الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه
نجعله خاتمة للكلام فى الوجه الذى لأجله حصل الإعجاز، اعلم أن القرآن إنما صار معجزا لكونه دالا على تلك المحاسن والمزايا التى لم يختص بها غيره من سائر الكلام، ولا يجوز أن تكون راجعة إلى الدلالات الوضعية، سواء كانت باعتبار دلالتها على معانيها الوضعية، أو مجردة عنها، وقد ذهب إلى ذلك أقوام.
وهو فاسد لأمرين، أما أولا: فلأن الكلمة الواحدة قد تكون فصيحة إذا وقعت فى محل، وغير فصيحة إذا وقعت فى محل آخر، فلو كان الأمر فى الفصاحة والبلاغة راجعا إلى مجرد الألفاظ الوضعية، لما اختلف ذلك بحسب اختلاف المواضع، وأما ثانيا فلأن الاستعارة، والتشبيه، والتمثيل، والكناية، من أعظم قواعد الفصاحة وأبلغها. وإنما كانت كذلك باعتبار دلالتها على المعانى لا باعتبار ألفاظها. فصارت الدلالة على وجهين:
الوجه الأول دلالة وضعية، وهذه لا تعلق لها بالبلاغة والفصاحة كما مهدنا طريقه، وثانيهما الدلالة المعنوية، ودلالتها إما بالتضمن، أو بالالتزام، وهما عقليان من جهة أن حاصلهما، هو انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه، ثم تلك الملازمة إما أن تكون دلالة على جزء المفهوم، أو تكون دلالة على معنى يصاحب المفهوم، فالأول هو الدلالة التضمنية، والثانى هو الدلالة الخارجية وهما جميعا من اللوازم، ثم إن تلك اللوازم تارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فمن أجل ذلك صح تأدية المعانى بطرق كثيرة، بعضها أكمل من بعض، وتارة تزيد، ومرة تنقص، فلأجل هذا اتسع نطاق البلاغة وعظم شأنه، وارتفع قدره وعلا أمره، فربما علا قدر الكلام فى بلاغته حتى صار معجزا لا رتبة فوقه، وربما نزل الكلام حتى صار ليس بينه وبين نعيق البهائم إلا مزية التأليف والتركيب، وربما كان متوسطا بين الرتبتين، وقد يوصف اللفظ بالجودة، لكونه متمكنا فى أسلات الألسنة غير ناب عن مدارجها، ولا قلق على سطح اللسان، جيدا سبكه صحيحا طابعه، وأنه فى حق معناه من غير زيادة عليه ولا نقصان عنه، وقد يذمونه بنقائض هذه الصفات بأنه معقد جرز، وأنه لتعقيده استهلك المعنى، يمشى اللسان إذا نطق به كأنه مقيد، وحشى، نافر، نازل القدر، طويل الذيول من غير فائدة، ولا معنى تحته، وقد يصفون
المعنى بالجودة، بأنه قريب جزل، يسبق إلى الأذهان، قبل أن يسبق إلى الآذان، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، حتى كأنه يدخل إلى الأذن بلا إذن، وقد يذمونه بكونه ركيكا نازل القدر، بعيدا عن العقول، وهلم جرا إلى سائر ما ذكرناه من جهة المعنى على هذه المزايا موجودة فيه على أكمل شىء وأتمه، فلله دره من كتاب اشتمل على علوم الحكمة وضم جوامع الخطاب، وأودع ما لم يودع غيره من الكتب المنزلة من حقائق الإجمال ودقائق الأسرار المفصلة، وإذا أردت أن تكحل بصرك بمرود التخييل والاطلاع على لطائف الإجمال والتفصيل، فاتل قصة زكرياء عليه السلام، وقف عندها وقفة باحث وهى قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
[مريم: 4] فإنك تجد كل جملة منها بل كل كلمة من كلماتها تحتوى على لطائف، وليس فى آى القرآن المجيد حرف إلا تحته سر ومصلحة فضلا عما وراء ذلك، والكلام فى تقرير تلك اللطائف الإجمالية، وما يتلوها من الأسرار التفصيلية، مقرر فى معرفة حد الكلام وأصله، وأن كل مرتبة من مراتب الإجمال متروكة فى الآية وسياقها، وجملة ما نورده من ذلك درجات عشر، كل واحدة منها على حظ من الإجمال، بعدها درجة أخرى على حظ من التفصيل، حتى تكون الخاتمة هو ما اشتمل عليه سياقها المنظوم على أحسن نظام، وصار واقعا فى تتميم بلاغتها أحسن تمام.
