الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر الرابع فى الفصل والوصل
ولهما محل عظيم فى علم المعانى، وواقعان منه فى الرتبة العلياء، ونحن الآن نشير إلى زبد منهما مما يتعلق بغرضنا، أما الفصل فهو فى لسان علماء البيان، عبارة عن ترك الواو العاطفة بين الجملتين، وربما أطلق الفصل على توسط الواو بين الجملتين، والأمر فى ذلك قريب بعد الوقوف على حقيقة المعانى، لكن ما قلناه أصدق فى اللقب من جهة أن الجملة الثانية منفصلة عما قبلها، فلا تحتاج إلى واصل هو الواو، فلأجل هذا كان ما ورد من غير واو بين الجملتين أحق بلقب الفصل، وهذا يرد فى التنزيل على أوجه نذكرها، أولها أن تكون الجملة واردة على تقدير سؤال يقتضيه الحال، فلأجل هذا وردت هذه الجملة مجردة عن الواو، جوابا له، ومثاله قوله تعالى فى قصة موسى عليه السلام مع فرعون: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23)
[الشعراء: 23] فإنما جاءت من غير واو على تقدير سؤال تقديره، فماذا قال فرعون، لما دعاه موسى إلى الله تعالى، قال فرعون: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23)
ثم قال موسى: قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
[الشعراء: 24] وإنما جاءت من غير واو لأنها على تقدير سؤال كأنه قال: فما قال موسى، قال: الآية، وهلم جرا إلى آخر الآيات التى أتت من غير واو كقوله تعالى: قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
[الشعراء: 25- 31] فانظر إلى مجىء القول من غير واو على جهة الاتصال بما قبله على تقدير السؤال الذى ذكرناه، وهكذا ورد فى سورة الذاريات قال الله تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ
[الذاريات: 25] ثم قال فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27)
[الذاريات: 27] وهذا من الاختصار العجيب اللائق بالتنزيل، وثانيها: أن تكون الجملة الثانية واردة على جهة الإيضاح والبيان بالإبدال، كقوله تعالى: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
[المؤمنون: 81- 82] فالقول الأول هو الثانى، أورد على جهة الشرح والبيان، لما دل عليه الأول وقوله تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما
تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
[الشعراء: 132- 134] فانظر كيف شرح الإمداد الثانى، إيضاحا للأول وتقوية لأمره، وقوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
[يس: 20- 21] فالاتباع الثانى وارد على جهة الإيضاح، هكذا القول فى كل جملة أتت عقب أخرى على الإبدال منها، فإنها تأتى من غير واو لما ذكرناه. وثالثها: أن تكون الجملة الأولى واردة على جهة الخفاء، والمقام مقام رفع لذلك اللبس، فتأتى الجملة الثانية على جهة الكشف والإيضاح لما أبهم من قبل، ومثاله قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
[البقرة: 8] ثم قال: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
[البقرة: 9] فجرد قوله يُخادِعُونَ اللَّهَ
عن الواو، إرادة لإيضاح ما سلف من قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
ومراده أن كل ما كان قولا باللسان من غير اعتقاد فى القلب فهو خداع لا محالة، وهذه هى حالتهم فيما صدر منهم من الإيمان باللسان، وقوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ
[طه: 120] فأتى بقوله: قالَ يا آدَمُ
مجردا عن الواو، تنبيها على إيضاح الوسوسة وكشف غطاها وشرح تفاصيلها، ولو أتى بالواو لم يعط هذا المعنى لما فيها من إيهام التغاير المؤذن بعدم الكشف والإعراض عن التقرير، ورابعها: أن تكون الجملة الثانية واردة على جهة رفع التوهم عن الجملة الأولى عن أن تكون مسوقة على جهة التجوّز والسهو والنسيان، ومثاله قوله تعالى فى صدر سورة البقرة الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ
[البقرة: 1- 2] فلما كانت هذه الجملة واردة على جهة الإيضاح بأن هذا القرآن قد بلغ أعلى مراتب الكمال، وسيقت على المبالغة بإعظامه، وأنه لا رتبة فوقه، حيث صدّر السورة بالأحرف المقطعة، إشعارا ببلاغته، وجىء باسم الإشارة مع اللام تنبيها على ما تضمنته من البعد، على صفة الإغراق فى وصفه، فلما كان الأمر فيه هكذا، سبق إلى فهم السامع أن ما يرقى به من هذه السمات البالغة، إنما هى على جهة الخرف والسهو والذهول، وأنه لا حقيقة لها، أراد رفع الوهم بما عقبه من الجمل المرادفة، فلهذا وردت من غير واو، إشعارا بما ذكرناه، فقال لا رَيْبَ فِيهِ
[البقرة: 2] أى ليس أهلا لأن يكون مرتابا فيه، وأن يكون محطا للريبة ومحلّا لها، ثم أردفه بقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
[البقرة: 2] أى إنه هاد لأهل التقوى معطيا لهم حظ الهداية به، ومن هذا قوله تعالى: ما هذا بَشَراً
[يوسف: 31] ثم قال إِنْ هذا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
[يوسف: 31] فقوله: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
سيق من أجل رفع الوهم بالجملة الأولى، غير أن تكون على ظاهرها من الدلالة على الإغراق فى مدحه، ومنه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً
[لقمان: 7] فقوله كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً
إنما ورد على جهة الاتصال من غير واو، تقريرا لما سبق من الجملة الأولى من عدم السماع، وإيضاحا لها. وخامسها أن تكون الجملة الثانية واردة على إرادة قطع الوهم على ما قبلها من الجمل السابقة، ومثاله قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
[البقرة: 15] فإنما وردت من غير واو، دلالة على أن عطفها على ما تقدم من الجملة السابقة متعذر، فلهذا وردت من غير واو، رفعا لهذا التوهم وقطعا له، ويجوز أن تكون واردة على جهة الاستئناف، تنبيها على البلاغة بمطابقة محزّها ومفصلها، وإعلاما من الله تعالى بأنهم من أجل خداعهم ومكرهم مستحقون من الله تعالى غاية الخزى والنّكال، وتسجيلا عليهم بأن الله تعالى هو المتولى لذلك دون سائر المؤمنين، ونبّه بالفعل المضارع فى قوله: يَسْتَهْزِئُ
بحدوث الاستهزاء وتجدده، فأما قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)
[البقرة: 14] فإنما أتى من غير واو، لاندراجه على جهة البيان تحت قولهم: إِنَّا مَعَكُمْ
[البقرة: 14] أى إنا معكم على الموافقة على ذنبكم فى التكذيب والجحود غير مفارقين لكم مستمرين على اليهودية، وكوننا معهم ليس على جهة التصديق، إنما كان على جهة الاستهزاء والسخرية بما هم عليه من الإيمان، فبهذا يكون ورود الفصل فى كتاب الله تعالى، ولله در لطائف التنزيل، لقد أطلعت طلابها على مطالع أنوارها، وأوضحت لهم المنار، فاستضاءوا بضوء شموسه وأنوار أقمارها، وأما الوصل فهو عطف الجملة على الجملة، والمفرد على مثله، بجامع ما، وهو قد يرد لرفع الإيهام، كقولك: لا، وأيدك الله، فالواو ههنا جاءت لرفع الوهم عن أن يكون دعاء عليه فى ظاهر الأمر كما ترى، وكما يرد فى المفرد فقد يرد فى الجمل، فهذان ضربان، نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما بمعونة الله تعالى.