الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحث الأول بالإضافة إلى موقعها من علم البيان
اعلم أن علم البيان من عوارض الألفاظ، ومورده المجاز على أنواعه، ومعناه إيراد المعنى الواحد فى طرق مختلفة فى وضوح الدلالة عليه والنقصان، فعلى قدر إغراق المجاز وحسنه، يزيد المعنى وضوحا، وعلى قدر نزوله وبعده، ينتقص المعنى، فالنظر فى هذه الآية من جهة ما اشتملت عليه من الأنواع المجازية، كالاستعارة، والتشبيه، والكناية، فنقول إن الله عز سلطانه لما أراد أن يظهر فائدة الخطاب اللغوى، وهو أنا نريد أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان الماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضى أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضى، وأن تقر السفينة على الجودى فاستقرت، وأن نلقى الظلمة غرقى، وأن نبعدهم عن رحمتنا بالعقوبة، فلما أراد الله تعالى أن يؤدى هذه المعانى اللغوية على أساليب العلوم البيانية، باستعماله المجازات فيها، وترك العبارات اللغوية جانبا، فلا جرم ساق الكلام على أحسن سياق بتشبيه المراد منه هذه الأمور، بالأمور الذى لا يتأتى منه التأخير عما أريد منه، لكمال الأمر وجلال هيبته، ونفوذ سلطانه، وشبه تكوين المراد بالأمر الحتم النافذ فى تكوين المقصود، إرادة لتصوير اقتداره الباهر، وتقريرا لاستيلاء سلطانه القاهر، وأن السموات والأرضين على ما اشتملا عليه من هذه الأجرام العظيمة والاتساعات الممتدة، تابعة لإرادته فى الإيجاد والإعدام، ومنقادة لمشيئته فى التغيير والتبديل، وأغرق فى التشبيه، بأن جعلهم كأنهم عقلاء مميّزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، فحتّموا على أنفسهم بذل المجهود فى مطابقة أمره وتحصيل مراده، لما وقع فى أنفسهم من مزيد اقتداره، وتصوروا فى ذات عقولهم كنه عظمته، فعند ذلك عظمت المهابة له فى نفوسهم، واستقرت حقيقة الخوف من سطوته فى قلوبهم، فضربت سرادقات المهابة والخوف فى أفئدتهم، فألقت أثقالها فى ساحات ضمائرهم علما بما تستحقه من جلال الإلهية، وتحققا لما يختص من سمات الربوبية، تخفق على رءوسهم رايات المحامد، بتحقق معرفته، وتعقد عليهم ألوية المهابة والخشية، من خشيته، فلا مطمع لهم فى خلاف مراده، ولا تشوّق لهم إلى التأخر عن مقصوده، وكلما لاح لهم وميض من برق إشارته، كان المشار إليه مقدما، وكلما توهموا ورود أمره، كان ذلك الأمر بسرعة الامتثال مكملا متمما، فلا يتلقون إشاراته، بغير الامتثال، ولا يقابلون أوامره بغير
الانقياد، فسبحان من شملت قدرته جميع الممكنات، تكوينا وإيجادا، وأحاط بكل المعلومات إحكاما وإتقانا، فهذا تقرير نظم الكلام وتأليفه، ثم إنا نعطف على بيان روابط المجاز وعلائقه فى الآية، فقال عز من قائل وَقِيلَ
على جهة المجاز عن الإرادة، ثم إنه حذف الفاعل، وجعله فى طىّ الفعل، إبهاما وإعظاما لحاله عن الذكر عند عروض أمر هذه المكونات على جهة الذل والتسخير، ثم جعل قرينة المجاز مخاطبته للجمادات كما فى قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
[يوسف: 82] ، يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي
[هود: 44] ، على جهة التشبيه لمّا جعلا بمنزلة من عقل الأمر وفهم عظم الاستيلاء، ثم استعار لفور الماء فى الأرض اسم البلع الذى يطلق على القوة الجاذبة للمطعوم، لانعقاد الشبه بينهما، وهو الإذهاب إلى مقر خفى، ثم استعار الماء للغذاء على جهة الكناية، تشبيها له بالغذاء، لأن الأرض لما كانت تتقوى بالماء فى الإنبات للزرع والأشجار والثمار، تقوىّ الآكل بالطعام، وجعل القرينة الدالة على الاستعارة فى لفظ ابْلَعِي
هو كونها موضوعة للاستعمال فى الغذاء دون الماء، ثم إنه وجه الخطاب لها بالأمر على جهة الاستعارة لما ذكرناه من التنبيه المتقدم، حيث نزلها منزلة العقلاء الذين تسربلوا سرابيل المهابة، وتلفعوا بأردية التّذلل منقادين فى حكمة القهر عليهم ببؤس الاستكانة، وضرع الاستسلام والذلة، وخاطب بالأمر ترشيحا للاستعارة فى النداء، ثم قال ماءَكِ
مضيفا الماء إلى الأرض على جهة الاستعارة لما لها به من الاختصاص، وجعل الإضافة باللام تشبيها للأرض بالمالك، حيث كانت متصرفة فيه بالابتلاع والذهاب فيه.
