الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونستطيع أن نحدد أسباب النزول المتدرج للقرآن بما يلي:
أولا: تثبيت فؤاد الرسول الكريم:
والآية واضحة وصريحة في إقرار هذا المعنى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته الإنسانية كان محتاجا لمن يقوي عزمه، ويثبت فؤاده، ويعزيه عما يلاقيه من عقبات، ويفتح أمامه أبواب الأمل، لكيلا يستبد اليأس بنفسه ويستولي الحزن عليه.
ثانيا: تيسير حفظه وفهمه:
وهذه غاية في منتهى الأهمية، فالقرآن كتاب تشريع وتوجيه، ويهدف إلى إقامة وتكوين مجتمع إسلامي متكامل، عقيدة وسلوكا وتشريعا، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق النزول المتدرج للأحكام، لكي ينتقل المجتمع الإسلامي من جاهلية إلى إسلام، ومن فوضى إلى نظام، ولكي يتمكن المسلمون من حفظ القرآن الكريم وفهم أحكامه وحكمه، واستيعاب هديه وتعاليمه، وبفضل ذلك استطاع المسلمون- كما تحدثنا كتب السيرة- أن يحفظوا القرآن، وأن يستوعبوا ما جاء فيه من توجيه وتعليم.
ثالثا: مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع:
وهذا واضح كل الوضوح، وربما كان هذا السبب من أكثر الأسباب التي ذكرناها أثرا، فقد كانت الآيات القرآنية تتنزل بحسب الحاجة، وتختلف موضوعاتها بحسب ما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي، ومن السهل علينا أن نفهم تطور المجتمع الإسلامي اليوم، ومشاكله وأحداثه من خلال متابعتنا للقرآن، لأن القرآن كان يعايش الأحداث ويمد المسلمين بالرأي الأمثل لكل مشكلة من مشاكلهم، ولهذا كانت الأنظار تتطلع دائما إلى الوحي لكي يرسم للمسلمين الطريق، ويقوّم ما اعوج من شئونهم وما التبس عليهم من أمورهم.
معرفة أسباب نزول القرآن:
اهتم المفسرون بمعرفة أسباب نزول القرآن، وألّفت كتب كثيرة في معرفة
سبب النزول، ومن أبرزها وأقدمها ما كتبه علي بن المديني شيخ البخاري، وما كتبه الواحدي، وابن حجر، ثم ألف السيوطي صاحب الإتقان كتابا في الموضوع سماه «لباب النقول في أسباب النزول» (1).
ومن فوائد معرفة أسباب النزول ما يلي:
أولا: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ولا سبيل إلى ذلك على وجه الدقة إلا عن طريق معرفة السبب الذي أدى إلى نزول الحكم.
ثانيا: تخصيص الحكم عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
ثالثا: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال، قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن.
ومن الصعب على المفسر أن يتمكن من التفسير الصحيح واستنباط الحكم من النص القرآني، وإدراك الحكمة من الآية قبل أن يعرف سبب نزول الآية، ومعرفة السبب يؤدي إلى الربط بين الآية والواقع الذي كان قائما أثناء ورود النص، وكأن النص جاء كجواب عن واقعة أو كتفسير لحكم، وتوضيح لدلالة، ولهذا اتجه اهتمام العلماء قديما وحديثا لدراسة أسباب نزول القرآن، وإيراد سبب النزول في مقدمة تفسير الآية، لكي يكون السبب واضحا ودالا على المراد.
ولو أخذنا مطلق المعاني الواردة من بعض الآيات لتغيرت بعض الأحكام، ولكن معرفة السبب الذي أدى إلى نزول الآية يوجه الآية لكي تكون كجواب عن سؤال، وإذا عرف السؤال كان الجواب واضحا وخاصّا بالسؤال، ولا يتعداه إلى غيره.
ولهذا كان من واجب علماء التفسير أن يوجهوا اهتمامهم لمعرفة أسباب النزول، وأن يربطوا الآية بمحيطها العام، لكي تدل دلالة صحيحة على المراد
(1) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي، ج 1، ص 22 - 23.
بها، ومن الآيات القرآنية التي يتغير معناها والحكم المستفاد منها عند معرفة سبب نزولها قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]، ولو ترك مدلول اللفظ على إطلاقه لأفاد بجواز الصلاة إلى أية جهة كانت في السفر والحضر، وهو أمر مخالف لما وقع الإجماع عليه، ويتضح المعنى المراد إذا عرف أن هذه الآية نزلت عند ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، في رحلته من مكة إلى المدينة.
وهذا لا يعني أن جميع آيات القرآن نزلت بسبب حادثة وقعت أو جوابا عن سؤال، إذ من المؤكد أن بعض الآيات نزلت مقررة لأحكام وموضحة لقضايا، وليست مرتبطة بأي سبب وغايتها تشريع أحكام وبيان معالم العقيدة الإسلامية وإقرار مبادئ الإسلام.
ومثل هذه الآيات لا تحتاج إلى بيان سبب للنزول، وهي كثيرة ولم يتعرض لها علماء التفسير إلا في إطار تفسير معانيها المستفادة، كما تفهم من الدلالة القرآنية.
ويعرف سبب النزول عن طريق النقل الصحيح، ولا مجال للاجتهاد في هذا الموطن، والصحابة هم المؤهلون لمعرفة أسباب النزول، فإذا ورد سبب النزول عن صحابي فيعتد به، لأنه لا يعقل أن يجتهد الصحابي فيه أو يورده من غير سماع أو مشاهدة.
وأحيانا يرد سبب النزول في إطار الربط بين الواقعة ونزول الآية بأداة من أدوات الربط الدال على سبب نزول الآية، من غير تخصيص بالسبب أو توضيح له، مما لا يخفى أمره على العلماء المختصين في هذا العلم.
وإذا تعددت أسباب النزول، ووردت روايتان في بيان السبب، تقدم الرواية الصحيحة وتعتمد، وترجح الرواية الراجحة على المرجوحة، فإذا استوت الروايتان في درجة الصحة، ولا مجال للترجيح يحمل الأمر على تعدد الأسباب،
وهو أمر مقبول، كما يحتمل أن يتكرر نزول الآية عند تعدد الأسباب للتذكير بالحكم ولتأكيد أهميته.
وذهب جمهور العلماء إلى أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب، لأن الحكم يتناول كل ما يفيده اللفظ، ولا يحتاج الأمر إلى نص جديد لإثبات الحكم العام، لأن الأصل هو حمل الألفاظ على المعاني المستفادة منها عند إطلاقها ما لم يقم دليل يقيد هذا الإطلاق ويلغيه، أو يصرفه عن عمومه وأكد هذا الاتجاه ما ذهب إليه الصحابة من الاحتجاج بعموم الألفاظ الواردة في أسباب خاصة.