الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
474 - (30) باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم
(2830)
- (1188)(108) حدَّثنا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. جَمِيعًا عَنْ حَاتِمٍ. قَال أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ، عَنْ أَبِيهِ. قَال: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ. فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَينٍ. فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ
ــ
474 -
(30) باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم
حديث جابر هذا فيه أحكام كثيرة وأبواب من الفقه غزيرة، وقد استخرجها الأئمة وصنفوها وعددوها حتَّى بلغوا بها إلى نيف ومائة وخمسين حكمًا، وإذا تتبع وجد فيه أكثر من ذلك لكن أكثرها لا يخفى على فطن فلنعمد إلى بيان ما يشكل: - فمن ذلك سؤال جابر عن القوم حين دخلوا عليه إنما كان ذلك لأنه بيان قد عمي، وفعل جابر ذلك الفعل به إنما كان تأنيسًا له ومبالغة في إكرامه على ما يفعل بالصغار وعلى ذلك نبه بقوله وأنا يومئذ غلام شاب اهـ من المفهم.
2830 -
(1188)(108)(حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي (جميعًا عن حاتم قال أبو بكر حَدَّثَنَا حاتم بن إسماعيل) العبدري مولاهم أبو إسماعيل (المدني) كوفي الأصل، قال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث، وقال في التقريب: صدوق يهم، من (8) مات سنة (187) روى عنه في (12) بابا (عن جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بالصادق أبي عبد الله المدني، صدوق، من (6) روى عنه في (6) أبواب (عن أبيه) محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبي جعفر المدني، ثقة، من (4) روى عنه في (6) أبواب (قال) محمد بن علي (دخلنا) مع من معي (على جابر بن عبد الله) الأنصاري المدني. وهذا السند من خماسياته رجاله أربعة منهم مدنيون وواحد إما كوفي أو مروزي (فسأل) جابر (عن القوم) أي عن جماعة الرجال الداخلين عليه أي عن أسمائهم فإنه إذ ذاك كان أعمى، عمي في آخر عمره، قال عياض: فيه اعتناء الرجل بالداخلين عليه والسؤال عنهم لينزل كلًّا منهم منزلته اهـ، فدار سؤاله على القوم (حتَّى انتهى إلي) فقال لي: من أنت (فقلت) له (أنا محمد بن علي بن الحسين فأهوى) أي مد وبسط (بيده إلى رأسي فـ) ـمسح برأسي ثم جعل يده على صدري و (نزع) أي
زِرِّي الأَعْلَى. ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الأَسْفَلَ. ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَينَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ. فَقَال: مَرْحَبًا بِكَ. يَا ابْنَ أَخِي! سَلْ عَمَّا شِئْتَ. فَسَأَلْتُهُ. وَهُوَ أَعْمَى. وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ. فَقَامَ في نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا. كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيهِ مِنْ صِغَرِهَا
ــ
خلع وأخرج (زري) أي زر قميصي (الأعلى) أي الَّذي تحت الذقن أي أخرجه من عروته لينكشف القميص عن صدري (ثم نزع) وأخرج (زري الأسفل) من عروته، قال القاضي عياض: فيه إكرام الرجل بنزع ردائه عنه اهـ، وفيه ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه وهذا سبب حل جابر زرَّي محمد بن علي ووضع يده بين ثدييه، قال النواوي: وفيه إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل جابر بمحمد بن علي (ثم وضع (جابر كفه) على صدري (بين ثديي وأنا يومئذ) أي يوم إذ وضع كفه على صدري (غلام شاب) قال عياض: فيه تنبيه على أن موجب فعل جابر به ذلك تانيس له لصغره وشفقةٌ عليه إذ لا يفعل هذا بالرجال الكبار من إدخال اليد في جيوبهم إكبارًا لهم، وفيه أن لمس الغلمان الأجانب على وجه الشفقة ولغير التلذذ جائز بخلاف شباب الجواري وحكم لمسهم كالنظر إليهم، وإنما يحرم من لمس الغلمان والنظر إليهم ما كان من ذلك على وجه التلذذ والشهوة اهـ منه (فقال) لي جابر (مرحبًا بك) أي أتيت مكانًا رحبًا واسعًا لك أو رحبنا لك رحبًا ووسعنا لك وهي كلمة إكرام وترحيب، وفيه استحباب قول الرجل للزائر والضيف ونحوهما مرحبًا (با ابن أخي) نداء شفقة أراد به أخوة الدين لا النسب (سل عما شئت) جواب النداء مما أشكل عليك من أمور الدين، قال محمد بن علي (فسألته) أي سألت جابرًا عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو) أي والحال أن جابرًا (أعمى) أي مكفوف العين (و) قد (حضر وقت الصلاة فقام) جابر للصلاة (في نساجة) بكسر النون وتخفيف السين المهملة وبالجيم، قال النواوي: هذا هو المشهور في نسخ بلادنا وروايتنا لصحيح مسلم وفي سنن أبي داود، ووقع في بعض النسخ في ساجة بحذف النون، وكلاهما صحيح، قال في النهاية: هي ضرب من الملاحف منسوجة كأنها سميت بالمصدر، يقال نسجت أنسج نسجًا ونساجةً، أي فقام إلى الصلاة لابسًا نساجة (ملتحفًا بها) أي متلففًا بها كهيئة الصبيان (كلما وضعها) أي وضع طرفيها (على منكبه رجع طرفاها إليه) أي سقطا عن منكبيه (من صغرها) أي من
وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ، عَلَى الْمِشْجَبِ. فَصَلَّى بِنَا. فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَال بِيَدِهِ. فَعَقَدَ تِسْعًا. فَقَال: إِنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ. ثُمَّ أَذَّنَ
ــ
صغر تلك النساجة (و) الحال أن (رداوه إلى جنبه على المشجب) أي موضوع على المشجب حالة كون المشجب موضوعًا إلى جانبه أو المعنى والحال أن رداءه كائن إلى جانبه حال كونه موضوعًا على المشجب، والمشجب -بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وجيم مفتوحة ثم باء موحدة- هو اسم لأعواد يوضع عليها الثياب ومتاع البيت، قال النواوي: فيه جواز الصلاة في ثوب واحد مع التمكن من الزيادة عليه (فصلى بنا) جابر ولم أر من عين تلك الصلاة، وفيه جواز إمامة الأعمى للبصراء، وأن صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره (فقلت) له بعد فراغه من الصلاة وهو تفسير لقوله فسألته ومعطوف عليه (أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد حجة الوداع، والوداع بفتح الواو اسم مصدر لوح توديعًا كسلم سلامًا وكلم كلامًا، وقيل بكسر الواو مصدر قياسي لِوَادَعَ وداعًا وموادعة من باب فاعل سمي بذلك إما لوداعه صلى الله عليه وسلم الناس أو الحرم في تلك الحجة وهي بفتح الحاء وكسرها، قال الشمني: لم يسمع في حاء ذي الحجة إلَّا الكسر، وقال صاحب الصحاح: الحجة بكسر الحاء المرة الواحدة وهي من الشواذ لأن القياس الفتح كذا في المرقاة، قال الأبي: وحديث جابر هذا عظيم القدر قد اشتمل على فوائد كثيرة من الدين بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الدنيا وانتقاله إلى ما أعبد الله سبحانه له من الكرامة ولم يبق صلى الله عليه وسلم بعد حجته هذه إلَّا قليلًا بعد أن أشرقت الأرض بنوره وعلت كلمة الإيمان اهـ (فقال) جابر أي أشار (بيده) أي بأصابعه إلى تسع سنوات مدة مكثه صلى الله عليه وسلم في المدينة (فعقد) بلسانه أي عد بلسانه (تسعًا) من السنوات (فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث) أي جلس في المدينة (تسع سنين) حالة كونه (لم يحج) يعني في المدينة، وأما في مكة فحج واحدةً باتفاق، واختلف في ثانية هل حجها أم لا؟ اهـ من المفهم، وقوله (مكث) بضم الكاف وفتحها أي لبث بالمدينة بعد الهجرة تسعًا (ثم) بعد تسع سنين (أذن) النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الهمزة وتشديد الذال مبنيًّا للفاعل، والفاعل هو النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أنَّه الآمر بالتأذين
فِي النَّاسِ في الْعَاشِرَةِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ. فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ. كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ. فَخَرَجْنَا مَعَهُ. حَتَّى أَتَينَا ذَا الْحُلَيفَةِ. فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ. فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ كَيفَ أَصْنَعُ؟ قَال: "اغْتَسِلِي
ــ
ومعناه أعلم وأشاع (في الناس في) السنة (العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج) أي مريد الحج وقاصده في هذه السنة ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام ويشهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد، وفيه أنَّه يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها لا سيما في هذه الفريضة الكثيرة الأحكام المفروضة ابتداء (فقدم المدينة) من أرجائها ونواحيها البعيدة والقريبة (بشر كثير) وجم غفير (كللهم يلتمس) ويقصد ويطلب (أن يأتم) ويقتدي (برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله (وبعمل مثل عمله) في فريضة الحج وغيرها، قال القاري: وقد بلغ جملة من معه صلى الله عليه وسلم من أصحابه في تلك الحجة تسعين ألفًا، وقيل مائة وثلاثين ألفًا.
(فخرجنا معه) صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة كما رواه النسائي بين الظهر والعصر، وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس، والطبراني عن ابن عباس أن حجه صلى الله عليه وسلم كان على رحل رثٍّ يساوي أربعة دراهم (حتَّى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس) بمهملتين مصغرًا الصحابية الفاضلة زوجة الصديق رضي الله عنهما بعد موت جعفر، وتزوجها علي بعد موت الصديق وولدت له يحيى (محمد بن أبي بكر) الصديق، وهو من أصغر الصحابة، قتله أصحاب معاوية بمصر سنة ثمان وثلاثين (فأرسلت) أسماء (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله (كيف أصنع) في إحرامي وأنا نفساء، قال الزرقاني: والظاهر أنها أرسلت زوجها الصديق، ويدل له رواية الموطأ أن أسماء ولدت محمد بن أبي بكر فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم (قال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالها بواسطة الرسول (اغتسلي) عند الدم دل على أن اغتسال النفساء للإحرام سنة كذا ذكره الطيبي، وهو للنظافة لا للطهارة، ولهذا لا ينوبه التيمم وكذا في الحائض، وقد سبق بيانه في باب
وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي". فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِدِ. ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ. حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيدَاءِ. نَظَرْت إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَينَ يَدَيهِ. مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ. وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذلِكَ
ــ
مستقل، قال الزرقاني: فيه صحة إحرام النفساء والحائض وهو مجمع عليه، وصحة اغتسالهما للإحرام وإن كان الدم جاريًا حال الاغتسال، وإنما أمرها بذلك وإن كان اغتسالها لا يصح للتشبه بالطاهرات كما أمر من أكل يوم عاشوراء بإمساك بقية النهار، وقال غيره: للتنبيه على أن الغسل من سنن الإحرام (واستثفري) بمثلثة بعد الفوقية (بثوب) أي اجعلي لنفسك ثفرةً كثفرة الدابة لتمنع سيلان الدم أمر من الاستثفار وهو أن تشد في وسطها شيئًا كالتكة وتأخذ خرقةً عريضة تجعلها على محل الدم، وتشد طرفيها من أمامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفر الدابة بفتح الفاء الَّذي يجعل تحت ذنبها؛ والمعنى اجعلي هناك ما يمنع سيلان الدم تنَزُّهًا أن تظهر النجاسة على صاحب هذه العبادة إذ لا يقدر على أكثر من ذلك، قال النواوي: فيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار (وأحرمي) أي بالنية والتلبية (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين سنة الإحرام (في المسجد) أي في مسجد ذي الحليفة، قال ابن العجمي في منسكه: ينبغي إن كان في الميقات مسجد أن يصليهما فيه ولو صلاهما في غير المسجد فلا بأس، ولو أحرم بغير صلاة جاز ولا يصلي في الأقات المكروهة، وتجزئ المكتوبة عنهما كتحية المسجد، وقيل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، وقد قال ابن القيم: ولم ينقل أنَّه صلى الله عليه وسلم صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر كذا في المرقاة، وقد سبق الكلام في استحباب ركعتي الإحرام مبسوطًا اهـ فتح الملهم (ثم ركب) رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته (القصواء) بفتح القاف وسكون الصاد وبالمد، قال أبو عبيدة: القصواء المقطوعة الأذن عرضًا، وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي وغيره: إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم (حتَّى إذا استوت) أي علت وارتفعت (به) صلى الله عليه وسلم (ناقته) المذكورة وظهرت (على البيداء) بالمد أي على المكان العالي المرتفع قدام ذي الحليفة بقربها إلى جهة مكة سميت بيداء لأنها لا بناء ولا أثر (نظرت إلى مد بصري) أي إلى منتهى بصري (بين يديه) أي قدامه فرأيت خلقًا كثيرًا لا يحصون (من راكب وماش و) رأيت (عن يمينه مثل ذلك) أي مثل ما رأيته بين يديه
وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذلِكَ. وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذلِكَ. وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَينَ أَظْهُرِنَا. وَعَلَيهِ يَنْزِلُ الْقُرآنُ. وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْويلَهُ. وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيءٍ عَمِلْنَا بِهِ. فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ "لَبَّيكَ اللهُمَّ! لَبَّيكَ. لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ
ــ
(و) رأيت (عن يساره مثل ذلك و) رأيت (من خلفه مثل ذلك) بنصب مثل في المواضع الثلاث على أنَّه مفعول لمحذوف كما قدرناه أو لنظرت أي نظرت عن يمينه قدر مد بصري، ويجوز الرفع على الاستئناف؛ والمراد أنَّه حضر معه خلق كثير، وقد قيل إنهم أربعون ألفًا كذا في شرح المواهب، وقد تقدم ما نقله القاري في عدد الحاضرين معه صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
قال الزرقاني: وفي قوله (من راكب وماش) جواز الحج كذلك وهو إجماع، وإنما الخلاف في الأفضل، وقال الجمهور: الركوب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم ولأنه أعون على القيام بالمناسك ولأنه أكثر نفقة ولتعظيم شعائر الحج بأبهة الركوب، وبه قال مالك في المشهور، وهو الأصح عند الشافعية، ورجح طائفة من المذهبين المشي اهـ فتح الملهم، فقالوا إن المشي أفضل من الركوب لما فيه من المشقة على النفس، ولا خلاف في أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل، واختلفوا في الطواف والسعي والركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم اهـ من المفهم (ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا) أي في وسطنا (وعليه ينزل القرآن) بضم أوله كما في شرح المواهب ويجوز فتحه (وهو) صلى الله عليه وسلم (يعرف تأويله) أي تفسيره على الحقيقة ومعناه الحث على التمسك بما يخبرهم به من فعله في تلك الحجة، وعبارة القرطبي يعني أنَّه إنما كان يفعل من أفعال الحج بحسب ما ينزل عليه به الوحي فيفهمه هو وبيّنه للناس بفعله ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم" رواه مسلم وأبو داود والنسائي فكانوا كما قال جابر: إذا عمل شيئًا اقتدوا به فيه وعملوه على نحو ما عمل اهـ من المفهم (وما عمل به) في الحج (من شيء) من مناسكه (عملنا به) اقتداءً به صلى الله عليه وسلم فيه زيادة في الحث على التمسك بما يخبرهم به (فأهل) أي رفع صلى الله عليه وسلم صوته (بالتوحيد) يعني قوله لا شريك لك في قوله (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك) وفيه إشارة على مخالفة ما كانت الجاهلية تقوله في تلبيتها من لفظ الشرك من قولهم إلَّا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، وقد سبق ذكر
إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ. لَا شَرِيكَ لَكَ". وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ. فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيهِمْ شَيئًا مِنْهُ. وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ. قَال جَابِرْ رضي الله عنه: لَسْنَا نَنْوي إلا الْحَجَّ. لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ
ــ
تلبيتهم في باب التلبية (أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس) الذين معه أي رفعوا (بهذا) اللفظ (الَّذي يهلون به) أي يرفعون أصواتهم الآن يعني التلبية المشهورة بينهم يعني أنهم لم يلتزموا هذه التلبية الخاصة التي لبى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فهموا أنها ليست متعينة فإنه قد ترك صلى الله عليه وسلم كل أحد على ما تيسر له من ألفاظها، ومع هذا فلا بد أن يأتي الملبي بما يسمى تلبية لسانًا ولا يجزئ منها التحميد والتكبير ولا غيره عند مالك اهـ من المفهم.
