المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَإِذا دخل فِي هَذَا مَا كنز من المَال الْمَوْرُوث والمكسوب - العقود الدرية في مناقب ابن تيمية - ت الفقي

[ابن عبد الهادي]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌حسبي الله وَنعم الْوَكِيل

- ‌مصنفات الشَّيْخ رحمه الله

- ‌تَلْخِيص مَبْحَث

- ‌بحث ثَان جرى

- ‌صُورَة كتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌شجاعة الشَّيْخ وبأسه عِنْد قتال الْكفَّار

- ‌بحث للشَّيْخ مَعَ أحد الرافضة فِي عصمَة غير الْأَنْبِيَاء

- ‌رِسَالَة الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان الْملك النَّاصِر

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌عنوان الْكتاب ظَاهره

- ‌موقف من مَوَاقِف الشَّيْخ

- ‌إبِْطَال أهل الطر الدجالين

- ‌محنة الشَّيْخ وَقيام المبتدعين عَلَيْهِ لتأليفه الحموية

- ‌محنة الشَّيْخ بِدِمَشْق

- ‌إِحْضَار الشَّيْخ بِمَجْلِس نَائِب السلطنة ومناقشته فِي العقيدة

- ‌ملخص مَا حصل للشَّيْخ فِي تِلْكَ الْمجَالِس

- ‌فصل

- ‌كتاب السُّلْطَان بإرسال الشَّيْخ إِلَى مصر

- ‌إرْسَال الشَّيْخ كتابا من سجنه إِلَى دمشق

- ‌إِخْرَاج ابْن مهنا الشَّيْخ من الْجب

- ‌كتاب الشَّيْخ إِلَى والدته وَإِلَى غَيرهَا

- ‌كتاب آخر للشَّيْخ بَعثه من مصر إِلَى دمشق

- ‌شكوى الصُّوفِيَّة الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان وَأمره بحبسه

- ‌مَا ذكره البرزالي فِي حبس الشَّيْخ بالإسكندرية

- ‌كتاب الشَّيْخ شرف الدّين إِلَى أَخِيه بدر الدّين

- ‌إِحْضَار الشَّيْخ من سجن الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى الْقَاهِرَة

- ‌حلم الشَّيْخ وعفوه عَمَّن ظلمه

- ‌كتاب الشَّيْخ إِلَى أَقَاربه بِدِمَشْق

- ‌قيام جمَاعَة من الغوغاء على الشَّيْخ بِجَامِع مصر وضربه وَقيام أهل الحسينية وَغَيرهم انتصارا للشَّيْخ ثمَّ صفحه هُوَ عَمَّن آذوه

- ‌وَاقعَة أُخْرَى فِي أَذَى الشَّيْخ بِمصْر

- ‌خُرُوج الشَّيْخ إِلَى الشَّام مَعَ الْجَيْش الْمصْرِيّ

- ‌تَرْجَمَة الشَّيْخ عماد الدّين ابْن شيخ الحزاميين

- ‌كتاب نَفِيس جدا للشَّيْخ عماد الدّين فِي الثَّنَاء على الشَّيْخ ابْن تَيْمِية والوصاية بِهِ

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌فصل

- ‌وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فَتَاوَى الشَّيْخ بِدِمَشْق وَبَعض اختياراته الَّتِي خَالف فِيهَا الْمذَاهب الْأَرْبَعَة أَو بَعْضهَا

- ‌سجن الشَّيْخ بِسَبَب فتياه فِي الطَّلَاق

- ‌الْكَلَام على شدّ الرّحال إِلَى الْقُبُور

- ‌أَمر السُّلْطَان بِحَبْس الشَّيْخ بقلعة دمشق

- ‌الْجَواب

- ‌انتصار عُلَمَاء بَغْدَاد للشَّيْخ فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال للقبور

- ‌جَوَاب

- ‌أجَاب غَيره فَقَالَ

- ‌وَأجَاب غَيره فَقَالَ

- ‌الْحَمد لله وَهُوَ حسبي

- ‌وَفَاة الشَّيْخ رحمه الله بالقلعة وَمَا كتب بهَا قبل مَوته

- ‌وَفَاة الشَّيْخ عبد الله أخي الشَّيْخ

- ‌مُعَاملَة الشَّيْخ فِي سجنه بالقلعة

- ‌ورقة أُخْرَى مِمَّا كتبه الشَّيْخ فِي السجْن

- ‌مَا كتبه الْعلمَاء فِي وَفَاة الشَّيْخ

- ‌السُّؤَال

- ‌الْحَمد لله رب الْعَالمين…سؤالك يَا هَذَا سُؤال معاند…تخاصم رب الْعَرْش باري الْبَريَّةوَهَذَا سُؤال خَاصم الْمَلأ الْعلَا…قَدِيما بِهِ إِبْلِيس أصل البليةوَمن يَك خصما للمهيمن يرجعن…على أم رَأس هاويا فِي الحفيرةويدعى خصوم الله يَوْم معادهم…إِلَى النَّار طرا معشر

- ‌مراثى الْعلمَاء وَالشعرَاء لشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌تمّ وَالْحَمْد لله وَحده بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌تمت وَهِي إثنان وَخَمْسُونَ بَيْتا

- ‌تمت وَهِي ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ بَيْتا

- ‌تمت وَالْحَمْد لله وَحده

- ‌تمت وَهِي خَمْسَة عشر بَيْتا

- ‌تمت بِحَمْد الله وَحسن توفيق

- ‌وَله رَحْمَة الله

- ‌وَله فِيهِ أَيْضا رحمه الله وَرَضي عَنهُ

- ‌ لَئِن نافقوه وَهُوَ فِي السجْن وابتغوا…رِضَاهُ وأبدو رقة وتوددافَلَا غرو إِن ذل الْخُصُوم لِبَأْسِهِ…وَلَا عجب إِن هاب سطوته العدافَمن شِيمَة الْغَضَب المهند أَنه…يخَاف ويرجى مغمدا ومجردا

- ‌وَله أَيْضا فِيهِ يمدحه رحمه الله

- ‌ الله نشكر مُخلصين وَنَحْمَد…وَله نعظم دَائِما ونوحدوبذيله الضافي نلوذ ونلتجي…وَإِلَيْهِ نسعى مخبتين ونحفد

- ‌تمت وَالْحَمْد لله وَحده

- ‌مرثاة أُخْرَى لغيره

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌وَله أَيْضا فِيهِ رحمه الله وَرَضي عَنهُ آمين…أَبى الْيَوْم سر الْكَوْن أَن يتكتما…وصبغ مشيب الدمع أَن يتكلماوكل مصون من شجون ولوعة…بِهِ تمّ فرط الْحزن والدمع قد نماقضى وَمضى مولى سما كل ماجد…فأوحش ربع المكرمات وأظلماغمامة جود أقلعت بعد صوبها…وَبدر

- ‌قصيدة

- ‌تمت وعدتها خَمْسَة وَخَمْسُونَ بَيْتا

- ‌مرثية

- ‌تمت وَللَّه الْحَمد وَهِي خَمْسَة وَثَلَاثُونَ بَيْتا

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الفصل: وَإِذا دخل فِي هَذَا مَا كنز من المَال الْمَوْرُوث والمكسوب

وَإِذا دخل فِي هَذَا مَا كنز من المَال الْمَوْرُوث والمكسوب فَمَا كنز من الْأَمْوَال الْمُشْتَركَة الَّتِي يَسْتَحِقهَا عُمُوم الْأمة ومستحقها مصالحهم أولى وَأَحْرَى

