الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضرب الأول فى بيان خصائص المسند إليه
وتعرض له حالات، بعضها يستحقها بالأصالة، وبعضها بالعروض لأغراض وفوائد نفصلها، وجملتها أمور عشرة، أولها ذكر المسند إليه، إما على جهة الابتداء، كقوله تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ
[النور: 45] وإما على جهة الفاعلية، كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
[المائدة: 9] لأن كل واحد من الفاعل والمبتدأ مسند إليهما، فذكرهما هو المطّرد المعتاد، إما لكونه هو الأصل، وإما لزيادة الإيضاح والتقرير كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ
[الروم: 40] وإما لإظهار التعظيم كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ
[الحشر: 24] وإما لبسط الكلام، من أجل الاعتناء به بذكر المسند إليه كقوله تعالى: هِيَ عَصايَ
[طه: 18] وإما للتنبيه على فضله وعظم منزلته كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
[الفتح: 29] وإما للاحتياط لضعف التعويل على القرينة كقوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2)
[الزلزلة: 2] إلى غير ذلك من الأوجه والمعانى الموجبة لذكره، فاعلا كان أو مبتدأ، وثانيها حذفه، إما للدلالة على الجواز كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
[الفاتحة: 4] بالرفع على تأويل هو ملك يوم الدين، وإما للاحتراز عن العبث بناء على الظاهر حيث يكون معلوما، فتحذفه اتكالا على العلم به كقوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
[يوسف: 18] أى فأمرى صبر جميل، فإنما حذف لما ذكرناه من وضوح الأمر فيه، فلا جرم كان مسلطا على حذفه، ومن حذف المسند إليه قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
[يوسف: 35] لأن التقدير فيه ثم بدا لهم أمر، ومنه قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
[البقرة: 2] أى هو هدى فى أحد وجوهه، وثالثها تنكيره، إما للإفراد كقوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى
[القصص: 20] وإما للنوعية كقوله تعالى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
[البقرة: 7] فإن المراد من ذلك، وعلى أبصارهم نوع من الغشاوات المغطية، ويحتمل أن يكون المراد به الوحدة، أى واحدة من الأمور التى حجبت أعينهم عن إبصار الحق واتباعه، وإما للتكثير أو التعظيم كقوله تعالى:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
[فاطر: 4] أى رسل ذوو عدد كثير أو رسل لهم شأن عند الله وقدر عظيم، خصهم بمعجزات باهرة، وآيات عظيمة، ومن التعظيم قوله
تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ
[التوبة: 72] أى رضوان أىّ رضوان، أو رضوان لا تحيط بوصفه العقول، ومنه قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: 179] أى حياة عظيمة وقوله تعالى: وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ
[يونس: 57] أى شفاء أى شفاء، وخامسها تعريفه، وتختلف معانيه بحسب ما يعرض له من أنواع التعريفات، كالإضمار والعلمية، والإشارة والموصولية، وباللام، وبالإضافة ولنشر إلى حقائقها وخواصها اللائقة بها، أما تعريفه بالإضمار، فمن أجل الحاجة إلى التكلم، كقوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ
[طه: 14] وقوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها
[العنكبوت: 32] وقوله تعالى: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
[يوسف: 51] أو من أجل الحاجة إلى الخطاب كقوله تعالى: قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
[الصافات: 54] وقوله تعالى: أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
[الشعراء: 76] وقوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
[الصافات: 54] وإما الحاجة إلى الغيبة كقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
[الدخان: 9] وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى
