الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنف الثانى عشر فى تحويل الألفاظ واختلافها، بالإضافة إلى كيفية استعمالها
وهو من هذه الصناعة فى مكان مغبوط، ومحل محوط، ومن لم يكن فيه على قدم راسخة وحال مؤكدة، فإنه لا يأمن من وقوعه فى مكروهات الاستعمالات اللغوية، ويرد فى الموارد المستقبحة.
واعلم أن الألفاظ على وجهين فى استعمالها مفردة، أحدهما أن تكون فصيحة مستعملة فى كل أحوالها فى الإفراد والتثنية، والجمع، والتذكير والتأنيث، والإظهار، والإضمار وغير ذلك من الاستعمالات، وهذا هو الأكثر فى ألسنة العرب، وهذا كلفظ الدينار والدرهم والفرس والإنسان، وغير ذلك من الألفاظ العربية، وثانيهما: أن تكون أحوالها مختلفة بالإضافة إلى استعمالاتها، فتارة يقبح استعمالها فعلا ولا يقبح استعمالها اسما، ومرة يقبح استعمالها مفردة، ولا يقبح استعمالها مجموعة، وبالعكس من هذا.
ونحن نذكر من ذلك أمورا تقبح على وجه، وتحسن على وجه، ننبه بالقليل من ذلك على الكثير. وجملة ما نورده من ذلك أمور عشرة، أولها لفظة «خود» فإنها إذا كانت اسما، كان استعمالها فصيحا فى الاسمية، هى عبارة عن المرأة الناعمة، فهى إذا استعملت اسما حسنة رائقة لذيذة طيبة، وهى إذا كانت مستعملة على صيغة الفعل، لم يحسن استعمالها، ثم هى فى ذلك على وجهين، أحدهما أن تكون واردة على جهة الحقيقة فيعظم فيها القبح كما قال أبو تمام:
وإلى بنى عبد الكريم تواهقت
…
رتك النّعام رأى الطريق فخوّدا «1»
وقد أخذ على أبى تمام، فى هذا البيت استعمال «خوّد» على صيغة الفعل، وهى مستكرهة، يقال فيها خود البعير «بتثقيل الحشو» إذا أسرع فى مشيه، ثم قوله رتك النعام، يقال رتك البعير إذا قارب خطوه فاستعمله فى النعام، واستعماله إنما يكون فى الإبل، فإذا كانت مستعملة على جهة الحقيقة فى الفعل كانت مستكرهة، وثانيهما أن تكون واردة على جهة المجاز كقول بعض الشعراء من أهل الحماسة:
أقول لنفسى حين خوّد رألها
…
رويدك لما تشفقى حين مشفق
والرأل النعام، والمراد، ههنا أن نفسه فزعت وعظم فرارها، وشبهها فى فزعها وفرارها بإسراع النعام إذا فزع وفر، وهى إذا كانت مجازا فاستعمالها فعلا، وإن كان مستكرها، لكنه يخف قبحه، لما كان مستعملا استعمال المجاز، وإدراك ما ذكرناه من حسن الاستعمال وقبحه فى كونها اسما أو فعلا، يدرك بالذوق الصافى والقريحة المستقيمة عن شوائب البلادة، وثانيها: قولنا «وذر ودع» فإنهما من جملة الأفعال، ولا يستعملان فى الأزمنة الماضية استغناء عنهما بقولنا ترك، قال الله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
[البقرة: 17] فإذا استعملا فى الماضى كان فيهما ركة ونزول عن الكلام الفصيح، وهذا من غريب الاستعمال وبديعه، أن يكون الماضى وإن كان أصلا لغيره من الأفعال، بعيدا فى الاستعمال، وفى هذا دلالة على أن الفصيح لا يوجد بطريق الأصالة والفرعية، وإنما طريقه كثرة الاستعمال والاطراد، فأما استعمالهما على جهة الدلالة على الأزمنة المستقبلة، إما مضارعا كقوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