الدرجة الأولى: نداء الخفية، فإنه دال على ضعف الحال وخطاب المسكنة والذل حتى لا يستطيع حراكا وهو من لوازم الشيخوخة والهزال، لما فيه من التصاغر للجلال والعظمة بخفض الصوت فى مقام الكبرياء، وعظم القدرة فهذه الجملة مذكورة كما قررناه، وهى مناسبة لحاله، ولهذا صدرها فى أول قصته لما فيها من ملائمة الحال وهضم النفس، واستصغارها، وافتتاحها بذكر العبودية يؤكد ما ذكرناه ويؤيده.
الدرجة الثانية: كأنه قال، يا رب إنه قد دنا عمرى وانقضت أيام شبابى، فإن انقضاء العمر دال على الضعف، والشيخوخة لا محالة، لأن انقضاء الأيام والليالى هو الموصل إلى الفناء والضعف وشيب الرأس، ثم إن هذه الجملة صارت متروكة لتوخى مزيد التقرير إلى ما هو أكثر تفصيلا منها مما يكون بعدها.
الدرجة الثالثة: كأنه قال قد شخت فإن الشيخوخة دالة على ضعف البدن وشيب الرأس، لأنها هى السبب فى ذلك لا محالة.
الدرجة الرابعة: كأنه قال وهنت عظام بدنى، جعله كناية عن ضعف حاله، ورقة جسمه، ثم تركت هذه الجملة إلى جملة أخرى أكثر تفصيلا منها.
الدرجة الخامسة: كأنه قال أنا وهنت عظام بدنى، فأعطيت مبالغة، لما قدم المبتدأ ببناء الكلام عليه كما ترى.
الدرجة السادسة: كأنه قال إنى وهنت العظام من بدنى فأضاف إلى نفسه، تقريرا مؤكدا «بإن» للأمر، واختصاصها بحاله، ثم تركت هذه الجملة بجملة غيرها.
الدرجة السابعة: كأنه قال إنى وهنت العظام منى، فترك ذكر البدن، وجمع العظام، إرادة لقصد شمول الوهن للعظام ودخوله فيها.
الدرجة الثامنة: ترك جمع العظام إلى إفراد العظم، واكتفى بإفراده فقال: إنى وهن العظم منى.
الدرجة التاسعة: ترك الحقيقة، وهى قوله أشيب، أو شاب رأسى، لما علم أن المجاز أحسن من الحقيقة، وأكثر دخولا فى البلاغة منها، ثم تركت هذه الجملة بجملة أخرى غيرها.
الدرجة العاشرة: أنه عدل عن المجاز إلى الاستعارة فى قوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
[مريم: 4] وهى من محاسن المجاز، ومن مثمرات البلاغة، وبلاغتها قد ظهرت من جهات ثلاث.
الجهة الأولى إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال بجميع الرأس، بخلاف ما لو قال: اشتعل شيب رأسى، فإنه لا يؤدى هذا المعنى بحال، فاشتعل رأسى وزان اشتعلت النار فى بيتى، واشتعل رأسى شيبا، وزان اشتعل بيتى نارا.
الجهة الثانية الإجمال والتفصيل فى نصب التمييز، فإنك إذا نصبت شَيْباً
كان المعنى مخالفا لما إذا رفعته، فقلت: اشتعل شيب رأسى، لما فى النصب من المبالغة دون غيره.
الجهة الثالثة تنكير قوله شيبا، لإفادة المبالغة، ثم إنه ترك لفظ (منى) فى قوله واشتعل الرأس شيبا، اتكالا على قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
ثم إنه أتى به فى الأول، بيانا للحال وإرادة للاختصاص بحاله فى إضافته إلى نفسه، ثم عطف الجملة الثانية على الجملة الأولى بلفظ الماضى، لما بينهما من التقارب والملائمة، فانظر إلى هذا السياق المثمر المورق، وجودة هذا الرصف المعجب المونق، كيف ترك جملة إلى جملة، إرادة للإجمال بعده
التفصيل، من أجل إيثار البلاغة حتى انتهى إلى خلاصها، ودهن لبها ومصاصها. وهو جوهر الآية ونظامها بأوجز عبارة وأخصرها، وأظهر بلاغة وأبهرها واعلم أن الذى فتق أكمام هذه اللطائف حتى تفتحت أزرار أزهارها، وتعانقت أغصانها وتأنقت أفنانها، وتناسبت محاسن آثارها، هو مقدمة الآية وديباجتها، فإنه لما افتتح الكلام فى هذه القصة البديعة بالاختصار العجيب، بأن طرح حرف النداء من قوله «رب» وياء النفس من المضاف، أشعر أولها بالغرض، فلأجل تأسيس الكلام على الاختصار عقبه بالاختصار والإجمال، واكتفى بذكر هاتين الجملتين عما وراءهما من تلك المراتب العشر التى نبهنا عليها والحمد لله.