[الصف: 9] وأصل الخطاب أن يكون واردا على جهة التعيين، وقد يعدل به إلى غير ذلك ليعم كل مخاطب كقوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
[الفيل: 1] وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
[السجدة: 12] فيحتمل أن يكون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الأصل، ويحتمل أن يكون على جهة العموم من غير تعيين. ويكون المعنى إن حال أصحاب الفيل، وحال المجرمين، قد بلغا مبلغا عظيما فى الظهور، بحيث لا يختص به مخاطب، لبلوغهما فى الانكشاف كل غاية، وأما تعريفه بالعلمية، فقد يكون لإحضاره فى ذهن السامع ابتداء باسم يختص به كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
[البقرة: 255] أو تعظيمه كقوله تعالى: قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
[الشعراء: 26] لأن التقدير فيه، الله ربكم ورب آبائكم الأولين، وهذا مبنى على أن قولنا: الله اسم، وليس صفة كما زعمه بعضهم، وعلى أنه لقب غير حقيقى، لبطلان تحويله وتبديله، ومن شأن الألقاب الحقيقية جواز تغييرها وتبديلها، فبما فيه من الاسمية تكون الصفات الإلهية تابعة له، إذ لا بد لها من موصوف تستند إليه، وبما فيه معنى اللقب يكون مفيدا للاختصاص كإفادة الألقاب لما هى مختصة به كزيد، وعمرو، وهل يكون جامدا أو مشتقا، فيه تردد، وإن قلنا بكونه مشتقا فإما من التحير «1» لأن العقول تحيرت فى ذاته تعالى، وإما من الاحتجاب «2»
لأنه تعالى محتجب عن إدراك العيون، وإما من غير ذلك، فأما من زعم كونه اسما عجميا سريانيا، فقد أبعد، إذ لا دلالة على ذلك، والقرآن كله عربى، إلا ما قام البرهان القاطع على كونه فارسيا أو روميا، وقد يذكر العلم المسند إليه، والمراد به التحقير كقوله تعالى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
[المسد: 1] فإيراده هنا باسمه دال على تحقيره وإهانته، والمعنى تبت يدا رجل حقير مهين، أو يراد بذكره كناية، كأنه قال تبت يدا من يستحق اللعن والعذاب العظيم، وهو هذا، فلقبه هذا نازل منزلة العلم فى حقه لما فيه من الإشادة والإشهار به، فمن أجل ذلك ذكره الله تعالى به، وحذف اسمه العلم، وهو «عبد العزّى» لاشتماله على ما ذكرناه من صفاته المذمومة، كأنه قال صاحب هذه الكنية هو الكافر اللعين المتمرد صاحب العداوة للرسول صلى الله عليه وسلم، والمستحق لغضب الله تعالى وسخطه، وأما تعريفه بالإشارة فقد يكون لتعريف حاله وإيضاحه، إما لتعظيم حاله بالإشارة الموضوعة للبعد كقوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ
[البقرة: 2] وإما للتحقير كقوله تعالى:
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ
[آل عمران: 175] وقد يرد لتعظيم حاله بالإشارة الموضوعة للقريب كقوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)
[قريش: 3] أو للتحقير كقوله تعالى وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ
[الأنبياء: 36] وقد يرد بالإشارة المتوسطة، إما للتعظيم وكمال العناية به كقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
[البقرة: 5] وإما للتحقير كقوله تعالى: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
[المؤمنون: 103] ومما ورد على جهة الإشارة فى البعد قوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ
[يوسف: 32] ولم يقل: هذا يوسف، ولا قال: فذاك، على جهة القرب والتوسط، وإنما أشار إليه بما يقتضى البعد، رفعا لمنزلته فى الحسن، واستبعادا عن أن يدانى فيه، وتنبيها على كونه مستحقا لأن يحب ويفتتن به، ومن قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
[الزخرف: 72] ولطائف هذا الجنس لا تكاد تنحصر، ومواقعه أكثر من أن تحصى، وقد جرى فى تعريف الإشارة ما ليس على جهة المسند إليه كقوله تعالى فى الإشارة إلى القريب لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)
[قريش: 3] فإنه ليس من المسند إليه فى شىء، وجريه كان على جهة التوسع فى التمثيل، وأما تعريفه بالموصولية، فإنه يقصد بتعريفه بالصلة، إحضاره فى الذهن بجملة معلومة للمخاطب، ومن ثم اشترط فيها أن تكون