[الأنعام: 110] وقوله تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ
[الأعراف: 127] وإما على جهة الأمر كقوله: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
[الحجر: 3] وهكذا الأمر فى يدع، فإنه يستعمل للمضارع كقوله عليه السلام لو مدّ لنا الشهر لو اصلنا وصالا يدع المتعمّقون له تعمقهم، وفى الأمر كقول أمير المؤمنين متمثلا بقوله:
وكقول زهير:
فأما استعمالها على جهة المضى فلا يرد فى كلام فصيح، واستعمال «وذر» فى الماضى أقبح من استعمال «ودع» ، وثالثها لفظة «الحبر» فإنها إذا وردت مجموعة أفصح من ورودها مفردة، ولهذا لم تأت فى القرآن إلا مجموعة كقوله تعالى: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ
[التوبة: 34] وقوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
[التوبة: 31] ولم ترد مفردة فى القرآن فلا جرم حكمنا بأن موقعها فى الجموع أحسن من موقعها فى الإفراد، ومفردها حبر بكسر الحاء وفتحها، ورابعها عكس ذلك، وهو أن يكون استعمالها مفردة أحسن من استعمالها مجموعة، ومثاله لفظة «الأرض» فإنها لم ترد فى القرآن إلا مفردة، وجمعها إما على السلامة اللفظية كقولنا «أرضون» وإما على التكسير كأراض، وقد يستعمل
على أرضات أيضا، وأحسن الاستعمال فيها أن تكون مفردة كما ذكرناه، فإذا جىء بالسموات مجموعة جىء بها مفردة فى عدة من المواضع، فإن احتيج إلى جمعها أتى بما يدل على جمعها دون جمع لفظها، كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ
[الطلاق: 12] والسر فى ذلك أن كل واحدة من السموات السبع مختصة بعالم من الملائكة يخالف الآخر فلهذا كانت متنوعة مغايرة فجمعت بخلاف الأرض فإنها وإن كانت سبعا كما ورد الشرع بذلك، فإن الانتفاع بما يلينا منها دون غيرها، فلهذا جرت مجرى الأرض الواحدة، فلا جرم كانت مفردة. وخامسها لفظة «البقعة» فإن الفصيح فى استعمالها إنما هو على جهة الإفراد، كما قال تعالى: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
[القصص: 30] ولم يجر استعمالها على جهة الجمع، فإن جمعت كان استعمالها على الإضافة، فيقال بقاع الأرض، وفى الحديث، إذا تاب ابن آدم أنسى الله حافظيه وبقاع أرضه خطاياه، ولم يرد فى استعمالها جمعا وتعريفا باللام فى كلام فصيح، وإن ورد فإنما يرد على جهة الندرة والقلة وسادسها: لفظة «الأكواب والأباريق» فإن استعمالها على الجمع أكثر من استعمالها على جهة الإفراد، ولهذا فإنهما لم يردا فى القرآن إلا مجموعين، وهذا كقوله تعالى: بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ
[الواقعة: 18] ولم يستعمل فى الفصيح كوب وإبريق، وإنما تروى فى قول بعضهم.
ثلاثة تعطى الفرح
…
كأس وكوب وقدح
فالذى حسن من وقوعه مفردا انضمامها مع الكأس والقدح، فلا جرم اغتفر إفرادها، وهذا بخلاف الكأس فإن الفصيح فى استعماله إنما يكون على جهة الإفراد كقوله تعالى:
وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
[الواقعة: 18] وقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ
[الإنسان: 5] .