وقال عياض: قوله (بهذا الَّذي يهلون به) يعني به من زيادتهم في الثناء على الله تعالى، وذلك كزيادة عمر رضي الله عنه: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك. وكزيادة ابنه: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل. وعن أنس رضي الله عنه: لبيك حقًّا تعبدًا ورقًا. والمستحب عند العلماء منهم الشافعي ومالك أن يأتي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ليقتصر عليها إلَّا أن يزيد ألفاظًا رويت عنه صلى الله عليه وسلم كقوله لبيك إله الحق ونحوها اهـ (فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لم ينكر (عليهم شيئًا منه) أي مما أهلوا به من التلبية التي أتوا بها من عندهم ولم ينههم عنه (ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته) المذكورة في جمع أحواله وأوقاته إلى أن يشرع في الطواف أي استمر عليها (قال جابر رضي الله عنه لسنا) معاشر الصحابة إننوي إلَّا الحج) أي ليست نيتنا إلَّا الحج (لسنا نعرف العمرة) في أشهر الحج ونعتقد صحتها فيها وهو تأكيد وتقرير لمعنى الحصر في قوله لسنا ننوي إلَّا الحج أي لسنا ننوي شيئًا من النيات إلَّا نية الحج وكان محتملًا فأكده اهـ سنوسي، قال القرطبي: هذا الكلام يحتمل أن يخبر به عن حالهم الأول قبل الإحرام فإنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور كما تقدم، فلما كان عند الإحرام بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"من أراد أن يهل بحج فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل" فارتفع ذلك الوهم الواقع لهم كما سيأتي هذا إن شاء الله تعالى اهـ من المفهم.
حَتَّى إِذَا أَتَينَا الْبَيتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا. ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
ــ
(حتَّى إذا أتينا البيت) أي الكعبة المشرفة (معه) صلى الله عليه وسلم في أربع أو خمس خلون من ذي الحجة (استلم) النبي صلى الله عليه وسلم (الركن) أي لمس الحج الأسود بفيه، وسمي الحجر ركنًا لأنه في الركن اهـ من المفهم، والاستلام افتعال من السلام بمعنى التحية، وأهل اليمن يسمون الركن بالمحيا لأن الناس يحيونه بالسلام، وقيل من السلام -بكسر السين- وهي الحجارة، يقال استلم الحجر إذا لثمه وتناوله، والمعنى وضع يديه عليه وقبَّله مع التكبير والتهليل إن أمكنه ذلك بلا إيذاء أحد ولا يستلم بالإشارة من بعيد، وقيل وضع الجبة عليه أيضًا، وفي المواهب وشرحه للزرقاني: واعلم أن للبيت أربعة أركان الأول له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه وكونه على قواعد إبراهيم عليه السلام أي أساس بنائه والثاني وهو الركن اليماني الثانية فقط وليس للآخرين شيء منهما، ولذلك يقبل الأول كما في الصحيحين عن ابن عمر أنَّه صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود، وفي البخاري عن ابن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله ويستلم الثاني فقط لما في الصحيح عن ابن عمر أنَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلَّا الحجر والركن اليماني ولا يقبل الآخران ولا يستلمان اتباعًا للفعل النبوي لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم هذا مذهب الجمهور كما مر بسط الكلام فيه (فرمل) أي مشى بسرعة مع تقارب الخطا وهز كتفيه ليري المشركين جلد الصحابة وقوتهم لأنهم قالوا أضعفتهم حمى يثرب (ثلاثًا) أي في الأشواط الثلاثة الأول (ومشى) على عادته (أربعًا) أي في الأربعة الأخيرة، والرمل إنما يستحب في طواف يعقبه سعي وإلا فلا كالاضطباع كما في البدائع، وقال النووي: والاضطباع سنة في الطواف وقد صح فيه الحديث في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفًا قالوا: وإنما يسن الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل على ما سبق تفصيله والله أعلم.
وفي هذا أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يسن له طواف القدوم وهو مجمع عليه، وفيه أن الطواف سبعة أشواط، وفيه أن السنة الرمل في الثلاثة الأول والمشي على عادته في الأربعة الأخيرة (ثم) بعد فراغه من الطواف (نفد) بالنون والفاء والذال المعجمة (إلى مقام إبراهيم عليه السلام) أي بلغه ووصل إليه ماضيًا في زحام أي
عَلَيهِ السَّلَامُ. فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَينَهُ وَبَينَ الْبَيتِ. فَكَانَ أَبِي يَقُولُ (وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إلا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَينِ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} . ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ
ــ
توجه إلى مقام إبراهيم، وفي بعض النسخ (تقدم إلى مقام إبراهيم) أي إلى الحجر الَّذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت (فـ) ـلما وصل إليه (قرأ) النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ({وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل) النبي صلى الله عليه وسلم (المقام) أي الحجر (بينه وبين البيت) مستقبلًا إليه، قال جعفر بن محمد (فكان أبي) محمد الباقر (يقول) عندما روى لي هذا الحديث (ولا أعلمه) أي ولا أعلم جابرًا (كره) أي ذكر ما ذكر من القراءة (إلَّا) عن جابر (عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا الكلام أن جعفر بن محمد روى هذا الحديث عن أبيه عن جابر، ثم قال: كان أبي يعني محمدًا يقول إنه قرأ هاتين السورتين، قال جعفر: ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر في صلاة جابر بل عن جابر عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة هاتين الركعتين كذا في الشرح، وليس هذا هو شكًّا في ذلك لأن العلم ينافي الشك بل جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر البيهقي حديثًا على شرط مسلم عن جعفر عن أبيه عن جابر أنَّه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بقل يا أيها الكافرون وكان من الظاهر أن يقدم في رواية مسلم سورة الكافرون على سورة الإخلاص كما هو في ترتيب المصحف لأن البراءة من الشرك مقدمة على إثبات التوحيد لكن قدم الإثبات على النفي للاهتمام بشان الإثبات حينئذ لاضمحلال الكفر واندراس آثاره يوم الفتح اهـ سنوسي.
(كان) النبي صلى الله عليه وسلم (يقرأ في الركعتين {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}) قال القاري: الواو لمطلق الجمع، وقال النووي: معناه قرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون، وفي الثَّانية بعد الفاتحة قل هو الله أحد (ثم) بعد صلاة الركعتين (رجع) النبي صلى الله عليه وسلم (إلى الركن) الَّذي في الحجر الأسود (فاستلمه) ثانيًا، قال النواوي: فيه دلالة كما قاله الشافعي وغيره من العلماء على أنَّه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود إلى
ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]"أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ"
ــ
الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا ليسعى، واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب وإنما هو سنة لو تركه لم يلزمه دم، وفي الدر المختار وعاد إن أراد السعي واستلم الحجر، قال ابن عابدين: أفاد أن العود إلى الحجر إنما يستحب لمن أراد السعي بعده وإلا فلا كما في البحر وغيره (ثم) بعد استلامه الحجر (خرج) من المسجد (من الباب) الَّذي يخرج (إلى الصفا) أي من باب بني مخزوم، وهو الَّذي يسمى باب الصفا وخروجه صلى الله عليه وسلم منه لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا لا أنَّه سنة، فيخرج الحاج من أي باب شاء ذكره الطحطاوي في حاشية مراقي الفلاح (فلما دنا) وقرب صلى الله عليه وسلم في حالة خروجه من المسجد (من الصفا) أي قرب إلى الصفا (قرأ) قوله تعالى ({إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) والصفا جمع صفاة كما قال الشاعر:
لها كفل كصفاة المسيل
أو مفرد جمعه صفي كما قال الآخر:
كأن متنيه من النقي
…
مواقع الطير من الصفي
وهو الحجر الأملس، والمروة من الحجارة مالان وصغر كما قال امرؤ القيس:
كأن صليل المرو
…
حين تشده صليل زيوف ينتقدن بعبقرا
وقال آخر:
ويوالي الأرض خفًا ذابلًا
…
فإذا ما صادف المرو رضخ
وهما هنا اسمان لصفحين معلومين، وقيل سميا بذلك لجلوس الصفي وامرأته عليهما اهـ من المفهم ({مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}) أي من أعلام دينه، جمع شعيرة وهي العلامة التي جعلت للطاعات المأمور بها في الحج عندها كالوقوف والمبيت والرمي والطواف والسعي، سميت شعيرة لما تستشعر به تلك المواضع من أعمال الحج أي تعلم أرلما يستشعر هناك من تعظيم الله تعالى والقيام بوظائفه، والسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند جمهور العلماء ما خلا أبا حنيفة فإنه لم يره فيهما واجبًا (أبدأ) بصيغة المتكلم؛ أي وقال أبدأ (بما بدأ الله به) في كتابه يعني أبتدئ بالصفا لأن الله تعالى بدأ بذكره في كتابه فالترتيب الذكري له اعتبار في الأمور الشرعية إما وجوبًا أو
فَبَدَأَ بِالصَّفَا. فَرَقِيَ عَلَيهِ. حَتَّى رَأَى الْبَيتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ. وَقَال: "لَا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
ــ
استحبابًا، وإن كانت الواو لمطلق الجمع في الآية، قال النواوي في هذا اللفظ أنواع من المناسك منها أن السعي يشترط فيه أن يبدأ من الصفا وبه قال الشافعي ومالك والجمهور، وقد ثبت في رواية النسائي في هذا الحديث بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ابدؤوا بما بدأ الله به" هكذا بصيغة الجمع، ومنها أنَّه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة وفي هذا الرقي خلاف قال جمهور أصحابنا: هو سنة ليس بشرط ولا واجب فلو تركه صح سعيه لكن فاتته الفضيلة، وقال أبو حفص بن الوكيل من أصحابنا: لا يصح سعيه حتَّى يصعد على شيء من الصفا، والصواب الأول. قال أصحابنا: لكن يشترط أن لا يترك شيئًا من المسافة بين الصفا والمروة فيلصق عقبيه بدرج الصفا، وإذا وصل إلى المروة ألصق أصابع رجليه بدرجها وهكذا في المرات السبع، يشترط في كل مرة أن يلصق عقبيه بما يبدأ منه وأصابعه بما ينتهي إليه (فبدأ بالصفا فرقي) من باب رضي أي صعد (عليه) أي على الصفا (حتَّى رأى البيت) أي الكعبة من باب الصفا (واعلم) أن كثيرًا من درجات الصفا دفنت تحت الأرض بارتفاعها حتَّى أن من وقف على أول درجة من درجاتها الموجودة أمكنه أن يرى البيت فلا يحتاج إلى الصعود وما يفعله بعض أهل البدعة والجهلة من الصعود حتَّى يلتصقوا بالجدار فخلاف طريقة أهل السنة والجماعة، واعلم أيضًا أن الصعود كان في الزمان الأول أما الآن فمن وقف على الدرجة الأولى بل على أرضها يصدق أنَّه طلع عليها اهـ من شرح اللباب (فاستقبل) هو صلى الله عليه وسلم (القبلة) أي الكعبة، فيه وضع الظاهر موضع المضمر تنصيصًا على أن البيت قبلة وتنبيهًا على أن المقصود بالذات هو التوجه إلى القبلة لا خصوص رؤية البيت وهو الآن يرى بلا رقي في قدر يسير، وقيل قدر القامة، وهذا بالنسبة إلى الماشي دون الراكب كذا في المرقاة، وهذا حكم الرجال، وأما النساء فيقفن أسفلها للبعد عن الرجال إلَّا أن يخلوا المسعى من الرجال فيكنَّ كالرجال اهـ من الأبي.
