الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنف السادس والعشرون فى التهكم
وهو تفعل من قولهم تهكّمت البئر، إذا تساقطت جوانبها، وهو عبارة عن شدة الغضب لأن الإنسان إذا اشتد غضبه فإنه يخرج عن حد الاستقامة وتتغير أحواله، وفى الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الغضب فإنه يوقد فى فؤاد ابن آدم النار، ألا تروه إذا غضب كيف تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه» «1» ، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن إخراج الكلام على ضد مقتضى الحال استهزاء بالمخاطب، ودخوله كثير فى كلام الله تعالى: وكلام رسوله وعلى ألسنة الفصحاء، وله موقع عظيم فى إفادة البلاغة والفصاحة، ويرد على أوجه خمسة، أولها أن يكون واردا على جهة الوعيد بلفظ الوعد تهكما، وهذا كقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)
[التوبة: 34] وقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)
[النساء: 138] فلفظ البشارة دال على الوعد وعلى حصول كل محبوب، فإذا وصل بالمكروه كان دالا على التهكم لإخراجه المحبوب فى صورة المكروه، وثانيها أن تورد صفات المدح والمقصود بها الذم، ومثاله قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
[الدخان: 49] لأن المقصود هو الاستخفاف والإهانة، ولهذا ورد فى حق من كان يدخل النار، والغرض منه الذليل المهان، ولكنه أخرجه هذا المخرج للتهكم، وثالثها قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ
[الأحزاب: 18] وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ
[النور: 64] وقوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
[الأنعام: 33] فما هذا حاله دال على القلة، لأن المضارع إذا لصق به قد، فهو دال على القلة والغرض ههنا التكثير والتحقيق للعلم بما ذكره، وإنما أورده على جهة التهكم بهم والاستهانة بحالهم حيث أسروا الخدع والمكر جهلا بأن الله تعالى غير مطلع على تلك الخفايا ولا محيط بتيك السرائر، فأورده على جهة التقليل، والغرض به التحقيق انتقاصا بحالهم فى ظنهم لما ظنوه من ذلك، ورابعها قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)
[الحجر: 2] فأورده على جهة التقليل، وأخرجه مخرج الشك، والغرض به التكثير والتحقيق فى حالهم تلك، لأنهم فى تلك الحالة يتحققون ويقطعون بأنهم لو كانوا على الإسلام قطعا ويقينا لما
ينالون من العذاب ويتحققونه من النكال، ولا خلاص عن ذلك إلا بالإسلام، فلهذا قطعنا بتحقق المحبة والود للإسلام، وإنما أخرجه مخرج التهكم والاستهزاء، وخامسها قوله تعالى حكاية عن قوم شعيب: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
[هود: 87] فلم يخرجوه على جهة استحقاقه للمدح بهاتين الصفتين مع كونه أهلا لهما، وإنما أخرجوه مخرج الاستهزاء والتهكم بحاله، تمردا واستكبارا، وغرضهم إنك لأنت السفيه الجاهل، حيث أمرهم بما أمرهم من الخير والمعروف فأبوا إلا ما كان عليه الأسلاف، فلا جرم أخرجوه هذا المخرج من أجل ذلك، وليس له ضابط يضبطه، وإنما الجامع لشتات معانيه هو ما ذكرناه من إخراج الكلام على خلاف مقتضى الحال، فلا بد من مراعاة ما ذكرناه وإن اختلفت صوره، وكقوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
[الرعد: 11] والمعقبات هم الحرس حول السلطان يحفظونه على زعمه من أمر الله، فهو وارد على جهة التهكم، لأن أمر الله إذا جاء وقضى لا يحفظ عنه حافظ، ولا يمكن رده، ولا يستطاع دفعه بحال، ومن الأبيات الشعرية ما كان واردا على جهة التهكم كقول من قال فى رجل يتهكم برجل محدودب الظهر:
لا تظنّنّ حدبة الظّهر عيبا
…
هى فى الحسن من صفات الهلال
وكذاك القسىّ محدودبات
…
وهى أنكى من الظّبا والعوالى
كوّن الله حدبة فيك إن شئت
…
من الفضل أو من الإفضال
فأتت ربوة على طود حلم
…
طال أو موجة ببحر نوال
وإذا لم يكن من الوصل بدّ
…
فعسى أن تزورنى فى الخيال «1»
فظاهر ما أورده مدح كامل كما ترى لما يظهر من صورته، وإنما أورده على جهة التهكم به والاستهزاء بحاله، وكقول امرىء القيس يصف كلبا:
فأنشب أظفاره فى النّسا
…
فقلت هبلت ألا تنتصر «2»
فقوله: «هبلت ألا تنتصر» تهكم بحاله فى غاية اللطف والرشاقة لأن ما فعله الكلب بالصيد هو غاية الانتصار.