وسابعها: لفظة «اللّبّ» وهى مقولة على معنيين، أحدهما عبارة عن اللب الذى هو العقل، والآخر عبارة عن اللب الذى تحت القشر من كل شىء، فأما لب العقل فأحسن استعمالاته إذا كان مفردا عن الإضافة أن يكون على جهة الجمع كقوله تعالى: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
[ص: 29] وقوله: وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43)
[ص: 43] وقد يستعمل مضافا إليه كقولك. لا يعقل هذا إلا ذو لب قال جرير «1» :
إنّ العيون التى فى طرفها حور
…
قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّب حتى لا حراك به
…
وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
وقد يستعمل مضافا كما ورد فى الحديث فى ذكر النساء ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الحازم من إحداكن يا معشر النساء، فأحسن استعمالاته ما ورد على ما ذكرناه، فأما استعماله مفردا عن اللام والإضافة فلا يكون حسنا، وإذا تأملت القرآن وسائر الكلام الفصيح وجدتها على ما ذكرناه، وثامنها: لفظة «طيف» وهو طيف الخيال، فإنها لا تستعمل إلا مفردة، واستعمالها مجموعة فيه ركة وثقل على اللسان، لأن جمعها إما أطياف، وإما طيوف، وكلاهما فيه بشاعة، وهى تخالف أختها وهى قولنا «ضيف» فإنها تفيد رقة ولطافة، ومن أجل هذا استعملت مفردة كقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
[الذاريات: 24] ومثناة كقولك: ضيفان، ومجموعة كقولك: ضيوف وأضياف، وهذا من عجائب الصيغة ودقيق الأسرار العجيبة، حيث كان ههنا لفظتان مستويتان فى العدة والوزن، فاستعملت إحداهما على ما ذكرناه دون الأخرى، وهذا مما يعلمك أن السر فى ذلك هو الذوق السليم والطبع المستقيم فى التفرقة بين اللفظتين، وتاسعها: لفظة «الصوف» فإن استعمالها مجموعة هو الفصيح كقوله تعالى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها
[النحل: 80] واستعمالها مفردة ليس لائقا بالفصاحة، ومن أجل هذا لما احتيج إلى استعمالها مفردة جاء بما يخالفها فى لفظها كقوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
[القارعة: 5] والعهن هو الصوف، فبدلها لما كانت غير فصيحة فى الإفراد، وفى قراءة ابن مسعود «كالصّوف المنفوش» فانظر ما بين العهن والصوف من التفاوت فى الذوق والرقة والرشاقة، وعاشرها: لفظة «الأمّة» بالضم، فإنها الجماعة من الناس وهى كلمة فصيحة قال الله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً
[النحل: 120] ووَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ
[القصص: 23] بخلاف الإمة بالكسر وهى النعمة، فإنها غير فصيحة، ولهذا لا تكاد تستعمل فى كلام فصيح، وحكى ابن الأثير أن صاحب الفصيح كان له إملاء سماه الفصيح أوردها فيه واستحسنها، وقد أنكر عليه فى إعجابه بها ولعمرى إن ما قاله
ابن الأثير هو الأجود اللائق بالفصاحة فإنها ركيكة جدا فلا وجه لعدها من الفصيح فضلا عن الأفصح، وهكذا قولنا «لهاميم» وهم الرؤساء فإن استعماله مجموعا أفصح من استعماله مفردا، وكذا بهاليل، فأما المفردان منهما فلا يكادان يستعملان فى الفصاحة، وهذا بخلاف عرجون وعراجين، وجمهور وهم الجماعة من الناس وجماهير، فإنهما يستعملان فى الفصيح فى الإفراد كما أشرنا إليه. ولنكتف بهذا القدر من التنبيه على ما يستعمل من الألفاظ المفردة على حال دون حال ليقاس على غيره مما يكون واردا على مثاله، ولقد كان هذا الصنف خليقا بإيراده فى الباب الثانى حيث تكلمنا فيه على الألفاظ المفردة وما يتعلق بأحكامها فى الإفراد، وليس يعد من أصناف البديع فيورد فيه لأن البديع إنما يتعلق بالمعانى دون الكلم المفردة، ويختص بالمركب من الكلام دون المفرد، وأكثر ما يرد فى الاستعارة من أبواب المجاز، لكنه محبوس بطرفين، أحدهما أنه كلام فيما يعرض للكلمة الواحدة من اختلاف الأحوال بحسب مواقعها فى البلاغة، وثانيهما أنه كلام فيما يتعلق بها من التركيب، وكلاهما مختص بعلم البديع، فلا جرم كان كل واحد من هذين الغرضين مصوبا لإيراده فى هذا الصنف، خلا أن موضعه الخاص به ما ذكرناه.