‌فصل

فَإِذا تبين بعض معنى الْمُؤمن وَالْمُنَافِق فَإِذا قَرَأَ الْإِنْسَان سُورَة الْأَحْزَاب وَعرف من المنقولات فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه والمغازي كَيفَ كَانَت صفة الْوَاقِعَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن ثمَّ اعْتبر هَذِه الْحَادِثَة بِتِلْكَ وجد مصداق مَا ذكرنَا وَأَن النَّاس انقسموا فِي هَذِه الْحَادِثَة إِلَى الْأَقْسَام الثَّلَاثَة كَمَا انقسموا فِي تِلْكَ وَتبين لَهُ كثير من المتشابهات

افْتتح الله السُّورَة بقوله {يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ} وَذكر فِي أَثْنَائِهَا قَوْله {وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن لَهُم من الله فضلا كَبِيرا وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ} ثمَّ قَالَ {وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك من رَبك إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا}

فَأمره بِاتِّبَاع مَا أوحى إِلَيْهِ من الْكتاب وَالْحكمَة الَّتِي هِيَ سنته وَبِأَن يتوكل على الله

ص: 157

فبالأولى تحقق قَوْله {إياك نعْبد}

وبالثانية تحقق قَوْله {وَإِيَّاك نستعين}

وَمثل ذَلِك قَوْله {فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} وَقَوله {عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب}

وَهَذَا وَإِن كَانَ مَأْمُورا بِهِ فِي جَمِيع الدّين فَإِن ذَلِك فِي الْجِهَاد أوكد لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى أَن يُجَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا بتأييد قوي من الله وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَاد سَنَام الْعَمَل وانتظم سَنَام جَمِيع الْأَحْوَال الشَّرِيفَة

ص: 158

وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْر وَالْيَقِين اللَّذين هما أصل التَّوَكُّل يوجبان الْإِمَامَة فِي الدّين كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون} )

وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَاد مُوجبا للهداية الَّتِي هِيَ مُحِيطَة بِأَبْوَاب الْعلم كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا}

وَفِي الْجِهَاد أَيْضا حَقِيقَة الزّهْد فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الدَّار الدُّنْيَا وَفِيه أَيْضا حَقِيقَة الْإِخْلَاص فَإِن الْكَلَام فِيمَن جَاهد فِي سَبِيل الله لَا فِي سَبِيل لراياسة وَلَا فِي سَبِيل المَال وَلَا فِي سَبِيل الحمية وَهَذَا لَا يكون إِلَّا لمن قَاتل ليَكُون الدّين كُله لله ولتكون كلمة الله هِيَ الْعليا

وَأعظم مَرَاتِب الْإِخْلَاص تَسْلِيم النَّفس وَالْمَال للمعبود كَمَا قا تَعَالَى {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ}

وَالْجنَّة اسْم للدَّار الَّتِي حوت كل نعيم أَعْلَاهُ النّظر إِلَى الله إِلَى مَا دون ذَلِك مِمَّا تشتهيه الآنفس وتلذ الْأَعْين مِمَّا قد نعرفه

ص: 160

وَقد لَا نعرفه كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ رَسُوله صلى الله عليه وسلم أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَالا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر

فقد تبين بعض أَسبَاب افْتِتَاح هَذِه السُّورَة بِهَذَا

ثمَّ إِنَّه تَعَالَى قَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جاءتكم جنود فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا}

وَكَانَ مُخْتَصر الْقِصَّة

أَن الْمُسلمين يحزب عَلَيْهِم عَامَّة الْمُشْركين الَّذين حَولهمْ وَجَاءُوا بجموعهم إِلَى الْمَدِينَة ليستأصلوا الْمُؤمنِينَ

فاجتمعت قُرَيْش وحلفاؤها من بني أَسد وَأَشْجَع وفزارة وَغَيرهم من قبائل نجد

وَاجْتمعت أَيْضا الْيَهُود من قُرَيْظَة وَالنضير فَإِن بني النَّضِير كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل ذَلِك كَمَا ذكره الله تَعَالَى فِي سُورَة الْحَشْر فَجَاءُوا فِي الْأَحْزَاب إِلَى قُرَيْظَة وهم معاهدون للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ومجاورون لَهُ قَرِيبا من الْمَدِينَة فَلم يزَالُوا

ص: 161

حَتَّى نقضت قُرَيْظَة الْعَهْد ودخلوا فِي الْأَحْزَاب فاجتمعت هَذِه الْأَحْزَاب الْعَظِيمَة وهم بِقدر الْمُسلمين مَرَّات مُتعَدِّدَة فَرفع النَّبِي صلى الله عليه وسلم الذُّرِّيَّة من النِّسَاء وَالصبيان فِي آطام الْمَدِينَة وَهِي مثل الجواسق وَلم ينقلهم إِلَى مَوَاضِع أخر وَجعل ظهْرهمْ إِلَى سلع وَهُوَ الْجَبَل الْقَرِيب من الْمَدِينَة من نَاحيَة الغرب والشأم وَجعل بَينه وَبَين الْعَدو خَنْدَقًا والعدو قد أحَاط بهم من الْعَالِيَة والسافلة وَكَانَ عدوا شَدِيد الْعَدَاوَة لَو تمكن من الْمُؤمنِينَ لكَانَتْ نكايته فيهم أعظم النكايات

وَفِي هَذِه الْحَادِثَة تحزب هَذَا الْعَدو من مغل وَغَيرهم من أَنْوَاع التّرْك وَمن فرس ومستعربة وَنَحْوهم من أَجنَاس المرقدة وَمن

ص: 162

نَصَارَى من الأرمن وَغَيرهم وَنزل هَذَا الْعَدو بِجَانِب ديار الْمُسلمين وَهُوَ بَين الْإِقْدَام والإحجام مَعَ قلَّة من بإزائهم من الْمُسلمين ومقصودهم الِاسْتِيلَاء على الدَّار واصطلام أَهلهَا كَمَا نزل أُولَئِكَ بنواحي الْمَدِينَة بِإِزَاءِ الْمُسلمين

ودام الْحصار على الْمُسلمين عَام الخَنْدَق على مَا قيل بضعا وَعشْرين لَيْلَة وَقيل عشْرين لَيْلَة

وَهَذَا الْعَدو عبر الْفُرَات سَابِع عشر ربيع الآخر وَكَانَ أول انْصِرَافه رَاجعا عَن حلب لما رَجَعَ مقدمهم الْكَبِير قازان بِمن مَعَه يَوْم الأثنين حادي أَو ثَانِي عشر جمادي الأولى يَوْم دخل الْعَسْكَر عَسْكَر الْمُسلمين إِلَى مصر المحروسة وَاجْتمعَ بهم الدَّاعِي وخاطبهم فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَكَانَ الله سبحانه وتعالى لما ألْقى فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ مَا ألْقى من الاهتمام والعزم ألْقى فِي قُلُوب عدوهم الروع والانصراف

وَكَانَ عَام الخَنْدَق برد شَدِيد وريح شَدِيدَة مُنكرَة بهَا صرف الله الْأَحْزَاب عَن الْمَدِينَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا}

وَهَكَذَا هَذَا الْعَام أَكثر الله فِيهِ الثَّلج والمطر وَالْبرد على خلاف

ص: 163

أَكثر الْعَادَات حَتَّى كره أَكثر النَّاس ذَلِك وَكُنَّا نقُول لَهُم لَا تكْرهُوا ذَلِك فَإِن لله فِيهِ حِكْمَة وَرَحْمَة

