الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَحصل الِاتِّفَاق على أَن يكون تَمام الْكَلَام يَوْم الْجُمُعَة
وقمنا على ذَلِك
وَقد أظهر الله من قيام الْحجَّة وَبَيَان المحجة مَا أعز الله بِهِ السّنة وَالْجَمَاعَة وأرغم بِهِ أهل الْبِدْعَة والضلالة وَفِي نفوس كثير من النَّاس أُمُور لما يحدث فِي الْمجْلس الثَّانِي
وَأخذُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّام يتأملونها ويتأملون مَا أُجِيب بِهِ فِي مسَائِل تتَعَلَّق بالاعتقاد مثل الْمَسْأَلَة الحموية فِي الاسْتوَاء وَالصِّفَات الخبرية وَغَيرهَا
فصل
فَلَمَّا كَانَ فِي الْمجْلس الثَّانِي يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة ثَانِي عشر رَجَب وَقد أحضروا أكبر شيوخهم مِمَّن لم يكن حَاضرا ذَلِك الْيَوْم وَبَحَثُوا فِيمَا بَينهم وَاتَّفَقُوا وتواطأوا وحضروا بِقُوَّة واستعداد غير مَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَن الْمجْلس الأول أَتَاهُم بَغْتَة وَإِن كَانَ أَيْضا بَغْتَة للمخاطب الَّذِي هُوَ الْمَسْئُول والمجيب والمناظر
فَلَمَّا اجْتَمَعنَا وَقد أحضرت مَا كتبته من الْجَواب على أسئلتهم الْمُتَقَدّمَة الَّتِي طلب تَأْخِيره إِلَى هَذَا الْيَوْم حمدت الله بِخطْبَة الْحَاجة خطْبَة ابْن مَسْعُود رضي الله عنه
ثمَّ قلت إِن الله أمرنَا بِالْجَمَاعَة والائتلاف ونهانا عَن الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف وَقَالَ لنا فِي الْقُرْآن {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} وَقَالَ {إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء} وَقَالَ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات} وربنا وَاحِد وَكِتَابنَا وَاحِد وَنَبِينَا وَاحِد وأصول الدّين لَا تحْتَمل التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف وَأَنا أَقُول مَا يُوجب الْجَمَاعَة بَين الْمُسلمين وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين السّلف فَإِن وَافق الْجَمَاعَة فَالْحَمْد لله وَإِلَّا فَمن خالفني بعد ذَلِك كشفت لَهُ الْأَسْرَار وهتكت الأستار وبينت الْمذَاهب الْفَاسِدَة الَّتِي أفسدت الْملَل والدول وَأَنا أذهب إِلَى سُلْطَان الْوَقْت على الْبَرِيد وأعرفه
من الْأُمُور مَالا أقوله فِي هَذَا الْمجْلس فَإِن للسلم كلَاما وللحرب كلَاما
وَقلت لَا شكّ أَن النَّاس يتنازعون فَيَقُول هَذَا أَنا حنبلي وَيَقُول هَذَا أَنا أشعري وَيجْرِي بَينهم تفرق وَاخْتِلَاف على أُمُور لَا يعْرفُونَ حَقِيقَتهَا
وَأَنا قد أحضرت مَا بَين اتِّفَاق الْمذَاهب فِيمَا ذكرته وأحضرت كتاب تَبْيِين كذب المفتري فِيمَا ينْسب الى الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ تأليف الْحَافِظ أبي الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر
وَقلت لم ينصف فِي أَخْبَار الْأَشْعَرِيّ المحمودة كتاب مثل هَذَا وَقد ذكر فِيهِ لَفظه الَّذِي ذكره فِي كتاب الْإِبَانَة
فَلَمَّا انْتَهَيْت الى ذكر الْمُعْتَزلَة سَأَلَ الْأَمِير عَن معنى الْمُعْتَزلَة
