الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخلاف كما يبدو بين من يقول بوجود السجع في القرآن أو نفيه هو خلاف لفظي، وهو خلاف مصطلح، فإن شئت أن تسميه سجعا فهو كذلك، وهو سجع محمود وهو متميز لا تكلف فيه، وإن شئت أن تسميه تسمية جديدة فمن حقك أن تفعل ذلك، ومن حقك أن تطلق عليه كلمة السجع أو تنفيها عنه.
الإعجاز عند القاضي عبد الجبار:
ويعتبر ما كتبه القاضي عبد الجبار (1) امتدادا لما كتبه الباقلاني في الإعجاز، نظرا لأن القاضي عبد الجبار كان معاصرا للإمام الباقلاني، وكان مهتما بعلم الكلام، ويعتبر كتابه «المغني» من أبرز كتب علم الكلام، وجاء كتابه في الإعجاز في إطار دراساته الكلامية، وهو جزء من كتابه «المغني» ولهذا ظهرت آثار آرائه الكلامية في مجال دراسته للإعجاز.
ويبدو أنه لا يميل إلى اعتبار الإعجاز في أوجه البلاغة وإنما يتمثل الإعجاز في جزالة اللفظ وحسن المعنى، ولا عبرة بالقوالب والأشكال البلاغية، لأن المعول عليه في مجال الفصاحة هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فالصورة البلاغية إذا جاءت في موطنها مؤكدة جزالة الألفاظ مبينة جمال المعاني فهي من الإعجاز، وإذا لم تعبر عن هذه
المعاني ولم تحقق هذه الغايات فقد تكون متكلفة سيئة الأثر، واستبعد القاضي عبد الجبار أن تكون الصرفة التي قال بها بعض علماء الكلام من أوجه الإعجاز، واعتبر العرب من أقدر الناس على معرفة ما يقع به التحدي، وقد تحداهم القرآن، وأدركوا معنى هذا التحدي، ولا يمكن لهذا التحدي أن يكون إلا في مجال الفصاحة والبيان.
وقد تعرض القاضي عبد الجبار لموضوع التحدي بالكلام وأكد أن الفصاحة في الكلام لا تظهر في اللفظة الواحدة والكلمة المفردة، وإنما تظهر عند ضم
(1) هو أبو الحسن بن عبد الجبار الأسد بادي المعتزلي، وكان شيخ القضاة بمصر، وكان من أبرز علماء المعتزلة وأكثرهم حجة، وله كتاب «المغني» أشهر مؤلفاته وهو موسوعة في علم الكلام توفي سنة 415 هـ بمدينة الري.
الكلمات إلى بعضها فيقع التناسب والتجانس، ويتحدد في هذا الإطار موقع اللفظة من حيث دورها في التعبير عن المراد، والكلمة ينظر إليها من زاويتين:
الأولى: نظرة في حال إفرادها، ونظرة أخرى في حال نظمها مع غيرها، ولا بد من تحديد مفهوم الكلمة بذاتها من حيث وضعها عند أهل اللغة، ومفهومها في إطار موقعها في الجملة من حيث موقعها الإعرابي، ومفهومها حين تأخذ مكانا خاصا في الكلام، من حيث المعنى المستفاد منها
…
والكلمة لا يمكن أن تفهم إلا في إطار موقعها العام في الكلام، والوظيفة التي تؤديها، فقد تفهم المعاني، وتتحد المفردات، ثم يقع التباين في مدى الفصاحة والبيان والإفهام والتأثير، وهنا نكتشف عظمة الدور الذي يؤديه اختيار الكلمة وموقعها، وهنا تبرز الفصاحة ..
وهذا يؤكد اهتمام القاضي عبد الجبار بالنظم، والنظم كما أورده كالثياب المنسوجة تتفاضل بمواقع الغزل وكيفية تأليفه وتنسيقه، مع أن الغزل في حقيقته لا يتغير، والكلام يتفاضل أثره ويتباين معناه بحسب قوة المتكلم، وقدرته على اختيار مواقع الكلام من حيث التقديم والتأخير، وهذا يحتاج إلى قدرة ذاتية تعطي صاحبها فصاحة وقوة بيان، ولا يتم ذلك إلا بتأييد من الله وإلطاف ورعاية وتوفيق.