وَكَانَ ذَلِك من أعظم الْأَسْبَاب الَّتِي صرف الله بِهِ الْعَدو فَإِنَّهُ كثر عَلَيْهِم الثَّلج والمطر وَالْبرد حَتَّى هلك من خيلهم مَا شَاءَ الله وَهلك أَيْضا مِنْهُم من شَاءَ الله وَظهر فيهم وَفِي بَقِيَّة خيلهم من الضعْف وَالْعجز بِسَبَب الْبرد والجوع مَا رَأَوْا أَنهم لَا طَاقَة لَهُم مَعَه بِقِتَال حَتَّى بَلغنِي عَن بعض كبار المقدمين فِي أَرض الشأم أَنه قَالَ لَا بيض الله وُجُوهنَا عدونا فِي الثَّلج إِلَى شعره وَنحن قعُود لَا نأخذهم

وَحَتَّى علمُوا أَنهم كَانُوا صيدا للْمُسلمين لَو يصطادونهم لَكِن فِي تَأْخِير الله اصطيادهم حِكْمَة عَظِيمَة

وَقَالَ الله فِي شَأْن الْأَحْزَاب {إِذْ جاؤوكم من فَوْقكُم وَمن أَسْفَل مِنْكُم وَإِذ زاغت الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر وتظنون بِاللَّه الظنونا هُنَالك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وزلزلوا زلزالا شَدِيدا}

وَهَكَذَا هَذَا الْعَام جَاءَ الْعَدو من ناحيتي علو الشأم وَهُوَ شمال الْفُرَات وَهُوَ قبلي الْفُرَات فزاغت الْأَبْصَار زيغا عَظِيما وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر لعظم الْبلَاء لَا سِيمَا لما استفاض الْخَبَر بانصراف

ص: 164

الْعَسْكَر إِلَى مصر وتقرب الْعَدو وتوجهه إِلَى دمشق وَظن النَّاس بِاللَّه الظنونا

هَذَا يظنّ أَنه لَا يقف قدامهم أحد من جند الشأم حَتَّى يصطلموا أهل الشَّام

وَهَذَا يظنّ أَنهم لَو وقفُوا لكسروهم كسرة وَأَحَاطُوا بهم إحاطة الهالة بالقمر

وَهَذَا يظنّ أَن أَرض الشأم مَا بقيت تسكن وَلَا بقيت تكون تَحت مملكة الْإِسْلَام

وَهَذَا يظنّ أَنهم يأخذونها ثمَّ يذهبون إِلَى مصر فيستولون عَلَيْهَا فَلَا يقف قدامهم أحد فَيحدث نَفسه بالفرار إِلَى الْيمن وَنَحْوهَا

وَهَذَا إِذا أحسن ظَنّه قَالَ إِنَّهُم يملكونها الْعَام كَمَا ملكوها عَام هولاكو سنة سبع وَخمسين ثمَّ قد يخرج الْعَسْكَر من مصر فيستنقذها مِنْهُم كَمَا خرج ذَلِك الْعَام وهذ ظن خيارهم

وَهَذَا يظنّ أَن مَا أخبرهُ بِهِ أهل الْآثَار النَّبَوِيَّة وَأهل التحديث والمبشرات أماني كَاذِبَة وخرافات لاغية

وَهَذَا قد استولى عَلَيْهِ الرعب والفزع حَتَّى يمر الظَّن بفؤاده مر السَّحَاب لَيْسَ لَهُ عقل يتفهم وَلَا لِسَان يتَكَلَّم

ص: 165

وَهَذَا قد تَعَارَضَت عِنْده الإمارات وتقابلت عِنْده الإرادات لَا سِيمَا وَهُوَ لَا يفرق من الْمُبَشِّرَات بَين الصَّادِق والكاذب وَلَا يُمَيّز فِي التحديث بَين المخطىء والصائب وَلَا يعرف النُّصُوص الأثرية معرفَة الْعلمَاء بل إِمَّا أَن يكون جَاهِلا بهَا وَقد سَمعهَا سَماع العبر ثمَّ قد لَا يتفطن لوجوه دلالتها الْخفية وَلَا يَهْتَدِي لدفع مَا يتخيل أَنه معَارض لَهَا فِي بادىء الرُّؤْيَة

فَلذَلِك استولت الْحيرَة على من كَانَ متسما بالاهتداء وتراجمت بِهِ الآراء تراجم الصّبيان بالحصباء هُنَالك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وزلزلوا زلزالا شَدِيدا ابْتَلَاهُم الله بِهَذَا الِابْتِلَاء الَّذِي يكفر بِهِ خطيئاتهم وَيرْفَع بِهِ درجاتهم وزلزلوا بِمَا يحصل لَهُم من الرجفات مَا استوجبوا بِهِ أَعلَى الدَّرَجَات

قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض مَا وعدنا الله وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا}

وَهَكَذَا قَالُوا فِي هَذِه الْفِتْنَة فِيمَا وعدهم أهل الوراثة النَّبَوِيَّة والخلافة الرسالية وحزب الله المحدثون عَنهُ حَتَّى حصل لهَؤُلَاء التأسي برَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة}

ص: 166

فَأَما المُنَافِقُونَ فقد مضى التَّنْبِيه عَلَيْهِم

وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فقد تكَرر ذكرهم فِي هَذِه السُّورَة فَذكرُوا هُنَا وَفِي قَوْله {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة} وَفِي قَوْله {فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض}

وَذكر الله مرض الْقلب فِي مَوَاضِع فَقَالَ تَعَالَى {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض غر هَؤُلَاءِ دينهم}

وَالْمَرَض فِي الْقلب كالمرض فِي الْجَسَد فَكَمَا أَن هَذَا هُوَ إِحَالَة عَن الصِّحَّة والاعتدال من غير موت فَكَذَلِك قد يكون فِي الْقلب مرض يحيله عَن الصِّحَّة والاعتدال من غير أَن يَمُوت الْقلب سَوَاء أفسد إحساس الْقلب وإدراكه أَو أفسد عمله وحركته

وَذَلِكَ كَمَا فسروه هُوَ من ضعف الْإِيمَان إِمَّا بِضعْف علم الْقلب واعتقاده وَإِمَّا بِضعْف عمله وحركته فَيدْخل فِيهِ من ضعف تَصْدِيقه وَمن غلب عَلَيْهِ الْجُبْن والفزع فَإِن أدواء الْقلب من الشَّهْوَة الْمُحرمَة والحسد والجبن وَالْبخل وَغير ذَلِك كلهَا أمراض وَكَذَلِكَ الْجَهْل والشكوك والشبهات الَّتِي فِيهِ

وعَلى هَذَا قَوْله {فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض} هُوَ إِرَادَة الْفُجُور

ص: 167

وشهوة الزِّنَا كَمَا فسروه بِهِ وَمِنْه قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأي دَاء أدوى من الْبُخْل

وَقد جعل الله تَعَالَى كِتَابه شِفَاء لما فِي الصُّدُور

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا شِفَاء العي بالسؤال

وَكَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من مُنكرَات الْأَخْلَاق والأهواء والأدواء

وَلنْ يخَاف الرجل غير الله إِلَّا لمَرض فِي قلبه

كَمَا ذكرُوا أَن رجلا شكا إِلَى احْمَد بن حَنْبَل خَوفه من بعض الْوُلَاة فَقَالَ لَو صححت لم تخف أحدا أَي خوفك من أجل زَوَال الصِّحَّة من قَلْبك

