الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقل ويتنافى مع الفضيلة فهو حرام على وجه التأكيد، وما يرتضيه العقل ويقره العرف ولا يتنافى مع الفضيلة فهو جائز ومباح.
العناية بالمصاحف ومراحل تحسينه:
كان المصحف العثماني الإمام هو أول مصحف اكتمل جمعه وترتيبه وإعداده بصورته النهائية، وبعد أن أجمعت الصحابة على قبوله نسخت منه عدة نسخ أرسلت إلى الأمصار الرئيسية لكي تكون المصحف المعتمد.
ومنذ ذلك اليوم بدأت المصاحف تنسخ، ويدخل عليها من أنواع التحسين والتجويد ما يجعلها في متناول القراء، من حيث تعدد خطوطها والتفنن في إدخال التحسينات
التي تيسر قراءتها، وإدخال النقط والشكل لضبط الألفاظ والمفردات، حتى لا يقع أي اختلاف في النقط أو تباين في ضبط الكلمات.
وكانت مسيرة التجويد والتحسين منسجمة مع حركة المجتمع الإسلامي وتطوره، فقد كانت الدولة بسيطة المعالم في المدينة، عكفت في أيامها الأولى على تثبيت أركان العقيدة، ومواجهة خصومها، ثم اتسعت اهتماماتها، ونمت مطامحها، وامتد سلطانها في مشرق ومغرب، وكان لا بد من مواكبة هذا التطور بتنظيم محكم، وإعداد سديد، واهتمام بمظاهر العمران الذي يجسد عظمة الدولة واستقرارها، ويؤكد استجابة شعبها لما تتطلبه الحضارة من اهتمام بأساليب التطوير والتحسين، من تنظيم للجيوش، وإنشاء لدواوين المال والإدارة والجند، واهتمام بقضايا الفكر والثقافة، وتدوين للعلوم.
وأول ما انصرف الاهتمام به العناية بكتاب الله، شرحا لآياته، وتوضيحا لأحكامه، وتفسيرا لمفرداته، وبيانا لأسباب نزوله، وتدوينا لتاريخه، وتجويدا لخطوطه، وضبطا لألفاظه، لئلا يقع أي التباس في كلمة من كلماته.
وأول مظاهر هذا التحسين إدخال النقط والشكل فيه، لضبط النطق به، لئلا يقع فيه تحريف أو تبديل، أو لحن أو ما يشبه اللحن، ولم يكن مصحف عثمان منقطا أو مشكولا، ربما لعدم معرفة العرب بالنقط في ذلك الحين، أو لإمكان
قراءة القرآن بما يوافق القراءات المختلفة، وبما يستجيب لكل اللهجات العربية، وبما يوافق الأحرف السبعة.
ومن الطبيعي أن يتوقف بعض العلماء أمام النقط والشكل موقف التردد والهيبة، كشأن كل أمر جديد، وسرعان ما أدرك الجميع أهمية الضبط والتيسير في القراءة، لكيلا يقع لحن في النطق أو لبس في ضبط بعض الكلمات.
وتشير الروايات إلى أن التفكير في الأمر بدأ في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي خاف من أثر الاختلاط بين العرب والعجم على اللغة، فأمر الحجاج بن يوسف بأن يهتم بالأمر، ويقال بأن الحجاج أصلح الرسم القرآني في أحد عشر موضعا.
وتؤكد الروايات كما قال السيوطي في الإتقان أن (1):
«أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل:
الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثي»، ويبدو أن الحسن البصري كان دوره محصورا في مباركة هذا العمل وتأييده وتشجيعه، إذ لم يعرف له اهتمام بالنقط والشكل، وكان من الضروري أن ينال هذا العمل موافقة العلماء.
وهناك روايات تشير إلى أن بعض العلماء كانوا يكرهون النقط والشكل (2)، وروى عن النخعي أنه كره نقط المصاحف، وروي مثل هذا عن ابن سيرين، وقال ابن مسعود: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، وقال مالك:«لا بأس بالنقط في المصاحف التي يتعلم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا» . وقال الحليمي (3):
(1) انظر الإتقان، ج 4، ص 160.
(2)
نفس المصدر، ص 161.
(3)
هو أبو عبد الله حسين بن حسن الحليمي الجرجاني المتوفى سنة 403 هـ.
وقال ابن مجاهد: «ينبغي ألا يشكل إلا ما يشكل» (1)، وقال النووي: نقط المصحف وشكله مستحب، لأنه صيانة له من اللحن والتحريف (2).
وكان أبو الأسود الدؤلي معنيا بشئون اللغة، واشتهر أنه أول من وضع العربية، وأن الخليل بن أحمد أول من وضع العروض، ومن الطبيعي أن تتوجه الأنظار إليه، وأن يطالب بإعداد ما يضمن سلامة النص القرآني، ويقال بأن زياد ابن أبيه والي البصرة طالبه بأن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتثاقل أبو الأسود وتباطأ، ولعله تهيب الأمر، ولما سمع قارئا يقرأ قوله تعالى:
أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بجر اللام في «رسوله» قال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، وذهب إلى زياد بعد أن أفزعه الأمر وقال له:«قد أجبتك إلى ما سألت» (3) وعكف على إعداد نقط دالة على الحركات والسكون.
ولا شك أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من شرع في الأمر ببدايات بسيطة، إذ لا يعقل أن يقوم بهذا العمل شخص واحد، ولا يمكن أن يكتمل من خلال عمل في جيل واحد، فمثل هذه الأعمال الكبيرة، تبتدئ كفكرة، ثم يشرع فيها بخطوة، ثم تعقبها خطوات متعسرة خجولة تتعثر مرة وتتقدم أخرى إلى أن يستقر الأمر على الأفضل والأيسر مما لا مشقة فيه على الأمة.
وهناك رواية تقول: بأن أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر، ويقال: إنه قام بتنقيط مصحف ابن سيرين المتوفى سنة 110 هـ، وكان يحيى بن يعمر من أهل البصرة، واتهم في عصر الحجاج بالتشيع ونفي إلى خراسان، وهناك اشتهرت مكانته وأصبح «قاضي مرو» .
وتابع العمل من بعده نصر بن عاصم الليثي تلميذ أبي الأسود الدؤلي، وكان أحد قراء البصرة، وهناك من يقول: بأنه أول من نقط المصاحف، ولا يمكن الترجيح بين هذه
الأقوال والروايات، لصعوبة تحديد دور كل فرد في هذا العمل
(1) انظر الإتقان، ج 4، ص 161.
(2)
نفس المصدر.
(3)
انظر مناهل العرفان للزرقاني، ج 1، ص 401.
الكبير الذي يرجح أن خطواته الأولى كانت من تفكير أبي الأسود الدؤلي، ثم تكاملت واستقامت على يد كل من يحيى بن يعمر وتلميذه نصر بن عاصم.
ويكفينا هذا القدر من بيان نشأة المرحلة الثانية من تاريخ القرآن التي تمثلت في دور التحسين والتجويد والإكمال، لكي يكون الرسم القرآني مكتمل المعالم، واضح الألفاظ، مزودا بإشارات ضابطة للكلمة، مبينة لكيفية النطق بها.