًا من لمزهم، فيتعطل الخير

الرابع: إن مثل هذا من شعائر المنافقين، وهو الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة، قال تعالى:(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وقد تمادى أصحاب هذا المسلك في هذا الانحراف، حتى وصل بهم الحد إلى قصد ذم الناس ولومهم، وسموا بـ (الملامية) وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، أرادوا بذلك مقابلة المرائين، فردوا باطلهم بباطل آخر، وهدى الله أهل السلوك من أهل السنة والجماعة إلى التزام الصراط المستقيم فكانوا وسطًا بين المرائين والملامية.

ومما هو قريب مما سبق، ويقع فيه اللبس والاشتباه: عدم التفريق بين حب الرئاسة والولاية، وبين حب الإمارة لأجل الدعوة إلى الله تعالى، وقد أوضح ابن القيم رحمه الله ذلك فقال: (الفرق بين حب الرئاسة، وحب الإمارة للدعوة إلى الله هو الفرق بين تعظيم أمر الله والنصح له، وتعظيم النفس

ص: 1309

والسعي في حظها، فإن الناصح لله المعظم له المحب له يجب أن يطاع ربه فلا يعصى، وأن يكون الدين كله لله، وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه، فقد ناصح الله في عبوديته، وناصح خلقه في الدعوة إلى الله، فهو يحب الإمامة في الدين؛ بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إمامًا يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين، فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم جليلاً وفي قلوبهم مهيبًا، وإليهم حبيباً لكي يأتموا به ويقتفوا أثر الرسول على يده لم يضره ذلك بل يحمد عليه؛ لأنه داع إلى الله يحب أن يطاع ويعبد ويوحد

وهذا بخلاف طلب الرئاسة، فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبد القلوب لهم وميلها إليهم ومساعدتها لهم على جميع أغراضهم، مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلوب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله، من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة

) إلى آخر ما قاله ابن القيم.

ص: 1310