الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بلاغية، ومفردات لغوية، ومعاني قاموسية.
إن الإنسان يفقه بقلبه وفطرته، وبطريقة تلقائية، ما لا يفقهه أصحاب العقول الكبيرة من فلاسفة وفقهاء ورجال لغة وبيان، وما يفقهه العامة أصحاب الفطرة السليمة أدق وأعمق وأصفى، وهو أقرب للحق وأسمى.
ومع هذا .. فإن من واجبنا أن ننصت لصوت هؤلاء العلماء وهم يضعون معاييرهم العقلية، ويصوغون رؤيتهم العلمية في وجوه من الإعجاز متعددة، وأن نعترف لهم بما كتبوه وسجلوه، وأن نثني على عملهم العظيم، وفي نفس الوقت فإن من واجبهم أن يعترفوا بأن الفطرة السليمة تدرك بالبداهة الإعجاز القرآني، وترى فيه الإعجاز العظيم الذي يتحدى كل أعمال البشر ..
وسوف أذكر مناهج بعض العلماء الذين كتبوا في الإعجاز وسوف نجد أن ما قاموا به من أعمال علمية جديرة بأن تكون في موطن الإشادة والإعجاب، وهذا يدل على
مدى عناية علماء الإسلام بالقرآن الكريم.
الإعجاز عند الخطابي:
ممن كتب في الإعجاز أبو سليمان محمد بن إبراهيم الخطابي المتوفى سنة 388 هـ، وكان من أوائل الذين كتبوا في الإعجاز ولا شك أنه تأثر بما كتبه الجاحظ من قبله، واطلع على ما كتبه أبو إسحاق النظام أحد أئمة المعتزلة الذي قال بأن الله تعالى قد صرف العرب عن معارضة كلام الله، وهذا أمر مقبول، إذا تضمن الإقرار بعظمة القرآن من حيث أسلوبه ونظمه ومعانيه، فإن الله تعالى قد تحدى العرب بالقرآن، وأعجز العرب عن الإتيان بمثله، والعجز هنا عجز مادي لتميز القرآن وعظمة أسلوبه ودقة معانيه وعجز محاط بهالة من الرهبة والخشية تمثل في حفظ الله لهذا القرآن، وتعهد بحماية الدعوة وانتصار لرسوله، وفكرة الصرفة ليست مرفوضة من الأساس إذا جاءت في إطارها الصحيح المتمثل في رعاية الله لهذه الرسالة وتدعيم موقفها ومناصرة المسلمين، ولقد ثبت أن الله تعالى قد صرف عن المسلمين أخطارا ودفع عنهم أعداءهم، وشتت شملهم كلما
اجتمعوا على الإسلام، وأغشى أبصارهم في مواقف كثيرة، وحمى القرآن من العبث ووحد به كلمة العرب.
وكل قول إذا وقع تفسيره في إطاره الضيق أخل بفكرة الإعجاز وأساء لعظمة القرآن، فمن قال بالصرفة لا يختلف عمن قصر الإعجاز على الصور البلاغية والألفاظ اللغوية من حيث تضييق الخناق على مفاهيم واسعة وإطارات للتفكير ذات أبعاد شمولية، فما أضيق ما ذهب إليه اللغويون والبلاغيون من تفسير الإعجاز، وما أوهن هذا الإعجاز الذي لا يعجز عنه البشر، فالإعجاز أعم وأشمل وأسمى وأعلى من كل وجوه الإعجاز المذكورة في كتب الإعجاز.
ولقد تصدى جمهور العلماء للرد على «النظّام» ، وأبانوا عن فساد رأيه وبطلان مذهبه، وهذا أمر لا خلاف فيه، فلا يمكن القول بانتفاء الخصوصية القرآنية الذاتية في الأسلوب والنظم واللغة والبلاغة، ولا يمكن القول أيضا باقتصار الإعجاز على الجوانب اللغوية، ومن رد على «النظّام» ومدرسته وجب عليه أن يرد على المدارس اللغوية أيضا، لأنها نظرت للإعجاز نظرة ضيقة، وسدت الأبواب أمام الظاهرة القرآنية المعجزة.
ولقد أنكر الخطابي فكرة الإعجاز بالصرفة، واعتبر أن الإعجاز لا بد إلا أن يكون في إطار الأمور الخارجة عن مجاري العادات فالتحدي لا يكون إلا فيما هو خارج عن القدرة الإنسانية، ولا بد إلا أن يكون في إطار النظم والأسلوب، بحيث جاء القرآن جامعا بين الفخامة والعذوبة، وهما ضدان، واجتماع الضدين في النظم القرآني فضيلة وبينة ومعجزة، وأشار إلى أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أحسن المعاني، من توحيد لله وتنزيه له وبيان لأحكام شرعه من تحليل وتحريم وحظر وإباحة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، والإتيان بكل ذلك والجمع بين مختلف الغايات أمر يعجز عنه البشر، ولا تبلغه قدرتهم، ولذلك زاغت أبصارهم واضطربت أفئدتهم فقالوا أنه سحر أو شعر، من حيث عجزهم عن الإتيان بمثله.