الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر الرابع من علوم البيان فى ذكر التمثيل
اعلم أن التمثيل نوع من أنواع البيان. وهو مخالف للتشبيه، فإن التشبيه إنما يكون فى المظهر الأداة، وهذا نوع من الاستعارة، وهو معدود من أنواع المجاز، وإنما قلنا إنه من الاستعارة من جهة أن الاستعارة حاصلة فيه، وإنما تقع التفرقة من جهة أن الوجه الجامع، إن كان منتزعا من عدة أمور فهو التمثيل، وإن كان مأخوذا من أمر واحد فهو الاستعارة، ثم إنه قد يتفاوت فى الحسن، لأنه يستعمل على وجهين: أحدهما أن لا يظهر وجه التشبيه فى الأستعارة، بل يكون تقدير التشبيه فيها عسرا صعبا، فما هذا حاله يعد من أحسن الاستعارة وهذا كقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
[النحل:
112] وقوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
[الإسراء: 24] فما هذا حاله استعارة لا يظهر فيها وجه التشبيه، فلو أردت التكلّف فى إظهار وجه المشابهة لخرج الكلام عن حد البلاغة، وكلما ازدادت الاستعارة خفاء ازدادت حسنا ورونقا، وهذا هو مجراها الواسع المطّرد، وثانيهما أن يكون هناك مشبه ومشبه به من غير ذكر أداة التشبيه، فما هذا حاله من الاستعارة دون الأول فى الحسن، والتمثيل فى القرآن كقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
[البقرة: 18] فالآية إنما جاءت مسوقة على أن حال هؤلاء الكفار قد بلغوا فى الجهل المفرط والعمى المستحكم فى الإصرار والجحود على ما هم عليه من الكفر والعناد، بمنزلة من هو أصم أبكم أعمى، فلا يهتدى إلى الحق ولا يرعوى عما هو عليه من الباطل، ومنه قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً
[الجاثية: 23] فحاصل الأمر أن كل من انقاد لهواه، وأعرض عن حكم عقله فى كل أحواله، وصار العقل منقادا فى حكمة الذل موطوءا بقدم الهوى، فإنه ينزل فيما هو فيه منزلة من ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو معرض عما يأتيه من الحق صادف عنه وهكذا قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى
سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
[البقرة: 7] فما هذا حاله معدود فى التمثيل، وتقريره أنهم لما نكصوا عن قبول الحق وأعرضوا عما جاء به الرسول من نور الهدى، صاروا فى حالتهم هذه بمنزلة من ختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فمن هذا حاله لا اهتداء له إلى الحق ولا طريق إليه، فهكذا حال التمثيل فى جميع مجاريه يكون مخالفا للتشبيه المظهر الأداة، ومخالفا للاستعارة أيضا، فيكون على ما ذكرناه من أحد نوعى الاستعارة، وهو الذى يكون الوجه الجامع منتزعا من عدة أمور، وإذا وقفت على حقيقة الأمر فيه فلا عليك فى التلقيب، وفيما ذكرناه كفاية فى التنبيه على ما أردنا ذكره من العلوم البيانية مع ما سلف ذكره فى أول الكتاب، والله الموفق للصواب.