معلومة له، كقولك: هذا الذى قدم من الحضرة، لمن لا تعرفه، وتفيد مع ذلك أغراضا غير ذلك، كإفادة التعظيم فى نحو قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ
[الشورى: 22] ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا
[فاطر: 36] ولزيادة التقرير كقوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ
[يوسف: 23] وقد يرد لتفخيم الأمر وتعظيمه كقوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78)
[طه: 78] وربما سيق لتعظيم شأن القضية كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59)
[المؤمنون: 57- 59] فهذا وارد على جهة تعظيم هذه القضية كما ترى، ومنه قوله تعالى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
[الأعلى: 1- 4] ومن هذا قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
[الشعراء: 78- 82] فهذه الأمور كلها واردة على إفادة مقصد التعظيم والامتنان بهذه النعم، وغير ذلك من الفوائد التى لا تحصى، وإنما ننبه بالأدنى على الأعلى، وبالأقل على الأكثر وأما تعريفه باللام، فاعلم أنه متى كان معرفا باللام، فتارة تفيد الاستغراق كقوله تعالى وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
[العصر: 1- 2] لأن المعنى أن كل إنسان متقلب فى خسارة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
[العصر: 3] فإنهم على خلاف ذلك، ويصدّق استغراقه ورود الاستثناء منه، وهو لا يصح إلا فى مستغرق، ومنه قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما
[المائدة: 38] أى كل سارق وسارقة، وقوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
[طه: 69] أى كل ساحر فهو غير مفلح فى سحره، وتارة تفيد العهدية كقوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى
[آل عمران: 36] أى ليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التى أعطيتها، وتارة تفيد الإشارة إلى الحقيقة فى نحو قولك:
أهلك الناس الدينار والدرهم، والرجل خير من المرأة، ومن المعهود فى غير الإسناد قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
[المزمل: 15- 16] يريد موسى عليه السلام، وأما تعريفه بالإضافة، فإذا خلى المسند إليه عن سائر أنواع التعريف المختصة به وأريد تعريفه من جهة غيره أضيف إلى معرفة فيكتسب منها تعريفها، وقد ترد لأمور أخر غير التعريف، كالتعظيم فى مثل قولك: عبد الله، وعبد الرحمن،
وعبد الرحيم، وقد يقصد به الإهانة كقولك: عبد اللات، وعبد العزّى، فى حق الموحدين دون غيرهم ممن يعظم الأصنام، ولإفادة الرحمة كقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
[البقرة: 186] فإضافتهم إليه دلالة على أن من شأن السيد أن يرحم عبده، ولإفادة مزيد الشرف وقرب المنزلة، كما يقال فى بعض كلمات الله: عبدى من آثر طاعتى على هواه. وتحت الإضافة أسرار ورموز تختلف أحوالها بحسب اختلاف مواقعها، وعلى الفطن إعمال نظره واستنهاض فكرته ليحصل عليها، فهذه مواضع التعريفات قد حصرناها. وسادسها: وصفه، الوصف يراد للتفرقة بين ملتبسين فى اللقب، فتقول جاءنى زيد الطويل، تحترز به عن زيد القصير، وقد يجىء للمدح والتعظيم، وهذه هى الأوصاف الجارية فى حق الله تعالى، فإنه لا يعقل فيه معنى سواه، كقوله تعالى: الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ
[الحشر: 24] وقوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ
[غافر: 3] وقد يرد للذم والإهانة كقولك: فلان الفاسق، الخبيث، ويرد للتأكيد، كقولك: أمس الدّابر، ونفخة واحدة. وسابعها: بيان ما يقتضى تخصيصه، إما بالتأكيد، وعطف البيان، والبدل، والعطف عليه، فهذه الأمور كلها متفقة فى كونها موضحة له ومبيّنة، فأما بيانه بالتوكيد، فقد يكون لإزالة الشكّ، والوهم الواقع فى ذهن السامع، فى نحو قولك: جاء زيد نفسه، إزالة لأن يكون الجائى كتابه أو رسوله، قال تعالى: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