وَلِهَذَا أوجب الله على عباده أَن لَا يخَافُوا حزب الشَّيْطَان بل لَا يخَافُونَ غَيره تَعَالَى فَقَالَ {إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَان يخوف أولياءه فَلَا تخافوهم وخافون إِن كُنْتُم مُؤمنين} أَي يخوفكم أولياءه

وَقَالَ لعُمُوم بني إِسْرَائِيل تَنْبِيها لنا {وإياي فارهبون}

ص: 168

أَنَّهَا كَانَت غرُورًا لَهُم كَمَا وَقع فِي حادثتنا هَذِه سَوَاء

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب لَا مقَام لكم فَارْجِعُوا}

وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد عَسْكَر بِالْمُسْلِمين عِنْد سلع وَجعل الخَنْدَق بَينه وَبَين الْعَدو فَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم لَا مقَام لكم هُنَا لِكَثْرَة الْعَدو فَارْجِعُوا إِلَى الْمَدِينَة

وَقيل لَا مقَام لكم على دين مُحَمَّد فَارْجِعُوا إِلَى دين الشّرك

ص: 170

وَقيل لَا مقَام لكم على الْقِتَال فَارْجِعُوا إِلَى الاستئمان والاستجارة بهم وَهَكَذَا لما قدم هَذَا الْعَدو كَانَ من الْمُنَافِقين من قَالَ مَا بقيت الدولة الإسلامية تقوم فَيَنْبَغِي الدُّخُول فِي دولة التتار وَقَالَ بعض الْخَاصَّة مَا بقيت أَرض الشَّام تسكن بل ننتقل عَنْهَا إِمَّا إِلَى الْحجاز واليمن وَإِمَّا إِلَى مصر وَقَالَ بَعضهم بل الْمصلحَة الاستسلام لهَؤُلَاء كَمَا قد استسلم لَهُم أهل الْعرَاق وَالدُّخُول تَحت حكمهم فَهَذِهِ المقالات الثَّلَاث قد قيلت فِي هَذِه النَّازِلَة كَمَا قيلت فِي تِلْكَ وَهَكَذَا قَالَ طَائِفَة من الْمُنَافِقين وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض لأهل دمشق خَاصَّة والشأم عَامَّة لَا مقَام لكم بِهَذِهِ الأَرْض

وَنفى الْمقَام بهَا أبلغ من نفي الْمقَام وَإِن كَانَت قد قُرِئت بِالضَّمِّ أَيْضا فَإِن من لم يقدر أَن يقوم بِالْمَكَانِ فَكيف يُقيم بِهِ

ص: 171

قَالَ الله تَعَالَى {ويستأذن فريق مِنْهُم النَّبِي يَقُولُونَ إِن بُيُوتنَا عَورَة وَمَا هِيَ بِعَوْرَة إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}

كَانَ قوم من هَؤُلَاءِ المذمومين يَقُولُونَ وَالنَّاس مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عِنْد سلع دَاخل الخَنْدَق وَالنِّسَاء وَالصبيان فِي آطام الْمَدِينَة يَا رَسُول الله إِن بُيُوتنَا عَورَة أَي مكشوفة فَلَيْسَ بَينهَا وَبَين الْعَدو حَائِل

وأصل الْعَوْرَة الْخَالِي الَّذِي يحْتَاج إِلَى حفظ وَستر يُقَال أَعور مجلسك إِذا ذهب ستره أَو سقط جِدَاره وَمِنْه عَورَة الْعَدو

وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحسن أَي ضائعة يخْشَى عَلَيْهَا السراق وَقَالَ قَتَادَة قَالُوا بُيُوتنَا مِمَّا يَلِي الْعَدو فَلَا نَأْمَن على أهلنا فائذن لنا أَن نَذْهَب إِلَيْهَا لحفظ النِّسَاء وَالصبيان

قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا هِيَ بِعَوْرَة} لِأَن الله يحفظها {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} فهم يقصدون الْفِرَار من الْجِهَاد ويحتجون بِحجَّة العائلة

وَهَكَذَا أصَاب كثيرا من النَّاس فِي هَذِه الْغُزَاة صَارُوا يفرون من الثغر إِلَى المعاقل والحصون وَإِلَى الْأَمَاكِن الْبَعِيدَة كمصر وَيَقُولُونَ

ص: 172

مَا مقصودنا إِلَّا حفظ الْعِيَال وَمَا يُمكن إرسالهم مَعَ غَيرنَا وهم يكذبُون فقد كَانَ يُمكنهُم جعلهم فِي حصن دمشق لودنا الْعَدو كَمَا فعل الْمُسلمُونَ على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقد كَانَ يُمكنهُم إرسالهم وَالْمقَام للْجِهَاد فَكيف بِمن فر بعد إرْسَال عِيَاله

قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو دخلت عَلَيْهِم من أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها وَمَا تلبثوا بهَا إِلَّا يَسِيرا} فَأخْبر أَنه لَو دخلت عَلَيْهِم الْمَدِينَة من جوانبها ثمَّ طلبت مِنْهُم الْفِتْنَة وَهِي الافتنان عَن الدّين بالْكفْر أَو النِّفَاق لأعطوا الْفِتْنَة ولجاءوها من غير توقف

وَهَذِه حَال أَقوام لَو دخل عَلَيْهِم هَذَا الْعَدو الْمُنَافِق المجرم ثمَّ طلب مِنْهُم مُوَافَقَته على مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْخُرُوج عَن شَرِيعَة الْإِسْلَام وَتلك فتْنَة عَظِيمَة لكانوا مَعَه على ذَلِك كَمَا ساعدهم فِي الْعَام الْمَاضِي أَقوام بأنواع من الْفِتْنَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا مَا بَين ترك وَاجِبَات وَفعل مُحرمَات إِمَّا فِي حق الله وَإِمَّا فِي حق الْعباد كَتَرْكِ الصَّلَاة وَشرب الْخُمُور وَسَب السّلف وَسَب جنود الْمُسلمين والتجسس لَهُم على الْمُسلمين ودلالتهم على أَمْوَال الْمُسلمين وحريمهم وَأخذ أَمْوَال النَّاس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة وإرجاف قُلُوب الْمُسلمين مِنْهُم إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع الْفِتْنَة

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد كَانُوا عَاهَدُوا الله من قبل لَا يولون الأدبار وَكَانَ عهد الله مسؤولا}

ص: 173

وَهَذِه حَال أَقوام عَاهَدُوا ثمَّ نكثوا قَدِيما وحديثا فِي هَذِه الْغَزْوَة

فَإِن فِي الْعَام الْمَاضِي وَفِي هَذَا الْعَام فِي أول الْأَمر كَانَ من أَصْنَاف النَّاس من عَاهَدَ على أَن يُقَاتل وَلَا يفر ثمَّ فر مُنْهَزِمًا لما اشْتَدَّ الْأَمر

ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى {قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا} فَأخْبر الله أَن الْفِرَار لَا ينفع لَا من الْمَوْت وَلَا من الْقَتْل فالفرار من الْمَوْت كالفرار من الطَّاعُون

وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا وَقع بِأَرْض وَأَنْتُم بهَا فَلَا تخْرجُوا فِرَارًا مِنْهُ والفرار من الْقَتْل كالفرار من الْجِهَاد

وحرف لن يَنْفِي الْفِعْل فِي الزَّمن الْمُسْتَقْبل وَالْفِعْل نكرَة والنكرة فِي سِيَاق النَّفْي تعم جَمِيع أفرادها

فَاقْتضى ذَلِك أَن الْفِرَار من الْمَوْت أَو الْقَتْل لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة أبدا وَهَذَا خبر الله الصَّادِق فَمن اعْتقد أَن ذَلِك يَنْفَعهُ فقد كذب الله فِي خَبره