فَقلت كَانَ النَّاس فِي قديم الزَّمَان قد اخْتلفُوا فِي الْفَاسِق الملى وَهُوَ أول اخْتِلَاف حدث فِي الْملَّة هَل هُوَ كَافِر أَو مُؤمن فَقَالَت الْخَوَارِج إِنَّه كَافِر وَقَالَت الْجَمَاعَة إِنَّه مُؤمن
فَقَالَت طَائِفَة نقُول هُوَ فَاسق لَا كَافِر وَلَا مُؤمن ننزله منزلَة بَين منزلتين وخلدوه فِي النَّار واعتزلوا حَلقَة الْحسن الْبَصْرِيّ وَأَصْحَابه فسمووا معتزلة
فَقَالَ الشَّيْخ الْكَبِير بحبه ورد لَيْسَ كَمَا قلت وَلَكِن
وَأول من ابتدعها وَمَا كَانَ سَبَب ابتداعها
وَأَيْضًا فَمَا ذكره الشهرستاني لَيْسَ بِصَحِيح فِي اسْم الْمُتَكَلِّمين فَإِن الْمُتَكَلِّمين كَانُوا يسمون بِهَذَا الإسم قبل تنازعهم فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَكَانُوا يَقُولُونَ عَن وَاصل بن عَطاء إِنَّه مُتَكَلم ويصفونه بالْكلَام وَلم يكن النَّاس اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَة الْكَلَام
وَقلت أَنا وغيري إِنَّمَا هُوَ وَاصل بن عَطاء
قلت وواصل لم يكن بعد موت عَمْرو بن عبيد وَإِنَّمَا كَانَ قَرِيبه
وَقد رُوِيَ أَن واصلا تكلم مرّة بِكَلَام فَقَالَ عَمْرو بن عبيد لَو بعث نَبِي مَا كَانَ يتَكَلَّم بِأَحْسَن من هَذَا وفصاحته مَشْهُورَة حَتَّى قيل انه كَانَ ألثغ فَكَانَ يحْتَرز عَن الرَّاء حَتَّى قيل لَهُ أَمر الْأَمِير أَن يحْفر بِئْر فِي قَارِعَة الطَّرِيق فَقَالَ أوعز الْقَائِد أَن يقلب قليب فِي الجادة
قَالَ الشَّيْخ الْمُتَقَدّم فيهم لَا ريب أَن الإِمَام أَحْمد إِمَام عَظِيم الْقدر وَمن أكبر أَئِمَّة الْإِسْلَام لَكِن قد إنتسب إِلَيْهِ أنَاس ابتدعوا أَشْيَاء
فَقلت أما هَذَا فَحق وَلَيْسَ هَذَا من خَصَائِص أَحْمد بل مَا من إِمَام إِلَّا وَقد انتسب إِلَيْهِ اقوام هُوَ مِنْهُم بَرِيء قد إنتسب إِلَى مَالك
أول مَسْأَلَة إختلف فِيهَا الْمُسلمُونَ مَسْأَلَة الْكَلَام وَسمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم فِي ذَلِك وَكَانَ أول من قَالَهَا عَمْرو بن عبيد ثمَّ خَلفه بعد مَوته عَطاء بن وَاصل
هَكَذَا قَالَ وَذكر نَحوا من هَذَا
فَغضِبت عَلَيْهِ وَقلت أَخْطَأت وَهَذَا كذب مُخَالف للْإِجْمَاع
وَقلت لَهُ لَا أدب وَلَا فَضِيلَة لَا تأدبت معي فِي الْخطاب وَلَا أصبت فِي الْجَواب
ثمَّ قلت النَّاس اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَة الْكَلَام فِي خلَافَة الْمَأْمُون وَبعدهَا فِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّانِيَة وَأما الْمُعْتَزلَة فقد كَانُوا قبل ذَلِك بِكَثِير فِي زمن عَمْرو بن عبيد بعد موت الْحسن الْبَصْرِيّ فِي أَوَائِل الْمِائَة الثَّانِيَة وَلم يكن أُولَئِكَ قد تكلمُوا فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَلَا تنازعوا فِيهَا وَإِنَّمَا أول بدعتهم تكلمهم فِي مسَائِل الْأَحْكَام والأسماء والوعيد
فَقَالَ هَذَا ذكره الشهرستاني فِي كتاب الْملَل والنحل
فَقلت الشهرستاني ذكر ذَلِك فِي اسْم الْمُتَكَلِّمين لم سموا متكلمين لم يذكرهُ فِي اسْم الْمُعْتَزلَة والأمير انما سَأَلَ عَن اسْم الْمُعْتَزلَة