وانتفاعها به، ثم إنه قدّم الأرض على السماء لأوجه خمسة، أما أولا: فلما للخلق من الانتفاع بالأرض بالاستقرار وكونها بساطا لهم، وأما ثانيا: فلأنها لما كانت مقرا للسفينة التى تكون بها النجاة لمن ركبها، وأما ثالثا: فلأنها لما كانت مقرا لمائها وماء السماء، وحيث يكون اجتماعها كانت أحق بالتقديم، وأما رابعا: فلأن الغرض هلاكهم فى الأرض لأجل ما حصل من العصيان والمخالفة فيها، وأما خامسا: فلأن البداية بالغرق كانت من جهة الأرض، ولهذا قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ
[المؤمنون: 27] فكان أول نبوع الماء من الأرض، فلأجل هذه الأمور كانت مقدمة فى الخطاب ثم إنه تعالى أقبل على خطاب السماء بمثل ما خاطب به الأرض، لما كان الماء النازل منها هو السبب فى الإهلاك بالغرق، فلأجل ذلك عطف خطابها على خطاب الأرض فقال: وَيا سَماءُ أَقْلِعِي
[هود: 44] وما ذكرناه فى نداء الأرض وخطابها من الاستعارة فهو حاصل فى خطاب السماء، وإنما اختار لاحتباس المطر
اسم الإقلاع الذى هو ترك الفعل من جهة الفاعل، فإنه يقال فى حال من استمر من جهته فعل من الأفعال ثم تركه: أقلع عنه، لأن إنزال المطر لما كان صادرا منها على سبيل الاستمرار ثم رفع، كأنها أقلعت عن فعله، وإنما ذكر متعلق فعل الأرض بقوله: ابْلَعِي ماءَكِ
ولم يذكر متعلق فعل السماء فلم يقل: ويا سماء أقلعى عن صب مائك، من جهة أن الأرض لما كان لها اعتمال فى بلع الماء، فلأجل هذا ذكر متعلق فعلها، بخلاف السماء فإنه لا عمل لها هناك إلا ترك الصب والكف، فلأجل ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر متعلقها، وإنما وجه أمر الأرض بالفعل المتعدى، ووجه أمر السماء بالفعل اللازم، من جهة تصرف الأرض فى الماء، بصيرورته فى بطنها بخلاف السماء فإن الغرض بقوله: أَقْلِعِي
أى كونى ذات إقلاع وكفّ عن الصب لا غير، ولذا يقال ابتلعت الخبز، وأقلعت السماء إذا صارت ذات إقلاع فى سحابها، ثم قال بعد ذلك: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ
[هود: 44] فأتى بهذه الجمل الخبرية عقب تلك الأوامر على جهة الإبهام لفاعلها، إعلاما بأن مثل هذه الأمور العظيمة والخطوب الهائلة، لا تصدر إلا من ذى قدرة، لا تكتنهه العقول ولا تناله الأفهام، وتعريفا بأن الوهم لا يذهب إلى أن غيره قائل: يا أرض ابلعى وياسماء أقلعى، ولا يغيض الماء، ولا يقضى الأمر فى هلاكهم، ولا تستوى السفينة على الجودى، ولا يبعدهم عن الرحمة باستحقاق العقوبة إلا هو، فلا جرم أبهم ذكره من أجل ذلك، ثم إنه ختم الكلام على جهة التعريض بقوله: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
[هود: 44] تنبيها على أن ذلك إنما كان من أجل ظلمهم لأنفسهم بتكذيب الرسل وإعراضهم عما جاءوا به من الحجج الظاهرة، والأعلام النيرة، وأن من كان على مثل حالهم فإن الهلاك واقع به لا محالة من غيرهم ممن بعدهم، وفيه وعيد لقريش ومن حذا حذوهم فى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم:«إيّاك أعنى فاسمعى يا جارة» وإنما كرر قوله: وَقِيلَ بُعْداً
ولم يكرره فى خطاب السماء فيقول: «وقيل يا أرض وقيل يا سماء» من جهة أن السماء من جنس الأرض فى مقصود الأمر منهما، وهو إزالة الماء عنهما، فاكتفى بإظهاره فى إحداهما وحذفه من الأخرى، بخلاف قوله بُعْداً
فإنه مصدر وجّه على جهة الدعاء، ليس مجانسا لما سبق، فلهذا كرر القول فيه إعلاما بأنه من جملة القول، واهتماما بالدعاء عليهم بالإبعاد عن الرحمة باستحقاق العقوبة السرمدية، أعاذنا الله منها برحمته، فهذه جملة ما يتعلق بالآية من العلوم البيانية، وتحتها أسرار أوسع مما ذكرناه.