(فوحد الله) سبحانه وتعالى أي أقر بتوحيده (وكبره) أي أقر بكبريائه (وقال) في توحيده وتكبيره (لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له) قال الطيبي: يحتمل أنَّه قول آخر غير التوحيد والتكبير، ويحتمل أن يكون كالتفسير له والبيان والتكبير وإن لم يكن ملفوظًا به
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ. لَا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ. أَنْجَزَ وَعْدَهُ. وَنَصَرَ عَبْدَهُ. وَهَزَمَ الأحزَابَ وَحْدَهُ" ثُمَّ دَعَا بَينَ ذلِكَ. قَال مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ. حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الْوَادِي سَعَى. حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى. حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ
ــ
لكن معناه مستفاد من هذا القول أي لأن معنى التكبير التعظيم، ووحده حال مؤكدة أو مفعول مطلق ومثله لا شريك له اهـ السنوسي (له الملك وله الحمد) زاد في رواية أبي داود (يحيي ويميت)(وهو على كل شيء قدير لا إله إلَّا الله وحده أنجز وعده) أي وفي بما وعد لإعلاء كلمته (ونصر عبده) أي عبده الخاص محمدًا صلى الله عليه وسلم على أعدائه نصرًا عزيزًا (وهزم الأحزاب وحده) أي دون قتال آدمي، قال الطيبي: الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وكانت سنة ست وقيل سنة خمس، فهزمهم الله تعالى بغير قتال اهـ، ويمكن أن يراد بهم أنواع الكفار الذين غلبوا بالهزيمة والفرار كذا في المرقاة، قال بعضهمْ وإنما خص من الأذكار ما فيه توحيد وبيان لإنجاز الوعد ونصره على أعدائه تذكرًا لنعمته وإظهارًا لبعض معجزاته وقطعًا لدابر الشرك وبيانًا أن كل ذلك موضوع تحت قدميه وإعلانًا لكلمة الله ودينه في مثل ذلك الموضع اهـ (ثم دعا) صلى الله عليه وسلم (بين) مرات (ذلك) الذكر المذكور المكرر ثلاثًا كما صرحه بقوله (قال) أي كرر (مثل هذا) الذكر المذكور (ثلاث مرات) قال بعضهم: ثم تقتضي التراخي وأن يكون الدعاء بعد الذكر وبين تقتضي العدد والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله على كل شيء قدير، ويحتمل أن المعنى لما فرغ من قوله وهزم الأحزاب دعا بما شاء ثم قال مرة أخرى هذا الذكر ثم دعا حتَّى فعل ثلاث مرات هذا هو المشهور عند أصحابنا، وقال بعضهم: يكرر ثلاثًا، والدعاء مرتين والصواب الأول اهـ سنوسي (ثم نزل) من الصفا ومشى (إلى المروة) على عادته (حتَّى إذا انصبت) بتشديد الموحدة من الانصباب وهو مجاز من قولهم صب الماء فانصب أي حتَّى إذا انحدرت (قدماه) وانهبطت (في بطن الوادي) وهو ما بين الميلين الأخضرين (سعى) أي رمل وعدا عدوًا وأسرع في مشيه، قيل اقتداءً بهاجر في سعيها تطلب الماء لولدها اهـ من الأبي (حتَّى إذا صعدتا) أي صعدت وارتفعت قدماه من بطن الوادي إلى جهة مروة (مشى) على عادته (حتَّى أتى المروة) قال النواوي: هكذا هو في النسخ وكذا نقله
فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا. حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ
ــ
القاضي عياض من جميع النسخ، وقال: فيه إسقاط لفظة لا بد منها وهي حتَّى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي ولا بد منها، وقد ثبتت هذه اللفظة في غير رواية مسلم وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين، وفي الموطإ حتَّى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتَّى خرج منه وهو بمعنى رمل هذا كلام القاضي، وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم (حتَّى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) كما وقع في الموطأ وغيره، وعلى هذه النسخة فلا إسقاط ولا إشكال كما هو ثابت في نسختنا هذه والله أعلم.
وفي هذا الحديث استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتَّى يصعد ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة هذا مذهب الشافعي وموافقيه، وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان إحداهما كما ذكر، والثانية تجب عليه إعادته اهـ، وفي الدر المختار ناقلًا عن اللباب ويستحب أن يكون السعي بين ميلين فوق الرمل دون العدو وهو في كل شوط أي بخلاف الرمل في الطواف فإنه مختص بالثلاثة الأول خلافًا لمن جعله مثله فلو تركه أو هرول في جميع السعي فقد أساء ولا شيء عليه، وإن عجز عنه صبر حتَّى يجد فرجة وإلا تشبه بالساعي في حركته وإن كان على دابة حركها من غير أن يؤذي أحدًا اهـ (ففعل على المروة كما فعل على الصفا) من الأذكار والدعاء، فيه أنَّه يسن عليها من الذكر والدعاء والرقي مثل ما يسن على الصفا وهذا متفق عليه (حتَّى إذا كان آخر طوافه) وتمام سعيه (على المروة) رقى عليها وذكر الله ودعا عليها، قال النواوي: وفي هذا دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة والرجوع إلى الصفا ثانية والرجوع إلى المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا وآخرها بالمروة، وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا يحسب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرة واحدة فيقع آخر السبع في الصفا وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان والله أعلم اهـ. وقال الطحاوي: عن الذهاب والعود شوط واحد كالطواف فإنه من الحجر إلى الحجر شوط وتمام كلامه في الفتح وغيره وقال القاضي عياض: كره الشافعي أن تسمى
فَقَال: "لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ. وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ. وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً". فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ! أَلِعَامِنَا هذَا أَمْ لأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الأُخْرَى. وَقَال: "دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ
ــ
الأطواف أشواطًا أو أدوارًا إنما يقال أطواف كما هنا اهـ إكمال المعلم (فـ) ـلما فرغ من أذكاره ودعائه (قال) وفي بعض الرواية إسقاط الفاء قوله فقال وهي واضحة لا يحتاج إلى تقدير ما قدرناه (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت) أي لو كنت علمت قبل إحرامي ما علمته بعده من تردد الناس في تحللهم وانتظارهم تحللي (لم أسق الهدي (معي)(وجعلتها) أي جعلت حجتي وفسختها (عمرة) وأتحلل منها بالحلق أو التقصير يعني لتمتعت من أول الأمر من غير سوق الهدي، وفي شرح المواهب أي لو عن لي هذا الرأي الَّذي رأيته آخرًا وأمرتكم به في أول أمري لما سقت الهدي أي لما جعلت علي هديًا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي، وسوق الهدي منعني من التحلل معكم لأن من ساقه لا يحل حتَّى ينحره وإنما ينحره يوم النحر فلا يحل له فسخ الحج إلى العمرة ومن لا هدي معه يجوز له فسخه وهذا صريح في أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعًا (فمن كان منكم) أيها الناس (ليس معه هدي فليحل) من إحرامه بالتقصير (وليجعلها) أي وليجعل حجته (عمرة فقام سراقة) بضم السين وراء مخففة وقاف (بن مالك بن جعشم) بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة وفتحها لغة حكاها الجوهري وغيره، الكناني المدلجي الَّذي ساخت فرسه في قصة الهجرة وأسلم يوم الفتح (فقال) سراقة (يا رسول الله (لعامنا هذا) أي أهذا الفسخ أو التمتع خاص لعامنا الَّذي نحن فيه (أم) هو باق في المسلمين (لأبد) أي إلى أبد (فشبك) أي أدخل (رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه) أي أصابع يديه، وقوله (واحدةً في الأخرى) بدل من أصابعه أي أدخل أصابع يد واحدة في أصابع اليد الأخرى أو حال مؤكدة أي حال كونه جاعلًا واحدة منها في الأخرى (وقال دخلت العمرة) أتي أعمالها (في الحج) أي أعماله، وقوله (مرتين) منصوب على المفعولية أي قال دخدت العمرة في الحج قولًا مرتين، ويحتمل أنَّه معمول لشبك أيضًا أي شبك أصابعه تشبيكًا مرتين وقال هذا القول مرتين، قال الزرقاني: وإدخال الأصابع بعضها في بعض وتكريرها مرتين إما بالقول أو بالفعل يستدعي إدخال
فِي الْحَجِّ" مَرَّتَينِ "لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ". وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها مِمَّنْ حَلَّ. وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا. وَاكْتَحَلَتْ. فَأَنْكَرَ ذلِكَ عَلَيهَا. فَقَالت: إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهذَا. قَال: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ، بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ. لِلَّذِي صَنَعَتْ
ــ
أحد النسكين في الآخر، ويؤيده حديث ابن عباس (فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة) وقال (لا) أي ليس لعامنا هذا فقط (بل) هو باق (لأبد أبد) أي إلى الأبد كرره للتأكيد أي إلى آخر الدهر، والأبد الدهر، وفي رواية بل لأبد الأبد وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة عند أحمد والظاهرية، وقال الجمهور: معنى الحديث جواز فعل العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة، وأن القصد إبطال زعم الجاهلية منع ذلك (وقدم علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إليها، والبدن -بضم الباء وسكون الدال- جمع بدنة وأصله الضم كخشب جمع خشبة، وقد قرئ به كما في تفسير البيضاوي قوله تعالى والبدن جعلناها لكم من شعائر الله والبدنة هي ما يتقرب بذبحه من الإبل، قال الزرقاني: وظاهر هذه الرواية أن البدن للمصطفى، وفي النسائي قدم علي رضي الله عنه من اليمن بهدي وساق صلى الله عليه وسلم من المدينة هديًا فظاهره أن الهدي كان لعلي رضي الله عنه فيحتمل أن عليًّا قدم من اليمن بهدي لنفسه وهدي للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر كل راو واحدًا منهما اهـ وسيأتي الكلام على عدد هذه البدن وتعيين ذابحها قريبًا إن شاء الله (فوجد فاطمة رضي الله عنها زوجه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (ممن حل) بعمل عمرة أي وجدها متحللة من إحرامها (و) الحال أنها (لبست ثيابًا صبيغًا) أي مصبوغًا بصبغ الزينة أي مصبوغة غير بيض فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث (واكتحلت) أي استعملت الكحل في عينها (فأنكر) علي رضي الله عنه (ذلك) الإحلال (عليها) أي على فاطمة لظنه أنها تابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في إحرامه ورأى أنَّه صلى الله عليه وسلم باق على إحرامه، زاد في رواية أبي داود وقال:(من أمرك بهذا)(فقالت إن أبي أمرني بهذا) الإحلال الَّذي نشأ عنه اللبس والاكتحال لا بهما إذ هما من المباح وهو غير مأمور به أو أريد بالأمر الإباحة (قال) جابر (فكان علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (يقول) ويحدث لنا (بالعراق) أي زمن نزوله بالعراق بالكوفة
مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ. فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذلِكَ عَلَيهَا. فَقَال: "صَدَقَتْ صَدَقَتْ. مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟ " قَال: قُلْتُ؛ اللهُمَّ! إِنِّي أُهِلُّ
ــ
(فذهبت) أنا (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنكرت على فاطمة إحلالها حالة كوني (محرشًا) بصيغة اسم الفاعل من التحريش بمعنى الإغراء أي مغريًا له صلى الله عليه وسلم (على فاطمة للذي) أي لأجل الإحلال الَّذي (صنعتـ) ـه والتحريش الإغراء وهو تهييج بعض البهائم على بعض كما يفعل بين الجمال والأثوار والكباش والديكة وغيرها، قال ابن الأثير: أراد بالتحريش هنا ذكر ما يوجب عتابه لها اهـ وحالة كوني (مستفتيًا) أي مريدًا الاستفتاء والسؤال (لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت) وأخبرت فاطمة (عنه) من أنَّه أمرني بالإحلال، قال الزرقاني: ولم يقنع علي بقولها: أبي أمرني وخبر الواحد مقبول لجواز أنَّه فهم أنَّه أمرها بالإحلال ولا يلزم منه لبس الصبغ والاكتحال لقرب زمن الإحرام الماضي والذي تنشئه أو جوز أمره لعموم الصحابة وأن لها أمرًا يخصها لأنها بضعة منه فلا تفعل إلَّا ما يفعله أو فهم أنها ليست ممن يسق الهدي لأن أباها وزوجها ساقاه فهي في حكم من ساقه، وفيه جواز قول الشخص أبي ولو كان معظمًا وأنه ليس تنقيصًا له فيؤخذ منه جواز قول الشريف جدي يريد النبي صلى الله عليه وسلم قاله الولي العراقي ملخصًا اهـ.
قال علي (فأخبرته) صلى الله عليه وسلم (أني أنكرت ذلك) الإحلال (عليها فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (صدقت) فاطمة فيما أخبرته لك من أمري لها بالإحلال، وقوله ثانيًا (صدقت) توكيد لفظي لما قبله ثم قال لعلي (ماذا قلت) في إحرامك (حين فرضت الحج) أي حين ألزمته وأوجبته على نفسك بالنية والتلبية، قال القرطبي: وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بما أهل به يدل على أنَّه لم يكن عند علي خبر بما به يحرم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتقدم له فيه عهد منه وأن عليًّا رضي الله عنه هو الَّذي ابتدأ إحرامه محالًا به على إحرام النبي صلى الله عليه وسلم من غير تعيين حج ولا عمرة وأنه صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك فكان ذلك حجة على جواز الحوالة على إحرام الغير مطلقًا إذا تحقق أنَّه أحرم ولا بد وبه قال الشافعي، وأخذ منه جواز الإحرام من غير تعيين ثم بعد ذلك يعين اهـ مفهم (قال) علي (قلت) في إحرامي (اللهم إني أهل)
بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَال: "فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلَا تَحِلُّ" قَال: فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةً. قَال: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا. إلا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْويةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى. فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ
ــ
وأحرم (بما أهل) وأحرم (به رسولك) من النسكين إفرادًا أو قرانًا أو تمتعًا، فيه جواز الإحرام بما أحرم به غيره ويسمى عند الفقهاء الإحرام التشبيهي (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي (فإن معي الهدي) فلا أقدر أن أخرج من الإحرام بعمل العمرة (فلا تحل) أنت أيضًا من إحرامك بعمل العمرة، نهي أو نفي؛ أي لا تحل أنت بالخروج من الإحرام كما لا أحل أنا حتَّى تفرغ من العمرة والحج جميعًا وذلك بذبح الهدي يوم النحر (قال) جابر (فكان جماعة الهدي) أي جملته (الَّذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة (مائة) بدنة (قال) جابر (فحل الناس كلهم) أي معظمهم وأكثرهم فهو عام أريد به الخصوص لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي (وقصروا) شعورهم، قال الطيبي: وإنما قصروا مع أن الحلق أفضل لكي يبقى لهم بقية من الشعر حتَّى يحلق في الحج اهـ، وليكون شعرهم في ميزان حجتهم أيضًا سببًا لزيادة أجرهم وليكونوا داخلين في المقصرين والمحلقين جامعين بين العمل بالرخصة والعزيمة كذا في المرقاة (إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية) وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي به لأنهم كانوا يروون إبلهم فيه استعدادًا للوقوف يوم عرفة إذ لم يكن في عرفات ماء جار كزماننا اهـ شرح اللباب، وقيل لأن قريشًا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم فيروون منه اهـ من المفهم، وقال النواوي في مناسكه: يوم التروية هو الثامن، واليرم التاسع عرفة، والعاشر النحر، والحادي عشر القر بفتح القاف وتشديد الراء لأنهم يقرون فيه بفنى، والثاني عشر يوم النفر الأول، والثالث عشر النفر الثاني اهـ منه.