وَأنكر الْحَاضِرُونَ عَلَيْهِ
وَقَالَ غَلطت
وَقلت فِي ضمن كَلَامي أَنا أعلم كل بِدعَة حدثت فِي الْإِسْلَام
أنَاس مَالك بَرِيء مِنْهُم وانتسب الى الشَّافِعِي أنَاس هُوَ مِنْهُم بَرِيء وانتسب الى أبي حنيفَة أنَاس هُوَ بَرِيء مِنْهُم وَقد انتسب الى مُوسَى عليه السلام أنَاس هُوَ بَرِيء مِنْهُم وانتسب الى عِيسَى عليه السلام أنَاس هُوَ بَرِيء مِنْهُم وَقد انتسب الى عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه أنَاس هُوَ برِئ مِنْهُم وَنَبِينَا صلى الله عليه وسلم قد انتسب اليه القرامطة والباطنية وَغَيرهم من أَصْنَاف الملحدة وَالْمُنَافِقِينَ من هُوَ بَرِيء مِنْهُم
وَذكر فِي كَلَامه أَنه انتسب الى أَحْمد أنَاس من الحشوية والمشبهة وَنَحْو هَذَا الْكَلَام
فَقلت المشبهة والمجسمة فِي غير أَصْحَاب أَحْمد أَكثر مِنْهُم فيهم هَؤُلَاءِ أَصْنَاف الأكراد وَكلهمْ شافعية وَفِيهِمْ من التَّشْبِيه والتجسيم مَا لَا يُوجد فِي صنف آخر وَأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية
قلت وَأما الحنبلية الْمَحْضَة فَلَيْسَ فيهم من ذَلِك مَا فِي غَيرهم
وَكَانَ من تَمام الْجَواب أَن الكرامية المجسمة كلهم حنفية
وتكلمت على لفظ الحشوية مَا أَدْرِي جَوَابا عَن سُؤال الْأَمِير أَو غَيره أَو عَن غير جَوَاب
فَقلت هَذَا اللَّفْظ أول من ابتدعه الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم يسمون الْجَمَاعَة والسواد الْأَعْظَم الحشو كَمَا تسميهم الرافضة الْجُمْهُور
وحشو النَّاس هم عُمُوم النَّاس وجمهورهم وهم غير الْأَعْيَان المتميزين يَقُولُونَ هَذَا من حَشْو النَّاس كَمَا يُقَال هَذَا من جمهورهم
وَأول من تكلم بِهَذَا عَمْرو بن عبيد وَقَالَ كَانَ عبد الله بن عمر حشويا فالمعتزلة سموا الْجَمَاعَة حَشْوًا كَمَا تسميهم الرافضة الْجُمْهُور
وَقلت لَا أَدْرِي فِي الْمجْلس الأول أَو الثَّانِي أول من قَالَ إِن الله جسم هِشَام بن الحكم الرافضي
وَقلت لهَذَا الشَّيْخ من فِي أَصْحَاب أَحْمد من الْأَعْيَان حشوي بِالْمَعْنَى الَّذِي تريده الْأَثْرَم أَبُو دَاوُد الْمروزِي الْخلال أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز أَبُو الْحسن التَّمِيمِي ابْن حَامِد القَاضِي أَبُو يعلى أَبُو الْخطاب ابْن عقيل
وَرفعت صوتي وَقلت سمهم قل لي من هم من هم
أيكذب ابْن الْخَطِيب وافترائه على النَّاس فِي مذاهبهم تبطل الشَّرِيعَة وتندرس معالم الدّين كَمَا نقل هُوَ وَغَيره عَنْهُم أَنهم يَقُولُونَ إِن الْقُرْآن الْقَدِيم هُوَ أصوات القارئين ومداد الْكَاتِبين وَأَن الصَّوْت
والمداد قديم أزلي من قَالَ هَذَا وَفِي أَي كتاب وجد هَذَا عَنْهُم قل لي
وكما نقل عَنْهُم أَن الله لَا يرى فِي الْآخِرَة باللزوم الَّذِي ادَّعَاهُ والمقدمة الَّتِي نقلهَا عَنْهُم
وَأخذت أذكر مَا يسْتَحقّهُ هَذَا الشَّيْخ من أَنه كَبِير الْجَمَاعَة وشيخهم وَأَن فِيهِ من الْعقل وَالدّين مَا يسْتَحق أَن يُعَامل بِمُوجبِه
وَأمرت بِقِرَاءَة العقيدة جَمِيعهَا عَلَيْهِ فانه لم يكن حَاضرا فِي الْمجْلس الأول وَإِنَّمَا أحضروه فِي الثَّانِي انتصارا بِهِ
