الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِحْضَار الشَّيْخ من سجن الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى الْقَاهِرَة
فَلَمَّا دخل السُّلْطَان النَّاصِر إِلَى مصر بعد خُرُوجه من الكرك وقدومه إِلَى دمشق وَتوجه مِنْهَا إِلَى مصر وَكَانَ قدومه إِلَيْهَا يَوْم عيد الْفطر من سنة تسع وَسَبْعمائة نفذ لإحضار الشَّيْخ من الْإسْكَنْدَريَّة فِي الْيَوْم الثَّامِن من شَوَّال
وَخرج الشَّيْخ مِنْهَا مُتَوَجها إِلَى مصر وَمَعَهُ خلق من أَهلهَا يودعونه ويسألون الله أَن يردهُ إِلَيْهِم وَكَانَ وقتا مشهودا
وَوصل إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم السبت ثامن عشر الشَّهْر
وَاجْتمعَ بالسلطان فِي يَوْم الْجُمُعَة الرَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وأكرمه وتلقاه فِي مجْلِس حفل فِيهِ قُضَاة المصريين والشاميين وَالْفُقَهَاء وَأصْلح بَينه وَبينهمْ
وَلَقَد أَخْبرنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ
أَخْبرنِي القَاضِي جمال الدّين بن القلانسي قَاضِي العساكر المنصورة فِيمَا تذاكرت أَنا وَهُوَ ذَات لَيْلَة حِين كَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين معتقلا فِي القلعة المنصورة يَعْنِي قلعة دمشق وَقد أشاع بعض الجهلة
وأرجف بعض المبغضين للسّنة بأخبار مُخْتَلفَة لَا حَقِيقَة لَهَا لَكِن وَقع فِي نفوس أَصْحَاب الشَّيْخ من ذَلِك مَا يلقيه الشَّيْطَان فِي قلب الْإِنْسَان وَمَا ذَاك إِلَّا من شدَّة الشَّفَقَة والمحبة
فَقلت لَهُ فِيمَا تحدثنا بِهِ إِن النَّاس يَقُولُونَ كَيْت وَكَيْت وَأَن الشَّيْخ رُبمَا يخرج من القلعة ويدعى عَلَيْهِ وَيُعَزر وَيُطَاف بِهِ
فَقَالَ يَا فلَان هَذَا لَا يَقع مِنْهُ شَيْء وَلَا يسمح السُّلْطَان خلد الله سعادته بِشَيْء من ذَلِك وَهُوَ أعلم بالشيخ من كل هَؤُلَاءِ وبعلمه وَدينه
ثمَّ قَالَ أخْبرك بِأَمْر عَجِيب وَقع من السُّلْطَان فِي حق الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَذَلِكَ حِين توجه السُّلْطَان إِلَى الديار المصرية وَمَعَهُ الْقُضَاة والأعيان ونائب الشأم الأفرم
فَلَمَّا دخل الديار المصرية وَعَاد إِلَى مَمْلَكَته وهرب سلار والشنكير وَاسْتقر أَمر السُّلْطَان جلسا يَوْمًا دست السلطنة وأبهة الْملك وأعيان الْأُمَرَاء من الشاميين والمصريين حضورعنده وقضاة مصر عَن يَمِينه وقضاة الشَّام عَن يسَاره وَذكر لي كَيْفيَّة جلوسهم مِنْهُ كحسب مَنَازِلهمْ قَالَ وَكَانَ من جملَة من هُنَاكَ ابْن صصرى عَن يسَار السُّلْطَان وَتَحْته الصَّدْر عَليّ قَاضِي الْحَنَفِيَّة ثمَّ بعده الْخَطِيب جلال الدّين ثمَّ بعده ابْن
الزملكاني قَالَ وَأَنا إِلَى جَانب ابْن الزملكاني وَالنَّاس جُلُوس خَلفه وَالسُّلْطَان على مقْعد مُرْتَفع فَبَيْنَمَا النَّاس على ذَلِك جُلُوس إِذْ نَهَضَ السُّلْطَان قَائِما فَقَامَ النَّاس ثمَّ مَشى السُّلْطَان فَنزل عَن تِلْكَ المقعدة وَلَا نَدْرِي مَا بِهِ وَإِذا بالشيخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية رحمه الله مقبل من الْبَاب وَالسُّلْطَان قَاصد إِلَيْهِ فَنزل السُّلْطَان عَن الإيوان وَالنَّاس قيام والقضاة والأمراء والدولة فتسالم هُوَ وَالسُّلْطَان وتكارشا وذهبا إِلَى صفة فِي ذَلِك الْمَكَان فِيهَا شباك إِلَى بُسْتَان فَجَلَسَا فِيهَا حينا ثمَّ أَقبلَا وَيَد الشَّيْخ فِي يَد السُّلْطَان فَقَامَ النَّاس وَكَانَ قد جَاءَ فِي غيبَة السُّلْطَان تِلْكَ الْوَزير فَخر الدّين بن الْخَلِيل فَجَلَسَ عَن يسَار السُّلْطَان فَوق ابْن صصرى فَلَمَّا جَاءَ السُّلْطَان جلس على مقعدته وَجَاء الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَجَلَسَ بَين يَدي السُّلْطَان على طرف مقعدته متربعا
فشرع السُّلْطَان يثني على الشَّيْخ عِنْد الْأُمَرَاء والقضاة بثناء مَا سمعته من غَيره قطّ وَقَالَ كلَاما كثيرا وَالنَّاس تَقول مَعَه وَمثله الْقُضَاة والأمراء
وَكَانَ وقتا عجيبا وَذَلِكَ مِمَّا يسوء كثيرا من الْحَاضِرين من أَبنَاء جنسه
وَقَالَ فِي الشَّيْخ من الثَّنَاء وَالْمُبَالغَة مَالا يقدر أحد من أخص أَصْحَابه أَن يَقُوله
ثمَّ إِن الْوَزير أنهى إِلَى السُّلْطَان أَن أهل الذِّمَّة قد بذلوا للديوان فِي كل سنة سَبْعمِائة ألف دِرْهَم زِيَادَة على الجالية على أَن يعودوا إِلَى لبس العمائم الْبيض المعلمة بالحمرة والصفرة والزرقة وَأَن يعفوا من هَذِه العمائم المصبغة كلهَا بِهَذِهِ الألوان الَّتِي ألزمهم بهَا ركن الدّين الشاشنكير
فَقَالَ السُّلْطَان للقضاة وَمن هُنَاكَ مَا تَقولُونَ
فَسكت النَّاس
فَلَمَّا رَآهُمْ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين سكتوا جثا على رُكْبَتَيْهِ وَشرع يتَكَلَّم مَعَ السُّلْطَان فِي ذَلِك بِكَلَام غليظ وَيرد مَا عرضه الْوَزير عَنْهُم ردا عنيفا وَالسُّلْطَان يسكته بترفق وتؤدة وتوقير
فَبَالغ الشَّيْخ فِي الْكَلَام وَقَالَ مَالا يَسْتَطِيع أحد أَن يقوم بِمثلِهِ وَلَا بقريب مِنْهُ حَتَّى رَجَعَ السُّلْطَان عَن ذَلِك وألزمهم بِمَا هم عَلَيْهِ واستمروا على هَذِه الصّفة
فَهَذِهِ من حَسَنَات الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية رحمه الله وَرَضي الله عَنهُ آمين