الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث فى بيان الوجه فى إعجاز القرآن
اعلم أن الكلام فى الوجه الذى لأجله كان القرآن معجزا دقيق، ومن ثم كثرت فيه الأقاويل واضطربت فيه المذاهب، وتفرقوا على أنحاء كثيرة، فلنذكر ضبط المذاهب، ثم نردفه بذكر ما تحتمله من الفساد، ثم نذكر على أثره المختار منها، فهذه مباحث ثلاثة.
المبحث الأول فى الإشارة إلى ضبط المذاهب فى وجه الإعجاز
فنقول كون القرآن معجزا ليس يخلو الحال فيه، إما أن يكون لكونه فعلا من المعتاد، أو لكونه فعلا لغير المعتاد، فالأول هو القول بالصرفة، ومعنى ذلك أن الله تعالى صرف دواعيهم عن معارضة القرآن مع كونهم قادرين عليها، فالإعجاز فى الحقيقة إنما هو بالصرفة على قول هؤلاء، كما نسحقق خلافهم فى الرد عليهم بمعونة الله تعالى، ونذكر من قال بهذه المقالة، وإن كان الوجه فى إعجازه هو الفعل لغير المعتاد، فهو قسمان:
القسم الأول أن يكون لأمر عائد إلى ألفاظه من غير دلالتها على المعانى
،
ثم هذا يكون على وجهين، أحدهما أن يكون مشترطا فيهم اجتماع الكلمات وتأليفها، وهذا هو قول من قال: الوجه فى إعجازه هو اختصاصه بالأسلوب المفارق لسائر الأساليب الشعرية والخطابية، وغيرهما، فإنه مختص بالفواصل والأسجاع، فمن أجل هذا جعلنا هذا الوجه مختصا بتأليف الكلمات، وثانيهما أن يكون إعجازه لأمر راجع إلى مفردات الكلمات دون مؤلفاتها، وهذا هو رأى من قال: إنه إنما صار معجزا من أجل الفصاحة بالبراءة عن الثقل والسلامة عن التعقيد، واختصاصه بالسلاسة فى ألفاظه.
القسم الثانى أن يكون إعجازه إنما كان لأجل الألفاظ باعتبار دلالتها على المعانى
،
وهذا هو قول من قال: إن القرآن إنما كان معجزا لأجل تضمنه من الدلالة على المعنى، وهذا القسم يمكن تنزيله على أوجه ثلاثة.
الوجه الأول: أن تكون تلك الدلالة على جهة المطابقة وفيه مذاهب ثلاثة، أولها أن يكون لأمر حاصل فى كل ألفاظه، وهذا هو قول من قال: إن وجه إعجازه، هو سلامته عن المناقضة فى جميع ما تضمنه، وثانيها أن يكون لأمر حاصل فى كل ألفاظه وأبعاضها، وهذا هو قول من قال: إن إعجازه إنما كان لما فيه من بيان الحقائق والأسرار، والدقائق مما يكون العقل مشتغلا بدركها، فإن العلماء من لدن عصر الصحابة رضى الله عنهم إلى يومنا هذا ما زالوا يستنهضون منه كل سر عجيب، ويستنبطون من ألفاظه كل معنى لطيف غريب، فهذا هو الوجه فى إعجازه على رأى هؤلاء، وثالثها أن يكون وجه إعجازه لأمر حاصل فى مجموع ألفاظه وأبعاضها، مما لا يستقل بدركه العقل، وهذا هو قول من قال إن الوجه فى إعجازه ما تضمنه من الأمور الغيبية، واللطائف الإلهية، التى لا يختص بها سوى علامها، فهذه هى أقسام دلالة المطابقة، تكون على هذه الأوجه الثلاثة التى رمزنا إليها.
الوجه الثانى: أن تكون تلك الدلالة على جهة الالتزام، وهذا مذهب من يقول: إن القرآن إنما كان معجزا لبلاغته، وفسر البلاغة باشتمال الكلام على وجوه الاستعارة، والتشبيه المضمر الأداة، والفصل، والوصل، والتقديم، والتأخير، والحذف، والإضمار، والإطناب، والإيجاز، وغير ذلك من فنون البلاغة.
الوجه الثالث أن تكون تلك الدلالة من جهة تضمنه لما يتضمنه من الأسرار المودعة تحت ألفاظه التى لا تزال على وجه الدهر غضة طرية يجتليها كل ناظر، ويعلو ذروتها كل خريت ماهر، فظهر بما لخصناه من الحصر أن كون القرآن معجزا إما أن يكون للصرفة، أو للنظم، أو لسلامة ألفاظه من التعقيد، أو لخلوه عن التناقض، أو لأجل اشتماله على المعانى الدقيقة، أو لاشتماله على الإخبار بالعلوم الغيبية، أو لأجل الفصاحة والبلاغة، أو لما يتركب من بعض هذه الوجوه، أو من كلها، كما فصلناه من قبل، ونحن الآن نذكر كل واحد من هذه الأقسام كلها، ونبطله سوى ما نختاره منها والله الموفق.