وحَدثني الثِّقَة عَنهُ بعد خُرُوجه من الْمجْلس أَنه إجتمع بِهِ وَقَالَ لَهُ أَخْبرنِي عَن هَذَا الْمجْلس
فَقَالَ مَا لفُلَان ذَنْب وَلَا لي فان الْأَمِير سَأَلَ عَن شَيْء فَأَجَابَهُ عَنهُ فظننته سَأَلَ عَن شَيْء آخر
وَقَالَ قلت لَهُم مَا لكم على الرجل اعْتِرَاض فانه نصر ترك التَّأْوِيل وَأَنْتُم تنْصرُونَ قَول التَّأْوِيل وهما قَولَانِ للأشعري
وَقَالَ أَنا أخْتَار قَول ترك التَّأْوِيل وَأخرج وَصيته الَّتِي أوصى بهَا وفيهَا قَول ترك التَّأْوِيل
قَالَ الحاكي لي فَقلت لَهُ بَلغنِي عَنْك أَنَّك قلت فِي آخر الْمجْلس لما أشهد الْجَمَاعَة على أنفسهم بالموافقة لَا تكْتبُوا عني نفيا وَلَا إِثْبَاتًا فَلم ذَاك
فَقَالَ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنِّي لم أحضر قِرَاءَة جَمِيع العقيدة فِي الْمجْلس الأول وَالثَّانِي لِأَن أَصْحَابِي طلبوني لينتصروا بِي فَمَا كَانَ يَلِيق أَن أظهر مخالفتهم فَسكت على الطَّائِفَتَيْنِ
وَأمرت غير مرّة أَن تُعَاد قِرَاءَة العقيدة جَمِيعهَا على هَذَا الشَّيْخ فَرَأى بعض الْجَمَاعَة أَن ذَلِك يطول وَأَنه لَا يقْرَأ عَلَيْهِ إِلَّا الْموضع الَّذِي لَهُم عَلَيْهِ سُؤال وأعظمه لفظ (الْحَقِيقَة) فقرأوه عَلَيْهِ
وَذكر هُوَ بحثا حسنا يتَعَلَّق بِدلَالَة اللَّفْظ فحسنته ومدحته عَلَيْهِ
وَقلت لَا ريب أَن الله حَيّ حَقِيقَة سميع حَقِيقَة بَصِير حَقِيقَة وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل السّنة والصفاتية من جَمِيع الطوائف وَلَو نَازع بعض أهل الْبدع فِي بعض ذَلِك فَلَا ريب أَن الله مَوْجُود والمخلوق مَوْجُود وَلَفظ الْوُجُود سَوَاء كَانَ مقولا عَلَيْهِمَا بطرِيق الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ فَقَط أَو بطرِيق التواطىء المتضمن للإشتراك لفظا وَمعنى أَو بالتشكيك الَّذِي هُوَ نوع من التواطىء فعلى كل قَول فَالله مَوْجُود حَقِيقَة والمخلوق مَوْجُود حَقِيقَة وَلَا يلْزم من اطلاق الإسم
على الْخَالِق والمخلوق بطرِيق الْحَقِيقَة مَحْذُور
وَلم أرجح فِي ذَلِك الْمقَام قولا من هَذِه الثَّلَاثَة على الآخر لِأَن غرضي يحصل على كل مَقْصُود
وَكَانَ مقصودي تَقْرِير مَا ذكرته على قَول جَمِيع الطوائف وَأَن أبين إتفاق السّلف وَمن تَبِعَهُمْ على مَا ذكرته وَأَن أَعْيَان الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والأشعري وأكابر أَصْحَابه على مَا ذكرته
فانه قبل الْمجْلس الثَّانِي اجْتمع بِي من أكَابِر الشَّافِعِيَّة والمنتسبين الى الأشعرية وَالْحَنَفِيَّة وَغَيرهم مِمَّن عظم خوفهم من هَذَا الْمجْلس وخافوا إنتصار الْخُصُوم فِيهِ وخافوا على نُفُوسهم أَيْضا من تفرق الْكَلِمَة فَلَو أظهرت الْحجَّة الَّتِي ينتصر بهَا مَا ذكرته أولم يكن من أَئِمَّة أَصْحَابهم من يُوَافِقهَا لَصَارَتْ فرقة ولصعب عَلَيْهِم أَن يظهروا فِي الْمجَالِس الْعَامَّة الْخُرُوج عَن أَقْوَال طوائفهم لما فِي ذَلِك من تمكن أعدائهم من أغراضهم فاذا كَانَ من أَئِمَّة مذاهبهم من يَقُول ذَلِك وَقَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ وَبَان أَنه مَذْهَب السّلف أمكنهم إِظْهَار القَوْل بِهِ مَعَ مَا يعتقدونه فِي الْبَاطِن من أَنه الْحق
