الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضرب الأول فى بيان عطف المفردات بعضها على بعض بالواو
وإنما قدمناه فى الترتيب من جهة أن المفرد سابق على الجملة المركبة، ونذكر فيه من التنزيل آيتين، الآية الأولى قوله تعالى فى سورة الغاشية أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
[الغاشية: 17- 18] إلى آخر الآية، فعطف بعض هذه المفردات على بعض، ولا بد هناك من رعاية الملائمة والمناسبة فى تقديم بعضها على بعض لئلا يخلو التنزيل عن أسرار معنوية، ودقائق خفية، يتفطّن لها أهل البراعة، ويقصر عن إدراكها من لا حظورة له فى معرفة هذه الصناعة، فلابد من أن يكون لتقديم المعطوف عليه على المعطوف وجه يسوّغه، وإلا كان لغوا، ولهذا ضعف، زيد قائم وعمرو باع داره، إذ لا علقة بين هاتين الجملتين تكون سببا لعطف إحداهما على الأخرى، ولهذا عيب على أبى تمام قوله:
لا والّذى هو عالم أنّ النّوى
…
صبر وأنّ أبا الحسين كريم «1»
إذ لا مناسبة بين مرارة النوى، وكرم أبى الحسين، فأما الآية فلنشر إلى الأسرار التى لأجلها قدّم بعضها على بعض، فأما تقديم الإبل، فإنما كان ذلك من أجل أن الخطاب للعرب من أهل البلاغة، فمن أجل ذلك كان الاستجلاء على حسب ما يألفونه، وذلك أن العرب أكثر تعويلهم فى معظم تصرفاتهم على المواشى فى المطاعم والمشارب والمراكب، وأعمها نفعا هى الإبل، لأن أكثر المنافع هذه لا تصلح إلا فيها على العموم، مع ما اختصت به من الخلق العظيم والإحكام العجيب، فمن أجل ذلك صدرها بالنظر فيها لذلك، ثم إنه أردفها بذلك النظر فى خلق السموات، ووجه الملائمة بينهما، هو أن قوام هذه الأنعام ومادة المواشى، إنما هو بالرعى وأكل الخلى، وكان ذلك لا يكون إلا بنزول المطر من السماء، مع ما اختصت به من التأليف الباهر والامتداد العظيم، والسعة الكلية، فمن أجل ذلك عقّب بها ذكر الإبل، إشارة إلى ما قلناه، ثم أردف ذلك بذكر النظر فى
الجبال وما تضمنته من العجائب العظيمة من أجل أنهم إذا قعدوا فى البرارى وبطون الأودية، لا يأمنون التخطف لهذه الأنعام والنفوس والأموال، فأشار إليها لما فيها من التحفظ على أموالهم ونفوسهم، بارتفاعها وكونها شوامخ لا يوصل إليها لعلوها وارتفاعها، فعقب بها ذكر السماء، لما أشرنا إليه، ووجه آخر وهو أنها لما كانت فى غاية الارتفاع والسمو أشبهت السماء فى علوها وارتفاعها، فلهذا عقبها بها، ثم أردفها بذكر الأرض، ومنبها على ما لهم فيها من المعاش والاستقرار بأنواع الارتفاقات التى لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى من الأرزاق والثمار والفواكه والمعادن ومجارى العيون والأمواه، وغير ذلك، فأشار الله تعالى إلى هذه العجائب الأربعة، لمّا كانت من أعظم الآيات الباهرة، وقد عددنا هذه فى عطف المفردات نظرا إلى عطف المجرورات بعضها على بعض وكان ما بعدها منفصلا عنها، فهذا هو الذى حسن منه، والأقرب أن يكون من الجمل، لأن ما تقدم من المجرورات هو متعلق بالجمل بعدها، فلهذا كان معدودا من الجمل، الآية الثانية ذكرها فى سورة آل عمران وهى قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ
[آل عمران: 14] فانظر إلى عجائب هذه الآية ولطافة معناها فى تقديم بعضها على بعض، فلما كانت الآية مسوقة من أجل تزيين المشتهيات فى أفئدة بنى آدم واستيلائها عليها قدّم ما هو الأدخل فى ذلك، فصدرها بذكر النساء، تنبيها على أن لا مشتهى يغلب على العقول مثلهن على القلوب من توقان النفوس إليهن وعن هذا قال صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أغلب لذوى العقول من النساء، وعن إبليس: ما نصبت فخا أثبت فى نفسى من فخ أنصبه بامرأة، وفى هذا دلالة على استيلائهن على العقول، لأنهن أدخل فى المشتهيات، ثم عقّبه بذكر البنين لما كانوا مما يلى النساء فى الرقة والرحمة والشفقة والحنو، مع المشاكلة فى الخلقة والصورة، ثم أردف ذلك بالأموال الذهبية والفضية، لما يحصل فيها من اللذة والسرور والاطمئنان وانشراح الصدور بها والاستطالة والقوة، كما يحصل بالأبناء، ولكن الأولاد أدخل فرحا وأشد محبة، وأكثر بهم رحمة ورأفة، وقوله:«القناطير المقنطرة» مبالغة فى وصفها، كما
قالوا: إبل مؤبلة، وظلف ظالف، أى شديد، ثم عقب ذلك بذكر الخيل، لما يحصل بها من الجمال والهيئة الحسنة والقوة والاستطالة على الأعداء بالقهر، وأردفها بذكر الأنعام لما يحصل بها من المنافع، وهى دون منافع الخيل، وأتبعها بذكر الحرث، وختم هذه المنافع بذكره، لأن كل واحد من هذه الأشياء على مرتبة فى السبق على قدر حالها فى الجمال والمنفعة، وقد أشار الله تعالى إلى ترتيبها كما سردها، تنبيها على أن ما تقدم منها فهو أحق من غيره، لاختصاصه بما اختص به، ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على درجات الفصل وأغفلنا ذكر ما يتعلق بهاتين الآيتين من العلوم المعنوية والعلوم البيانية، وما يليق بهما من علم البديع، ميلا إلى الاختصار، وهذا من مغاصات بحار التنزيل المحصّلة لخالص عقيانه، وأسماط عقوده المؤلفة من درره وحصيد مرجانه، وقد استخرجها النقاد والغاصة، واستولوا على لباب تلك الأسرار. وأحاطوا منها بالخلاصة.