الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذهب التاسع مذهب من قال: إن وجه إعجازه إنما هو مجموع هذه الأمور كلها
،
فلا قول من هذه الأقاويل إلا هو مختص به، فلا جرم جعلنا الوجه فى إعجازه مجموعها كلها، وهذا فاسد، فإنا قد أبطلنا رأى أهل الصرفة، وزيفنا كلامهم، فلا وجه لعده من وجوه الإعجاز، وهكذا فإنا قد أبطلنا قول من زعم أن الوجه فى إعجازه اشتماله على الإخبار بالأمور الغيبية، وأبطلنا قول أهل الأسلوب وغيره من سائر الأقاويل، فلا يجوز أن تكون معدودة فى وجوه الإعجاز، لأن الأمور الباطلة لا يجوز أن تكون عللا للأحكام الصحيحة، ومن وجه ثان وهو أن الفصاحة والبلاغة إذا كانتا حاصلتين فيه فهما كافيتان فى الإعجاز، فلا وجه لعد غيرهما معهما.
المذهب العاشر أن يكون الوجه فى إعجازه إنما هو ما تضمنه من المزايا الظاهرة والبدائع الرائقة
فى الفواتح، والمقاصد، والخواتيم فى كل سورة، وفى مبادىء الآيات، وفواصلها، وهذا هو الوجه السديد فى وجه الإعجاز للقرآن كما سنوضح القول فيه بمعونة الله تعالى، فهذا ما أردنا ذكره من المذاهب فى الوجه الذى لأجله صار القرآن معجزا للخلق كلهم.
المبحث الثالث فى بيان المختار من هذه الأقاويل
والذى نختاره فى ذلك ما عول عليه الجهابذة من أهل هذه الصناعة الذين ضربوا فيها بالنصيب الوافر، واختصوا بالقدح المعلى والسهم القامر، فإنهم عولوا فى ذلك على خواص ثلاثة هى الوجه فى الإعجاز.
الخاصة الأولى الفصاحة فى ألفاظه على معنى أنها بريئة عن التعقيد، والثقل، خفيفة على الألسنة تجرى عليها كأنها السلسال، رقة وصفاء وعذوبة وحلاوة.
الخاصة الثانية البلاغة فى المعانى بالإضافة إلى مضرب كل مثل، ومساق كل قصة، وخبر، وفى الأوامر والنواهى، وأنواع الوعيد، ومحاسن المواعظ، وغير ذلك مما اشتملت عليه العلوم القرآنية، فإنها مسوقة على أبلغ سياق.
الخاصة الثالثة جودة النظم وحسن السياق، فإنك تراه فيما ذكرناه من هذه العلوم
منظوما على أتم نظام وأحسنه وأكمله فهذه هى الوجه فى الإعجاز، والبرهان على ما ادعيناه من ذلك هو أن الآيات التى يذكر فيه التحدى واردة على جهة الإطلاق ليس فيها تحد بجهة دون جهة، لأنه لم يذكر فيها أنه تحداهم، لا بالبلاغة ولا بالفصاحة، ولا بجودة النظم والسياق، ولا بكونه مشتملا على الأمور الغيبية، ولا لاشتماله على الأسرار والدقائق، وتضمنه المحاسن والعجائب، ولا أشار إلى شىء خاص يكون مقصدا للتحدى، وإنما قال: بمثله، وبسورة، وبعشر سور على الإطلاق، ثم إن العرب أيضا ما استفهموه عما يريد بتحديهم فى ذلك، ولا قالوا ما هو المطلوب فى تحدينا، بل سكتوا عن ذلك، فوجب أن يكون سكوتهم عن ذلك لا وجه له إلا لما قد علم من اطراد العادات المقررة بين أظهرهم أن الأمر فى ذلك معلوم أنه لا يقع إلا بما ذكرناه من البلاغة والفصاحة وجودة السياق والنظم، فإن المعلوم من حال الشعراء والخطباء، وأهل الرسائل والكلام الواقع فى الأندية المشهورة والمحافل المجتمعة، أنهم إذا تحدى بعضهم بعضا فى شعر، أو خطبة أو رسالة، فإنه لا يتحداه إلا بمجموع ما ذكرناه من هذه الأمور الثلاثة ولم يعهد قط فى الأزمنة الماضية والآماد المتمادية، أن أحدا تحدى أحدا منهم برقة شعره، ولا باشتماله على أمور محجوبة، ولا بعدم التناقض فيها، وفى هذا دلالة كافية على أن تعويلهم فى التحدى إنما هو على ما ذكرناه فيجب حمل القرآن فى الآيات المطلقة عليه، وفى ذلك حصول ما أردناه، وتمام تقرير هذه الدلالة بإيراد الأسئلة عليها والانفصال عنها.
