الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقامات لا تدرك إلا بالذوق فالفرق بين الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق في الكلام لا يمكن إقامة دليل منطقي عليه، وذكر «ابن أبي الحديد المدائني» صاحب شرح نهج البلاغة أن ذلك بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة حمرة، دقيقة الشفتين، نقية الشعر، كحلاء العين، أسيلة الخد، دقيقة الأنف، معتدلة القامة، والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن ولكنها أحلى في العيون والقلوب منها، وأليف وأملح، ولا يدري لأي سبب كان ذلك، ولكن بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله، وهكذا الكلام .. وإذا كان الجمال الظاهري يدرك بالعين المجردة فإن جمال الكلام لا يدركه إلا أهل البيان، وممن اشتغلوا بهذا الفن من العلوم (1).
من وجوه الإعجاز عند السيوطي:
ومن وجوه الإعجاز التي ذكرها «السيوطي» في كتابه الإعجاز ما يلي (2):
أولا: اشتماله على مختلف العلوم، وبالغ بعضهم في ذلك، واعتبر العلوم المستنبطة من القرآن بقدر حروف القرآن.
ثانيا: حسن تأليفه والتئام كلمه وخصاصتها ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن فجاء نطقه العجيب وأسلوبه الغريب مخالفا لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاءت عليه.
ثالثا: احتواؤه على جميع لغات العرب، وقال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها
…
وقال أبو عبيد: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول، وقد اهتم
(1) انظر البرهان، ج 2، ص 124.
(2)
انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن الجزء الأول.
علماء اللغة بهذا الموضوع ولا خلاف بينهم في أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وما استعمله القرآن من ألفاظ أعجمية لا يغير من هذه الحقيقة، فهذه الألفاظ سواء كانت عربية صرفة أو استعملت في العربية وشاعت أصبحت في حكم العربية، وجرت مجرى العربي الفصيح، وطالما أن البيان وقع بها، واتضحت معانيها فهي في حكم الألفاظ العربية، ولا عبرة بالبحث عن أصول اللفظة، وهذه الكلمات ذات الأصل العجمي كانت واضحة الدلالة، معبرة عن المعنى المراد، ولو قام مقامها لفظ عربي فصيح لما كان اختارها القرآن، وما اختيرت إلا لإتمام البيان وإكماله، ولو جاءت نشازا في سياق النظر لوضح الأمر وبان، وكما استعمل القرآن كلمات من أصول عجمية قد استعمل ألفاظا من غير لغة الحجاز، كالأرائك والمرجان بلغة أهل اليمن وهناك كلمات كثيرة جاءت في القرآن بلغة كنانة وهذيل وحمير وجرهم وكنده ومزينة واليمامة وجذام وخزاعة وتميم وغيرها من القبائل العربية، وتخصص بعض العلماء في هذا الموضوع وألفوا منه، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام والواسطي، ونزول القرآن بلغة قريش هو الأغلب، لأن لغة قريش هي الأيسر والألين في النطق فليس فيها الغريب والوحشي الشاق في مجال النطق ..
رابعا: تعدد أوجه الخطاب القرآني (1) فالخطاب في القرآن متعدد في أسلوبه بحسب المخاطب وطبيعة الموقف، فهناك خطاب التهكم «ذق إنك أنت العزيز الكريم» «وخطاب الكرامة» «يا أيها النبي» «يا أيها الرسول» ، وخطاب التحبب «يا أبت لم تعبد الشيطان» ، وخطاب التعجيز «فأتوا بسورة» ، وهناك خطاب الجنس البشري وخطاب النوع، والخطاب العام المراد به الخصوص، والخاص المراد به العام، وتعدد الخطاب واضح الدلالة على تحقيق المراد والتأثير في المخاطب، ولا يتصور أن يكون الخطاب القرآني عاما موحدا، فليس هذا من الفصاحة أو البيان يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
(1) انظر معترك الأقران للسيوطي، ج 1، ص 229.
خامسا: استعمال الكناية والتعريض (1)، والكناية أبلغ من الصريح في بعض المواطن، وهي ترك التصريح بالشيء إلى ما يساويه في اللزوم، ويتم اللجوء إلى الكناية لأسباب عدة إما لأن التصريح مما يستقبح ذكره، كاستعمال الملامسة والمباشرة بمعنى الجماع، وكذلك الغشيان والرفث والحرث والمراودة، والغائط والإدبار، أو لقصد المبالغة كاستعمال البسط للدلالة على سعة الجود والكرم، أو لاختيار لفظ أجمل وأدق في التعبير، كالتكنية بالنعجة أو الفرس عن المرأة أو الزوجة، ولا بد في اختيار الكناية بدلا من التصريح من مبرر يقصده المتكلم ويريد الإشارة إليه للستر والمدح والذم والاختصار والتيسير والإيضاح، وهذا أسلوب ذكي في التعبير، ولا حدود للكناية، وما تحققه الكناية لا يحققه الصريح من الألفاظ، بل قد يؤدي الصريح إلى جرح المشاعر في بعض الأحيان والإسفاف في اللفظ والسقوط في أوحال الارتباك مما يحرج المتكلم والسامع.
واستعمل القرآن الألفاظ المرادفة للألفاظ الصريحة المعبرة واعتبر هذا من أنواع البديع وهو قريب الشبه بالكناية، وسمي بالإرداف كقوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: انتهى الأمر بهلاك من هلك ونجاة من نجا، ولا مجال بعد ذلك لحوار أو نقاش أو تغيير أو تبديل، والكلمة تدل على معنى الحكم الملزم الذي لا رجعة فيه، وفيه هيبة القرار وسمو الأمر ..
واستعمل القرآن التعريض (2) وهو ذكر شيء للدلالة على شيء آخر هو المراد بالكلام، ويختلف عن الكناية من حيث أن الكناية تذكر المراد بلفظ غير لفظه، قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وهنا تعريض بالفاعل وذم له، وإشارة إلى سوء ما فعل، وكأن الموءودة في موطن القضاء تحاكم من قتلها، وقال تعالى: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، إشارة إلى عجز هذه الآلهة عن فعل أي شيء، وسخرية من عقول المؤمنين بها.
سادسا: الإيجاز والإطناب: وهو تأدية المعنى بلفظ أقل أو أكثر بحسب ما
(1) نفس المصدر، ص 286.
(2)
انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي ج 1، ص 286.