الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناية العلماء بإعجاز القرآن:
أجمع العلماء على أن القرآن هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في أوجه الإعجاز القرآني، وتعددت الآراء والبحوث وتكاثرت المصنفات التي درست الإعجاز في القرآن، ولكل رأيه واجتهاده ولكل رؤيته وفهمه، ومن حق كل باحث وعالم أن يدلي بدلوه، وأن يحاول إبراز ما يراه من أوجه الإعجاز
…
وإعجاز القرآن سر لا تدركه العقول، وتقف أمامه حائرة عاجزة، ترى الإعجاز وتحسه وتدركه، ولا تعرف سره وكنهه، فالقرآن من حيث ألفاظه كلام عربي محكم، يفهمه كل عربي، وليس فيه غموض أو إبهام، فكيف يقع الإعجاز في كلام اعتاد العرب سماعه ولماذا وقفوا أمامه حائرين مندهشين مستسلمين، يتحداهم، ويبالغ في التحدي، فلا يستطيعون مجاراته ولا الإتيان بمثله، ولا بعشر سور مثله، ولا بآية من آياته.
ووقف العلماء يبحثون عن سر الإعجاز وحقيقته، فإذا عجزوا عن إدراك ذلك قالوا بأن الله قد صرف العرب عن الإتيان بمثله ومبدأ الصرفة ما هو إلا تسليم العجز، وما هو بالرأي، ولذلك قال جمهور العلماء بفساد هذا الرأي، وأخذوا يبحثون عن أوجه الإعجاز في الألفاظ حينا وفي المعاني حينا آخر، وينظرون في النظم القرآني فيجدون نظما متميزا متفوقا يروقك ويؤنسك، فالألفاظ جميلة معبرة، ملائمة للمعاني، وكأنها أنزلت لكي تصور تلك المعاني أدق تصوير وأجمله.
ومن أقدم الذين كتبوا في الإعجاز في القرن الثالث الهجري أبو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ، وكان من أبرز كتاب عصره وأكثرهم شهرة، وعرض لمعجزة القرآن في إطار كتبه ومؤلفاته الكثيرة ورسائله العديدة التي تناول فيها معجزة محمد صلى الله عليه وسلم وتتمثل هذه المعجزة بالقرآن، المعجزة الخالدة، التي تحدى
بها النبي صلى الله عليه وسلم العرب، وعجز العرب عن مواجهة التحدي، والعاقل يتساءل عن أسباب عجز العرب عن مواجهة التحدي، هل لأنهم أدركوا عجزهم، فاستسلموا له لئلا ينكشف عجزهم وتقوى حجة «محمد» عليهم، وقال الجاحظ
متسائلا: وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم، وهم أشد خلق الله أنفة، وأفرطهم حمية.
ولم يتكلم الجاحظ عن وجوه الإعجاز، ولم يؤلف في أوجه الإعجاز كما فعل غيره كالباقلاني والجرجاني والرازي والخطابي والرماني، واكتفى ببيان المعجزة القرآنية، محللا ظاهرة عجز العرب عن مواجهة التحدي، متسائلا عن أسباب تخوفهم من هذه المواجهة، وهم أصحاب فصاحة وبلاغة، وأهل خطابة وشعر وبيان وكانت لغتهم في أعلى درجات القوة، فكانوا يملكون من أسباب المواجهة ما لا تملكه الأجيال اللاحقة، وهذا التوقف والتخوف دليل على عجز القوم من كثرة كلامهم وسهولة ذلك عليهم.
ثم قال بعد ذلك:
فمحال أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين، مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر (1).
وهذا الكلام المنسوب إلى الجاحظ لا يمكن أن يستفاد منه أن الجاحظ قد أخذ بمبدإ الإعجاز بالصرفة الذي نسب إلى «النظام» فما نسب إلى الجاحظ يؤكد عجز العرب عن التحدي، لسمو الأسلوب القرآني وعظمة هذا الأسلوب ورقيه وتميزه عن الأساليب العربية فالعرب ما استسلموا وهم قادرون على التحدي، وإنما استسلموا لأنهم وجدوا القرآن معجزة حقيقية لا سبيل إلى إنكارها، فالقرآن معجز بكل ما فيه من أسلوب ومعاني وأحكام وتشريع، وقدرة على التأثير وجمال في النسق القرآني وحكمة في الخطاب وروعة في البيان ..
فمن رأى المعجزة في القرآن نظر إلى القرآن نظرة شمولية متكاملة، فأسلوبه
(1) انظر الإتقان، ج 4، ص 6.
لا ينفصل عن معناه، ومعناه لا ينفصل عن الأسلوب وكل لفظة في القرآن معبرة ومحكمة ودالة، ولا يمكن أن تستبدل لفظة بلفظة أو مفردة بأخرى، تلك عظمة القرآن، وهذا هو إعجازه الحقيقي، فمن بحث في الإعجاز فقد بحث في جزئية صغيرة دالة على الإعجاز، فالبلاغة وحدها لا يمكن أن تكون وجه الإعجاز، والفصاحة وحدها لا يمكن أن تكون هي كل الإعجاز، والمعاني مستقلة لا يمكن أن تكون منفصلة عن أسلوب القرآن، فالإعجاز القرآني إعجاز متجدد متنوع واضح، يتمثل في عجز الإنسان عن الإتيان بمثل القرآن أو بمثل آية من آياته، فإذا أتى بآية تحاكي الأسلوب القرآني لفظا وبلاغة فإن من المستحيل أن تحاكيه وتماثله جمالا وتأثيرا ومعاني محكمة ومفردات دالة وألفاظ معبرة ..
وبالرغم من كل ما كتب في الإعجاز القرآني من كتب وما ألّف فيه من مصنفات، وما ذكر فيه من وجوه، فإن الكلمات القليلة التي كان الصحابة والتابعون ينطقون بها في مجال القرآن من حيث عظمة هذه المعجزة وسمو هذا الكتاب كانت أكثر تعبيرا وأوضح دلالة وأبرز للإعجاز وأسمى من كل ما كتب وقيل، فالإعجاز القرآني هو إعجاز كتاب أنزله الله على رسوله، ولا يمكن أن يدرس إعجازه في إطار بلاغته ولغته ومفرداته، فذلك مما تأباه العامة بفطرتهم فكتاب الله معجز وكفى
…
ولعل هذا ما دفع الجاحظ ومن عاش في زمانه أو من سبقه إلى ذكر إشارات واضحة إلى الإعجاز من غير خوض في أوجه الإعجاز كما أوردها علماء الإعجاز الذين أفردوا لهذا العلم مصنفات مستقلة.
وليس في هذا إدانة لمنهج علماء الإعجاز ولا يعني هذا التقليل من أهمية ما كتبوه وصنفوه، فلقد قاموا بجهد عظيم وخدموا هذا العلم خدمة كبرى، وإنما أود أن أشيد بمنهج الأولين السابقين من العلماء الذين أدركوا من أوجه الإعجاز الشمولي المتكامل ما لم يدركه اللاحقون، وكان فيما كتبوه وسجلوه أبلغ تعبير عن عظمة منهج الأولين في الفهم، وهو منهج يستوعب حقائق الإسلام، ويعطي لكل شيء حقه، ولا يترجم الظواهر العظيمة إلى معايير مادية تتمثل في صور