ص: 174

والتجربة تدل على مثل مَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن فَإِن هَؤُلَاءِ الَّذين فروا فِي هَذَا الْعَام لم يَنْفَعهُمْ فرارهم بل خسروا الدّين وَالدُّنْيَا وتفاوتوا فِي المصائب والمرابطون الثابتون نفعهم ذَلِك فِي الدّين وَالدُّنْيَا حَتَّى الْمَوْت الَّذِي فروا مِنْهُ كثر فيهم وَقل فِي المقيمين فَمَاتَ مَعَ الْهَرَب من شَاءَ الله والطالبون لِلْعَدو والمعاقبون لَهُ لم يمت مِنْهُم أحد وَلَا قتل بل الْمَوْت قل فِي الْبَلَد من حِين خرج الفارون وَهَكَذَا سنة الله قَدِيما وحديثا

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا} يَقُول لَو كَانَ الْفِرَار ينفعكم لم ينفعكم إِلَّا حَيَاة قَليلَة ثمَّ تموتون فَإِن الْمَوْت لَا بُد مِنْهُ

وَقد حكى عَن بعض الحمقى أَنه قَالَ فَنحْن نُرِيد ذَلِك الْقَلِيل وَهَذَا جهل مِنْهُ بِمَعْنى الْآيَة فَإِن الله لم يقل إِنَّهُم يتمتعون بالفرار قَلِيلا لكنه ذكر أَنه لَا مَنْفَعَة فِيهِ أبدا

ثمَّ ذكر جَوَابا ثَانِيًا أَنه لَو كَانَ ينفع لم يكن فِيهِ إِلَّا مَتَاع قَلِيل

ثمَّ إِنَّه ذكر جَوَابا ثَالِثا وَهُوَ أَن الفار يَأْتِيهِ مَا قضي لَهُ من الْمضرَّة وَيَأْتِي الثَّابِت مَا قضي لَهُ من المسرة فَقَالَ {قل من ذَا الَّذِي يعصمكم من الله إِن أَرَادَ بكم سوءا أَو أَرَادَ بكم رَحْمَة وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا}

ص: 175

وَنَظِيره قَوْله فِي سِيَاق آيَات الْجِهَاد {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة} وَقَوله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين كفرُوا وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزى لَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا ليجعل الله ذَلِك حسرة فِي قُلُوبهم وَالله يحيي وَيُمِيت وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير}

فمضمون الْأَمر أَن المنايا محتومة فكم مِمَّن حضر الصُّفُوف فَسلم وَكم مِمَّن فر من الْمنية فصادفته كَمَا قَالَ خَالِد بن الْوَلِيد لما احْتضرَ لقد حضرت كَذَا وَكَذَا صفا وَإِن ببدني بضعا وَثَمَانِينَ مَا بَين ضَرْبَة بِسيف وطعنة بِرُمْح ورمية بِسَهْم وهأنذا أَمُوت على فِرَاشِي كَمَا يَمُوت العنز فَلَا قرت أعين الْجُبَنَاء

ص: 176

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {قد يعلم الله المعوقين مِنْكُم والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا}

قَالَ الْعلمَاء كَانَ من الْمُنَافِقين من يرجع من الخَنْدَق فَيدْخل الْمَدِينَة فَإِذا جَاءَهُم أحد قَالُوا لَهُ وَيحك اجْلِسْ فَلَا تخرج ويكتبون بذلك إِلَى إخْوَانهمْ الَّذين بالعسكر أَن ائتونا بِالْمَدِينَةِ فَإنَّا ننتظركم يثبطونهم عَن الْقِتَال وَكَانُوا لَا يأْتونَ الْعَسْكَر إِلَّا أَن لَا يَجدوا بدا فَيَأْتُونَ الْعَسْكَر ليرى النَّاس وُجُوههم فَإِذا غفل عَنْهُم عَادوا إِلَى الْمَدِينَة فَانْصَرف بَعضهم من عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَوجدَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأمه وَعِنْده شواء ونبيذ فَقَالَ أَنْت هَهُنَا وَرَسُول الله صلى الله

ص: 177

عَلَيْهِ وَسلم بَين الرماح وَالسُّيُوف فَقَالَ هَلُمَّ إِلَيّ فقد أحيط بك وبصاحبك

فوصف المثبطين عَن الْجِهَاد وهم صنفان بِأَنَّهُم إِمَّا أَن يَكُونُوا فِي بلد الْغُزَاة أَو فِي غَيره فَإِن كَانُوا فِيهِ عوقوهم عَن الْجِهَاد بالْقَوْل أَو بِالْعَمَلِ أَو بهما وَإِن كَانُوا فِي غَيره راسلوهم أَو كاتبوهم بِأَن يخرجُوا إِلَيْهِم من بلد الْغُزَاة ليكونوا مَعَهم بالحصون أَو بالبعد كَمَا جرى فِي هَذِه الْغُزَاة

فَإِن أَقْوَامًا فِي الْعَسْكَر وَالْمَدينَة وَغَيرهَا صَارُوا يعوقون من أَرَادَ الْغَزْو وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون أَو غَيرهَا إِلَى إخْوَانهمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا

قَالَ الله تَعَالَى فيهم {وَلَا يأْتونَ الْبَأْس إِلَّا قَلِيلا أشحة عَلَيْكُم} أَي بخلاء عَلَيْكُم بِالْقِتَالِ مَعكُمْ وَالنَّفقَة فِي سَبِيل الله وَقَالَ مُجَاهِد بخلاء عَلَيْكُم بِالْخَيرِ وَالظفر وَالْغنيمَة

وَهَذِه حَال من بخل على الْمُؤمنِينَ بِنَفسِهِ وَمَاله أَو شح عَلَيْهِم

ص: 178

بِفضل الله من نَصره ورزقه الَّذِي يجريه بِفعل غَيره فَإِن أَقْوَامًا يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بِمَعْرُوف الله وفضله وهم الحساد

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ الْخَوْف رَأَيْتهمْ ينظرُونَ إِلَيْك تَدور أَعينهم كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ من الْمَوْت} من شدَّة الرعب الَّذِي فِي قُلُوبهم يشبهون الْمغمى عَلَيْهِ وَقت النزع فَإِنَّهُ يخَاف وَيذْهل عقله ويشخص بَصَره وَلَا يطرف فَكَذَلِك هَؤُلَاءِ لأَنهم يخَافُونَ الْقَتْل {فَإِذا ذهب الْخَوْف سلقوكم بألسنة حداد}

وَيُقَال فِي اللُّغَة صلقوكم وَهُوَ رفع الصَّوْت بالْكلَام المؤذي وَمِنْه الصالقة وَهِي الَّتِي ترفع صَوتهَا بالمصيبة يُقَال صلقه وسلقه وَقد قَرَأَ طَائِفَة من السّلف بهَا لَكِنَّهَا خَارِجَة عَن الْمُصحف إِذا خاطبه خطابا شَدِيدا قَوِيا وَيُقَال خطيب مسلاق إِذا كَانَ بليغا فِي خطبَته لَكِن الشدَّة هُنَا فِي الشَّرّ لَا فِي الْخَيْر كَمَا قَالَ بألسنة حداد (أشحة على الْخَيْر) وَهَذَا السلق بالألسنة الحادة

