الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا فائدة في مناقشة ما أثاره العلماء في موضوع النسخ من استحالة البداء على الله، لأنه يتضمن ظهورا بعد خفاء وتغييرا في الرأي، وذلك جدل غير مفيد، وأمر النسخ واضح الحكمة، جلي الفائدة، وهو منهج تشريعي، لا بد منه، لمواكبة سير الدعوة، وإقرار أحكام تحقق المصلحة، وتنسجم مع المرحلة الزمنية، وإذا سلمنا بمبدإ الإيمان بالله، وبما جاء من عند الله وجدنا أنفسنا في حلّ من تفسير ظاهرة النسخ وكثير من الظواهر المتعلقة بالرسالة والقرآن تفسيرا عقليا يخل في معظم الأحيان بقدسية
المعاني الإيمانية، ويجعل المؤمن في موقف التساؤل والوصاية على ما لا يجوز أن يتدخل فيه أو يناقشه من أمور دينه وعقيدته.
إن منهجا جديدا في دراسات الفكر الإسلامي يعتمد على طرح ذلك المنهج الجدلي المكرر والمحفوظ جدير بأن يسهم في تطور فكرنا الإسلامي، فلا نناقش فيه ما قاله اليهود والنصارى، وكأنهم أوصياء على فكرنا، ولا نضيع وقتنا في جدل مع علماء الكلام في قضايا تجاوزها منهج السلف ولم يقف عندها، لأن الحوار فيها لا يؤدي إلى نتيجة، وربما يثير قضايا جديدة، تشغل العلماء بما هو غير مفيد من أنواع الحوار.
أنواع النسخ:
قسم علماء القرآن النسخ إلى أنواع:
النوع الأول: ما نسخت تلاوته وحكمه معا:
قال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى «ولا يعرف منها اليوم شيء» (1).
وأورد السيوطي ما روته عائشة: «كان فيما أنزل «عشر رضعات معلومات
(1) انظر البرهان، ج 2، ص 40.
فنسخن بخمس رضعات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن» رواه الشيخان، وقد تكلموا في قولها: وهي مما يقرأ: «مما يفيد بقاء التلاوة، وأجيب بأن المراد أن النسخ تم قبل الوفاة، ولم يبلغ كل الناس بذلك، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الناس يقرؤها» (1).
النوع الثاني: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته:
وهذا النوع هو الذي وقع الاهتمام به، وألّفت المؤلفات فيه، وانصرف إليه العلماء، وكتب ابن العربي المعافري كتابه: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم في هذا النوع من النسخ، نظرا لاختلاف مدلوله، وتعدد الآراء فيه، وسبب الاختلاف في هذا النوع من النسخ أن القراءة باقية، ولم تنسخ، فتوسع العلماء في فهم معنى النسخ وشموله، والتبس عليهم الأمر بين التخصيص والنسخ، فاعتبروا التخصيص نسخا، وهذا تجاوز.
ومما ذهب إليه بعض العلماء في هذا المجال أنهم اعتبروا آيات القتال ناسخة لكل الآيات الواردة في القرآن التي تتضمن العفو والصفح والصبر، وأن تلك الآيات الداعية إلى قتال المشركين عامة وشاملة، فلا مجال بعدها للمهادنة أو المجادلة أو الصبر أو الصفح أو الإمهال، وذكر ابن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ أكثر من سبعين آية منسوخة بآيات القتال، كما ذكر الآيات التي نسخ حكمها وبقيت تلاوتها.
وأورد ابن العربي الآيات التي نسخ حكمها، وبقيت تلاوتها، ومن هذه الآيات ما يلي:
الآية الأولى: قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 180].
قال ابن العربي في هذه الآية:
«قال علماؤنا وابن القاسم عن مالك: هذه الآية نزلت قبل الفرائض ثم
(1) انظر الإتقان، ج 3، ص 63.
أنزل الله الفرائض في المواريث، فنسخت الوصية للوالدين ولكل وارث إلا أن تأذن الورثة في شيء فيجوز» واتفق الكل على أنها منسوخة واختلفوا في ناسخها على أربعة أقوال (1):
الأول: إن ناسخها آية المواريث.
الثاني: إن ناسخها قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً [النساء: 8].
