الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرأي الثاني: الرسم القرآني اجتهادي:
ذهب بعض العلماء ومنهم الباقلاني وابن خلدون إلى أن رسم القرآن اجتهادي، ولا مجال للتوقيف في مجال الإملاء الذي تحكمه قواعد، ونفى الباقلاني أن يكون هناك أي دليل يثبت التوقيف في الرسم، والتوقيف يحتاج إلى دليل.
وقال في كتابه الانتصار: «وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون ما أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود، لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية.
وأكد الباقلاني أن السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف وأن تعوج الألفات وأن يكتب على غير هذه الوجوه».
وعلل ذلك بأن الخطوط إنما هي علامات ورسم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مقيد لوجه قراءتها تجب صحته، وتصوير الكاتب به على أي صورة كانت.
وختم الباقلاني كلامه بأن كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنّى له ذلك» (1).
(1) انظر مناهل العرفان للزرقاني، ج 1، ص 374.
وتطرف ابن خلدون وابتعد، وتحدث عن الرسم القرآني في مقدمته خلال كلامه عن الحضارة والعمران وربط بين الحضارة والكتابة، فالكتابة تزدهر بازدهار العمران وتتراجع بتراجعه، وكلما كانت الأمة أقرب إلى البداوة كانت أبعد عن صناعة الكتابة، لأن الكتابة صناعة، والصناعة لا تزدهر إلا في ظل الحضارة.
وقال في معرض كلامه عن الكتابة عند العرب: وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيه تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعده المتعلقون بوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا.
ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل
…
ثم قال بعد ذلك:
(1) انظر مقدمة ابن خلدون ص 747.
(2)
انظر مقدمة ابن خلدون ص 748.
وتبرز خطورة رأي ابن خلدون فيما طرحه في جرأته على كتاب الوحي، وجمّاع القرآن من حيث عدم إجادتهم قواعد الإملاء، وعدم تمكنهم من الكتابة الصحيحة، وتأكيده على وجود أغلاط إملائية في الرسم القرآني، وهذا اتجاه خطير، ولا يمكن التسليم به، لأنه يتعلق بكتاب الله أولا، ولأنه لا يحترم خصوصية الرسم القرآني ثانيا (1).
ويختلف رأي ابن خلدون عن رأي الباقلاني من حيث تفسير ظاهرة الرسم القرآني، فالباقلاني اكتفى بالقول بعدم التوقيف في مجال الرسم، لعدم قيام الدليل على ذلك،
ولكن ابن خلدون اعتبر الرسم القرآني ناتجا عن جهل العرب بقواعد الإملاء بسبب انتشار البداوة التي تضعف الاهتمام بصناعة الكتابة، وهذا قول كبير وادعاء خطير.
وليس هناك أي دليل عليه، ولم يفرق ابن خلدون بين جودة الخط وأناقة الرسم وبين صحة الإملاء ومعرفة قواعد اللغة، وإذا صح أن جودة الخطوط تتعلق بالحضارة والعمران، فإن صحة الإملاء لا علاقة لها بالعمران، وربما أفسدت الحضارة الكثير من قواعد اللغة والإملاء، لأن الحضارة توجه الاهتمام إلى مظاهر الترف، وتبعد الفرد عن أصالته وتضعف لديه القدرة على التركيز.
ولا خلاف في أن الخط ليس بكمال في حق الصحابة وكتاب الوحي، ولا يتفاضل الصحابة بجودة الخطوط وحسن الرسوم، فذلك فن يحتاج إلى إعداد وتكوين وتعليم، إلا أن ذلك كله لا يمكن أن يكون حجة على ما يقوله ابن خلدون من وقوع أخطاء إملائية في الرسم القرآني، وذلك دليل قصور، وهذا أمر مرفوض بالنسبة لجماع القرآن (2).
ولو توقف ابن خلدون عند حدود القول بأن الرسم القرآني أمر اجتهادي، ولا مجال للتوقيف فيه لكان الأمر مقبولا، وبخاصة وأن بعض العلماء ذهبوا إلى ذلك، واعتبروا أن القضايا التوقيفية تحتاج إلى دليل، وردّ الفريق الذي قال
(1) انظر كتابنا الفكر الخلدوني من خلال المقدمة ص 405 (تحت الطبع).
(2)
انظر كتابنا الفكر الخلدوني من خلال المقدمة ص 406.