وَهَذَا يكون بِوُجُوه تَارَة يَقُول المُنَافِقُونَ للْمُؤْمِنين هَذَا الَّذِي جرى علينا بشؤمكم فَإِنَّكُم أَنْتُم الَّذين دعوتم النَّاس إِلَى هَذَا الدّين وقاتلتم عَلَيْهِ وخالفتموهم فَإِن هَذَا مقَالَة الْمُنَافِقين للْمُؤْمِنين من الصَّحَابَة

وَتارَة يَقُولُونَ أَنْتُم الَّذين أشرتم علينا بالْمقَام هُنَا والثبات بِهَذَا

ص: 179

الثغر إِلَى هَذَا الْوَقْت وَإِلَّا فَلَو كُنَّا سافرنا قبل هَذَا لما أَصَابَنَا هَذَا

وَتارَة يَقُولُونَ أَنْتُم مَعَ قلتكم وضعفكم تُرِيدُونَ أَن تكسروا الْعَدو وَقد غركم دينكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض غر هَؤُلَاءِ دينهم وَمن يتوكل على الله فَإِن الله عَزِيز حَكِيم}

وَتارَة يَقُولُونَ أَنْتُم مجانين لَا عقل لكم تُرِيدُونَ أَن تهلكوا أَنفسكُم وَالنَّاس مَعكُمْ

وَتارَة يَقُولُونَ أنواعا من الْكَلَام المؤذي الشَّديد وهم مَعَ ذَلِك أشحة على الْخَيْر أَي حراص على الْغَنِيمَة وَالْمَال الَّذِي قد حصل لكم

قَالَ قَتَادَة إِن كَانَ وَقت قسْمَة الْغَنِيمَة بسطوا ألسنتهم فِيكُم يَقُولُونَ أعطونا فلستم بِأَحَق بهَا منا افأما عِنْد الْبَأْس فأجبن قوم وأخذلهم للحق وَأما عِنْد الْغَنِيمَة فأشح قوم

وَقيل أشحة على الْخَيْر أَي بخلاء بِهِ لَا ينفعون لَا بنفوسهم وَلَا بِأَمْوَالِهِمْ

وأصل الشُّح شدَّة الْحِرْص الَّذِي يتَوَلَّد عَنهُ الْبُخْل وَالظُّلم من منع الْحق وَأخذ الْبَاطِل كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إيَّاكُمْ وَالشح فَإِن الشُّح أهلك من كَانَ قبلكُمْ أَمرهم بالبخل فبخلوا

ص: 180

وَأمرهمْ بالظلم فظلموا وَأمرهمْ بالقطيعة فَقطعُوا

فَهَؤُلَاءِ أشحاء على إخْوَانهمْ أَي بخلاء عَلَيْهِم وأشحاء على الْخَيْر أَي حراص عَلَيْهِ فَلَا ينفقونه كَمَا قَالَ {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد}

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {يحسبون الْأَحْزَاب لم يذهبوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَاب يودوا لَو أَنهم بادون فِي الْأَعْرَاب يسْأَلُون عَن أنبائكم وَلَو كَانُوا فِيكُم مَا قَاتلُوا إِلَّا قَلِيلا}

فوصفهم بِثَلَاثَة أَوْصَاف

أَحدهَا أَنهم لفرط خوفهم يحسبون الْأَحْزَاب لم ينصرفوا عَن الْبَلَد وَهَذِه حَال الجبان الَّذِي فِي قلبه مرض فَإِن قلبه يُبَادر إِلَى تَصْدِيق الْخَبَر الْمخوف وَتَكْذيب خبر الْأَمْن

الْوَصْف الثَّانِي أَن الْأَحْزَاب إِذا جَاءُوا تمنوا أَن لَا يَكُونُوا بَيْنكُم بل يكونُونَ فِي الْبَادِيَة بَين الْأَعْرَاب يسْأَلُون عَن أنبائكم إيش خبر الْمَدِينَة وإيش جرى للنَّاس

وَالْوَصْف الثَّالِث أَن الْأَحْزَاب إِذا أَتَوا وهم فِيكُم لم يقاتلوا إِلَّا قَلِيلا

ص: 181

وَهَذِه الصِّفَات الثَّلَاث منطبقة على كثير من النَّاس فِي هَذِه الْغَزْوَة كَمَا يعرفونه من أنفسهم ويعرفه مِنْهُم من خبرهم

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا}

فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن الَّذين يبتلون بالعدو كَا ابْتُلِيَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلهم فِيهِ أُسْوَة حَسَنَة حَيْثُ أَصَابَهُم مثل مَا أَصَابَهُ فليتأسوا بِهِ فِي التَّوَكُّل وَالصَّبْر وَلَا يظنون أَن هَذِه نقم لصَاحِبهَا وإهانة لَهُ فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك مَا ابْتُلِيَ بهَا خير الْخَلَائق بل بهَا ينَال الدَّرَجَات الْعَالِيَة وَبهَا يكفر الله الْخَطَايَا لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا وَإِلَّا فقد يبتلى بذلك من لَيْسَ كَذَلِك فَيكون فِي حَقه عذَابا كالكفار وَالْمُنَافِقِينَ

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَلما رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب قَالُوا هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله وَرَسُوله وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما}

قَالَ الْعلمَاء كَانَ الله قد أنزل فِي سُورَة الْبَقَرَة {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله أَلا إِن نصر الله قريب} فَبين الله سُبْحَانَهُ مُنْكرا على من حسب خلاف ذَلِك أَنهم لَا يدْخلُونَ الْجنَّة إِلَّا بعد أَن يبتلوا

ص: 182

مثل هَذِه الْأُمَم قبلهم بالبأساء وَهِي الْحَاجة والفاقة وَالضَّرَّاء وَهِي الوجع وَالْمَرَض والزلزال وَهِي زَلْزَلَة الْعَدو

فَلَمَّا جَاءَ الْأَحْزَاب عَام الخَنْدَق فرأوهم قَالُوا {هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله وَرَسُوله} وَعَلمُوا أَن الله قد ابْتَلَاهُم بالزلزال وأتاهم مثل الَّذين خلوا من قبلهم وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما لحكم الله وَأمره

وَهَذِه حَال أَقوام فِي هَذِه الْغَزْوَة قَالُوا ذَلِك

وَكَذَلِكَ قَوْله {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه} أَي عَهده الَّذِي عَاهَدَ الله عَلَيْهِ فقاتل حَتَّى قتل أَو عَاشَ

والنحب النّذر والعهد وَأَصله من النحيب وَهُوَ الصَّوْت وَمِنْه الانتحاب فِي الْبكاء وَهُوَ الصَّوْت الَّذِي تكلم بِهِ فِي الْعَهْد

ثمَّ لما كَانَ عَهدهم هُوَ نذرهم الصدْق فِي اللِّقَاء وَمن صدق فِي اللِّقَاء فقد يقتل صَار يفهم من قَوْله {قضى نحبه} أَنه اسْتشْهد لَا سِيمَا إِذا كَانَ النحب نذر الصدْق فِي جَمِيع المواطن فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيه إِلَّا بِالْمَوْتِ وَقَضَاء النحب هُوَ الْوَفَاء بالعهد كَمَا قَالَ {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه} أَي أكمل الْوَفَاء وَذَلِكَ لمن كَانَ عَهده مُطلقًا بِالْمَوْتِ اَوْ الْقَتْل

ص: 183

{وَمِنْهُم من ينْتَظر} قَضَاءَهُ إِذا كَانَ قد وفى الْبَعْض فَهُوَ ينْتَظر تَمام الْعَهْد

وأصل الْقَضَاء الْإِتْمَام والإكمال {ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما}