[المائدة: 117] وقد يفيد تقرير الشىء فى نفسه فى مثل قولك: جاء زيد نفسه، وقد يفيد الشمول والإحاطة فى نحو قولك: جاء الرجال كلهم، والرجلان كلاهما، إلى غير ذلك من الأمور المؤكدة، وأما بيانه بعطف البيان، فالمقصود به الإيضاح باسم مثله، نحو جاءنى أخوك زيد، ومنه قوله: أقسم بالله أبو حفص عمر، وقد يرد على خلاف هذه الصفة كقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ
[الأنعام: 38] فذكر الأرض مع قوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ
وذكر قوله:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ
مع تقدّم طائر، إنما وردا على قصد البيان للفظ الدابة، ولفظ طائر، وتقريرا لمعناهما، ورفعا لما يحتملانه من غير المقصود، وهكذا قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ
[النحل: 26] فقوله من فوقهم، إنما ورد على جهة البيان ورفع الاحتمال من لفظة السقف، وأما بيانه بالبدل منه، فلزيادة الإيضاح والتقرير، إما ببدل الكل، كقولك جاءنى زيد أخوك، وإما ببدل البعض، كقولك: جاءنى القوم أكثرهم أو بعضهم، وإما
ببدل الاشتمال فى مثل قولك: أعجبنى زيد علمه، وقد جاء الكل فى كتاب الله تعالى فى غير المسند إليه، فأما بدل الغلط فى مثل قولك: جاءنى زيد عمرو، فإنما يكون فى بداية الكلام وفيما يصدر على جهة الذهول، وكل الأبدال الثلاثة متفقة فى كونها بيانا على جهة القصد لها، بخلاف عطف البيان، فإن المقصود هو الأول منها كما هو مقرر فى علم النحو، فهى مختلفة فى البيان، مع كونها متفقة فى مطلق البيان، وأما العطف على المسند إليه، فهو غير وارد على جهة البيان، لأجل ما بينهما من المغايرة، فلا وجه لكونه بيانا له، وإنما هو وارد على جهة الاقتصاد للعامل، فلهذا تقول جاءنى زيد وعمرو، إذا لم تقصد الترتيب، وجاء زيد فعمرو، إذا قصدت الترتيب، من غير مهلة، وجاءنى زيد ثم عمرو، إذا كنت قاصدا للترتيب مع المهلة، وقد يرد تعليقا للحكم بأحد المذكورين، إما على جهة التعيين، نحو لا، وبل، ولكن، وقد يكون تعليقا للحكم بأحد المذكورين من غير تعيين كأو، وإما، وأم، ولسنا بصدد الإطناب فيما هو مفروغ من تقريره فى علم الإعراب إلا أن أحدا لا يجوز إلى مثل هذه الغايات، ولا يقف على حد هذه النهايات، إلا بعد إحراز علم الإعراب، وكد قريحته فى إتقان قواعده، وإقصاء فكرته فى حصر فوائده، وبعد ذلك يخوض فى علم البيان، الذى هو مصاص سكره، وياقوت جوهره، وينزل من علم الإعراب منزلة الإنسان من السواد، ومن أراد الاطلاع على أسرار علم التنزيل، وأن يحلى بعقيان عسجده جيده، وأن تعبق بعبير عنبره يده، فليشغل قلبه بإحراز تلك اللطائف، التى مثلها فى الرقة كلمحة بارق خاطف، ويمعن فى طلبها غاية الإمعان، متوقيا من أشخاص أهملوها وألحقوها لقصر هممهم بخبر كان، وثامنها: تقديمه على المسند نفسه، وذلك يكون لأحوال نرمز إلى شىء منها، إما لأن تقديمه هو الأصل ولم يعرض ما يقتضى العدول عنه، وإنما كان هو الأصل من جهة أنه طريق إلى معرفة ما يذكر بعده، ومن ثم اشترط تعريفه إلا بعارض، وإما لأنه استفهام فيستحق التصدير، كقولك: أيهم عندك، قال الله تعالى: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69)
[مريم: 69] فى أحد وجوهه، وإما لأنه وارد على جهة الشأن والقصة، كقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
[الإخلاص: 1] وإما لأن فى تقديمه تشويقا للسامع إلى ما يكون بعده من الخبر، كقولك: الأمير قادم، والخليفة خارج إلى غير ذلك، وإما لأن يتقوى إسناد الخبر إليه لأجل تقديمه كقوله تعالى فى سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا (81)
[النحل: 81] فكرر ذكر اسمه
وقدمه، لما يريد من تعديد نعمه وظهور قدرها، وعلو أمرها على الخلق، وإما من أجل تعظيمه كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
[البقرة: 258] إلى غير ذلك من الأمور المقتضية لتقديمه المؤذنة بأسرار تحت التقديم لا تكون مع التأخير، ومما يوجب تقديمه على المسند به التخصيص، والعموم، فهاتان صورتان، الصورة الأولى: العموم.