حَتَّى قَالَ لي بعض الأكابر من الْحَنَفِيَّة وَقد إجتمع بِي
لَو قلت هَذَا مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل وَثَبت على ذَلِك لانقطع النزاع
ومقصوده أَنه يحصل دفع الْخُصُوم عَنْك بِأَنَّهُ مَذْهَب متبوع ويستريح الْمُنْتَصر والمنازع من إِظْهَار الْمُوَافقَة
فَقلت لَا وَالله لَيْسَ لِأَحْمَد بن حَنْبَل بِهَذَا إختصاص وَإِنَّمَا هَذَا إعتقاد سلف الْأمة وأئمة أهل الحَدِيث
وَقلت أَيْضا هَذَا إعتقاد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وكل لفظ ذكرته فَأَنا أذكر بِهِ آيَة أَو حَدِيثا أَو إِجْمَاعًا سلفيا وأذكر من ينْقل الْإِجْمَاع عَن السّلف من جَمِيع طوائف الْمُسلمين أَتبَاع الْفُقَهَاء الْأَرْبَعَة والمتكلمين وَأهل الحَدِيث والصوفية
وَقلت لمن خاطبني من أكبر الشَّافِعِيَّة لأبين أَن مَا ذكرته هُوَ قَول السّلف وَقَول أَئِمَّة أَصْحَاب الشَّافِعِي وأذكر قَول الْأَشْعَرِيّ وأئمة أَصْحَابه الَّتِي ترد على هَؤُلَاءِ الْخُصُوم ولينتصرن كل شَافِعِيّ وكل من قَالَ بقول الْأَشْعَرِيّ الْمُوَافق لمَذْهَب السّلف وَأبين أَن القَوْل المحكي عَنهُ فِي تَأْوِيل الصِّفَات الخبرية قَول لَا أصل لَهُ فِي كَلَامه وَإِنَّمَا هُوَ قَول طَائِفَة من أَصْحَابه فللأشعرية قَولَانِ لَيْسَ للأشعري قَولَانِ
فَلَمَّا ذكرت فِي الْمجْلس أَن جَمِيع أَسمَاء الله الَّتِي يُسمى بهَا الْمَخْلُوق كَلَفْظِ الْوُجُود الَّذِي هُوَ مقول بِالْحَقِيقَةِ على الْوَاجِب والممكن على الْأَقْوَال الثَّلَاثَة تنَازع كبيران هَل هُوَ مقول بالإشتراك أَو بالتواطىء
فَقَالَ أَحدهمَا هُوَ متواطىء وَقَالَ الآخر هُوَ مُشْتَرك لِئَلَّا يلْزم التَّرْكِيب
وَقَالَ هَذَا قد ذكر فَخر الدّين أَن هَذَا النزاع مَبْنِيّ على أَن وجوده هَل هُوَ عين مَا هيته أم لَا
فَمن قَالَ إِن وجود كل شَيْء عين ماهيته قَالَ إِنَّه مقول بالاشتراك وَمن قَالَ إِن وجوده قدر زَائِد على ماهيته قَالَ إِنَّه مقول بالتواطىء
فَأخذ الأول يرجح قَول من يَقُول إِن الْوُجُود زَائِد على أَن الْمَاهِيّة لينصر أَنه مقول بالتواطىء
فَقَالَ الثَّانِي لَيْسَ مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَأهل السّنة أَن وجوده عين ماهيته
فَأنْكر الأول ذَلِك
فَقلت أما متكلموا أهل السّنة فعندهم أَن وجود كل شَيْء عين ماهيته وَأما القَوْل الآخر فَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة إِن وجود كل شَيْء
قدر زَائِد على ماهيته وكل مِنْهُمَا أصَاب من وَجه فان الصَّوَاب أَن هَذِه الْأَسْمَاء مقولة بالتواطىء كَمَا قد قَرّرته فِي غير هَذَا الْموضع
وأجبت عَن شُبْهَة التَّرْكِيب بالجوابين المعروفين