بَين الله سُبْحَانَهُ أَنه أَتَى بالأحزاب ليجزي الصَّادِقين بصدقهم حَيْثُ صدقُوا فِي إِيمَانهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون}

فحصر الْإِيمَان فِي الْمُؤمنِينَ الْمُجَاهدين وَأخْبر انهم هم الصادقون فِي قَوْلهم آمنا لَا من قَالَ كَمَا قَالَت الْأَعْرَاب آمنا وَالْإِيمَان لم يدْخل فِي قُلُوبهم بل انقادوا واستسلموا

وَأما المُنَافِقُونَ فهم بَين امرين إِمَّا أَن يعذبهم وَإِمَّا أَن يَتُوب عَلَيْهِم فَهَذَا حَال النَّاس فِي الخَنْدَق وَفِي هَذِه الْغَزْوَة

وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى ابتلى النَّاس بِهَذِهِ الْفِتْنَة ليجزي المصادقين بصدقهم وهم الثابتون الصَّابِرُونَ لينصروا الله وَرَسُوله ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم

ص: 184

وَنحن نرجو من الله أَن يَتُوب على خلق كثير من هَؤُلَاءِ المذمومين فَإِن مِنْهُم من نَدم وَالله سُبْحَانَهُ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات وَقد فتح الله للتَّوْبَة بَابا من قبل الْمغرب عرضه أَرْبَعُونَ سنة لَا يغلقه حَتَّى تطلع الشَّمْس من قبله

وَقد ذكر أهل الْمَغَازِي مِنْهُم ابْن اسحق أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الخَنْدَق الْآن نغزوهم وَلَا يغزونا فَمَا غزت قُرَيْش وَلَا غطفان وَلَا الْيَهُود الْمُسلمين بعْدهَا بل غزاهم الْمُسلمُونَ ففتحوا خَيْبَر ثمَّ فتحُوا مَكَّة

كَذَلِك إِن شَاءَ الله هَؤُلَاءِ الْأَحْزَاب من الْمغل وأصناف التّرْك وَمن الْفرس والمستعربة وَالنَّصَارَى وَنَحْوهم من أَصْنَاف الخارجين عَن شَرِيعَة الْإِسْلَام الْآن نغزوهم وَلَا يغزونا وَيَتُوب الله على من شَاءَ من الْمُسلمين الَّذين خالط قُلُوبهم مرض أَو نفاق بِأَن ينيبوا إِلَى رَبهم

ص: 185

وَيحسن ظنهم فِي الْإِسْلَام وتقوى عزيمتهم على جِهَاد عدوهم

فقد أَرَاهُم الله من الْآيَات مَا فِيهِ عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار كَمَا قَالَ {ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم لم ينالوا خيرا وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ الله قَوِيا عَزِيزًا}

فان الله صرف الْأَحْزَاب عَام الخَنْدَق بِمَا أرسل عَلَيْهِم من ريح الصِّبَا ريح شَدِيدَة بَارِدَة وَبِمَا فرق بِهِ بَين قُلُوبهم حَتَّى شتت شملهم وَلم ينالوا خيرا إِذْ كَانَ هَمهمْ فتح الْمَدِينَة والاستيلاء على الرَّسُول وَالصَّحَابَة كَمَا كَانَ هم هَذَا الْعَدو فتح الشَّام والاستيلاء على من بهَا من الْمُؤمنِينَ فردهم الله بغيظهم حَيْثُ أَصَابَهُم من الثَّلج الْعَظِيم وَالْبرد الشَّديد وَالرِّيح العاصف والجوع المزعج مَا الله بِهِ عليم

وَقد كَانَ بعض النَّاس يكره تِلْكَ الثلوج والأمطار الْعَظِيمَة الَّتِي وَقعت فِي هَذَا الْعَام حَتَّى طلبُوا الاستصحاء غير مرّة وَكُنَّا نقُول لَهُم هَذَا فِيهِ خيرة عَظِيمَة وَفِيه لله حِكْمَة وسر فَلَا تكرهوه فَكَانَ من حكمته أَنه فِيمَا قيل أصَاب قازان وَجُنُوده حَتَّى أهلكهم وَهُوَ كَانَ فِيمَا قيل سَبَب رحيلهم وابتلي بِهِ الْمُسلمُونَ ليتبين من يصبر على

ص: 186

أَمر الله وَحكمه مِمَّن يفر عَن طَاعَته وَجِهَاد عدوه

وَكَانَ مبدأ رحيل قازان فِيمَن مَعَه من ارْض الشأم وأراضي حلب يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشر جمادي الأولى يَوْم دخلت مصر عقيب الْعَسْكَر وَاجْتمعت بالسلطان وأمراء الْمُسلمين وَألقى الله فِي قُلُوبهم من الاهتمام بِالْجِهَادِ مَا أَلْقَاهُ فَلَمَّا ثَبت الله قُلُوب الْمُسلمين صرف الْعَدو جَزَاء مِنْهُ وبيانا أَن النِّيَّة الْخَالِصَة والهمة الصادقة ينصر الله بهَا وَإِن لم يَقع الْفِعْل وَإِن تَبَاعَدت الديار

وَذكر أَن الله فرق بَين قُلُوب هَؤُلَاءِ الْمغل والكرج وَألقى بَينهم تباغضا وتعاديا كَمَا القى سُبْحَانَهُ عَام الْأَحْزَاب بَين قُرَيْش وغَطَفَان وَبَين الْيَهُود كَمَا ذكر ذَلِك أهل الْمَغَازِي فَإِنَّهُ لم يَتَّسِع هَذَا الْمَكَان لِأَن نصف فِيهِ قصَّة الخَنْدَق بل من طالعها علم صِحَة ذَلِك كَمَا ذكره أهل الْمَغَازِي مثل عُرْوَة بن الزبير وَالزهْرِيّ ومُوسَى بن عقبَة وَسَعِيد بن يحيى الْأمَوِي وَمُحَمّد بن عَائِذ وَمُحَمّد بن اسحق والواقدي وَغَيرهم

ثمَّ تبقى بالشأم مِنْهُم بقايا سَار إِلَيْهِم من عَسْكَر دمشق أَكْثَرهم مُضَافا إِلَى عَسْكَر حماة وحلب وَمَا هُنَالك وَثَبت الْمُسلمُونَ بإزائهم وَكَانُوا أَكثر من الْمُسلمين بِكَثِير لَكِن فِي ضعف شَدِيد تقربُوا إِلَى حماة

ص: 187

وأذلهم الله تَعَالَى فَلم يقدموا على الْمُسلمين قطّ وَصَارَ من الْمُسلمين من يُرِيد الْإِقْدَام عَلَيْهِم فَلم يُوَافقهُ غَيره فجرت مناوشات صغَار كَمَا قد كَانَ يجْرِي فِي غَزْوَة الخَنْدَق حَيْثُ قتل عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه فِيهَا عَمْرو بن عبد ود العامري لما اقتحم الخَنْدَق هُوَ وَنَفر قَلِيل من الْمُشْركين

كَذَلِك صَار يتَقرَّب بعض الْعَدو فيكسرهم الْمُسلمُونَ مَعَ كَون الْعَدو المتقرب أَضْعَاف من قد سرى إِلَيْهِ من الْمُسلمين وَمَا من مرّة إِلَّا وَقد كَانَ الْمُسلمُونَ مستظهرين عَلَيْهِم وسَاق الْمُسلمُونَ خَلفهم فِي آخر النوبات فَلم يدركوهم إِلَّا عِنْد عبور الْفُرَات وَبَعْضهمْ فِي جَزِيرَة فِيهَا فَرَأَوْا أَوَائِل الْمُسلمين فَهَرَبُوا مِنْهُم وخالطوهم وَأصَاب الْمُسلمُونَ بَعضهم وَقيل إِنَّه غرق بَعضهم