(توجهوا إلى منى) أي قصدوا وأخذوا في الأهبة إلى منى لا أنهم توجهوا بمشيهم إلى منى فأحرموا منها فإن ذلك باطل بإجماع العلماء على أنهم أحرموا من مكة (فأهلوا) أي فأحرموا (بالحج) من مكة بعد استعدادهم للخروج إلى منى، والمستحب عند أكثر العلماء فيمن أحرم من مكة بالحج أن يكون إحرامه من مكة متصلًا بسيره إلى منى يوم
وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ. ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ
ــ
التروية أخذًا بظاهر هذا الحديث، واستحب بعضهم أن يكون ذلك أول هلال ذي الحجة ليلحقهم من الشعث إلى وقت الحج ما لحق غيرهم والقولان عن مالك اهـ من المفهم (وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى (فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) يعني أنه صلى كل صلاة في وقتها غير مجموعة كما قد توهمه بعضهم ممن لا يعرف، وإنما ذكر عدد الصلوات الخمس هنا ليعلم الوقت الَّذي وصل فيه إلى منى والوقت الَّذي: خرج فيه منها إلى عرفة، ولذلك قال مالك باستحباب دخوله إلى منى وخروجه منها في ذينك الوقتين المذكورين، وقد استحب جميع العلماء الخروج إلى منى يوم التروية والمبيت بها". والغدو إلى عرفة، ولا حرج في ترك ذلك والخروج من مكة إلى عرفة ولا دم اهـ من المفهم، قال النواوي: وفيه ندب التوجه إلى منى يوم التروية، وكره مالك التقدم إليها قبله، وقال الشافعي: إنه خلاف السنة، وفيه أنَّه يبيت في هذه الليلة بمنى وهي ليلة التاسع من ذي الحجة وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب، فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع اهـ، وقال بعضهم: والسر في نزول منى أنها كانت سوقًا عظيمًا من أسواق الجاهلية مثل عكاظ والمحنة وذي المجاز وغيرها وإنما اصطلحوا عليه لأن الحج يجمع أقوامًا كثيرةً من أقطار متباعدة ولا أحسن للتجارة ولا أوفق بها من أن يكون موسمها عند هذا الاجتماع ولأن مكة تضيق عن تلك الجنود المجندة فلو لم يصطلح حاضرهم وباديهم وخاملهم، ونبههم على النزول في فضاء مثل منى لحرجوا وإن اختص بعضهم بالنزول لوجدوا في أنفسهم ولما جرت العادة بنزولها اقتضى ديدن العرب، وحميتهم أن يجتهد كل حي في التفاخر والتكاثر وذكر مآثر الآباء وإراءة جلدهم وكثرة أعوانهم ليرى ذلك الأقاصي والأداني ويسد به الذكر في الأقطار، وكان للإسلام حاجة إلى اجتماع مثله يظهر به شوكة المسلمين وعدَّتهم وعُدَّتهم ليظهر دين الله ويبعد صيته ويغلب على كل قطر من الأقطار فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليه وندب إليه ونسخ التفاخر وذكر الآباء وأبدله بذكر الله بمنزلة ما أبقى من ضيافاتهم وولائمهم وليمة النِّكَاح وعقيقة المولود لما رأى فيها من فوائد جليلة في تدبير المنازل اهـ فتح الملهم.
(ثم مكث) أي جلس وتأخر زمنًا (قليلًا) في منى (حتَّى طلعت الشمس) على ثبير،
وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَشُكُّ قُرَيشٌ إلا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
ــ
فيه أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتَّى تطلع وهذا متفق عليه (وأمر) صلى الله عليه وسلم (بـ) قلع (قبة) وخيمة له في منى (من شعر) وهدمها لي (تضرب) وتبنى (له بنمرة) قبل قدومه، والمعنى أمر بضرب قبة بنمرة قبل قدومه إليها، قال الأبي: لما أراد أن يظهر مخالفة الجاهلية أراد أن يظهر ذلك ابتداءً ليتأهبوا لذلك، قال النواوي: في هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها ولا خلاف في جوازه للنازل، واختلفوا في جوازه للراكب فمذهبنا جوازه وبه قال كثيرون، وكرهه مالك وأحمد وأهل المدينة، وستأتي المسئلة مبسوطةً في موضعها إن شاء الله تعالى، وفيه أيضًا جواز اتخاذ القباب وجوازها من شعر اهـ (ونمرة) بفتح النون وكسر الميم هذا أصلها ويجوز فيها ما يجوز في نظيرها وهو إسكان الميم مع فتح النون وكسرها وهي موضع بجنب عرفات وليست من عرفات، وقال القرطبي: وهو الجبل الَّذي عليه أنصاب الحرم على يمين الخارج من مأزمي منى إلى الموقف اهـ، قال النواوي: فيه استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلَّا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعًا، والسنة أن ينزلوا بنمرة فمن كان له قبة ضربها ويغتسلون للوقوف قبل الزوال فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم عليه السلام وخطب لهم خطبتين خفيفتين ويخفف الثانية جدًّا فإذا فرغ كل منها صلى بهم الظهر والعصر جامعًا بينهما فإذا فرغ من الصلاة سار إلى الموقف اهـ (فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ذهب من منى إلى عرفة (و) الحال أنَّه (لا تشك قريش) في مخالفته صلى الله عليه وسلم إياهم في المناسك (إلا أنَّه) صلى الله عليه وسلم (واقف عند المشعر الحرام) أي إلَّا في وقوفه عند المشعر الحرام فإنهم تيقنوا مراقبته إياهم في الوقوف عند المشعر الحرام؛ أي أنهم لا يشكون في أنَّه صلى الله عليه وسلم سيقف عند المشعر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به ويقف سائر الناس بعرفة، قال الأبي: والأظهر أن إلَّا زائدة، وجملة أن في موضع نصب على إسقاط الخافض والمعنى ولا تشك قريش في أنَّه واقف عند المشعر الحرام لكونه منهم، وقال الطيبي: أي ولم يشكوا في أنَّه يخالفهم في المناسك بل تيقنوا بها إلَّا في الوقوف فإنهم جزموا بأنه يوافقهم فيه فإن أهل الحرم كانوا يقفون عند المشعر الحرام هو جبل صغير في وسط مزدلفة يقال له قزح بوزن زفر وعليه جمهور المفسرين
كَمَا كَانَتْ قُرَيشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ. فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ. فَنَزَلَ بِهَا. حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ. فَرُحِلَتْ لَهُ. فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي
ــ
والمحدثين، وقيل إنه كل المزدلفة وهو بفتح العين، وقيل بكسرها ذكره النواوي رحمه الله تعالى، وقال السنوسي: ويحتمل أن يكون الاستثناء من محذوف تقديره ولا تشك قريش في أنَّه صلى الله عليه وسلم يخالفهم في جميع المناسك إلَّا الوقوف عند المشعر الحرام فإنهم تحققوا أنَّه لا يخالفهم فيه وما قاله موافق لما قلناه في حلنا ولما قاله الطيبي ولكن ما قاله الأبي أظهر وأوضح أي ولا تشك قريش أنَّه واقف عند المشعر الحرام (كما كانت قريش) أي موافقًا لما كانت قريش (تصنعـ) ـه (في الجاهلية) فإنهم يقفون عند المشعر الحرام بدل وقوف الناس بعرفة ويقولون نحن أهل الحرم لا نخرج منه إلى الحل وكان هذا من جملة ما ابتدعت وغيرت من شريعة إبراهيم عليه السلام وسنته في الحج اهـ من المفهم، وقد يتوهم أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يوافقهم قبل البعثة وليس كذلك لما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أنَّه كان يقف مع عامة الناس قبل النبوة أيضًا اهـ فتح الملهم.
(فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات على خلاف ظنهم فإنهم ظنوا وقوفه صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة مثلهم لكونه قرشيًّا (حتَّى أتى عرفة) أي حتَّى قارب عرفات بقرينة حكاية نزوله صلى الله عليه وسلم في قبة ضربت له بنمرة حيث قال (فوجد القبة قد ضربت) وبنيت (له بنمرة فنزل بها) أي بنمرة، وقد سبق أن نمرة ليست من عرفات، وقد قدمنا أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جميعًا خلاف السنة (حتَّى إذا زاغت الشمس) أي زالت عن كبد السماء من جانب المشرق إلى جانب المغرب ففاء الفيء اهـ قاموس (أمر بالفصواء) أي أمر بشد الرحل عليها (فرحلت) القصواء (له) أي وضع عليها الرحل، والقصواء ناقته، وقد تقدم ذكرها وهو بضم الراء على بنائه للمجهول مخففًا أي شد الرحل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فركبها (فأتى بطن الوادي) أي بطن وادي عرفة -بضم العين وفتح الراء المهملتين بعدها نون- قال القاري: موضع متسع جامع بعرفات يسمى عرنة وليست من عرفات عند الشافعي والعلماء كافةً إلا مالكًا فإنه قال هي من عرفات، ومنها بعض
فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَال: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ حَرَامٌ عَلَيكُمْ. كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذَا فِي شَهْرِكُمْ هذَا. في بَلَدِكُمْ هذَا
ــ
مسجد إبراهيم الموجود الآن، واختلف في محدثه، والصحيح أنَّه منسوب لإبراهيم الخليل باعتبار أنَّه أول من اتخذه مصلى اهـ، وقيل غير ذلك (فخطب الناس) ووعظهم في عرفة قبل الصلاة، قال الزرقاني: فيه أنَّه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع وبه قال الجمهور والمدنيون والمغاربة من المالكية وهو المشهور، قال النواوي: ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة إحداها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية هذه التي ببطن عرفة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، قال أصحابنا: وكل هذه الخطب أفراد وبعد صلاة الظهر إلَّا التي يوم عرفات فإنها خطبتان وقبل صلاة، قال أصحابنا: ويعلمهم في كل خطبة من هذه الخطب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى والله أعلم انتهى كلام النووي وعند الحنفية في الحج ثلاث خطب أولها وثانيها ما ذكره النووي وثالثها بمنى في اليوم الحادي عشر فيفصل بين كل خطبتين بيوم وكلها سنة (وقال) صلى الله عليه وسلم في خطبته (أن دماءكلم وأموالكم) زاد في بعض الطرق (وأعراضكم) والعرض -بكسر العين وسكون الراء- موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه، قال الحافظ: وهذا الكلام على حذف مضاف تقديره إن سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثلب أعراضكم، وقال الزرقاني: معناه إن دماء بعضكم على بعض حرام وأموال بعضكم على بعض حرام بيان كان ظاهر اللفظ أن دم كل واحد حرام عليه نفسه ومال كل واحد حرام عليه نفسه فليس بمراد لأن الخطاب للمجموع والمعنى فيه مفهوم ولا تبعد إرادة المعنى الثاني، أما الدم فواضح، وأما المال فمعنى تحريمه عليه تحريم تصرفه فيه على غير الوجه المأذون فيه شرعًا قاله الولي العراقي، وقال بعضهم: إنما خطب يومئذ بالأحكام التي يحتاج الناس إليها ولا يسعهم جهلها لأن اليوم يوم اجتماع وإنما تنتهز مثل هذه الفرصة لمثل هذه الأحكام التي يراد تبليغها إلى جمهور الناس (حرام عليكم كحرمة يومكم هذا) يعني يوم عرفة (في شهركم هذا) يعني ذا الحجة (في بلدكم هذا) يعني مكة معناه متأكدة التحريم شديدته، قال الزرقاني: وفي تقديم اليوم على الشهر وهو على البلد الشرقي فالشهر أقوى من اليوم وهو ظاهر في الشهر لاشتماله على اليوم فاحترامه أقوى من احترام جزئه، وأما زيادة
أَلَّا كُلُّ شَيءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ. وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ. وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
ــ
حرمة البلد فلأنه محرم في جميع الشهور لا في هذا الشهر وحده فحرمته لا تختص به فهو أقوى منه، قال الحافظ: وفيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع، وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد لأن المخاطبين بذلك كانوا يرون تلك الأشياء ولا يرون هتك حرمتها ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وقال في موضع آخر ومناط التشبيه في قوله كحرمة يومكم وما بعده ظهوره عند السامعين لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتًا في نفوسهم مقررًا عندهم بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه لأن الخطاب بها وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع اهـ فتح الملهم (ألا) بالفتح والتخفيف للتنبيه أي انتبهوا واستمعوا ما أقول لكم (كل شيء من أمر الجاهلية) يعني به الأمور التي أحدثوها والشرائع التي كانوا شرعوها في الحج وغيره (تحت قدمي) بتشديد الياء مثنى قدم أي تحت قدمي هاتين (موضوع) أي مردود وباطل حتَّى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين أي لا حكم له قد أبطلته (ودماء الجاهلية موضوعة) أي متروكة لا قصاص ولا دية ولا كفارة فيها، قال القاري: أعادها مع دخولها فيما قبلها للاهتمام بها أو ليبني عليه ما بعده من الكلام، وقال الولي العراقي: يمكن أنَّه من عطف الخاص على العام لاندراج دمائها في أمرها ويمكن أنَّه لا يندرج لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك لأن منها ما هو حق ومنها ما هو باطل وما يثبت وما لا يثبت اهـ (وإن أول دم أضه) ء وأهدره (من دمائنا) يا أهل الإسلام أي أبدأ في وضع الدماء التي يستحق المسلمون ولايتها بأهل بيتي، قال النووي: فيه أن الإمام وغيره ممن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله والى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام (دم ابن ربيعة بن الحارث) بن عبد المطلب، واسم هذا الابن إياس قاله الجمهور والمحققون، وقيل حارثة، وقيل تمام، وقيل آدم قال الدارقطني: وهو تصحيف ولبعض رواة مسلم وأبي داود دم ربيعة وهو وهم لأن ربيعة عاش حتَّى توفي زمن عمر سنة ثلاث وعشرين، وتأوله
كَانَ مُسْتَرْضِعًا في بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيلٌ. وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ. وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا. رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فإِنَّهُ مَوْضوعٌ كُلُّهُ
ــ
أبو عبيد بأنه نسبه إليه لأنه ولي دم ابنه (كان) ذلك الابن (مسترضعًا) بالفتح بصيغة اسم المفعول، ويجوز الكسر على صيغة اسم الفاعل، وفي القاموس الاسترضاع طلب المرضعة ومنه قوله تعالى أن تسترضعوا أولادكم أي تطلبوا مراضع لأولادكم اهـ، فقول ابن الملك: بفتح الضاد سهو منه، وربيعة بن الحارث هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن عبد المطلب فأهدر صلى الله عليه وسلم دم ابن ابن عمه وأبطل الطلب به في الإسلام ولم يجعل لربيعة في تلك تبعةً اهـ من بعض الهوامش، أي كان لهذا الابن ظئر ترضعه (في) نساء (بني سعد فقتلته هذيل) مصغرًا، قال الولي العراقي: ظاهره أنها تعمدت قتله، وذكر الزبير بن بكار أنَّه كان صغيرًا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبين ليث بن بكر كذا ذكره عياض والنووي وغيرهما ساكتين عليه، وهو مناف لقوله فقتلته هذيل لأنهم غير بني ليث إذ هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة كما بيَّنه أبو عبيد القاسم بن سلام في أنسابه اهـ كذا في شرح المواهب والله أعلم (وربا الجاهلية) أي الزائد على رأس المال (موضوع) أي متروك لا يؤخذ بعد اليوم دون رأس المال كما قال تعالى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم وهذا إيضاح إذ المقصود مفهوم من لفظ ربا فإن وضع الربا معناه وضع الزيادة قاله النووي، قال الولي العراقي: ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهلية من عطف الخاص على العام لأنه من إحداثاتهم الفاسدة اهـ.