الثالث: إنه نسخها أن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث.
الرابع: إنه نسخها بإجماع الأمة على إبطالها وأن الوصية لا تجوز لأحد ممن سمى الله له فرضا معروفا أو جعل النبي صلى الله عليه وسلم له حقا مفروضا.
وقد ناقش ابن العربي هذه الأقوال الأربعة وردها، ولم يعتبرها ناسخة للآية الأولى، فآية المواريث لا تتعارض مع آية الوصية، ومن شروط النسخ التعارض، ولا يعرف المتقدم والمتأخر من الآيتين، وآية القسمة لا تصلح لنسخ آية الوصية لعدم التعارض أيضا، ولا يصلح الخبر «لا وصية لوارث» لنسخ الآية، لأن الآية أقوى من هذا الخبر من حيث الصحة، ولا بد في النسخ من التماثل بين الناسخ والمنسوخ، أما الإجماع فلا يصلح لنسخ الآية، لأن الإجماع لا ينسخ أصلا لأنه ينعقد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين الإجماع الذي ينعقد على نظر، والإجماع الذي ينعقد على أثر، فما انعقد على نظر لا يصلح للنسخ، وما انعقد على أثر جاز أن يكون ناسخا، ويكون الناسخ الخبر الذي انبنى عليه الإجماع، وعندئذ تكون الأمة قد أجمعت على إسقاط الوصية للوالدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا وصية لوارث» (2).
الآية الثانية: قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ
(1) انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي ج 2، ص 7، تحقيق الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية.
(2)
نفس المصدر، ج 2، ص 19.
[البقرة: 184] وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185].
وأورد ابن العربي الأقوال التي وردت في بيان هذه الآية، وأقوال الفقهاء في حكم الإطعام، فالصوم واجب على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام على من لم يطق الصيام إذا فطر من كبر (1).
الآية الثالثة: قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة: 187]. وهذه الآية ناسخة للآية التي قبلها وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، ونقل ابن العربي عن المفسرين أن المراد بالآية نسخ ما كان عليه العمل لدى الأمم السابقة، من تحريم الوطء بعد النوم في ليلة الصيام، وكان صوم المسلمين في بداية الأمر كصوم الأمم السابقة، ثم نسخ هذا الحكم، وأصبح الوطء جائزا خلال الليل، وكان بعض الصحابة لا يصبر على الامتناع عن الوطء عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، فرخص الله لهم في هذا الأمر وأباح لهم ما كان محرما عليهم فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ (2).
وهذه أمثلة من الآيات التي نسخ حكمها وبقيت تلاوتها، واعتمدنا في ذلك على ما كتبه ابن العربي المعافري في كتابه الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وهو كتاب قيم عرض فيه للنسخ في القرآن، وذكر الآيات المنسوخة في كل سورة في سور القرآن.
وتساءل السيوطي عن الحكم من نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وأجاب من وجهين:
- أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
(1) انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي ج 2، ص 22.
(2)
انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي ج 2، ص 25.
- والثاني: أن النسخ غالبا ما يكون لتخفيف، فبقيت التلاوة تذكيرا للنعمة ورفع المشقة (1).
النوع الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه:
أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبيّ بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما، وقال عمر:«لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي» رواه البخاري في صحيحه معلقا، ولو كانت التلاوة باقية ولم تنسخ لبادر عمر إلى كتابتها في المصحف، ولم يعرج على مقال الناس (2).
وروى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري: إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني أحفظ منها «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» (3).
وهنا طرح الزركشي في البرهان سؤالا وهو أن يقال:
ومما لا شك فيه أن النسخ وقع في القرآن الكريم، والأدلة النقلية تؤكد وقوع النسخ، والنسخ دليل صحة، وهو ظاهرة عظيمة الدلالة على عظمة منهج الإسلام في التشريع، إلا أنه يجب أن تحدد مواطن النسخ في القرآن، فيما لا يمكن إيجاد
(1) انظر الإتقان، ج 3، ص 69،
(2)
انظر البرهان، ج 2، ص 36.
(3)
انظر البرهان، ج 2، ص 37.
(4)
المصدر نفسه.