الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غيره، يخرج عنه ما ليس كذلك، فإن حقيقة المبالغة الزيادة لا محالة وقوله وصفا من الأوصاف، عام فى المدح والذم، والحمد، والشكر وسائر الأوصاف التى يمكن فيها الزيادة وقوله إما على جهة الإمكان، أو التعذر، أو الاستحالة، يشمل أنواع المبالغة، لأن ما ذكرناه يقال له مبالغة إذا كان يصح وقوعه، أو يكون متعذرا مع إمكانه، أو مستحيلا لا يمكن وقوعه فكله معدود فى المبالغة، فإذا عرفت هذا فلنذكر مذاهب الناس فيها، ثم نذكر طرقها، ثم نردفه بذكر أنواعها فهذه فوائد ثلاث نفصلها بمعونة الله تعالى.
الفائدة الأولى فى ذكر مذاهب الناس فيها
اعلم أن لعلماء البيان فى المبالغة مذاهب ثلاثة فى كيفية مدخلها فى الكلام وإفادتها لما تفيده، وهل تعد من فنون علم البديع أم لا:
المذهب الأول أنها غير معدودة من محاسن الكلام
،
ولا من جملة فضائله، وحجتهم على هذا هو أن خير الكلام ما خرج مخرج الحق وجاء على منهاج الصدق من غير إفراط ولا تفريط، والمبالغة لا تخلو عن ذلك كما جاء فى أشعار المتأخرين من الإغراق والغلو، وجه آخر وهو أن المبالغة لا يكاد يستعملها إلا من عجز عن استعمال المألوف والاختراع الجارى على الأساليب المعهودة، فلا جرم عمد إلى المبالغة ليسد خلل بلادته بما يظهر فيه من التهويل ولهذا تراها مخرجة للكلام إلى حد الاستحالة، فهذا تقرير كلام من منع المبالغة.
المذهب الثانى على عكس هذا وهو أن المبالغة من أجل المقاصد فى الفصاحة
،
وأعظمها فى البراعة، ومن أجلها نشأت المحاسن فى المعانى الشعرية، وحجتهم على هذا أن خير الشعر أكذبه، وأفضل الكلام ما بولغ فيه، ولهذا فإنك ترى الكلام إذا خلا عنها وبعد عن استعمالها كان ركيكا نازلا قدره، ومتى خلط بها ظهرت فصاحته وراق رونقه وحسن بهاؤه وبريقه، فهذا تقرير مقالة من قبلها واستعملها.
المذهب الثالث مذهب من توسط، وهو أن المبالغة فن من فنون الكلام ونوع من محاسنه
،
ولا شك أن
للكلام بها فضل بهاء وجودة رونق وصفاء لا يخفى على من كان له أدنى ذوق، ولكن ليس على جهة الإطلاق، فإن الصدق فضله لا يجحد، وحسنه لا ينكر، فمهما كانت المبالغة جارية على جهة الاعتدال بالصدق فهى حسنة جميلة، ومهما كانت جارية على جهة الغلو والإغراق فهى مذمومة، فهذه مذاهب المتكلمين فى حكم المبالغة قد حصرناها وضبطناها ليتضح الحق ويظهر أمره، والمختار عندنا وعليه تعويل أهل التحقيق من علماء البيان تقرير نشير إلى مباديه، ونرمز إلى أسراره ومعانيه، فنقول أما من عاب المبالغة فقد أخطأ، فإن المبالغة فضيلة عظيمة لا يمكن دفعها ولولا أنها فى أعلى مراتب علم البيان لما جاء القرآن ملاحظا لها فى أكثر أحواله، وجاءت فيه على وجوه مختلفة لا يمكن حصرها، فقد أخطأ من عابها على الإطلاق، وأما من استجادها على الإطلاق فغير مصيب على الإطلاق أيضا لأن منها ما يخرج عن الحد فيعظم فيه الغلو والإغراق فيكون مذموما كما سيحكى عن أقوام أغرقوا فيها وتجاوزوا الحد بحيث لا يمكن تصور ما قالوه على حال قرب ولا بعد، لكن خير الأمور أوساطها، فما كان من الكلام جاريا على حد الاستقامة من غير إفراط ولا تفريط فهو الحسن لا مراء فيه، فيكون فيه نوع من المبالغة من غير خروج ولا تجاوز حد، وأحسن بيت ما قاله زهير وهو من بدائع حكمه الشعرية:
ومهما تكن عند امرىء من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم «1»
فما هذا حاله من أعجب الأبيات وأصدقها حكمة، وأدخلها فى معرفة أخلاق الناس، ومن ذلك ما قاله حسان بن ثابت فى حسن الصدق:
وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه
…
على المجالس إن كيسا وإن حمقا
فإنّ أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا «2»
ومن أجل الإخلال بالمبالغة ومراعاتها عيب على حسان فى قوله:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
«3» فعيب عليه قوله الجفنات، وهو جمع قلّة، وليس هذا من مواضع القلة، وكان الأحسن فيه الجفان وقوله «الغر» والغر إنما تستعمل فى مدح الشىء بالوضوح، وليس هذا من