(وأول ربا أضعـ) ـه وأبطله (ربانا) أهل البيت خبر المبتدأ، وقوله (ربا عباس بن عبد المطلب) بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربا العباس (فإنه) أي فإن ربا العباس أو ربانا أهل البيت (موضوع) أي متروك مهدر، يحتمل عود ضمير إنه إلى ربا العباس تأكيدًا لوضعه، ويحتمل عوده لجميع الربا أي ربا العباس موضوع لأن الربا موضوع (كله) قال الولي: وإنما بدأ في وضع ربا الجاهلية ورباها من أهل الإسلام بأهل بيته ليكون أمكن في قلوب السامعين وأسد لأبواب الطمع في الترخيص، وفي بعض الهوامش قوله (وأول ربا) مبتدأ موصوف، وصفته جملة أضع ومعناه أضعه تحت قدمي وأبطله، والخبر قوله ربانا وإضافة الدماء والربا إلى ضمير جماعة المتكلمين لجامع الإسلام أو
فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ. فَإنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانٍ اللهِ
ــ
لجامع القرابة والبدء بوضع ما لأهل القرابة أمكن في النفوس، وقوله ربا عباس بن عبد المطلب بدل مما قبله، ولفظ المشكاة من ربانا ربا عباس وهو الأظهر الموافق لما قبله فيكون ربا عباس خبرًا اهـ، قال القرطبي: والربا لغةً الزيادة والكثرة، ثم إنهم كانت لهم بيوعات يسمونها بيع الربا؛ منها أنهم كانوا إذا حل أجل الدين يقول الغريم لرب الدين: أنظرني وأزيدك فينظره إلى وقت آخر على زيادة مقررة فإذا حل ذلك الوقت الآخر قال له أيضًا كذلك ربما يؤدي ذلك إلى استئصال مال الغريم في نزر يسير كان آخذه أول مرة فأبطل الله سبحانه ذلك وحرمه وتوعد عليه بقوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنًا وسنةً ووعظ الناس وذكرهم بذلك في ذلك الموطن مبالغةً في التبليغ وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بربا العباس لخصوصيته بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتدي الناس به قولًا وفعلًا فيضعون عن غرمائهم ما كان من ذلك اهـ من المفهم (فاتقوا الله) تعالى أي خافوا عقوبة الله تعالى (في) ترك القيام بحقوق (النساء) والأزواج ومصالحهن الدينية والدنيوية، قال الطيبي: هو عطف من حيث المعنى على دمائكم وأموالكم أي فاتقوا الله في استباحة الدماء ونهب الأموال، وفي النساء وهو من عطف الإنشاء على الخبر بالتأويل كما عطف وامتازوا اليوم أيها المجرمون على قوله - تعالى إن أصحاب الجنّة وقال العراقي: يحتمل أن الفاء زائدة لأنه في رواية بدونها أو أنها للسببية لأنه لما قرر إبطال أمر الجاهلية وكان من جملتها منع النساء من حقوقهن وترك إنصافهن أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهن فكأنه قيل فبسبب إبطال أمر الجاهلية اتقوا الله في النساء وأنصفوهن، قال النووي: وفيه الحث على مراعاة حقوق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك وقد جمعتها أو معظمها في رياض الصالحين اهـ (فإنكم) أيها الرجال (أخذتموهن) أي أمسكتموهن في عصمتكم (بأمان الله) أي بعهد الله وهو ما عهد إليهم من الرفق بهن اهـ أبي، وفي بعض النسخ بأمانة الله، قال الزرقاني: أي بأن الله ائتمنكم عليهن فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية، وفي كثير من أصول مسلم بأمان الله بلا هاء كما قال النووي، وهو يقوي أن في قوله أخذتموهن دلالةً على أنها كالأسيرة المحبوسة تحت زوجها وله
وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ. وَلَكُمْ عَلَيهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ
ــ
التصرف فيها والسلطنة عليها ويوافقه قوله في رواية أخرى (فإنهن عوان عندكم) جمع عانية وهي الأسيرة لكنها ليست أسيرةً خائفةً كغيرها بل هي أسيرة آمنة (واستحللتم فروجهن) والاستمتاع بهن (بكلمة الله) تعالى التي أنزلها في كتابه بقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء أي بكلمة الله المشتملة على الإيجاب والقبول؛ أي استحللتم بالصيغة التي ينعقد بها النِّكَاح من إيجاب وقبول، وقيل كلمة الله عبارة عن حكمه تعالى بحلية النِّكَاح وجوازه وبيان شروطه فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاقتضاء أو التخيير والأول هو الصحيح، قال الأبي: والمعنى أن استحلالكم فروجهن وكونهن تحت أيديكم إنما كان بعهد الله وحكمه فإن نقضتم عهد الله وأبطلتم حكمه انتقم منكم اهـ.
(ولكم عليهن) لما ذكر صلى الله عليه وسلم استحلال الزوج بكلمة الله وعلم منه تأكيد الصحبة بين الزوجين انتقل إلى بيان ما على كل واحد منهما من الحقوق وبدأ بحق الأزواج لأنهم المخاطبون فقال: ولكم أيها الأزواج من الحقوق عليهن أي على زوجاتكم (أن لا يوطئن فرشكم) أي أن لا يجلسن على فرشكم (أحدًا تكرهونه) أي أن لا يدخلن أحدًا تكرهون دخوله في بيتكم سواء كرهتم ذاته أم لا، وعبر بفرشكم لأن الداخل يطأ المنزل الَّذي يدخل فيه أي أنَّه ليس للزوجة أن تمكن أحدًا ولو امرأةً أو محرمًا لها من دخول بيت زوجها إلَّا إذا علمت عدم كراهية زوجها لذلك هكذا حمله القرطبي والنووي على العموم، وعبارة القرطبي هنا معنى هذا الكلام لا يدخلن منازلكم أحدًا ممن تكرهونه، ويدخل في ذلك الرجال والنساء الأقرباء والأجانب اهـ من المفهم، وقال ابن الملك: يعني أن لا يأذن ممن تكرهون دخوله عليهن وليس وطء الفراش كنايةً عن الزنا لأنه حرام مع كل أحد تكرهونه أو لا، ولأنه لو كان المراد ذلك لكان عقوبتهن الرجم دون الضرب مع أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"فإن فعلن ذلك فاضربوهن .. "إلخ، وقال المازري: قيل المراد النهي عن الخلوة بالرجال لا عن الزنا لأن الزنا يوجب الحد وهو حرأم مع من يحب ومع من يكره، قال القاضي عياض: كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء وليس عندهم في ذلك عيب ولا ريبة حتَّى نزلت آية الحجاب فنهوا عن ذلك، قال النووي: والمختار أن معناه أنَّه لا يحل للزوجة
فَإنْ فَعَلْنَ ذلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيرَ مُبَرِّحٍ. وَلَهُنَّ عَلَيكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ. كِتَابَ اللهِ
ــ
أن تأذن لأحد بدخول دار الرجل ولا لامرأة ذات محرم منها إلَّا أن تظن أن الزوج لا يكره ذلك منها فإن شكت في أنَّه يكرهه لم تأذن لأن الأصل المنع حتَّى تظن اهـ (فإن فعلن ذلك) الإيطاء المذكور بدون رضاكم بلفظ صريح أو بقرائن (فاضربوهن ضربًا غير مبرح) -بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء المشددة آخره حاء مهملة- من البرح -بفتح الباء وسكون الراء- وهو المشقة الشديدة؛ أي غير شديد ولا شاق أو غير جارح ولا كاسر عظم، والأول أحسن لأنه ليس بالحد وإنما هو تأديب، وفيه إباحة تأديب الرجل زوجته فإن ضربها الضرب الماذون فيه فماتت منه وجبت ديتها على عاقلة الضارب ووجبت الكفارة في ماله اهـ نووي (ولهن عليكم رزقهن) أي قوتهن من المأكول والمشروب وما يتبعه، وفي معناه سكناهن (وكسوتهن بالمعروف) أي على قدر كفايتهن دون سرف ولا تقدير أو باعتبار حالكم فقرًا ويسرًا، وعبارة القرطبي: أي بما يعرف من حاله وحالها وهو حجة لمالك حيث قال: إن النفقات على الزوجات غير مقدرات وإنما ذلك بالنظر إلى أحوالهم وأحوالهن اهـ من المفهم.
(و) لـ (قد تركت فيكم) أيتها الأمة (ما) أي أصلًا وحجة (لن تضلوا بعده) أي بعد التمسك به (أن اعتصمتم) وتمسكتم (به) أي بذلك الأصل وعملتم به أو المعنى لن تضلوا بعد تركي إياه فيكم، وفي هذا التركيب إبهام وتوضيح بعده وذلك لبيان أن هذا الشيء الَّذي تركه فيهم شيء جليل عظيم فيه جميع المنافع الدينية والدنيوية ثم لما حصل من هذا التشوق التام للسامع وتوجه إلى استماع ما يرد به بعده واشتاقت نفسه إلى معرفته بينه بقوله (كتاب الله) العزيز يعني القرآن الكريم بالنصب بدل من مفعول تركت، جزم به العراقي وإن كان الرواية وإلا فيجوز رفعه على أنَّه خبر لمحذوف أي وهو كتاب الله تعالى، ولم يذكر السنة مع أن بعض الأحكام يستفاد منها لاندراجها تحته فإن الكتاب هو المبين للكل بعضها بلا واسطة وبعضها بواسطة قال تعالى ({وَنَزَّلْنَا عَلَيكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيءٍ} [النحل: 89]) وقال تعالى: ({لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ} [النحل: 44]) كذا في شرح المواهب، قال القاري: وإنما اقتصر على الكتاب لأنه مشتمل على العمل بالسنة لقوله تعالى: ({وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]) وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]) فيلزم من العمل بالكتاب العمل بالسنة، وفيه
وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي. فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ " قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيتَ وَنَصَحْتَ. فَقَال بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وينْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ "اللهُمَّ! اشْهَدْ. اللهُمَّ! اشْهَدْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
ــ
إيماء إلى أن الأصل الأصيل هو الكتاب (وأنتم تسألون عني) يوم القيامة بصيغة المجهول، قال الطيبي: عطف على مقدر أي قد بلغت ما أرسلت به إليكم جميعًا غير تارك لشيء مما بعثت به وأنتم تسألون عني يوم القيامة هل بلغكم بأي شيء تجيبون؟ ودل على هذا المحذوف الفاء في قوله (فما أنتم قائلون) أي إذا كان الأمر على هذا فبأي شيء تجيبونه (قالوا نشهد أنك قد بلغت) أي بلغت الرسالة (وأديت) الأمانة (ونصحت) الأمة، وقال العراقي: تسئلون عني في القيامة أو في البرزخ فما أنتم قائلون حين سؤلكم على الأظهر أو الآن في جوابي ويترتب عليهما قولهم نشهد أي في القيامة أو الآن، قال: وحذف المعمول في الثلاثة يدل على تبليغ جميع ما أمر به ونصحه لجميع الناس الموجودين والذين سيوجدون (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم أي أشار (بأصابعه السبابة) وهي التي تلي الإبهام وتسمى بالمسبحة، إلى السماء وإلى الناس حالة كونه (يرفعها إلى السماء) أي رافعًا إياها إلى السماء فالحال من فاعل قال أو حالة كونها مرفوعة إلى السماء فالحال من السبابة، قال القرطبي: والإشارة إلى السماء إما لأنها قبلة الدعاء وإما لأن الله تعالى فوق العرش الَّذي هو فوق المخلوقات (وبنكتها إلى الناس) أي حالة كونه يرفعها إلى السماء أولًا ثم ينكتها أي يقلبها ويوجهها إلى الناس إشارة إلى إشهاد الله على شهادتهم له بالتبليغ (وقوله ينكتها إلى الناس) بفتح التحتية وسكون النون وضم الكاف بعدها فوقية، قال عياض: كذا في رواية مسلم وهو بعيد المعنى لأنه من نكت الأرض بعود إذا ضربها به، قيل صوابه ينكجي بموحدة في آخره بدل التاء من نكب كنانته إذا قلبها ومعناه يقلبها ويرددها ويوجهها إلى الناس مشيرًا إليهم اهـ ع، قائلًا بلسانه (اللهم اشهد) أي على عبادك بأنهم قد أقروا بأني قد بلغت إليهم؛ والمعنى اللهم اشهد أنت إذ كفى بك شهيدًا، وقوله (اللهم اشهد) ثانيًا تأكيد للأول لأنه كرره (ثلاث مرات) وفي شرح المواهب للزرقاني (فإن قيل) ليس في هذه الخطبة شيء من المناسك فيرد ذلك على قول الفقهاء يعلمهم الخطيب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى، أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بفعله للمناسك عن بيانه بالقول لأنه أوضح، واعتنى بما أهمه
ثُمَّ أَذَّنَ. ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ. ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ. وَلَمْ يُصَلِّ بَينَهُمَا شَيئًا
ــ
في الخطبة التي قالها، والخطباء بعد ليست أفعالهم قدوةً ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها فاستحب لهم البيان بالقول، وفيه حجة للمالكية وغيرهم أن خطبة عرفة فردة إذ ليس فيه أنَّه خطب خطبتين، وما روي في بعض الطرق أنه خطب خطبتين فضعيف كما قاله البيهقي وغيره اهـ، وقد تكلم عليه الشوكاني في شرح المنتقى فراجعه.