وَكَانَ عبورهم وخلو الشأم مِنْهُم فِي أَوَائِل رَجَب بعد أَن جرى مَا بَين عبور قازان أَولا وَهَذَا العبور رجفات ووقعات صغَار وعزمنا على الذّهاب إِلَى حماة غير مرّة لأجل الْغُزَاة لما بلغنَا أَن الْمُسلمين يُرِيدُونَ غَزْو الَّذين بقوا وَثَبت بإزائهم الْمُقدم الَّذِي بحماة وَمن مَعَهم من الْعَسْكَر وَمن أَتَاهُ من دمشق وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عَظِيما وَقد قيل إِنَّهُم كَانُوا عدَّة لحمانات إِمَّا ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة

وَكَانَ من الْمُقدر أَنه إِذا عزم الْأَمر وَصدق الْمُؤْمِنُونَ الله يلقى فِي

ص: 188

قُلُوب عدوهم الرعب فيهربون لَكِن أَصَابُوا من البليدات بالشمال مثل تيزين والفوعة ومعرة مصرين وَغَيرهَا مَا لم يَكُونُوا وطئوه فِي الْعَام الْمَاضِي

وَقيل إِن كثيرا من تِلْكَ الْبِلَاد كَانَ فيهم ميل إِلَيْهِم بِسَبَب الرَّفْض وَأَن عِنْد بَعضهم فرامين مِنْهُم لَكِن هَؤُلَاءِ ظلمَة وَمن أعَان ظَالِما بلي بِهِ وَالله تَعَالَى يَقُول {وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}

وَقد ظَاهِرهمْ على الْمُسلمين الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من أهل سيس والأفرنح فَنحْن نرجو من الله أَن ينزلهم من صياصيهم وَهِي الْحُصُون وَيُقَال للقرون الصياصى ويقذف قُلُوبهم الرعب

وَقد فتح الله تِلْكَ الْبِلَاد ويغزوهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَيفتح أَرض الْعرَاق وَغَيرهَا وَتَعْلُو كلمة الله وَيظْهر دينه فَإِن هَذِه الْحَادِثَة كَانَ فِيهَا

ص: 189

أُمُور عَظِيمَة جَازَت حد الْقيَاس وَخرجت عَن سنَن الْعَادة وَظهر لكل ذِي عقل من تأييد الله لهَذَا الدّين وعنايته بِهَذِهِ الْأمة وَحفظه للْأَرْض الَّتِي بَارك فِيهَا للْعَالمين بعد أَن كَاد الْإِسْلَام أَن وكر الْعَدو كرة فَلم يلوعن وخذل الناصرون فَلم يلووا على وتحير السائرون فَلم يدروا من وَلَا إِلَى وانقطعت الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة وأهطعت الْأَحْزَاب الْقَاهِرَة وانصرفت الفئة الناصرة وتخاذلت الْقُلُوب المتناصرة وَثبتت الفئة الناصرة وأيقنت بالنصر الْقُلُوب الطاهرة واستنجزت من الله وعده الْعِصَابَة المنصورة الظَّاهِرَة فَفتح الله أَبْوَاب سمواته لجنوده الْقَاهِرَة وَأظْهر على الْحق آيَاته الباهرة وَأقَام عَمُود الْكتاب بعد ميله وَثَبت لِوَاء الدّين بقوته وَحَوله وأرغم معاطس أهل الْكفْر والنفاق وَجعل ذَلِك آيَة للْمُؤْمِنين إِلَى يَوْم التلاق

فَالله يتم هَذِه النِّعْمَة بِجمع قُلُوب أهل الْإِيمَان على جِهَاد اهل الطغيان وَيجْعَل هَذِه الْمِنَّة الجسيمة مبدأ لكل منحة كَرِيمَة وأساسا لإِقَامَة الدعْوَة النَّبَوِيَّة القويمة ويشفي صُدُور الْمُؤمنِينَ من أعاديهم ويمكنهم من

ص: 190

دانيهم وقاصيهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا

قَالَ الْمُؤلف رحمه الله

كتبت أول هَذَا الْكتاب بعد رحيل قازان وَجُنُوده لما رجعت من مصر فِي جمادي الْآخِرَة وأشاعوا أَنه لم يبْق مِنْهُم أحد ثمَّ لما بقيت تِلْكَ الطَّائِفَة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم وَقصد الذّهاب إِلَى إِخْوَاننَا بحماة وتحريض الْأُمَرَاء على ذَلِك حَتَّى جَاءَنَا الْخَبَر بانصراف المتبقين مِنْهُم فكملته فِي رَجَب وَالله أعلم

وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على أشرف الْخلق مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين

قلت وَفِي أول شهر رَمَضَان من سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة كَانَت وقْعَة شقحب الْمَشْهُورَة وَحصل للنَّاس شدَّة عَظِيمَة وَظهر فِيهَا من كرامات الشَّيْخ وَإجَابَة دُعَائِهِ وعظيم جهاده وَقُوَّة إيمَانه وَشدَّة نصحه لِلْإِسْلَامِ وفرط شجاعته وَنِهَايَة كرمه وَغير ذَلِك من صِفَاته مَا يفوق النَّعْت ويتجاوز الْوَصْف

وَلَقَد قَرَأت بِخَط بعض اصحابه وَقد ذكر هَذِه الْوَاقِعَة وَكَثْرَة من حضرها من جيوش الْمُسلمين قَالَ

ص: 191

واتفقت كلمة إِجْمَاعهم على تَعْظِيم الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ومحبته وَسَمَاع كَلَامه ونصيحته واتعظوا بمواعظه وَسَأَلَهُ بَعضهم مسَائِل فِي أَمر الدّين وَلم يبْق من مُلُوك الشأم تركي وَلَا عَرَبِيّ إِلَّا وَاجْتمعَ بالشيخ فِي تِلْكَ الْمدَّة واعتقد خَيره وصلاحه ونصحه لله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ

قَالَ ثمَّ سَاق الله سُبْحَانَهُ جَيش الْإِسْلَام العرمرم الممصري صُحْبَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالسُّلْطَان الْملك النَّاصِر وولاة الْأَمر وزعماء الْجَيْش وَعُظَمَاء المملكة والأمراء المصريين عَن آخِرهم بجيوش الْإِسْلَام سوقا حثيثا للقاء التتار المخذولين فَاجْتمع الشَّيْخ الْمَذْكُور بالخليفة وَالسُّلْطَان وأرباب الْحل وَالْعقد وأعيان الْأُمَرَاء عَن آخِرهم وَكلهمْ بمرج الصفر قبلي دمشق المحروسة وَبينهمْ وَبَين التتار أقل من مِقْدَار ثَلَاث سَاعَات مَسَافَة وَدَار بَين الشَّيْخ الْمَذْكُور وَبينهمْ مَا دَار بَين الشاميين وَبَينه وَكَانَ بَينهم وَمَعَهُمْ كَأحد أعيانهم وَاتفقَ لَهُ من اجْتِمَاعهم مَا لم يتَّفق لأحد قبله من أَبنَاء جنسه حَيْثُ اجْتَمعُوا بجملتهم فِي مَكَان وَاحِد فِي يَوْم وَاحِد على أَمر جَامع لَهُم وَله مُهِمّ عَظِيم يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى سَماع كَلَامه هَذَا توفيق عَظِيم كَانَ من الله

ص: 192