وهذا المنهج يقودنا إلى إقرار فكرة الإعجاز القرآني، من خلال توافق اللفظ والمعنى، وتكاملهما في أداء الدور المطلوب فيهما، فالتأليف هو الدور الأهم في فن الفصاحة، بحيث تكون اللفظة دالة على المعنى المراد، وتقع في الموقع المناسب لها، ولهذا عند ما يقع التحدي بالكلام فلا بد من أن يكون تأليف هذا الكلام في أعلى درجات الترتيب والتنسيق وحسن التركيب بحيث يكون الكل في موقعه المناسب، من حيث اختيار الكلمة، واختيار موقعها في الجملة، لكي يؤدي هذا التركيب المحكم الغاية المطلوبة. ولهذا يتفاضل الفصيح من الكلام بتفاضل الكتّاب، مع أن الألفاظ واحدة، فالأقدر على التأليف هو الأفصح، ولا نهاية للفصاحة، ويقع الإعجاز فيما وقع التحدي به والعجز عن الإتيان بمثله.
والقاضي عبد الجبار يركز على أهمية الفصاحة في الإعجاز ولا يتصور الإعجاز إلا بالفصاحة، والفصاحة عنده لا تتوقف عند حدود النظم ولا علاقة لها بالشكل والقالب، من حيث كون الكلام شعرا أو نثرا مسجوعا، فالنظم عامل في الفصاحة له أثره الواضح ولكنه ليس العامل الوحيد، ولا بد في الفصاحة من تكامل حسن المعنى وجزالة اللفظ، ومتى تحقق هذا الشرط في الكلام كان فصيحا، سواء كان شعرا أو نثرا، وكلما زادت معالم هذا التوافق في اللفظ والمعنى اتضحت الفصاحة وبرزت في الكلام.
ولعل القاضي عبد الجبار في تركيزه على معنى الفصاحة واعتبارها نتاج عاملين أساسيين، جزالة في اللفظ وحسن في المعنى، إنما يرد فيه على أبي بكر الباقلاني، الذي اعتبر الإعجاز متمثلا في مغايرة جنس الكلام لأساليب العرب وأجناس كلامهم، ولهذا اتجه اهتمام الباقلاني إلى نفي التجانس بين القرآن وكلام العرب، وشدد النكير على من قال بوجود السجع في القرآن، لأن السجع من جنس كلام العرب، والقرآن جاء مغايرا لأساليب العرب، فلا يستقيم أن يوصف أسلوب القرآن بالسجع ولو جاءت أوزانه مماثلة لأوزان السجع في الأسلوب العربي.
ويؤكد هذا الاختلاف بين كل من القاضي عبد الجبار وأبي بكر الباقلاني أن كلّا منهما ينظر للإعجاز من زاوية مغايرة لما ينظر منها الآخر، فالقاضي عبد الجبار لا ينظر للإعجاز من زاوية الخروج عن مألوف كلام العرب، ولهذا لم يحرص على نفي السجع في القرآن، فالأمر لا يعنيه سواء سمي سجعا أو غير سجع، وإنما يعنيه أولا إثبات الإعجاز عن طريق الفصاحة، وطريقها واضح وهو جزالة اللفظ وحسن المعنى، وهذا معيار لا نملك إلا أن نشيد بدقته، لأنه معيار موضوعي، يقيم أمر الإعجاز على معايير موضوعية لا تتصور الفصاحة إلا بها، وليس أدل على الإعجاز من تلاقي «لفظ» بلغ الذروة في الجزالة والقوة و «معنى» بلغ القمة في جودة المعنى ودقته وسلامته، وهنا تبرز تساؤلات حول أهمية المعايير البلاغية ويقف القاضي عبد الجبار أمام هذه المعايير وقفة موضوعية فلا