الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالبيت الأول دال على التوجيه بمعنى أنه يحتمل أن يريد مدحه وأن يريد ذمه لأنه صرح بأن فيه الخير والشر، وفيه الحلم والجهل، فيحتمل أن يكون المراد مدحه، ويحتمل أن يريد ذمه، فإذا قال بعد ذلك فى البيت الثانى إنه برىء عن مكروهها، ومنزه عنه، وأنه فى محبوبها له الزيادة على غيره فى الصفات المحمودة، أزال ما يحتمله الأول من الذم، وأزال توجيهه الذى يحتمله. الوجه الثانى أن يكون الذى يؤتى به من الكلام موضحا لحكم خفى ومثاله ما يقوله بعض الشعراء:
ومقرطق يغنى النديم بوجهه
…
عن كأسه المملى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها
…
فى مقلتيه ووجنتيه وريقه «1»
فالبيت الأول حكمه خفى لإيراد القصد فيه، لأنه لم يفصح بمقصوده عن كون النديم يغنى بوجهه، وما الذى أغناه عن حمل الكأس والإبريق، فلما قال فى البيت الثانى:
فعل المدام ولونها ومذاقها
…
فى مقلتيه ووجنتيه وريقه
وأراد أن المقلتين يسكران من نظر إليهما ويخجلانه كما تسكر الخمر العقول وتحيرها وتدهشها وحمرة المدام تشبهها حمرة خديه، ومذاق المدام يشبه ريقه، صار البيت موضحا لهذه الأمور الثلاثة مبينا لها ولحكمها، والمقرطق بالقافين، لابس القباء، والمقرطف. بقاف وفاء هو اللابس لثوب له خمل والله أعلم.
الصنف العاشر التتميم
وهو تفعيل من قولهم تممه إذا أكمله، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن تقييد الكلام بفضلة لقصد المبالغة، أو للصيانة عن احتمال الخطأ، أو لتقويم الوزن، فهذا تقرير معناه فى مراد علماء البلاغة، ثم يرد على أوجه ثلاثة، إما للمبالغة، وإما للصيانة، وإما لإقامة الزنة على حد ما ذكرناه فى شرح ماهيته، أولها أن يكون واردا على جهة المبالغة بأن تكون الفائدة فى تلك الفضلة إنما هى المبالغة لا غير، ومثاله قول زهير:
من يلق يوما على علّاته هرما
…
يلق السّماحة منه والنّدى خلقا «2»
فقوله «على علاته» تتميم للمبالغة، فوقعت فى غاية الحسن والرشاقة كما ترى، والمراد بقوله على علاته أى على حالاته وكقوله يمدح هرما أيضا:
إن الكريم على علاته هرم
فهذه اللفظة حصل من أجلها مبالغة فى المدح لا يخفى. وثانيها أن تكون واردة على جهة الصيانة عن احتمال الخطأ فترد رافعة له، ومثاله ما قاله بعض الشعراء:
فسقى ديارك غير مفسدها
…
صوب الرّبيع وديمة تهمى «1»
فقوله غير مفسدها فضلة واردة لرفع الإيهام الحاصل ممن يدعو على الديار بكثرة المطر ليكون مفسدا لها، فانظر إلى موقع هذه اللفظة ما أرقه وما ذاك إلا من أجل ما اشتملت عليه من هذا الاحتراز الذى ذكرناه، وهكذا قول من قال:
لئن كان باقى عشينا مثل ما مضى
…
فللحبّ إن لم يدخل النار أروح «2»
فقوله إن لم يدخل النار معناه سلامة العاقبة، وأراد أن أول الحب كان فيه بلهنية وخفض عيش ولذة وراحة، فإن كان آخره مثل أوله فالحب لا محالة أحمد عاقبة، لكن بشرط أن تكون العاقبة فيه سليمة عما يشوبها، لأن الحب الأكثر فيه أن يكون خطأ تكاد أن تكون عقابه وخيمة يدخل بسببها النار، فإذا كان هذا سليمة عواقبة فهو أروح، يعنى مشتهى لسلامته عما لا يكاد ينفك عنه. وثالثها أن يكون واردا على جهة الاستقامة للوزن ولا يحتاج إليه فى المبالغة ولا للاحتراز، ومثاله قول المتنبى:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه
…
يا جنتى لرأيت فيه جهنّما «3»
فإن المعنى تام، لكنه لما كان الوزن غير مستقيم لو انخرم عن قوله يا جنتى، أتى بها من أجل استقامة الزنة لا غير، فحصل طباق وحسن موقع لا يوجد مع حذفها، ولو قال عوضها «يا منيتى» لاستقام الوزن، لكن لا طباق فيها ولا يكون لها موقع حسن، وقد ذكرنا فيما سلف الاعتراض، وبينا ما يحسن منه وما يقبح، فأغنى عن الإعادة وبالله التوفيق.