الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقرير الثانى فى بيان أمثلته
وهى واسعة الخطو ممتدة الحواشى فى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وكلام البلغاء كأمير المؤمنين كرم الله وجهه وغيره من أرباب البلاغة الذين خاضوا بحر عمانها، وغاصوا على لآلئها ومرجانها، وميزوا فيها بين خرزها وجمانها، وحصلها ومجانها، وفصلوا منها بين هجينها وهجانها، فمن أمثلة التنزيل قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ
[المائدة: 64] وقوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا
[القمر: 14] وقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27)
[الرحمن: 27] وقوله تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَ
[ص: 75] وقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي
[طه: 39] وقوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
[الحجر: 29] وقوله تعالى: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ
[الزمر: 56] إلى غير ذلك من الآيات الموهمة بظاهرها للأعضاء والجوارح، فإذا قام البرهان العقلى على استحالة هذه الأعضاء على الله تعالى وأنه منزه عن جميع أنواع التشبيهات المكونات الجسمية والعرضية وتوابعهما كالكون فى الجهات، والأعضاء والجوارح، والحلول والمجىء والذهاب وغير ذلك من توابع الجسمية والعرضية، فلا بد من تأويل هذه الظواهر على ما تكون موافقة للعقل، وإعطاء للبلاغة حقها لأن مخالفة العقل غير محتملة، وحمل الكلام على غير ظاهره محتمل، وتأويل المحتمل أحق من تأويل غير المحتمل، فلهذا وجب تأويلها، وللعلماء فى تأويلها مجريان:
فالمجرى الأول الذى ينتجه علماء الكلام من الزيدية والمعتزلة وغيرهم من المنزهة، وهو أنهم يتأولون هذه الظواهر على تأويلات وإن بعدت حذرا عن مخالفة العقل، واغتفر بعدها لأجل مخالفة العقل، ويعضدون تأويلاتهم بأمور لغوية، فيقولون المراد باليد النعمة، وإن المراد بالعين العلم، إلى غير ذلك، وحملهم لها على هذه التأويلات لما لم يأنسوا بشىء من علوم البيان، ولا ولعوا بشىء من مصطلحاته، فجاءوا بهذه التأويلات الركيكة التى يأنف منها كل محصّل، ويزدريها نظر أهل البلاغة.
المجرى الثانى وهو الذى عول عليه علماء البلاغة والمحققون من أهل البيان، وهى أنها جارية على نعت التخييل، فهى فى الحقيقة دالة على ما وضعت له فى الأصل، لكن معناها غير متحقق، وإنما هو أمر خيالى، فاليد مثلا دالة على الجارحة، والعين كذلك لكن تحقق
اليد والعين فى حق الله تعالى غير معقول، ولكنه جار على جهة التخيل، كمن يظن شبحا من بعيد أنه رجل فإذا هو حجر، ومن يتخيل سوادا أنه حيوان فإذا هو شجر، إلى غير ذلك من الخيالات، فما هذا حاله من التأويلات أسهل على الفؤاد وأجرى وأدخل فى البلاغة من التأويلات البعيدة التى لا يعضدها عقل، ولا يشهد بصحتها نقل، ثم أثر عن هذيان الأشعرية أن المراد بهذه الأعضاء صفات أخبر عنها باليد، والعين، والجنب، وسائر الأعضاء، فما هذا حاله لا دلالة عليه، وأبعد من هذا تهويس المشبهة من أن المراد بها ظاهرها من الأعضاء والجوارح. والرد عليهم إنما يليق بالكتب الكلامية، وقد أوردنا هذه المسألة فى الكتب العقلية وزيفنا هذه الآراء، وأبطلنا هذه الأهواء فليطالع من هناك. ومن الأمثلة الواردة فى السنة النبوية: قوله صلى الله عليه وسلم: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله» «1» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«يد الفقير يد الله، فمن أعطى الفقير فكأنما يعطى الله» ، وقوله عليه السلام:«الحجر الأسود يمين الله فى الأرض» «2» ، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما ورد فى (صحيح البخارى) فى صفة النار:«وإن الجبار يضع قدمه فى النار» ، والمراد به غير الجارحة، أى من سلف من الأمم الماضية الخارجين عن الدين بإنكار القيامة والمعاد الأخروى، وإن أريد به الجارحة كان من باب التخييل، فهذه الأخبار وما شاكلها مما يدل على الأعضاء والجوارح يجب حمله على ما ذكرناه من التخييل.
لا يقال فبأى شىء تكون التفرقة بين تأويل المتكلمين لظواهر هذه الآى وظواهر هذه الأخبار الدالة على الأعضاء والجوارح، وبين تأويل علماء البيان لهذا إذا حملوها على التخييل كما ذكرتم، لأن كل واحد منهما يكون تأويلا لا محالة، لأنا نقول التفرقة بينهما ظاهرة، فإن المتكلمين حملوها على تأويلات بعيدة، واغتفروا بعدها حذرا من مخالفة الأدلة العقلية، وكان بعدها عندهم أهون من مخالفة العقل، حيث كان دالا على التنزيه دلالة قاطعة. فأما علماء البيان فإنهم وضعوها على معانيها اللغوية فى كونها دالة على هذه الجوارح، لكنهم قالوا إن الجارحة خيالية غير متحققة، فلا جرم كان تأويلا منهم لها على ذلك، ولهذا كان تأويلهم لها أقرب لما كانت دالة على ما وضعت له فى الأصل من غير عدول ولا مخالفة، وإن جاءت المخالفة من جهة أن الجارحة خيالية دون أن تكون حقيقية،
فهذه هى التفرقة بين التأويلين. ومن الأمثلة ما ورد عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وهذا كقوله عليه السلام:«الحمد لله الفاشى حمده، الغالب جنده، المتعالى جده» .
وقوله: «الذى بعد فنأى، وقرب فدنا، وعلا بحوله، ودنا بطوله» ، وقوله:«والسموات ممسكات بيده مطويات بيمينه سبحانه وتعالى» ، وقوله:«ناصيتى بيدك ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك» . وقوله عليه السلام: «فاتقوا الله الذى أنتم بنعمته ونواصيكم بيده، وتقلبكم فى قبضته» . ومن الأمثلة فى كلام البلغاء قول بعضهم:
رأيت عرابة الأوسىّ يسمو
…
إلى العلياء منقطع القرين
إذا ما راية نصبت لمجد
…
تلقّاها عرابة باليمين «1»
فليس الغرض باليمين ههنا الجارحة على جهة الحقيقة، وإنما أراد ما يكون على جهة التخييل كما مرّ بيانه، وفى «الحريريات» قوله:
يا قوم كم من عاتق عانس
…
ممدوحة الأوصاف فى الأنديه
قتلتها لا أتّقى وارثا
…
يطلب منى قودا أودية
فقوله العانس، والقتل، يظن من جهة الظاهر أن غرضه البكر، وليس غرضه ذلك وإنما أراد الخمر، فالعانس هى التى يكثر مقامها مع أبويها، استعاره للخمر، والقتل هو إزهاق الروح، وأراد به ههنا مزجها، ومنه قوله أيضا «لم يزل أهلى وبعلى يحلون الصدر ويمتطون الظهر ويولون اليد، فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح والأكباد، وانقلب ظهرا لبطن نبا الناظر، وجفا الحاجب، وصلد الزّند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب» ، فليس المراد بهذه الأشياء هى الجوارح كما هو المفهوم من ظاهرها، وإنما أراد الجدب على جهة الخيال، ولم يرد حقيقتها كما مر فى غيره من المواضع.