وهذا إنما يكون فى نحو قولك: كل إنسان لم يقم، فإنه يفيد نفى الحكم عن الجملة والآحاد، بخلاف ما لو تأخر، فقيل لم يقم كل إنسان، فإنه إنما يفيد نفى الحكم عن جملة الأفراد، لا عن كل فرد، فالأول يناقضه قولك: قام واحد من الناس، والثانى: لا يناقضه قام واحد من الناس، والمعيار الصادق، والفيصل الفارق، بين تقديم المسند إليه وهو اسم الشمول على حرف النفى، وبين تأخره، ما قاله الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجانى، فإنه قال: إن كانت كل داخلة فى حيز النفى، بأن تأخرت عن أداته، نحو قوله «ما كل ما يتمنى المرء يدركه» أو معمولة للفعل المنفى نحو: ما جاء القوم كلهم، ولم آخذ كل الدراهم، أو كل الدراهم لم آخذ، توجه النفى إلى الشمول خاصة، وأفاد ثبوت الفعل، أو الوصف، لبعض، أو تعلقه به، وإلا عمّ، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين:«أقصرت الصلاة أم نسيت؟» ، فقال له:«كل ذلك لم يكن» «1» وعليه قول أبى النجم:
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى
…
علّى ذنبا كلّه لم أصنع «2»
انتهى كلامه، فينحل من هذه القاعدة أن اسم الشمول، وهو «كلّ» إذا كان مندرجا فى ضمن النفى، واقعا بعده، سواء كان الفعل المنفى عاملا فيه أو غير عامل، فإنه يكون واقعا على الشمول، فلا يناقضه إثباته لبعض الآحاد، وإذا كان واقعا قبل حرف النفى وليس مندرجا تحته، كان النفى عاما للآحاد والمجموع، وهو أحسن كلام وأوقعه فى ضبط هذه القاعدة، ولقد وقفت على كلام لغيره من علماء البيان فى تقرير هذه القاعدة، بناه على قانون المنطق، ونزّله على منهاج السالبة المهملة، والمعدولة، فأورث فيه دقة وأكسبه ذلك حموشة وغموضا، من جهة أن مبنى علم البيان، وعلم المعانى على معرفة اللغة وعلم الإعراب، فلا ينبغى أن يمزج بعلم لم يخطر للعرب، ولا لأحد من علماء الأدب على
بال، ولا يشعر به، والصورة الثانية: أن يكون تقديمه على جهة الاختصاص بالخبر الفعلى، وذلك يكون على وجهين، أحدهما أن يكون واردا على جهة التخصيص، ردّا على من زعم أنه انفرد بالفعل، أو شارك فيه فى نحو قولك: أنا سعيت فى حاجتك، ويؤكد الأول بنحو قولك: لا غيرى، دفعا لمن زعم انفراد غيره به ويؤكد الثانى بنحو قولك:
وحدى، دفعا لمن زعم المشاركة، وثانيهما أن يكون مفيدا للاختصاص مع توهم المشاركة فى نحو قولك: ما أنا قلت ذاك، والمعنى إنى لم أقله مع كونه مقولا، ولهذا فإنه لا يصح أن يقال: ما أنا قلت ذاك ولا غيرى، لما كان متحققا أن يقوله سواك، وقد يكون مقدما على جهة التقوى للحكم فى مثل قولك: أنت لا تكذب، فإنه أبلغ وأشد لنفى الكذب من قولك: لا تكذب، من جهة أنه قدم ذكر المسند إليه، وأتى بالقضية السلبية على إثره مسندا لها إليه، فمن أجل ذلك كان مفيدا للمبالغة، بخلاف الصورة الثانية، ومما يكون تقديمه كاللازم، غير، ومثل، كقولك مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، لأن المعنى فيه أنت لا تبخل، وأنت تجود، فتأتى به مجردا من غير تعريض لغير المخاطب، فمن أجل ذلك كان مفيدا للمبالغة، وتاسعها تأخيره، إما لاتصال حرف الاستفهام بالخبر كقولك: أين زيد، ومتى القتال، كما سنقرره فى وجه تقديم المسند به، وإما على جهة الإنكار على من يزعم خلاف ذلك فى نحو قولك: قائم زيد، فإنه يكون واردا، إنكارا على من ظن خلاف ذلك، فيقدمه تنبيها عليه، وإما على جهة الاهتمام والعناية فى نحو قولك: نعم رجلا زيد، على رأى من زعم أن رفع زيد على الابتداء، وما تقدم خبره، فأما من قال: إنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ فهو خارج عن التمثيل.
وعاشرها التثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، فى نحو قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ
[المائدة: 107] ونحو قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ
[الأحزاب: 35] فى نحو جمع السلامة، وجمع التكسير فى نحو قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ
[الأنفال: 75] وقوله تعالى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ
[الفتح: 25] وقوله تعالى فى التذكير والتأنيث وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
[المائدة: 38] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
[النور: 2] فهذه أحوال عارضة للمسند إليه، تعرض لمعان وأغراض وتفيد فوائدها كما ترى فى مواقع الخطاب بحسب الأغراض، فهذا ما أردنا ذكره فيما يتعلق بأحوال المسند إليه والله أعلم.