الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنف الخامس عشر فى التورية
اعلم أن هذا الاسم عبارة عن كل ما يفهم منه معنى لا يدل عليه ظاهر لفظه ويكون مفهوما عند اللفظ به، واشتقاقه من قولهم وريت عن كذا إذا سترته، وفى الحديث كان إذا أراد سفرا ورى بغيره، أى ستره وكنى عنه وأوهم أنه يريد غيره، وهذا نحو الكناية والتعريض، والمغالطة والأحاجى والألغاز، فهذه الأمور كلها مشتركة فى كونها دالة على أمور بظاهرها، ويفهم عند ذكرها أمور أخر غير ما تعطيه بظواهرها، فأما الكناية والتعريض فقد قدمنا الكلام فيهما، وذكرنا أمثلتهما، وأظهرنا التفرقة بينهما فأغنى ذلك عن إعادته، والذى نذكره ههنا، إنما هو المغالطة والإلغاز والأحجية وهى مندرجة تحت الإلغاز، وليس بينهما تفرقة، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما، وهذه الأمور كلها، وإن كانت قريبة المأخذ سهلة المدرك، وليس يتعلق بها كبير بلاغة ولا عظيم فصاحة، ولكنها غير خالية عن تفنن فى الكلام واتساع فيه، وتدل على تصرف بالغ وقوة على تصريف الألفاظ واقتدار على المعانى فهى غير خالية عن فن من فنون البلاغة وعلم البديع، وقد جرت عادة العلماء من أهل البلاغة على ذكرها والكلام عليها، فلا جرم أوردناها ولم نخل هذا الكتاب عنها.
الضرب الأول فى المغالطة المعنوية
اعلم أن المغالطة المعنوية هى أن تكون اللفظة الواحدة دالة على معنيين على جهة الاشتراك فيكونان مرادين بالنية دون اللفظ، وذلك لأن الوضع فى اللفظة المشتركة أن تكون دالة على معنيين فصاعدا على جهة البدلية، هذا هو الأصل فى وضع اللفظ المشترك، فإذا كان المعنيان مرادين عند إطلاقها، فإنما هو بالقصد دون اللفظ، والتفرقة بين المغالطة والإلغاز هو أن المغالطة كما ذكرناه إنما تكون بالألفاظ المشتركة وهى دالة على أحدهما على جهة البدلية وضعا، وقد يرادان جميعا بالقصد والنية، بخلاف الإلغاز، فإنه ليس دالا على معنيين بطريق الاشتراك ولكنه دال على معنى من جهة لفظه وعلى المعنى الآخر من جهة الحدس لا بطريق اللفظ فافترقا بما ذكرناه، ويتضح الحال فى المغالطة المعنوية بذكر أمثلتها، المثال الأول ما قاله أبو الطيب المتنبى «1» :
يشلّهم بكلّ أقبّ نهد
…
لفارسه على الخيل الخيار
وكلّ أصمّ يعسل جانباه
…
على الكعبين منه دم ممار
يغادر كلّ ملتفت إليه
…
ولبّته لثعلبه وجار
فالثعلب هو الحيوان المعروف، والثعلب هو طرف سنان الرمح مما يلى الصعدة، فلما اتفق الاسمان حسن لا محالة ذكر الوجار. لما كان الوجار يصلح لهما جميعا، فاللبة وجار ثعلب السنان وهو بمنزلة جحر الثعلب أيضا، ومن ذلك ما أنشد لبعض العراقيين يهجو رجلا كان على مذهب أحمد بن حنبل ثم انتقل إلى مذهب الشافعى قال فيه:
فمن مبلغ عنى الوجيه رسالة
…
وإن كان لا تجدى لديه الرسائل
تمذهبت للنّعمان بعد ابن حنبل
…
وفارقته إذ أعوزتك المآكل
وما اخترت رأى الشافعى تديّنا
…
ولكنّما تهوى الذى هو حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر
…
إلى مالك فاسمع لما أنا قائل
فمالك ههنا يصلح أن يكون مالك بن أنس صاحب المذهب ويصلح أن يكون مالكا خازن النار، فهذه مغالطة لطيفة كما ترى على الوصف الذى ذكرناه، ومن ألطف ما قيل فى المغالطات المعنوية ما قاله بعضهم يهجو الشعراء:
فخلطتم بعض القرآن ببعضه
…
فجعلتم الشّعراء فى الأنعام
فالشعراء ههنا كما يصلح اسمه للسورة المعروفة، والأنعام أيضا اسم للسورة، فهما يصلحان أن يكون الشعراء جمع شاعر، وأن الأنعام جمع نعم، وهى البقر والغنم والإبل، فهذه مغالطة رشيقة لاشتمالها على ذكر الأمرين جميعا، ومن ذلك قوله فى صفة الإبل:
صلب العصا بالضرب قد أدماها
…
تودّ أن الله قد أفناها
إذا أرادت رشدا أغواها
…
تخاله من رقّة أباها
فالضرب لفظ مشترك يطلق على الضرب بالعصا وعلى السير فى الأرض، وهكذا قوله قد أدماها فإنه يقال: أدماه إذا أسال دمه، وأدماه إذا جعله كالدمية، وهى الصورة، وقوله أفناها. يقال أفناه إذا أذهبه، وأفناه إذا أطعمه الفناء وهو عنب الثعلب، وقوله أغواها.
يقال أغواه إذا أطعمه الغوىّ، وأغواه إذا أزاله عن رشده، فالفناء والغوى شجران كما ترى، فهذه هى أمثلة المغالطة المعنوية وهى مقررة على الاشتراك كما أشرنا إليه.