(ثم) بعد فراغه من الخطبة (أذن) بلال رضي الله عنه كما هو المصرح في بعض الروايات (ثم أقام) بلال للصلاة (فصلى) بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (الظهر ثم أقام فصلّى العصر ولم يصل بينهما) أي بين الظهر والعصر (شيئًا) من النوافل ولا غيرها أي جمع بينهما في وقت الظهر، وهذا الجمع كجمع مزدلفة جمع نسك عند الأحناف ومالك والأوزاعي، وجمع سفر عند الشافعي خلافًا لبعض أصحابه.
قال النواوي: في الحديث أنَّه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه فقيل بسبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحاب الشافعي هو بسبب السفر فمن كان حاضرًا أو مسافرًا دون مرحلتين كاهل مكة لم يجز له الجمع كما لا يجوز له القصر، وفيه أن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولى أولًا وأنه يؤذن للأولى، وأنه يقيم لكل واحدة منهما، وأنه لا يفرق بينهما، وهذا كله متفق عليه عندنا اهـ منه، وفي الدر المختار: وبعد الخطبة صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، قال ابن عابدين: قوله بأذان أي واحد لأنه للإعلام بدخول الوقت وهو واحد، وقوله (وإقامتين) أي يقيم للظهر ثم يصليها ثم يقيم للعصر فيصليها لأن الإقامة لبيان الشروع في الصلاة بخلاف الجمع في مزدلفة لأن الصلاة الثانية هناك تؤدى في وقتها فتستغني عن تجديد الإعلام أما الثانية هنا ففي غير وقتها فتقع الحاجة إلى إقامة أخرى للإعلام بالشروع فيها، وإنما جمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة لأن للناس يومئذ اجتماعًا لم يعهد في غير هذا الموطن، والجماعة الواحدة مطلوبة ولا بد من إقامتها في مثل هذا الجمع ليراه من هنالك ولا يتيسر اجتماعهم في وقتين، وأيضًا فلأن للناس اشتغالًا بالذكر والدعاء وهما وظيفة هذا اليوم ورعاية الأوقات وظيفة جميع السنة، وإنما يرجح في مثل هذا الشيء
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ. فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ. وَجَعَلَ حَبْلَ المُشَاةِ بَينَ يَدَيهِ. وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ
ــ
البديع النادر (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء (حتَّى أتى الموقف) أي أرض عرفات واللام للعهد والمراد موقفه الخاص، قال بعضهم: والحكمة في الوقوف بعرفة أن اجتماع المسلمين في زمان واحد ومكان واحد راغبين في رحمة الله تعالى داعين له متضرعين إليه له تأثير عظيم في نزول البركات وانتشار الروحانية، ولذلك كان الشيطان يومئذ أدحر وأحقر ما يكون، وأيضًا فاجتماعهم ذلك تحقيق لمعنى العرضة، وخصوص هذا اليوم وهذا المكان متوارث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على ما يذكر في الأخبار عن آدم فمن بعده، والأخذ بما جرت به سنة السلف الصالح أصل أصيل في باب التوقيت اهـ فتح الملهم، وقيل إن إبراهيم عليه السلام حين أمر بالتأذين بالحج وقف على جبل الرحمة فنادى عليه فلذلك اجتمعوا هناك تلبيةً لندائه والله أعلم (فجعل بطن ناقته القصواء) موجهًا (إلى الصحرات) الكبار المفروشة تحت جبل الرحمة محاذيًا لها؛ وهو الجبل الَّذي في وسط أرض عرفات، والصحرات بفتحتين الأحجار الكبار أي المفترشات في أسفل جبل الرحمة وقدر الطيبي منتهيًا وتعقبه الأبي فقال: إن كان الوقوف على الصحرات صح تقديره والأظهر أنَّه تجوز بالبطن عن الوجه والتقدير وجعل وجه ناقته وهذا إن كانت الصحرات في قبلته لأنه إنما وقف مستقبل القبلة، وقال القرطبي: يعني أنَّه علا على الصحرات ناحية منها حتَّى كانت الصحوات تحاذي بطن ناقته، قال العراقي: لا حاجة إلى هذا لأن من وقف بحذاء صحرة على ناقته صار بطنها بحذائها أي إلى جانبها، وليس يشترط في محاذاة بطن الناقة لها أن يكون عاليًا عليها (وجعل حبل المشاة) أي طريق المشاة ومجتمعهم مصطفهم (بين يديه) أي قدامه فالمعنى أنَّه جعل الطريقة التي يسلكها المشاة بين يديه اهـ أبي والحبل -بفتح الحاء وسكون الموحدة وبلام في آخره- هو في اللغة ما طال من الرمل، وقيل الضخم منه، والمشاة جمع ماش ففيه تشبيههم بالرمل المجتمع والمراد جعل صف المشاة ومجتمعهم بين يديه (واستقبل القبلة) فيستحب استقبالها في الوقوف بعرفة للاتباع (فلم يزل) رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لم يبرح (واقفًا حتَّى غربت الشمس) قال
وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ. وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ. وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ. حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ. وَيَقُولُ بيَدِهِ الْيُمْنَى: "أَيُّهَا النَّاسُ! السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ" كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ
ــ
القاري: أي حتَّى غرب أكثرها أو كادت أن تغرب، وقوله (وذهبت الصفرة قليلًا) أي ذهابًا قليلًا معطوف على غربت وقوله (حتَّى غاب القرص) أي قرص الشمس وخبزها وجرمها كلها بدل من قوله حتَّى غربت الشمس أي لم يزل واقفًا حتَّى غاب القرص كله وذهب بعض الصفرة، هذا ما ظهر للفهم السقيم، ويؤيده قول القاري (حتَّى غاب القرص) أي جميعه، وقول النواوي: وهذ! بيان لقوله (غربت الشمس وذهبت الصفرة) فإن هذه تطلق مجازًا على مغيب معظم القرص فازال ذلك الاحتمال بقوله (حتَّى كتاب القره) كله والله أعلم (وأردفَ أسامةَ) أي أركب (خلفه) على ناقته أسامة بن زيد بن حارثة مولاه (ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ذهب من عرفة إلى مزدلفة (و) الحال أنَّه (قد شنق) بفتح الشين المعجمة والنون الخفيفة فقاف، يقال شنقت البعير شنقًا من باب قتل إذا كففته ورفعت رأسه بزمامه وأنت راكبه كما يفعل الفارس بفرسه اهـ مصباح؛ أي ضم وضيق (للقصواء الزمام) أي الحبل الَّذي يجعل في رأسها أي ضَمَّه وضيقه عليها وكفها لئلا تسرع لوجود الزحام والزمام والخطام ما يشد به رؤوس الإبل من حبل أو سير أو نحوه لتقاد وتساق به، قال عياض في المشارق: وقد فسره بقوله (حتَّى إن رأسها) أي ضيق عليها الزمام حتَّى إن رأسها (ليصيب مورك رحله) بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء فكاف؛ قطعة من أديم محشوة شبه مخدة تجعل في مقدم الرحل يضع الراكب رجليه عليها متوركًا ليستريح من وضعهما في الركاب، والمراد بذلك أنَّه بالغ في جذب رأسها إليه ليكفها عن الإسراع، ورحله بفتح الراء وحاء مهملة، قال القسطلاني: وفي نسخة من مسلم رجله بكسر الراء بعدها جيم، قال النواوي: وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة (ويقول بيده اليمنى) أي يشير بها إلى الناس بالتمهل وعدم العجلة في السير قائلًا بلسانه (أيها الناس) الزموا (السكينة السكينة) مرتين يعني الرفق والوقار والطمأنينة وعدم الزحمة بالنصب على الإغراء بعامل محذوف وجوبًا كما قدرناه.
(كلما أتى) وجاء (حبلًا من الحبال) أي رملًا من الرمال المجتمعة، والحبال بحاء
أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا. حَتَّى تَصْعَدَ. حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ. فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وإِقَامَتَينِ
ــ
مهملة مكسورة؛ جمع حبل وهو التل اللطيف من الرمل الضخم، وفي النهاية الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل (أرخى لها) أي أرسل الزمام للقصواء إرخاءً (قليلًا) أو زمانًا قليلًا (حتَّى تصعد) روي بضم الفوقية رباعيًّا وفتحها ثلاثيًّا من باب فرح كما قال عياض والنووي؛ أي أرخى لها الزمام إلى صعودها رملًا من الرمال، وفي أمره بالسكينة الرفق بالناس وبالدواب والأمن من الإذاية بخلاف العجلة كما أن في إرخائه للقصواء الرفق بالدواب لئلا يجتمع عليها مشقة الصعود ومشقة الشنق صلوات الله وسلامه عليه ما أرأفه وأرحمه، وقوله (حتَّى أتى المزدلفة) غاية لقوله (ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات، وفي شرح المواهب موضع بين عرفة ومنى وكلها من الحرم وهي المسماة بجمع بفتح الجيم وسكون الميم وعين مهملة، وسميت جمعًا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فأزلف إليها أي دنا وقرب منها، وعن قتادة إنما سميت جمعًا لأنه يجمع فيه بين صلاتين المغرب والعشاء، وقيل لأن الناس يجتمعون فيها فسميت جمعًا ويزدلفون فيها إلى الله تعالى أي يتقربون إليه بالوقوف بها فسميت مزدلفة إلى غير ذلك، قال بعضهم: والسر في المبيت بمزدلفة أنَّه كان سنة قديمةً فيهم، ولعلهم اصطلحوا عليها لما رأوا من أن للناس اجتماعًا لم يعهد مثله في غير هذا الموطن ومثل هذا مظنة أن يزاحم بعضهم بعضًا ويحطم بعضهم بعضًا، وإنما تزاحمهم بعد المغرب وكانوا طول النهار في تعب يأتون من كل فج عميق فلو تجشموا أن يأتوا منى والحال هذه لتعبوا اهـ (فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين) أي جمع بينهما في وقت العشاء، قال المحب الطبري: وهذا الجمع سنة بإجماع من العلماء، وإن اختلفوا فيما لو صلى كل صلاة في وقتها فعند أكثر العلماء يجوز، وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن صلى المغرب دون المزدلفة فعليه الإعادة، وجوزوا في الظهر والعصر أن يصلي كل واحدة في وقتها مع كراهية اهـ (بأذان واحد وإقامتين) وهو قول أحمد وأصح قولي الشافعي وغيرهما، وبه قال زفر والطحاوي من الأحناف، ورجحه ابن الهمام، واستدلوا بحديث جابر هذا وبحديث أسامة في الصحيحين وفيه (فلما جاء مزدلفة نزل فتوضأ ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى العشاء ولم يصل بينهما شيئًا) وقال أبو حنيفة: بأذان واحد وإقامة واحدة لما أخرجه أبو داود
وَلَمْ يُسَبِّحْ بَينَهُمَا شَيئًا. ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ. وَصَلَّى الْفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الضبْحُ، بِأَذَانِ وَإِقَامَةٍ. ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ. حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ
ــ
عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه قال: أقبلت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة فأذن وأقام وأمر إنسانًا فأذن وأقام فصلى بنا المغرب ثلاث ركعات ثم التفت إلينا فقال: الصلاة، فصلى بنا العشاء ركعتين، ثم دعا بعشائه، فقيل له في ذلك فقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا. ففي هذا الحديث معارضة لحديث جابر وحديث أسامة فيرجحان بأن الأصل تعدد الإقامة بتعدد الصلاة اهـ من فتح الملهم بتصرف.
