الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرتبة الثانية فى بيان المزايا الراجعة إلى معانيه
اعلم أن بإحكام النظر فى هذه المرتبة، وإمعان الفكرة فيها، تظهر عجائب التنزيل، وتبرز بدائعه وغرائبه وتتجلى محاسنه، وتصفو مشاربه، لما فيها من الكشف لأسراره والإحاطة بغوائله وأغواره، ولن يحصل ذلك كل الحصول، ولا تطلع أقمار بعد الأفول، إلا بعد ذكر ما يتعلق بعلوم الإعجاز، لأنها تكون كالآلة فى تقرير تلك المحاسن، وإظهار كنوز تلك المعادن، فنذكر ما يتعلق بالعلوم المعنوية، ثم نردفه بما يتعلق بالأسرار البيانية، ثم نذكر ما يتعلق بالبلاغة اللفظية، ثم بالبلاغة المعنوية، ثم نذكر على إثرهما ما يتعلق بأسرار البديع، فهذه أقسام ثلاثة، بإحرازها، والاطلاع على رموزها، يظهر الإعجاز للإنسان ظهور المرئى فى العيان، ولقد سبق صدر من هذا الكلام فى الدلائل الإفرادية، ولكن ذكره ههنا على جهة الاختصاص بمعانى التنزيل، والإشارة إلى كنه حقائقها،
ونحن الآن نذكر ما يتعلق بكل قسم من هذه الأقسام بمعونة الله تعالى
.
القسم الأول ما يتعلق بالعلوم المعنوية
وهو فى لسان علماء هذه الصناعة عبارة عما ينشأ من الألفاظ العربية على اختلاف أحوالها، وحقيقته آئلة إلى أنه علم تدرك به أحوال الألفاظ العربية على حسب المقصود منها، فقولنا «علم تدرك به أحوال الألفاظ» نحترز به عن علم البيان، فإنه يدرك به أسرار تنشأ عن التراكيب كما سنوضحه، وقولنا «على حسب المقصود منها» نشير به إلى الأمور الخبرية، والأمور الإنشائية الطلبية، وغيرهما مما يكون مفهوما من الألفاظ العربية، وينحصر المقصود منه فى أنظار خمسة.
النظر الأول ما يكون متعلقا بالأمور الخبرية
،
وحقيقة الخبر إسناد أمر إلى غيره، إما على جهة المطابقة، أو خلافها، فقولنا «إسناد أمر إلى غيره» يعم الطلب والخبر، لأن كل واحد منهما لابد فيه من الإسناد، وقولنا «إما على جهة المطابقة أو غيرها» تخرج عنه الأمور الإنشائية، فإنه لا يعتبر فيها عدم المطابقة ولا ثبوتها بحال، وينقسم إلى صدق وكذب لا غير، لأنه إن طابق مخبره فهو الصدق، وإن كان غير مطابق فهو الكذب بعينه، ولا واسطة بين الصدق والكذب، وزعم الجاحظ أن كل ما طابق من الأخبار المخبر مع الاعتقاد أو الظن فهو صدق، وما لا يطابق معهما
فهو الكذب، وما عداهما فليس صدقا ولا كذبا، وهذا فاسد، فإنه لا واسطة تعقل بين النفى والإثبات، فإن طابق فهو الصدق بكل حال، وإن لم يطابق فهو كذب بكل حال، فلو جاز إثبات واسطة لكان فيه خروج عن القضايا العقلية، بإثبات الواسطة بينهما، وهو محال، وأقل ما يكون الإسناد، من جزءين كقولك زيد قائم، وعمرو خارج، إذ لابد من أمرين، مضاف ومضاف إليه، والغرض بالخبر إفادة السامع ما لا يعرفه، فينبغى أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، والأخبار واردة فى كتاب الله تعالى أكثر من أن تحصى كالإخبار عن العلوم الغيبية، وكقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
[الفتح: 1] وقوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ
[الروم: 1- 4] وقوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها
[الفتح: 2] وهكذا الكلام فى قصص الأنبياء مع قومهم وأخبارهم، كقصة موسى، وفرعون، إلى غير ذلك مما حكاه الله تعالى عما كان وسيكون، ثم إن وروده على أوجه ثلاثة، أحدها أن يكون الخبر خاليا من التردد، وما هذا حاله من الأخبار، فإنه يكون مستغنيا عن مؤكدات الحكم، كقوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى
[القصص: 20] وقوله تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا
[الصافات: 104- 105] إلى غير ذلك من الأخبار التى وردت ساذجة، لأنه لم يعرض فى حقها شىء، والغرض منها مطلق الإخبار، فلهذا وردت مطلقة كما ترى، وثانيها أن يطلب منها حسن تقوية بمؤكد إذا كان هناك تردد وهذا كقوله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ
[القمر: 27] وقوله تعالى: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ
[العنكبوت: 34] إلى غير ذلك مما يطلب به توكيد وتقوية للخبر، ولهذا وردت هذه الأخبار مؤكدة بإن، كما هو ظاهر، وثالثها أن يكون الخبر يعتقد إنكاره، فيجب تأكيده، وهذا كقولك: إن زيدا لقائم، لمن ينكر ذلك ويحيله، ولهذا قال تعالى فى المرة الأولى: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
[يس: 14] لما أنكروا وكذبوا، وفى الثانية إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
[يس: 16] تأكيدا بحرفين لما ازداد إنكارهم وتكذيبهم، ويسمى الأول من الأخبار «ابتدائيا» لما كان الغرض به مطلق الخبر من غير تعرض لما وراءه، ويسمى الثانى «طلبيا» لما كان المقصود به الطلب، فيؤكد تقريره فى النفس ويوضحه، ويسمى الثالث «إنكاريا» لما كان المطلوب منه وجوب تأكيده بالحروف لأجل إنكاره، ومن المطلق قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
[المؤمنون: 1] وليس منه قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
[البقرة: 254] وقوله تعالى:
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا
[المنافقون: 7] وقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
[الأنعام: 164]
ومن المؤكد قوله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ
[سورة ص: 46] وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
[القدر: 1] فهذا وما شاكله مؤكد بحرف واحد، ومن المؤكد بحرفين قوله تعالى:
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47)
[سورة ص: 47] وقوله تعالى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
[سورة ص: 40] وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى
[سورة ق: 37] وهذا الخبر المؤكد قد يرد مؤكدا، إما من غير إنكار فيكون تأكيده حسنا، وقد يرد على جهة الإنكار فيكون تأكيده واجبا، والأمثلة فيه كثيرة، ثم إن الإسناد وارد على وجهين، الوجه الأول منهما حقيقى، وهو أن يكون الفعل مضافا إلى فاعله، وهذا كقولك: قام زيد، وضرب عمرو، وكقول الله تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
[المائدة: 9] وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ
[النور: 45] وقوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ
[النحل: 51] إلى غير ذلك من الأخبار التى يكون إسنادها إلى فاعلها على جهة الحقيقة.
الوجه الثانى أن يكون الإسناد على جهة المجاز العقلى، والمراد من هذا هو أن إسنادها 7 لى فاعلها يقضى العقل باستحالته، فلا جرم كان مجازا عقليا، وهو فى القرآن كثير، ويقال له المجاز المركب، والغرض أن مجازه ما كان إلا من أجل تركيبه، وهذا كقوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2)
[الزلزلة: 2] فإن الإخراج حقيقة فى الدلالة على معناه، والأرض حقيقة، لأنها موضوعة على معناها الأصلى، والمجاز إنما نشأ من جهة إسناد الإخراج إلى الأرض وهكذا قوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً
[الأنفال: 2] فإن قوله: تُلِيَتْ
دالة على حقيقته، والآيات على حقيقتها، لكن المجاز جاء من جهة إسناد تُلِيَتْ
إلى الآيات «1» ، ونحو قوله:
حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ
[يونس: 24] فالأخذ على حقيقته، والأرض على حقيقتها، لكن المجاز حاصل من جهة إسناد الأخذ إلى الأرض، وقوله تعالى: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ
[القصص: 4] فى قصة فرعون، فإن الذبح والأبناء دالان على معنييهما بالحقيقة، لكن المجاز إنما كان من أجل إسناد الذبح إلى فرعون، وليس ذابحا، وإنما الذابح غيره، هكذا حال الاستحياء فى قوله تعالى: وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ
[القصص: 4] فإذا عرفت أن المجاز ههنا إنما حصل من جهة الإسناد لا غير، فلا بد من مسند ومسند إليه، وقد يكونان حقيقتين، ومجازين، ومختلفين، فهذه أوجه أربعة، أولها أن يكونا على جهة الحقيقة، ومثاله قولك: أنبت الربيع البقل، فإن لفظتى أنبت، والربيع، دالان على حقيقتيهما، والمجاز من جهة الإسناد وقوله تعالى: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17)
[المزمل: 17]