وَأما بِنَاء ذَلِك على كَون وجود الشَّيْء عين ماهيته أَو لَيْسَ عينهَا فَهُوَ من الْغَلَط الْمُضَاف إِلَى ابْن الْخَطِيب فانا وَإِن قُلْنَا إِن وجود الشَّيْء عين ماهيته لَا يجب أَن يكون الإسم مقولا عَلَيْهِ وعَلى نَظِيره الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ فَقَط كَمَا فِي جَمِيع أَسمَاء الْأَجْنَاس فان إسم السوَاد مقول على هَذَا السوَاد وَهَذَا السوَاد بالتواطىء وَلَيْسَ عين هَذَا السوَاد هُوَ عين هَذَا السوَاد إِذْ الإسم دَال على الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ الْمُطلق الْكُلِّي لكنه لَا يُوجد مُطلقًا كليا بِشَرْط الاطلاق إِلَّا فِي الذِّهْن وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْأَعْيَان الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج فانه على ذَلِك تَنْتفِي الْأَسْمَاء المتواطئة وَهِي جُمْهُور الْأَسْمَاء الْمَوْجُودَة فِي اللُّغَات وَهِي أَسمَاء الْأَجْنَاس اللُّغَوِيَّة وَهُوَ الإسم الْمُطلق على الشَّيْء وعَلى كل مَا أشبهه سَوَاء كَانَ إسم عين أَو إسم صفة جَامِدا أَو مشتقا وَسَوَاء كَانَ جِنْسا منطقيا أَو فقهيا أَو لم يكن بل إسم الْجِنْس فِي اللُّغَة يدْخل فِيهِ الْأَصْنَاف والأجناس والأنواع وَنَحْو ذَلِك وَكلهَا أَسمَاء متواطئة وأعيان
مسمياتها فِي الْخَارِج متميزة
وَطلب بَعضهم إِعَادَة قِرَاءَة الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِي العقيدة ليطعن فِي بَعْضهَا
فَعرفت مَقْصُوده فَقلت كَأَنَّك إستعددت لِلطَّعْنِ فِي حَدِيث الأوعال حَدِيث الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَكَانُوا قد تعنتوا حَتَّى ظفروا بِمَا تكلم بِهِ زكي الدّين عبد الْعَظِيم من قَول البُخَارِيّ فِي تَارِيخه عبد الله بن عميرَة لَا يعرف لَهُ سَماع من الْأَحْنَف
فَقلت هَذَا الحَدِيث مَعَ أَنه رَوَاهُ أهل السّنَن كَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَغَيرهم فَهُوَ مَرْوِيّ من طَرِيقين مشهورين فالقدح فِي أَحدهمَا لَا يقْدَح فِي الآخر
فَقَالَ أَلَيْسَ مَدَاره على ابْن عميرَة وَقد قَالَ البُخَارِيّ لَا يعرف لَهُ سَماع من الْأَحْنَف
فَقلت قد رَوَاهُ إِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة فِي كتاب التَّوْحِيد الَّذِي إشترط فِيهِ أَنه لَا يحْتَج فِيهِ إِلَّا بِمَا نَقله الْعدْل عَن الْعدْل مَوْصُولا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قلت وَالْإِثْبَات مقدم على النَّفْي وَالْبُخَارِيّ إِنَّمَا نفى مَعْرفَته لسماعه من الْأَحْنَف لم ينف معرفَة النَّاس بِهَذَا فاذا عرف غَيره كإمام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة الْإِسْنَاد كَانَت مَعْرفَته وإثباته مقدما على نفي غَيره وَعدم مَعْرفَته وَوَافَقَ الْجَمَاعَة على ذَلِك
وَأخذ بعض الْجَمَاعَة يذكر من الْمَدْح مَا لَا يَلِيق أَن أحكيه
وَأخذُوا يناظرون فِي أَشْيَاء لم تكن فِي العقيدة وَلَكِن لَهَا تعلق بِمَا أجبْت بِهِ فِي مسَائِل وَلها تعلق بِمَا قد يفهمونه من العقيدة
فأحضر بعض أكابرهم كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات للبيهقي فَقَالَ هَذَا فِيهِ تَأْوِيل الْوَجْه عَن السّلف
فَقلت لَعَلَّك تَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله}
فَقَالَ نعم قد قَالَ مُجَاهِد وَالشَّافِعِيّ يَعْنِي قبْلَة الله