الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طولا كثيرا إذا كان سجعتان، والثانية طويلة طولا عظيما، فأما إذا كان السجع على ثلاث فقر وكانت الفقرتان الأوليان فى عدة واحدة وتقارب، ثم يؤتى بالثالثة فعلى هذا التقدير يغتفر طول الثالثة، وإن كان كثيرا زائدا على الغاية، والسر فى ذلك هو أن الفقرتين الأوليين قد تنزلتا لقصرهما منزلة فقرة واحدة فلا جرم اغتفر طولها، وليس حتما أن تكون الثالثة فى الثلاث السجعات طويلة، بل ربما تكون الثلاث كلها متساوية، وهذا كقوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
[الواقعة: 27- 30] فهذه السجعات كلها متساوية المقدار فى أن كل واحدة منها على فقرتين فقرتين من غير زيادة، ولو طالت الثالثة طولا كثيرا لم يكن معيبا، فلهذا كان الأمران سائغين فيهما.
الضرب الثالث: أن تكون الفقرة الثانية أقصر من الأولى
عكس ما ذكرناه فى الضرب الثانى، وما هذا حاله من أفانين التسجيع فهو معيب عند فرسان هذه الصناعة، ومتّرك حاله بين الجهابذة من أهل البراعة، والسر فى ذلك ما يجده الإنسان من التفرقة الحسية فى الفطرة الغريزية، وهو أن الفقرة الأولى إذا كانت طويلة فإن السجع يكون مستوفيا لمطلوبه وحاصلا على كنه مقصوده، فإذا كانت الفقرة الثانية ناقصة صار المطلوب ناقصا وانخرم ما كان يتوقعه من المماثلة بينهما والملاءمة، ويصير كالشىء المنقطع الميتور، وكمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها. فهذا تقرير تقسيم السجع على ما ذكرناه من هذه الضروب.
فالضرب الأول هو أعدلها، والضرب الثالث أبعدها، والضرب الثانى أوسطها فى التعديل، ولا يكاد يوجد الضرب الثالث فى القرآن، وإنما الكثير فيه هما الضربان الآخران لما ذكرناه من العيب فيه، وكتاب الله تعالى منزه عنه.
الفائدة الرابعة فى بيان الأمثلة فى التسجيع
قد وضح لك مما ذكرناه أن السجع من أرفع مراتب الكلام، وأعلاها وأجل علوم البلاغة وأسناها، ولهذا اختص به من بين سائر الأساليب البلاغية التنزيل، وأحاط بطويله وقصيره وكان الحسن فيه على أحسن هيئة وتنزيل، لا يقال فإذا كان التسجيع فى الكلام على ما ذكرتموه من علو شأنه، وارتفاع قدره ومكانه، فكيف لم يأت القرآن كله مسجوعا؟ وليس الأمر كذلك، فإن بعضه مسجوع وبعضه غير مسجوع، وأكثره وارد على جهة السجع، لأنا نقول إنما ورد على الأمرين جميعا لأمرين، أما أولا فلأن القرآن
إنما جاء مؤذنا بالإيجاز وبلوغ الغاية فى الاختصار، فلو أتى كله مسجوعا لأبطل إيجازه واختصاره، لأن السجع إذا كان ملتزما فى جميع المواضع كلها، فقد لا يتواتى الإيجاز معه والاختصار، فلهذا كان على الأمرين جميعا، وأما ثانيا: فلأن الكلام المسجع أفصح وأبلغ من غير المسجع، فإتيان ما ليس مسجوعا فى القرآن يؤذن مع كونه غير مسجوع أنه فى غاية الإعجاز مع عدم السجع وفى هذه دلالة على إعجازه من كل الوجوه، وقد ورد فيه التسجيع فى الطويل، والقصير، والمتوسط، فمن القصير قوله تعالى: فى سورة النجم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7)
[النجم: 1- 7] فأكثر السورة وارد على قصير السجع، وأما الطويل فكقوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
