الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتأتي نهاية سورة آل عمران داعية المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والمرابطة، وكأنها توقظ الأمل في نفوس المؤمنين، وتحثهم على مواجهة الشدائد، ثم تقول بعد ذلك لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ولا نهاية للفلاح، فالفلاح هو الأمل وهو النهار بعد ليل طويل
…
وتأتي سورة النساء مبينة لأحكام الفرائض، لئلا يقع الظلم، والظلم ضلال، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وهذه هي الرقابة التي تضمن أن تنفذ الأحكام كما أرادها القرآن.
ثم تأتي المائدة وبعدها الأنعام والأعراف والأنفال، وكل سورة تختم بخاتمة ملائمة، ناصحة أو موجهة أو معلمة أو محذرة أو داعية لصبر أو حاثة على الاعتماد على الله والتوكل عليه.
قال السيوطي في خواتم السور:
هي أيضا مثل الفواتح في الحسن، لأنها آخر ما يقرع الأسماع، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاء الكلام، حتى لا يبقى معه للنفوس تشوف إلى ما يذكر بعد، لأنها بين أدعية ووصايا وفرائض وتحميد وتهليل ومواعظ ووعد ووعيد إلى غير ذلك (1).
فواصل الآيات:
الفاصلة في اللغة هي الشيء الذي يفصل بين أمرين، وتطلق على الخرزة بين خرزتين، والفصل القضاء بين الحق والباطل، والتفصيل هو التبيين والتوضيح، وكتاب فصلناه أي بيناه ووضحناه.
واستعملت الفاصلة في القراءات القرآنية كمصطلح دال على الكلمة التي تأتي في آخر الجملة.
قال أبو عمرو الداني: الفاصلة: كلمة آخر الجملة، وفرق بين الفواصل ورءوس الآية، فالفاصلة هي الكلام المنفصل مما بعده، سواء كان رأس آية أو نهاية كلام، وتسمى بالاستراحة في مجال الخطاب، حيث يتوقف الكلام.
(1) انظر الإتقان، ج 3، ص 320.
وقال أبو بكر الباقلاني: الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني.
وقال الزركشي في البرهان: الفاصلة كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع (1).
وقد ألف بعض العلماء في الفواصل، من هؤلاء، نجم الدين الطوفي المتوفى سنة 716 هـ الذي نسب إليه كتاب «بغية الواصل إلى معرفة الفواصل» وهو كتاب مفقود، وهناك كتاب آخر «القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز» لأبي عبد الله المخللاتي المتوفى سنة 1311 هـ وهو موجود في الخزانة التيمورية (2).
وقال الجعبري صاحب شرح الشاطبية (3):
لمعرفة الفواصل طريقان: توقيفي وقياسي:
أما التوقيفي فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه دائما تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائما تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة، ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة.
وأما القياسي: فهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب، ولا محذور في ذلك، لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان (4).
وقال بعض العلماء:
(1) انظر البرهان، ج 1، ص 53.
(2)
انظر كتاب الفاصلة في القرآن للأستاذ محمد الحسناوي ص 62.
(3)
هو إبراهيم بن عمر الجعبري المتوفى سنة 732 هـ، وهو صاحب كتاب روضة الطرائف في رسم المصاحف.
(4)
انظر الإتقان للسيوطي، ج 3، ص 290.
وذهب الرماني في إعجاز القرآن، والباقلاني أيضا إلى عدم وجود سجع في القرآن، وفرقوا بين الفاصلة والسجع، فالفاصلة بلاغة والسجع عين، وذهب غيرهم إلى إثبات السجع في القرآن، لأن ذلك مما يتبين فيه فضل الكلام، وإنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة كالتجنيس والالتفات (1).
وهذا الخلاف بين من قال بإثبات السجع في القرآن، ونفيه عنه هو الرغبة في تنزيه القرآن عما لا يليق به من الأوصاف، فمن نفى السجع اعتبر أن السجع تكلف وتصنع، والقرآن لا تكلف فيه، ومن أثبت السجع في القرآن نظر إلى كلام فصحاء العرب، واعتبر أن بعض السجع فضيلة، وهو دليل فصاحة (2).