(ولم يسبح) أي لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم (بينهما) أي بين المغرب والعشاء (شيئًا) من النوافل، والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح ففيه الموالاة بين الصلاتين المجموعتين (ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم للنوم تقوية للبدن ورحمةً للأمة ولأن في نهاره عبادات كثيرة يحتاج إلى النشاط فيها (حتَّى طلع الفجر) الصادق، وفي المواهب وشرحه: وترك صلى الله عليه وسلم قيام الليل ونام حتَّى أصبح لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى ما بعد الغروب، واجتهاده صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرًا لها وجمعًا لهما جمع تأخير ورقد بقية ليلته مع كونه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتَّى تورمت قدماه ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم له في عرفة من التعب وقد قال:"إن لجسدك عليك حقًّا"(وصلى الفجر) أي صلى الصبح (حين تبين له الصبح) أي حين ظهر له الفجر (بأذان واقامة) قال النواوي: فيه أنَّه يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتاكد التبكير بها في هذا اليوم أكثر من تأكده في سائر السنة للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن وظائف هذا اليوم كثيرة فسن المبالغة بالتبكير للصبح ليتسع الوقت للوظائف، قال القرطبي: فيه سنة المبيت بمزدلفة وصلاة الصبح بغلس، وسيأتي أنَّه أرخص لبعض نسائه في النفر منها إلى منى قبل طلوع الفجر، وفيه الأذان في السفر خلافًا لمن قال يقتصر المسافر على الإقامة اهـ من المفهم (ثم ركب) ناقته (القصواء حتَّى أتى المشعر الحرام) بفتح الميم والعين كما في القرآن، وقيل بكسر الميم، سمي المشعر لأنه مَعلَم للعبادة، والحرام لأنه من الحرم
فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ. فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا. فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ. وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا. فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ
ــ
أو لحرمته، وأخرج البخاري ومسلم من حديث جابر أنَّه صلى الله عليه وسلم وقف بالمزدلفة وقال:"وقفت هنا ومزدلفة كلها موقف" وأخرج أبو داود والترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجمع أتى قزح فوقف عليه وقال: "هذا قزح" وهوالموقف وجمع كلها موقف قال الترمذي: حسن صحيح (فاستقبل القبلة فدعاه) سبحانه وتعالى (وكبره وهلله) أي قال لا إله إلَّا الله (ووحده) أي قال وحده لا شريك له (فلم يزل واقفًا) على المشعر الحرام (حتَّى أسفر) الفجر أي أضاء (جدًّا) أي إسفارًا بليغًا أي إضاءة تامة، قال المحب الطبري: وهذا كمال السنة في المبيت بالمزدلفة، وعليه اعتمد من أوجب ذلك، وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن بها بعد طلوع الفجر لزمه دم إلَّا لعذر من ضعف أو غيره، فإن كان بها أجزأه وإن لم يكن قبله وهو ظاهر ما نقله البغوي عن مالك وأحمد (فدفع) صلى الله عليه وسلم أي ذهب من مزدلفة إلى منى (قبل أن تطلع الشمس) أي شمس يوم النحر، وهذا صريح في أنَّه دفع قبل طلوع الشمس وبه أخذ الجمهور، قال النووي: قال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء لا يزال واقفًا فيه يدعو ويذكر حتَّى يسفر الصبح جدًّا كما في هذا الحديث، وقال مالك: يدفع قبل الإسفار والله أعلم، ونقل الطبري عن طاوس قال: كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس، ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير فأخر الله هذه وقدم هذه، قال الشافعي: يعني قدم المزدلفة قبل أن تطلع الشمس وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس اهـ فتح الملهم (وأردف) أي أركب خلفه على ناقته (الفضل بن عباس) بن عبد المطلب رضي الله عنهما، قال جابر (وكان) الفضل (رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا) بفتح الواو كسر المهملة أي حسنًا وضيئًا فوصفه بوصف من يفتتن به (فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ذهب إلى منى (مرت به) صلى الله عليه وسلم (ظعن) أي نساء راكبات الإبل (يجرين) الإبل أي يسرعن الإبل في سيره، والظعن بضم الظاء والعمين، ويجوز إسكان العين، جمع ظعينة كسفينة وسفن، وأصل الظعينة البعير الَّذي عليه المرأة ثم سميت به المرأة الراكبة
فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيهِنَّ. فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ. فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ. فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ. يَصْرِفُ وَجْههُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظرُ. حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ
ــ
له مجازًا لملامستها البعير كما أن الرواية في أصلها الجمل الَّذي يحمل الماء، ثم سميت به القربة لما ذكرنا، وقوله (يجرين) قال القسطلاني: بفتح الياء وسكون الجيم؛ أي نساء راكبات يمشين بالإبل، وبضمها مع سكونها من أجرى الرباعي أي يسرعن الإبل في سيره (فطفق) أي شرع (الفضل ينظر إليهن) أي إلى الظعينات (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل) ليمنعه من النظر إليهن وخوفًا عليه وعليهن من الفتنة قاله الرزقاني، قال النووي: فيه الحث على غض البصر عن الأجنبيات وغضهن عن الرجال الأجانب، وهذا معنى قوله وكان أبيض وسيمًا حسن الشعر يعني أنَّه بصفة من تفتتن النساء به لحسنه، وفي رواية الترمذي وغيره في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل فقال له العباس: لويت عنق ابن عمك! قال: "رأيت شابًّا وشابةً فلم آمن الشيطان عليهما" فهذا يدل على أن وضعه صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل كان لدفع الفتنة عنه وعنهن، وفيه أن من رأى منكرًا وأمكنه إزالته بيده لزمه إزالته فإن قال بلسانه ولم ينكف المقول له وأمكنه بيده أثم ما دام مقتصرًا على اللسان والله أعلم اهـ منه (فحول الفضل وجهه) أي صوف وجهه (إلى الشق الآخر) أي إلى الجانب الآخر حالة كونه (ينظر) إليهن من غلبة الطبع (فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من) الشق الأول إلى (الشق الآخر) واضعًا يده (على وجه الفضل) حالة كونه (يصرف) أي يحول (وجهه) أي وجه الفضل (من الشق الآخر) الَّذي (ينظر) فيه إلى الشق الأول، وقوله (حتَّى أتى) غاية لدفع أي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مزدلفة إلى منى حتَّى أتى (بطن) وادي فيلٍ (محسر) صاحبهُ من المضيِّ إلى مكة لهدمِ الكعبة، ومحسر بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين، أو واد محسر أصحاب الفيل عن المرور فيه، قيل هو واد بين مزدلفة ومنى، وقيل ما حسب منه في مزدلفة فهو منها وما حسب منه في منى منها وصوبه بعضهم، وقد جاء مزدلفة كلها موقف إلَّا بطن محسر فيكون على هذا قد أطلق بطن محسر؛ والمراد منه ما خرج من مزدلفة، وإطلاق اسم
فَحَرَّكَ قَلِيلًا. ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى. حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ. فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ. يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مثل حَصَى الْخَذْفِ
ــ
الكل على البعض جائزًا شائعًا، وسمي الوادي بذلك لأنه حسر فيل أصحاب الفيل فيه أي أعيا، وقيل لأنه يحسر سالكيه ويتعبهم يقال حسرت الناقة أتعبتها، وقال أبو جعفر الطحاوي: ليس وادي محسر من منى؛ لا من مزدلفة فالاستثناء في قوله إلَّا وادي محسر منقطع (فحرك) صلى الله عليه وسلم حبت أتاه ناقته تحريكًا (قليلًا) أي حرك ناقته وأسرع السير قليلًا وفي الدر المختار: فإذا بلغ بطن محسر أسرع قدر رمية حجر، وقال الشافعي في الأم: تحريكه صلى الله عليه وسلم الراحلة فيه يجوز أن يكون ذلك لسعة الموضع، ويجوز أن يكون فعله لأنه مأوى الشياطين، وقيل لأنه كان موقفًا للنصارى فاستحب الإسراع فيه، وأهل مكة يسمون هذا الوادي وادي النار، يقال إن رجلًا اصطاد فيه فنزلت نار فأحرقته، وقال الأسنوي: وظهر لي معنىً آخر في حكمة الإسراع وهو أنَّه مكان نزل به العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت فاستحب فيه الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك، وقال غيره وهذا كانت عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه والله أعلم اهـ فتح الملهم (ثم سلك الطريق الوسطى) قال النواوي: فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة وهو غير الطريق الَّذي ذهب فيه إلى عرفات، وهذا معنى قول أصحابنا يذهب إلى عرفات في طريق ضب ويرجع في طريق المازمين ليخالف الطريق تفاؤلًا بتغير الحال كما فعل صلى الله عليه وسلم في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى، وخرج إلى العيد في طريق ورجع منه في طريق آخر وحول رداءه في الاستسقاء (التي تخرج على الجمرة الكبرى) أي توقفه على الجمرة الكبرى، والجمرة الكبرى هي جمرة العقبة وهي التي عند الشجرة، وقوله (حتَّى أتى الجمرة التي عند الشجرة) غاية لقوله سلك، وهذا يدل على أنَّه كان هناك أولًا شجرة كما في الفتح، وفي هذا الحديث رمى جمرة العقبة راكبًا، وفي اللباب الأفضل أن يرمي جمرة العقبة راكبًا وغيرها ماشيًا في جميع أيام الرمي، وفي الكنز: وكل رمي بعده رمي فارمه ماشيًا (فرماها) أي رمى جمرة العقبة عقب وصولها (بسبع حصيات) حالة كونه (يكبر مع كل حصاة منها) أي من تلك السبع حالة كون كل منها (مثل حصى الخذف) أي قدر حصى الخذف أي حصى
رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ
ــ
يخذف ويرمى به بين السبابتين، وقال الطيبي: بالجر بدل من الحصيات وهي بقدر حبة الباقلاء، وفي نسخة صحيحة مثل حصى الخذف، قال النووي: أما قوله (بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الحذف) فهكذا هو في النسخ التي بأيدينا وكذا نقله القاضي عن معظم النسح قال: وصوابه مثل حصى الحذف قال: وكذلك رواه بعض رواة مسلم هذا كلام القاضي قلت والذي في النسخ من غير لفظة مثل هو الصواب بل لا يتجه غيره ولا يتم الكلام إلَّا كذلك ويكون قوله حصى الخذف متعلقًا بحصيات أي رماها بسبع حصيات حصى الخذف يكبر مع كل حصاة فحصى الخذف متصل بحصيات واعترض بينهما يكبر مع كل حصاة فهذا هو الصواب اهـ كلام النواوي، وعندى أن اتصال حصى الخذف بقوله مع كل حصاة أقرب لفظًا وأنسب معنى ومع هذا لا اعتراض ولا تخطئة على إحدى النسختين فإن تعلقه بحصاة أو حصيات لا ينافي وجود مثلٍ لفظًا أو تقديرًا غايته أنَّه إذا كان موجودًا فهو واضح معنىً وإلا فيكون من باب التشبيه البليغ وهو ما حذف فيه أداة التشبيه أي كحصى الخذف بل لا يظهر للتعلق غير هذا المعنى فالروايتان صحيحتان والله أعلم، وقوله مثل صفة بعد صفة لحصاة فهو قاعد في محله ليس بزائد كما ظنه النواوي، والخذف في الأصل مصدر خذف يخذف من باب ضرب فهو مصدر سمي به وهو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها كما في النهاية، قال بعضهم: وإنما شرع مثل حصى الخذف لأن ما دونها غير محسوس وفوقها ربما يؤذي في مثل هذا الموضع اهـ (رمى من بطن الوادي) أي من أسفل الوادي كما يأتي من حديث ابن مسعود وهو المستحب، فلو رمى من أي مكان صح رميه إذا وقع في موضع الرمي اهـ من المفهم، قال النواوي: وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث تكون منى وعرفات ومزدلفة عن يمينه ومكة عن يساره وهذا هو الصحيح الَّذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، وقيل يقف مستقبل القبلة، وكيف رمى أجزأه اهـ، وفي الدر المختار: ورمى جمرة العقبة من بطن الوادي ويكره تنزيهًا من فوق اهـ، وهذا في الزمان الأول والآن يكون الرمي من كل الجهات (ثم) بعدما رمى جمرة العقبة (انصرف) أي ذهب (إلى المنحر) أي إلى موضع النحر والذبح، قال الزرقاني: هو موضع معروف بمنى وكلها منحر كما في الحديث، قال ابن التين: منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد فللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله (هذا
فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ. ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا. فَنَحَرَ عَلِيٌّ مَا غَبَرَ. وَأَشْرَكَهُ في هَدْيِهِ. ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ. فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ. فَطُبِخَتْ. فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا
ــ
المنحر وكل منى منحر) قال مالك: إلَّا ما خلف العقبة وقديد، والنحر بمنى عند مالك له ثلاثة شروط أحدها أن يوقف بالهدي بعرفة، والثاني أن يكون النحر في أيام منى، والثالث أن يكون النحر في الحج لا في عمرة، فإذا اجتمعت هذه الشروط فلا يجوز النحر إلَّا بمنى لا بغيرها اهـ من المفهم، وقال القاضي إسماعيل: إنه يجوز أن ينحر بمكة أيام منى وقد حكى أنَّه مذهب مالك، فأما العمرة فالنحر بها بمكة في بيوتها وطرقها وفجاجها، ويجزئ عند مالك النحر في العمرة بمنى فإن نحر بغير منى ومكة في الحج والعمرة لم يجز عنده وجاز عند أبي حنيفة والشافعي بأي موضع كان من الحرم قالا: والمقصود مساكين الحرم لا الموضع منه، وأجمعوا أنَّه لا يجوز فيما عدا الحرم ولا يجوز في البيت والمسجد نحر ولا ذبح (فنحر ثلاثًا وستين بيده) الشريفة، هكذا رواية الجماعة وعند ابن ماهان (بدنة) مكان بيده، وكل صواب، والأول أصوب، وفيه دلالة على أن الأولى للمهدي والمضحي أن يتولى ذلك بيده (ثم أعطى) السكين (عليًّا) ابن أبي طالب (فنحر علي ما كبر) أي ما بقي من الهدي وهو سبع وثلاثون، وكانت جملة الهدي مائة بدنة (وأشركه) أي أشرك عليًّا (في هديه) أي في نفس الهدي، ويحتمل أنَّه أشركه في نحره، وإعطاؤه ما بقي لعلي رضي الله عنه لينحرها دليل على صحة النيابة في ذلك غير أنَّه روي في غير كتاب مسلم أنَّه إنما أعطاه إياه ليهديها عن نفسه، ويدل عليه قوله وأشركه في هديه وعلى هذا فلا يكون فيه حجة على الاستنابة، وقيل إنما نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين بدنة لأنها هي التي أتى بها من المدينة كما ذكره الترمذي، وقيل إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العدد لأنها منتهى عمره على ما هو الأصح في ذلك فكأنه أهدى عن كل سنة من عمره بدنة اهـ من المفهم.