[الفرقان: 12- 13- 14] فانظر كم نظم كل واحدة من الفقرتين من الألفاظ. ويرد الطول فى السجع على أكثر ما ذكرناه ههنا حتى ينتهى إلى عشرين كلمة أو أكثر كما مر. وأما المتوسط فكقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7)
[الأعلى: 1- 7] إلى غير ذلك من الأساجيع المتوسطة التى ليست طويلة ولا قصيرة، ولا حاجة بنا إلى تكثير الأمثلة السجعية من القرآن، لأنها أكثر من أن تحصى بعدّ، أو تحصر بحدّ. فأما ما ورد من القرآن غير مسجوع فهو كثير، لكنه بالإضافة إلى ما هو مسجوع منه قليل كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
[الانفطار: 6- 9] فانظر إلى اختلاف رءوس هذه الآى كيف أتى من غير تسجيع، وما ذاك إلا لأجل السر الذى ذكرناه. فأما الأمثلة الواردة فى السنة النبوية فى التسجيع فهى كثيرة واسعة، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:«هو أوضح دليل، إلى خير سبيل» ، وقوله عليه السلام:«ألا وإن من علامات العقل التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور» ، وقوله:«وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود» وقوله عليه السلام: واعلموا أنكم عن قليل راحلون، وإلى الله صائرون، فلا يغنى عنكم هناك إلا عمل صالح
قدمتموه، أو حسن ثواب حزتموه، إنكم إنما تقدمون على ما قدمتم، وتجازون على ما أسلفتم، فلا تخدعنّكم زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنات علية. إلى غير ذلك، فأما الأمثلة من كلام أمير المؤمنين فهى كثيرة، وله فيه اليد البيضاء والقدم السابقة، منها قوله فى خطبته الغراء:«الحمد لله الذى علا بحوله، ودنا بطوله، مانح كل غنيمة وفضل، وكاشف كل كريهة وأزل، أحمده على عواطف كرمه، وسوابغ نعمه وأومن به أولا باديا، وأستهديه قريبا هاديا، وأستعينه قاهرا قادرا، وأتوكل عليه كافيا ناصرا» ، ثم قال بعد ذلك:
«أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذى ضرب لكم الأمثال، ووقت لكم الآجال، وألبسكم الرياش، وأرفغ لكم المعاش» ، ثم قال فيها:«فإن الدنيا رنق مشربها، ردع مشرعها مونق منظرها موبق مخبرها، غرور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسناد مائل» إلى غير ذلك من الكلام الذى تواخى سجعه، وعظم فى القلوب وقعه، وكثر إن صادف قلوبا واعية نفعه. فهذا ما يتعلق بالسجع القصير، وهو أكثر ما يكون فى الكتب والمواعظ والخطب المنسوبة إليه، وهو أضيق مسالك التسجيع كما مر بيانه ولكنه غير ضيق عليه لما أوتى من كنوز البلاغة ما إن مغالقه ليصعب على أكثر الخلق فتحها ثم قال «عباد الله الذين عمروا فنعموا، وعلموا ففهموا، ونظروا فلهوا وسلموا فنسوا، أمهلوا طويلا ومنحوا جميلا، وحذروا أليما ووعدوا جسيما، احذروا الذنوب المسخطة، والعيوب المورّطة، يا أولى الأبصار والأسماع، والعافية والمتاع، هل من خلاص، أو مناص، أو معاذ، أو ملاذ أو فرار أو مجاز، فأنى تؤفكون، أم أين تصرفون، أم بماذا تغترون» . فأما كلامه فى التطويل والمتوسط فهو كثير، ولنكتف بما ذكرناه من كلامه التقصير. فأما ما كان من البلغاء فى ذلك فلهم كلام واسع بليغ من التسجيع كالذى يكون فى المقامات الحريرية، والخطب النّباتية، وكلام ابن الجوزى فى مواعظه إلى غير ذلك فإن من يطالع هذه الكتب وغيرها فإنه يجد فيها من أفانين السجع وذكر أنواعه المختلفة ما يقنع الناظر وينشط الفاتر.