الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول فى بيان فصاحة القرآن
اعلم أن فصاحة القرآن وبلاغته أظهر من أن تكشف، ولا خلاف بين العقلاء فى فصاحته وبلاغته، وإنما يؤثر الخلاف: هل فى المقدور ما هو أفصح منه وأبلغ، والمختار أن فى مقدور الله ما هو أبلغ وأدخل فى الفصاحة والبلاغة، لأن خلاف ذلك يمكن، والقدرة الإلهية لا تعجز عن أبلغ منه وأوضح، وأعلا مرتبة منه، ولكنا نذكر فصاحته على جهة التأكيد والاستظهار، ولنا فى تقرير فصاحته طريقتان:
الطريقة الاولى منهما مجملة
وفيها مسالك ثلاثة:
المسلك الأول منها
هو أنا قد قررنا فيما سبق معنى البلاغة والفصاحة وحقائقهما، وأشرنا إلى بيان التفرقة بينهما، وتلك المعانى التى ذكرناها فيهما حاصلة فى القرآن، فيجب القضاء بكونه فصيحا، سواء قلنا إن الفصاحة راجعة إلى الألفاظ، والبلاغة راجعة إلى المعانى، كما هو المختار عندنا، وقد سبق تقريره، أو سواء قلنا إنهما شىء واحد يقعان على فائدة واحدة، فكل كلام فصيح فهو بليغ، وكل بليغ من الكلام فهو فصيح، فعلى جميع وجوههما فهما حاصلان فى القرآن على أوضح حصول وأكمله، فيجب القضاء بكونه فصيحا، وهذا هو المقصود من الدلالة.
المسلك الثانى
هو أنك إذا فكرت وأمعنت النظر فى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وفى كلام أمير المؤمنين، وغيرهما ممن كان معدودا فى زمرة الفصحاء وكان له منطق فى البلاغة فى المواعظ والخطب، والكلم القصيرة، ومواقع الإطناب، والاختصار فى المقامات المشهودة، والمحافل المجتمعة، وجدت القرآن متميزا عن تلك الكلمات كلها تميزا لا يتمارى فيه منصف، ولا يشتبه على من له أدنى ذوق فى معرفة بلاغة الكلام وفصاحته، وذلك التميز تارة يكون راجعا إلى ألفاظه من فصاحة أبنيتها، وعذوبة تركيب أحرفها، وسلاسة صيغها، وكونها مجانبة
للوحشى الغريب، وبعدها عن الركيك المسترذل، ألا ترى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ
[الشورى: 32] لم يقل الفلك لما فى الجرى من الإشارة إلى باهر القدرة، حيث أجراها بالريح، وهى أرق الأشياء وألطفها، فحركت ما هو أثقل الأمور وأعظمها فى الجرم، وقال: فِي الْبَحْرِ
ولم يقل فى الطّمطام، ولا فى العباب وإن كانت كلها من أسماء البحر، لكون البحر أسهل وأسلس، ثم قال: كَالْأَعْلامِ
ولم يقل كالروابى، ولا كالآكام، إيثارا للأخف الملتذ به، وعدولا عن الوحشى المستركّ، وتارة يكون راجعا إلى المعانى لإغراقها فى البلاغة ورسوخها فى أصلها، وسببها حسن النظم وجودة السبك، فمن أجل ذلك يحصل قانون البلاغة ويبدو رونقها، ولا شك أن ما هذا حاله قد حصل فى القرآن على أتم وجه وأكمله، وإن اعتاص عليك ما ذكرته من معرفة هذه الأسرار فى كتاب الله تعالى، ودق عليك تمييز بلاغة معانيه وفصاحة ألفاظه، وصعب عليك معرفة حسن التأليف منه وعجيب انتظامه وجودة سياقه، فاعمد إلى أفصح كلام تجده من غير القرآن، وقابل به أدنى سورة من سورة أو آية من آياته فى وعظ، أو وعد، أو وعيد، من تمثيل أو استعارة، أو تشبيه أو غير ذلك من أفانين الكلام وأساليبه، فإنك إذا خلعت ربقة الهوى، وسلبت عن نفسك رداء التعصب، وجدت مصداق ما قلته من ذلك، فهذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بعد كلام الله تعالى إلا كلامه، وهو أفصح من غيره من سائر الكلام، فإذا قابلت قوله تعالى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)
[العنكبوت: 64] بقوله عليه السلام، «كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب، وكأن الذى نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون» فهاهما قد اتفقا على وصف معنى واحد، وهو الموت والعود إلى الآخرة، وتصرّم الدنيا وانقضاء أحوالها وطيّها، والورود إلى الآخرة، ولكن القرآن متميز فى تحصيل هذا المعنى وتأديته، تمييزا لا يدرك بقياس، ولا يعتوره التباس، وإذا كان القرآن فائقا على كلام الرسول وكلام أمير المؤمنين، مع أنهما النهاية فى البلاغة والفصاحة فهو لغيرهما أفوق، وعلوه عليها أبلغ وأحق، وهذه طريقة مرضية فى الدلالة على فصاحة القرآن، ويتضح ذلك بمثال، وهو أن أهل بلد لو كانوا أربعين، فأرادوا مناظرة رجل واحد فاختاروا من أولئك الأربعين أربعة من كل عشرة واحدا، ثم اختاروا من تلك الأربعة رجلا واحدا، فناظر ذلك العالم، ثم إن ذلك العالم استطال عليه وقطعه وحده