(ثم أمر) النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ (من كل بدنة) من المائة (ببضعة) بفتح الموحدة الثانية أي بقطعة من لحمها (فجعلت) تلك البضعات (في قدر) اسم لآلة الطبخ (فطبخت) تلك البضعات (فأكلا) أي أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي (من لحمها) أي من لحم القدر (وشربا من مرقها) أي من مرق القدر، قال المطرزي: الضمير المؤنث يعود إلى القدر لأنها مؤنث سماعي، وقال الطيبي: يحتمل عوده إلى الهدايا،
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيتِ. فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ
ــ
قال النووي: قالوا لما كان الأكل من كل واحدة سنةً، وفي الأكل من جميعها كلفة ومشقة جعلت في قدر ليكون تناوله من المرق كالأكل من جميعها واتفقوا على أن الأكل من الهدي والضحية ليس بواجب اهـ، وفي المرقاة: والصحيح أنَّه مستحب، وقيل واجب لقوله تعالى فكلوا منها قال القرطبي: إنما فعل هذا ليمتثل قوله تعالى {فَكُلُوأ مِنْهَا} [الحج: 28] وهما وإن لم يأكلا من كل بضعة فقد شربا من مرق كل ذلك وخصوصية علي، بالمواكلة دليل على أنَّه أشركه في الهدي، وفيه دليل على أن من حلف أن لا يأكل لحمًا فشرب مرقه أنَّه يحنث، وفيه دليل على استحباب أكل الأقل من الهدايا والضحايا والتصدق بالأكثر، وفيه دليل على جواز أكل المهدي من هدي القرآن، وقد قدمنا أنَّه كان قارنًا اهـ من المفهم (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء (فأفاض إلى البيت) أي رجع أو أسرع إلى بيت الله لطواف الفرض، ويسمى طواف الإفاضة والركن، وأكثر العلماء ومنهم أبو حنيفة أنَّه لا يجوز طواف الإفاضة بنية غيره خلافًا للشافعي حيث قال: لو نوى غيره كنذر أو وداع وقع عن الإفاضة كذا في المرقاة، قال في الدر المختار: وطواف الزيارة أول وقته بعد طلوع الفجر يوم النحر وهو في يوم الأول أفضل ويمتد وقته إلى آخر العمر فإن آخره عن أيام النحر كره تحريمًا ووجب دم لترك الواجب وهذا عند الإمكان اهـ (فصلى بمكة الظهر) أي ظهر يوم النحر، وفي المواهب وشرحه: واختلف أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يومئذ أي يوم النحر ففي رواية جابر عن مسلم أنَّه صلى الله عليه وسلم صحى بمكة ولفظه: فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر وكذا قالت عائشة عند أبي داود وغيره، وفي حديث ابن عمر في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى فهذا يعارض حديث جابر وعائشة فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر وتبعه على ذلك جماعة بأربعة أوجه لأنهما اثنان وهما أولى من الواحد، وثانيهما لأن عائشة أخص الناس به صلى الله عليه وسلم ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، وثالثها لأن سياق جابر رضي، الله عنه من أولها إلى آخرها أتم سياق وهو أحفظ للقصة وضبطها حتَّى ضبط جزئياتها حتَّى أقر منها ما لا يتعلق بالمناسك وهو نزوله في الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوءًا خفيفًا فمن ضبط هذا الندر فهو بضبط صلاته الظهر يوم النحر أولى، ورابعها أيضًا فإن حجة الوداع كانت في (آذار) بهمزتين فذال
فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ. فَقَال:"انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ" فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ
ــ
معجمة فألف فراء، قال في القاموس: هو الشهر السادس من الشهور الرومية قد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس ونحر بها بُدْنهُ المائة وقسمها وطبخ له من لحمها وأكل منه ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض وشرب من ماء زمزم ووقف عليهم وهم يسقون وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك الظهر في فصل آذار اهـ فتح الملهم.
وفي الأبي: يجمع بين حديثهما وحديث ابن عمر بأنه صلى الله عليه وسلم طاف الإفاضة قبل الزوال وصلى الظهر بمكة أول وقتها ثم رجع إلى منى وصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سالوه ذلك فيكون متنفلًا للظهر الثانية اهـ منه (فأتى بني عبد المطلب) حالة كونهم (يسقون) الناس من ماء زمزم، وقوله (على زمزم) متعلق بأتى، ويحتمل أن تكون على بمعنى من متعلقًا بيسقون أي يغترفون منها بالدلاء ويصبونه في الحياض ويسقونه الناس، قال النواوي: وأما زمزم فهو البئر المشهورة في المسجد الحرام بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعًا، قيل سميت زمزم لكثرة مائها، يقال ماء زمزوم وزمزم وزمازم إذا كان كثيرًا، وقيل لضم هاجر لمائها حين انفجرت وزمها إياه، وقيل لزمزمة جبريل عليه السلام وكلامه عند فجره إياها، وقيل إنها غير مشتقة ولها أسماء أخر ذكرتها في تهذيب اللغات اهـ (فقال) صلى الله عليه وسلم لهم (انزعوا) بكسر الزاي، بقال نزع بالفتح تنْزع بالكسر، والقياس في فعل الَّذي عينه أو لامه حرف حلق فتح مضارعه ولم يأت الكسر إلَّا في نزع ينزع، والنزع الاستقاء أي استقوا الماء للناس يا (بني عبد المطلب فلولا) خوفي (أن يغلبكم الناس) ويزدحموا (على سقايتكم) أي على استقائكم بسبب نزعي معكم (لنزعت) أي لنزحت (معكم) لاستقاء الناس معكم والمعنى فلولا خوفي أن يغلبكم الناس بأن يزدحموا على النزع بحيث يغلبونكم ويدفعونكم لاعتقادهم أن النزع، والاستقاء من مناسك الحج لنزعت معكم لكثرة فضيلة ذلك، وقيل قال ذلك شفقةُ على أمته من الحرج والمشقة، والأول أظهر، وفيه بقاء هذه التكرمة لبني العباس كبقاء الحجابة لبني شيبة إذ لو استعمله الناس معهم لخرج عن اختصاصه بهم (فناولوه) صلى الله عليه وسلم أي أعطوه (دلوًا) من مائها (فشرب منه) أي من مائها والله أعلم، فيستحب الشرب منها والإكثار منه، وقد صح مرفوعًا:"ماء زمزم لما شرب له" وشربه جماعة من العلماء
(2831)
- (00)(00) وحدَّثنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ. حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. حَدَّثَنِي أَبِي. قَال: أَتَيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَسَاقَ بِنَحْو حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ. وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَدْفَعُ بِهِمْ أَبُو سَيَّارَةَ عَلَى حِمَارٍ عُرْيٍ
ــ
لمآرب فوجدوها، قال ابن العربي: شربناه للعلم فليتنا شربناه للورع، وأوَّلُ ما يشرب له لتحقيق التوحيد والموت عليه والعزة بطاعة الله والله أعلم، وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أحمد [3/ 217] والبخاري [1557] والنسائي [5/ 202].
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث جابر رضي الله عنه فقال:
2831 -
(00)(00)(وحدثنا عمر بن حفص بن غياث) بن طلق النخعي الكوفي، ثقة، من (10) مات سنة (222) روى عنه في (8) أبواب (حَدَّثَنَا أبي) حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النخعي الكوفي، ثقة، من (8) روى عنه في (14) بابا (حَدَّثَنَا جعفر بن محمد) بن علي المعروف بالصادق، صدوق، من (6)(حدثني أبي) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، ثقة، من (4)(قال) أبي (أتيت جابر بن عبد الله) الأنصاري المدني رضي الله عنه. وهذا السند من خماسياته رجاله ثلاثة منهم مدنيون واثنان كوفيان، غرضه بيان متابعة حفص بن غياث لحاتم بن إسماعيل (فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق) حفص بن غياث أي ذكر (بنحو حديث حاتم بن إسماعيل وزاد) حفص (في الحديث) على حاتم بن إسماعيل، جملة (وكانت العرب) في الجاهلية إلى آخره (يدفع بهم) أي يجيز ويذهب بهم من مزدلفة إلى منى (أبو سيارة) بسين مهملة ثم ياء مثناة تحت المشددة، وفي شرح القاموس للعلامة الزبيدي: وأبو سيارة عميلة بن خالد العدواني كان له حمار أسود يحمل الناس من المزدلفة إلى من (على حمار) له أسود (عري) أي عار خال عن السرج والقتب والإكاف والبرذعة، أربعين سنة، وكان يقول: أشرق ثبير، كيما نغير؛ أي كي نسرع إلى النحر فقيل: أصح من عير أبي سيارة، يعني ضرب به المثل، وفي تاج العروس قال الراجز:
خلوا الطريق من أبي سياره
…
وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز سالكًا حماره
فَلَمَّا أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمَشْعَرِ الحَرَامِ. لَمْ تَشُكَّ قُرَيشٌ أَنهُ سَيَقْتَصِرُ عَلَيهِ. ويكُونُ مَنْزِلُهُ ثَمَّ. فَأَجَازَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ. حَتَّى أَتَى عَرَفَاتٍ فَنَزَلَ.
(2832)
- (00)(00) حدَّثنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ. حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَعْفَرٍ. حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَابِرٍ
ــ
(فلما أجاز) أي جاوز ومر (رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام) أي مر على المشعر الحرام الَّذي كان بالمزدلفة ووصل إليه (لم تشك قريش أنَّه) صلى الله عليه وسلم (سيقتصر) ويكتفي بالوقوف (عليه) أي على المشعر الحرام كعادة قريش لكونه منهم (ويكون منزله) صلى الله عليه وسلم أي نزوله (ثم) أي في المشعر الحرام ولا يجاوزه إلى عرفات (فـ) ـلما وصل صلى الله عليه وسلم المشعر الحرام (أجاز) أي مر عليه (ولم يعرض له) بفتح الياء وكسر الراء؛ أي لم يلتفت إليه للنزول والوقوف عليه ومضى (حتَّى أتى عرفات) أي جاءها (فنزل) فيه مخالفًا لعادة قريش أي جاوز المشعر الحرام ودخل أرض عرفات حتَّى وصل الصخرات فوقف هناك، ومعنى الحديث أن قريشًا كانت قبل الإسلام تقف بالمزدلفة وهي من الحرم ولا يقفون بعرفات، وكان سائر العرب يقفون بعرفات وكانت قريش تقول: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم ووصل المزدلفة اعتقدوا أنَّه يقف بالمزدلفة على عادة قريش فجاوز إلى عرفات لقول الله عز وجل ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي جمهور الناس فإن من سوى قريش كانوا يقفون بعرفات ويفيضون منها (قوله حتَّى أتى عرفات) قال النووي: فيه مجاز بالحذف تقديره فأجازه متوجهًا على عرفات حتَّى قاربها فضربت له القبة بنمرة قريب من عرفات فنزل هناك حتَّى زالت الشمس، ثم خطب وصلى الظهر والعصر، ثم دخل أرض عرفات حتَّى وصل الصحراء فوقف هناك، وقد سبق هذا واضحًا في الرواية الأولى.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث جابر رضي الله عنه فقال:
2832 -
(00)(00)(حَدَّثَنَا عمر بن حفص بن غياث حَدَّثَنَا أبي) حفص بن غياث (عن جعفر) الصادق (حدثني أبي) محمد الباقر (عن جابر) بن عبد الله الأنصاري المدني رضي الله عنه.
في حَدِيثِهِ ذلِكَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "نَحَرْتُ ههُنَا. وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ. فَانْحَرُوا في رِحَالِكُمْ. وَوَقَفْتُ ههُنَا. وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَوَقَفْتُ ههُنَا. وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ".
(2833)
- (00)(00) وحدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا يَحْيَى
ــ
وهذا السند نفس السند الَّذي قبله ولكن المتن فيهما مختلف، وغرضه كسابقه بيان متابعة حفص بن غياث لحاتم بن إسماعيل في رواية هذا الحديث (في حديثه) أي في حديث جابر (ذلك) الطويل المذكور آنفًا (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نحرت) هديي (ها هنا) أي في هذا المنحر الَّذي عند الجمرة الأولى، وقد بني عليه بناءَان كل منهما يسمى مسجد النحر أحدهما على الطريق، والآخر منحرف عنها، قيل وهو الأقرب إلى الوصف الَّذي ذكروه في محل نحره صلى الله عليه وسلم (ومنى كلها) أي كل بقاعها (منحر) أي موضع نحر الهدي فيجوز النحر في أي بقعة منها فلا يختص النحر بمنحره صلى الله عليه وسلم وهو قريب من مسجد الخيف (فانحروا) أيها المؤمنون هداياكم (في رحالكم) أي في منازلكم التي نزلتم فيها من بقاع منى، قال أهل اللغة: رحل الرجل منزله سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر، ومعنى الحديث منى كلها منحر يجوز النحر فيها فلا تتكلفوا النحر في موضع نحري بل يجوز لكم النحر في منازلكم من منى (ووقفت ها هنا) أي قرب الصحرات (وعرفة كلها) أي بقاعها (موقف) أي إلَّا بطن عرنة (ووقفت ها هنا) أي عند المشعر الحرام بمزدلفة وهو الموجود بها الآن كذا في المرقاة (وجمع) بفتح الجيم وسكون الميم (كلها) أي كل بقاعها أنث الضمير لأن جمعًا علم لمزدلفة، قال الفيومي: ويقال لمزدلفة جمع إما لأن الناس يجتمعون بها، وإما لأن آدم اجتمع هناك بحواء اهـ (موقف) أي يصلح الوقوف في بقعة منها، قال النواوي: في هذه الألفاظ بيان رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم في تنبيههم على مصالح دينهم ودنياهم فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم الأكمل والجائز فالأكمل موضع نحره ووقوفه والجائز كل جزء من أجزاء المنحر وجزء من أجزاء عرفات وجزء من أجزاء مزدلفة.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثالثًا في حديث جابر، ضي الله عنه فقال:
2033 -
(00)(00)(وحدثنا إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي (أخبرنا يحيى
ابْنُ آدَمَ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ. ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ. فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبعًا
ــ
ابن آدم) بن سليمان الأموي المكي، ثقة، من (9) روى عنه في (9) أبواب (حَدَّثَنَا سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي، ثقة إمام، من (7)(عن جعفر بن محمد عن أبيه) محمد الباقر (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الأنصاري. وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم مدنيون واثنان كوفيان وواحد مروزي، غرضه بيان متابعة سفيان الثوري لحفص بن غياث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة) في حجة الوداع (أتى الحجر) الأسود (فاستلمه) أي استلم الحجر ولمسه بيده اليمنى (ثم مشى على) جهة (يمينه) مارًا على الباب (فرمل) أي أسرع في مشيه مقاربًا خطاه هازًا كتفيه (ثلاثًا) أي في ثلاث طوفات الأول (ومشى) على عادته (أربعًا) أي في أربع طوفات الأخيرة، وفي هذا الحديث أن السنة للحاج إذ يبدأ أول قدومه بطواف القدوم ويقدمه على كل شيء وأن يستلم الحجر الأسود في أول طوافه وأن يرمل في ثلاث طوفات من السبع ويمشي في الأربع الأخيرة، وسيأتي هذا كله واضحًا مبسوطًا حيث ذكر مسلم أحاديثه والله أعلم.
ولم يذكر المؤلف في هذا الباب إلَّا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وذكر فيه ثلاث متابعات.
***