السؤال الأول منها قد زعمتم أن وجه إعجاز القرآن إنما هو الفصاحة، والبلاغة، والنظم، وحاصل هذه الأمور كلها إما أن تكون راجعة إلى مفردات الكلم، أو تكون راجعة إلى مركباتها، ولا شك أن العرب قادرون على المفردات لا محالة ولا شك أن كل من قدر على المفردات فهو قادر على مركباتها، فلو كان كما ذكرتموه لكان العرب قادرين على المعارضة، وهذا يدل على أن وجه إعجازه ليس أمرا راجعا إلى البلاغة، والفصاحة، والنظم، وهذا هو المطلوب.
وجوابه إنما يكون بعد تمهيد قاعدة، وهو أن التفاوت بين الكتابين فى الجودة والكتابة إنما يكون من جهة العلم بإحكام التأليف بين الحروف وتنزيلها على أحسن هيئة فى الإيقاع، فمن كان أجود علما بإحكام التأليف كانت كتابته أعجب، ومن كان عادما للعلم بما ذكرناه نقص إتقان كتابته، فكل واحد منهما قد أحرز ما تحتاج إليه الكتابة من الآلات
كالقلم والدواة، والقرطاس، واليد، وغير ذلك مما يكون شرطا فى الكتابة، ولم يتميز أحدهما عن الآخر إلا بما ذكرناه من العلم بإحكام التأليف، وهكذا حال أهل الحرف والصناعات فإنهم كلهم متمكنون من أصول الصناعات وما تحتاج إليها، كالصناعة للذهبيات والفضيات، والحاكة للديباج، فإن تفاوتهم إنما يظهر فى ما ذكرناه لا غير فإذا عرفت هذا فالعرب لا محالة قادرون على مفردات هذه الكلم، الموضوعة، وقادرون على حسن التأليف لهذه الكلمات، لكنهم غير قادرين على كل تأليف، فإن من التأليف ما لا زيادة عليه فى الإعجاب، وهو المعجز، ومنه ما تنقص رتبته عن ذلك، وليس معجزا، وعلى هذا يكون المعجز إنما كان من جهة عدم العلم بإحكام تأليف هذه الكلمات، فقد ملكوا القدرة على آحادها، وملكوا القدرة على نوع من تأليفها مما لم يكن معجزا، فأما ما كان معجزا من التأليف فلم يكونوا مالكين له فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الإعجاز ليس إلا تأليف هذه الكلمات على حد لا غاية فوقه، فإلى هذا يرجع الخلاف، ويحصل التحقق بأن عجزهم إنما كان من جهة عدم العلم بهذا التأليف المخصوص فى الكلام، لا يقال فحاصل هذا الجواب أن الله تعالى لم يخلق فيهم العلم بإحكام التأليف الذى يحتاج إليه فى كون الكلام معجزا، وهذا قول بمقالة أهل الصرفة، فإن حاصل مذهبهم هو أن الله تعالى سلبهم الداعى إلى معارضة القرآن، وأعدم عنهم العلوم التى لأجلها يقدرون على المعارضة، وأنتم قد زيفتم هذه المقالة وأبطلتموها، فقد وقعتم فيما فررتم منه لأنا نقول هذا فاسد فإنا نقول إنهم عادمون لهذه العلوم قبل المعجز وبعده، وأنها غير حاصلة لهم فى وقت من الأوقات فلهذا استحال منهم معارضة القرآن كما قررناه من قبل، بخلاف مقالة أهل الصرفة فإن عندهم أن علوم التأليف كانت حاصلة معهم قبل ظهور المعجز، لكن الله تعالى سلبهم إياها كما مر تقريره، فلهذا كان ما ذكرناه مخالفا لما قالوه.
السؤال الثانى: لو كانت الفصاحة هى الوجه فى كون القرآن معجزا لما كان فيه دلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقرر كونه دالا على صدقه فيجب أن لا يكون الوجه فى إعجازه هى الفصاحة، بل الصرفة كما تقول أصحابها، أو وجه آخر غير الفصاحة، وإنما قلنا: إنه لو كان الوجه فى إعجازه الفصاحة لما كان فيه دلالة على الصدق، فلأن الدلالة على الصدق، إنما تقع إذا كانت موجودة من جهة الله تعالى إلا أنه تعالى ليس فاعلا
للفصاحة من جهة أن الفصاحة المرجع بها إلى خلوص الكلام من التعقيد، والبلاغة ترجع إلى مطابقة الكلام وحسن تأليفه، وهذه كلها مقدورة لنا، ولهذا بطل أن يكون الإعجاز حاصلا بها، فإذن لا بد من أن يكون وجه الإعجاز متعلقا بقدره الله تعالى، لأنه هو المتولى لصدق أنبيائه، فكل ما كان من المعجزات لا يقدر كونه من جهته، فإنه لا يكون فيه دلالة على صدق من ظهر عليه، وإنما قلنا: 7 ن فيه دلالة على الصدق، وهذا ظاهر لا يمكن إنكاره، فإن القرآن من أبهر الأدلة على صدق صاحب الشريعة صلوات الله عليه، فلو كان وجه إعجازه هو الفصاحة لم يكن فيه دلالة على الصدق، لأن الفصاحة والبلاغة المرجع بهما إلى انتظام الكلام على وجه مخصوص لا مزيد عليه، وما من وجه من وجوه النظم إلا وهو مقدور للعباد بكل حال، وهذا يبطل كونه دالا على صدقه، وقد تقرر كونه دليلا على الصدق، فبطل كون إعجازه هو الفصاحة.