وهذا الخلاف- على ما يبدو- ظاهري، فهو يناقش الفواصل القرآنية، ثم يقف أمام التسمية متسائلا: هل هذا النسق في النظم القرآني يعتبر سجعا، أم أنه نوع جديد من أنواع البلاغة القرآنية، فمن أنكر إنما أنكر التسمية، فكلمة «السجع» كانت تستخدم في كلام الكهان، وهي تدل على تصنع وتكلف، والقرآن منزه عن ذلك، ولو قيل بإثبات السجع في القرآن لكان الأسلوب القرآني غير خارج عن أساليب العرب، وهذا ينافي الإعجاز القرآني، الذي يؤكد تميّز القرآن عن أساليب العرب، وفضلا عن هذا فإن السجع تحكمه أوزان ولا يمكن للسجع أن يخرج عن أوزانه المعتادة، وإلا اعتبر ذلك السجع خارجا عن نطاق السجع المستحب والممدوح.
(1) انظر البرهان، ج 1، ص 54.
(2)
نفس المصدر.
(3)
انظر البرهان، ج 1، ص 60.
ومن أثبت السجع في القرآن، فإنه لم يعتبر أن السجع عيب في القرآن، وبخاصة إذا كان ذلك السجع خاليا من تكلف أو تصنع، ولا يمكن لسجع القرآن إلا أن يكون في أعلى درجات الفصاحة، والنهي مقتصر على سجع الكهان، لما يتصف به ذلك السجع من زيف وباطل.
ولذلك فإن الخلاف ظاهري، وهو خلاف مصطلح وتسمية، ولا يترتب عليه أي أثر، ولا شك أن أسلوب القرآن متميز، ولو وقع الالتزام بالمصطلحات القرآنية لكان أفضل، ولابتعدنا عن كثير من المزالق، فالفاصلة القرآنية ذات خصوصيات أسلوبية، وذات صيغ متعددة، وذات تعبيرات إعجازية قد تدلك بدرجات متفاوتة، فما يدركه البعض من مظاهر الإعجاز والجمال قد لا يدركه البعض الآخر.
ولا شك أن القرآن راعى المناسبة بين الفواصل، وهو أمر مألوف في اللغة، ومحمود في الأسلوب، ومؤثر في جمال العبارة، وقال شمس الدين بن الصائغ المعروف بابن أبي الفرس المتوفى سنة 776 هـ، في كتابه «إحكام الرأي من أحكام الآي»: بأن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يرتكب لها أمور من مخالفة الأصول، وتتبع ذلك في القرآن، وعثر على أكثر من أربعين حكما، نورد منها أمثلة (1):
1 -
زيادة حرف كإلحاق الألف في قوله: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا.
2 -
حذف همزة أو حرف كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ.
3 -
تأخير ما أصله أن يقدم: كقوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، وقوله: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ فأخر الفاعل لأجل الفاصلة.
4 -
إفراد ما أصله أن يجمع، كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ والأصل «الأنهار» .
(1) انظر البرهان، ج 1، ص 6 - 70.
5 -
جمع ما أصله أن يفرد، كقوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ والأصل ولا خلة بالإفراد.
6 -
تثنية ما أصله أن يفرد، كقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وأنكر ابن قتيبة أن الغاية من التثنية هنا مراعاة الفاصلة، ومعه حق في إنكاره، لأن مراعاة الفاصلة فيما لا يضيف معنى، كزيادة حرف لا يضيف معنى.
7 -
تأنيث ما أصله أن يذكر، كقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ.
8 -
صرف ما أصله ألا ينصرف: كقوله تعالى: قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ فنوّن الكلمتين لأجل التناسب مع الفواصل وَأَغْلالًا وَسَعِيراً.
9 -
إمالة ما أصله ألا يمال: كقوله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وجَلَّاها وغشاها.
10 -
العدول عن صيغة الماضي إلى الاستقبال، كقوله تعالى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ، ولم يقل:«وفريقا قتلتم» .
11 -
إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر: كقوله تعالى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.
12 -
حذف المفعول كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى.
13 -
إثبات هاء السكت: كقوله تعالى: مالِيَهْ/ سُلْطانِيَهْ/ ما هِيَهْ.
(1) انظر البرهان، ج 3، ص 314.
ويلاحظ أن فواصل القرآن إما أن تكون متماثلة أو متقاربة، فالفواصل المتماثلة دالة على حسن البيان ما لم تكن متكلفة، كقوله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:
1 -
5]، وقوله أيضا: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً [العاديات: 1 - 5]، وقوله أيضا: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر: 1 - 4].
أما الفواصل المتقاربة فلا تعتبر من السجع عند من يقول بإطلاق السجع في القرآن، لانعدام التماثل في الحروف، كقوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (1).
(1) انظر البرهان، ج 1، ص 75.