وجوابه أنا قد قررنا أن الوجه فى إعجازه هو الفصاحة والبلاغة مع النظم بما لا مطمع فى إعادته. قوله لو كانت الفصاحة وجها فى إعجازه لما كان له دلالة على الصدق، قلنا:
هذا فاسد فإن النظم وإن كان مقدورا لنا، لكنه قد يقع على وجه لا يمكن كونه مقدورا لنا ولهذا فإن العلم مقدور لنا، والفعل من جنس العلوم، وقد استحال كونها مقدورة للعباد، لما كانت واقعة على وجه يستحيل وقوعه فى حق العباد، فإن جنس الحركة مقدور لنا، وحركة المرتعش وإن كانت من جنس الحركة، لكنها لما وقعت على وجه يتعذر على العباد جاز الاستدلال بها على الله تعالى، فهكذا حال البلاغة، فإنها وإن كانت من قبيل النظم والتأليف. وهو مقدور لنا، لكنه لما وقع على وجه يتعذر تحصيله من جهتنا، كان دليلا على الصدق من هذه الجهة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن القرآن دال على صدق من ظهر على يده، وما ذاك إلا لكونه مختصا بالوقوع من جهة الله تعالى مع كون جنسه من مقدور العباد، وفيه دلالة على صدقه كما نقوله فى سائر المعجزات الدالة على صدقه، وإن لم يكن لها تعلق بمقدور العباد، كإطعام الخلق الكثير، من الطعام اليسير، ونبوع الماء من بين أصابعه، إلى غير ذلك من المعجزات الباهرة له عليه الصلاة والسلام.
السؤال الثالث: هو أن الصحابة رضى الله عنهم لما اهتموا بجمع القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يطلبون الآية، والآيتين، ممن كان يحفظها منهم، فإن كان الراوى مشهور
العدالة قبلوها منه، وإن كان غير مشهور العدالة لم يقبلوها منه، وطلبوا على ذلك بينة، فلو كان الوجه فى إعجازه هو الفصاحة كما زعمتم، لكان متميزا عن سائر الكلام وكان لا وجه للسؤال لما يظهر من التمييز، وفى هذا دلالة على أن وجه إعجازه هو الصرفة، أو غيرها، دون الفصاحة.
وجوابه من وجهين، أما أولا: فلأنا لا نسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفاه الله تعالى ولم يكن القرآن مجموعا، بل ما مات عليه السلام إلا بعد أن جمعه جبريل، وهذه الرواية موضوعة مختلفة لا نسلمها، ولهذا قال لما نزل صدر سورة براءة «أثبتوها فى آخر سورة الأنفال» فما قالوه منكر ضعيف، وأما ثانيا فلأن الاختلاف إنما وقع فى كتب القرآن وجمعه فى الدفاتر، فأما جمعه فمما لم يقع فيه تردد أنه كان فى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن المصاحف قد كانت كثرت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما وقع فيه الخلاف، فعل «عثمان» فى خلافته ما فعل من محوها كلها، وكتبه مصحفه الذى كتبه.
السؤال الرابع: هو أن ابن مسعود رضى الله عنه اشتبه عليه الفاتحة والمعوذتان، هل هن من القرآن أو لا، فلو كان الوجه فى الإعجاز هو الفصاحة لكان لا يلتبس عليه شىء من ذلك.
وجوابه من وجهين: أما أولا: فلأن ابن مسعود لم ينكر كونها نزلت من اللوح المحفوظ، وأن جبريل أتى بها من السماء فهن قرآن بهذه المعانى، وإنما أنكر كتبها فى المصاحف وقال هن واردات على جهة التبرك والاستعاذة، فلهذا كن قرآنا بما ذكرناه من المعانى، ولم يكن قرآنا لورودها لهذا المقصد الخاص، وهذا فى التحقيق يؤول إلى العبادة، والمقاصد المعنوية متفق عليها كما ترى، وأما ثانيا فلأن هذا رأى لابن مسعود فلا يكون مقبولا، والحق فى المسألة واحد، فخطؤه فيها كخطإ غيره ممن خالف دلالة قاطعة، ولنقتصر على هذا القدر من الأسئلة ففيه كفاية لغرضنا، واستقصاء الكلام على مثل هذه القاعدة، إنما يليق بالمباحث الكلامية، والمقاصد الدينية، وإن نفس الله لنا فى المهلة، وتراخت مدة الإمهال، ألفنا كتابا نذكر فيه كيفية دلالة المعجز على صدق من ظهر على يده، ونجيب فيه عن شكوك المخالفين بمعونة الله تعالى، فالنية صادقة فى ذلك إن شاء الله تعالى.