المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته - المدخل إلى علوم القرآن الكريم

[محمد فاروق النبهان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: القرآن الكريم

- ‌لفظ القرآن:

- ‌القرآن ولغة العرب:

- ‌أقوال العلماء في الأحرف السبعة:

- ‌كيفية إنزال القرآن:

- ‌أولا: تثبيت فؤاد الرسول الكريم:

- ‌ثانيا: تيسير حفظه وفهمه:

- ‌ثالثا: مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع:

- ‌معرفة أسباب نزول القرآن:

- ‌الفصل الثاني: الوحي والقرآن

- ‌ظاهرة الوحي:

- ‌معاني الوحي في القرآن:

- ‌كيفية نزول الوحي:

- ‌كيفية الوحي عند السيوطي:

- ‌وذكر العلماء للوحي كيفيات:

- ‌مناقشة فكرة الوحي:

- ‌الفصل الثالث: نشأة علوم القرآن

- ‌[أبرز الذين صنفوا في علوم القرآن]

- ‌أولا: في القرن الثالث:

- ‌ثانيا: في القرن الرابع:

- ‌ثالثا: في القرن الخامس:

- ‌من الكتب النقلية:

- ‌من كتب القراءات:

- ‌ومن كتب اللغات والغريب والعربية والإعراب

- ‌ومن كتب الأحكام

- ‌ومن كتب الإعجاز

- ‌[كتب اخرى]

- ‌«البرهان في علوم القرآن»

- ‌مقدمة البرهان:

- ‌التفسير عند الزركشي:

- ‌أنواع علوم القرآن عند الزركشي:

- ‌ترجمة الزركشي مؤلف البرهان:

- ‌منهج الزركشي في البرهان:

- ‌الإتقان في علوم القرآن:

- ‌منهجه في التصنيف:

- ‌السيوطي يعرف كتابه الإتقان:

- ‌مقارنة بين البرهان والإتقان:

- ‌الفصل الرابع: التفسير والتأويل

- ‌المراد بالتفسير:

- ‌الفرق بين التفسير والتأويل:

- ‌آراء العلماء في التفسير والتأويل:

- ‌أولا: خصائص التفسير:

- ‌ثانيا: خصائص التأويل:

- ‌[أهم ضوابط التأويل]

- ‌الفصل الخامس: ترجمة القرآن

- ‌مدى الحاجة إلى ترجمة القرآن:

- ‌الفرق بين الترجمة والتفسير:

- ‌الفصل السادس: المكي والمدني من القرآن الكريم

- ‌اصطلاحات العلماء في المكي والمدني:

- ‌فوائد التفريق بين المكي والمدني:

- ‌ضوابط المكي والمدني:

- ‌[خصائص الآيات المكية]

- ‌أولا: من حيث الأسلوب:

- ‌ثانيا: من حيث الموضوع:

- ‌خصائص الآيات المدنية:

- ‌1 - بيان أحكام التشريع

- ‌2 - وضوح أحكام الجهاد

- ‌3 - توجيه الخطاب إلى المؤمنين

- ‌معرفة أول ما نزل من القرآن:

- ‌[الأقوال في أول ما نزل]

- ‌معرفة آخر ما نزل من القرآن:

- ‌الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته

- ‌جمع القرآن على ضربين:

- ‌الفصل الثامن:‌‌ فواتح السورالقرآنية وخواتمها

- ‌ فواتح السور

- ‌خواتم السور:

- ‌فواصل الآيات:

- ‌الفصل التاسع: ترتيب السور والآيات

- ‌ترتيب الآيات

- ‌ترتيب السور:

- ‌عدد سور القرآن:

- ‌مناسبة الآيات والسور:

- ‌المناسبة مظهر من مظاهر الإعجاز:

- ‌ارتباط علم المناسبة بأسباب النزول:

- ‌الفصل العاشر: علم الناسخ والمنسوخ

- ‌معنى النسخ:

- ‌أنواع النسخ:

- ‌رأي السيوطي في المكثرين في النسخ:

- ‌قواعد النسخ عند ابن العربي:

- ‌الفصل الحادي عشر: رسم القرآن

- ‌أقوال العلماء في الرسم القرآني:

- ‌الرأي الأول: الرسم القرآني توقيفي:

- ‌الرأي الثاني: الرسم القرآني اجتهادي:

- ‌الرأي الثالث: موقف التوسط:

- ‌مزايا الرسم القرآني:

- ‌قواعد رسم القرآن:

- ‌أولا: قاعدة الحذف

- ‌ثانيا: قاعدة الزيادة:

- ‌ثالثا: قاعدة الهمز:

- ‌رابعا: قاعدة البدل:

- ‌خامسا: قاعدة الوصل والفصل:

- ‌سادسا: قاعدة تعدد القراءة:

- ‌مصير المصاحف العثمانية:

- ‌حكم النقط والتحلية:

- ‌العناية بالمصاحف ومراحل تحسينه:

- ‌الفصل الثاني عشر: علم المحكم والمتشابه

- ‌آراء العلماء في معنى المتشابه:

- ‌آيات الصفات:

- ‌الفصل الثالث عشر: القراءات القرآنية

- ‌مقاييس القراءة الصحيحة:

- ‌مقاييس القراءات الصحيحة عند ابن الجزري

- ‌المقياس الأول: موافقة العربية ولو بوجه:

- ‌المقياس الثاني: موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا:

- ‌المعيار الثالث: صحة السند:

- ‌القراءات الشاذة:

- ‌فوائد اختلاف القراءات:

- ‌أنواع القراءات:

- ‌المصاحف العثمانية والأحرف السبعة:

- ‌أول من ألف في القراءات:

- ‌ القراء السبعة

- ‌[أبرز قراء التابعين]

- ‌الأول: ابن عامر:

- ‌الثاني: ابن كثير:

- ‌الثالث: عاصم:

- ‌الرابع: نافع:

- ‌الخامس: الكسائي:

- ‌السادس: أبو عمرو:

- ‌السابع: حمزة:

- ‌1 - قراءة أبي جعفر:

- ‌2 - قراءة يعقوب:

- ‌3 - قراءة خلف:

- ‌[القراءات الأربعة الشاذة]

- ‌أول من ألف في القراءات:

- ‌تفسير بعض المصطلحات:

- ‌معنى الإمالة:

- ‌مخارج الحروف:

- ‌الفصل الرابع عشر: الوقف والابتداء

- ‌[اقسام الوقف عند ابن الانبارى]

- ‌[اقسام الوقف عند معظم القراء]

- ‌الفصل الخامس عشر: إعجاز القرآن

- ‌أقوال العلماء في وجوه الإعجاز:

- ‌أولا: الإعجاز بالصرفة:

- ‌ثانيا: الإعجاز بالتأليف الخاص به:

- ‌ثالثا: الإعجاز بالأسلوب:

- ‌رابعا: الإعجاز بما يتركه في النفس من مشاعر:

- ‌خامسا: الإعجاز بالإخبار عن الغيب:

- ‌سادسا: الإعجاز بكل ذلك:

- ‌عناية العلماء بإعجاز القرآن:

- ‌الإعجاز عند الخطابي:

- ‌الإعجاز عند الرمّاني:

- ‌الإعجاز عند الباقلاني:

- ‌الإعجاز عند القاضي عبد الجبار:

- ‌الإعجاز عند عبد القاهر الجرجاني:

- ‌من هنا بدأ الإعجاز:

- ‌كتابات أخرى في الإعجاز:

- ‌من وجوه الإعجاز عند السيوطي:

- ‌[فوائد إيجاز الحذف]

- ‌[أنواع الأطناب عند السيوطى]

- ‌الفصل السادس عشر: القصة في القرآن

- ‌قصة موسى وفرعون:

- ‌أشخاص القصة القرآنية:

- ‌قصة يوسف في القرآن:

- ‌الحوار في القصة القرآنية:

- ‌خصائص الحوار في القصة القرآنية:

- ‌روعة الوصف في القصة القرآنية:

- ‌دروس من القصة القرآنية:

الفصل: ‌الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته

‌الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته

استعمل القرآن كلمة الجمع بمعنى الحفظ، وأطلقت لفظة جمّاع القرآن على حفاظ القرآن، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان القرآن محفوظا في الصدور ولم يكن مجموعا في مصحف أو مرتبا في سور متتابعة، وعلل الخطابي عدم جمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة.

ولفظة «حفظ القرآن» يراد بها أحد معنيين:

المعنى الأول: الجمع بمعنى الحفظ في الصدور.

المعنى الثاني: الجمع بمعنى الكتابة، سواء كانت كتابة مفرقة أو مرتبة.

وشاع استعمال لفظة جمع القرآن للدلالة على الكتابة والتدوين وترتيب الآيات والسور في مصحف واحد.

المعنى الأول: الجمع بمعنى الحفظ:

اتجهت همة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ القرآن يتنزل عليه إلى حفظ آياته واستظهارها خشية أن يفلت منها شيء فينساه، أداء منه صلى الله عليه وسلم للأمانة الملقاة عليه، وكان قلق النفس بسبب ذلك، حتى نزلت عليه الآية القرآنية التي دعته إلى الاطمئنان، ووعدته بأن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن وبيانه، قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 16 - 19]، وقال أيضا: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويعيد قراءته، ويقرئه لأصحابه، ويحضهم على حفظه في الصدور، وروت السيدة عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«كان جبريل يعارضني القرآن في كل سنة مرة» .

ص: 105

وكانت مجالس الصحابة هي مجالس قرآن، يتدارسون القرآن، ويحفظونه، فهو بالنسبة إليهم كل شيء، ولا شيء غيره في حياتهم، يخاطبهم ويعلمهم، وكانت الأنظار ترقب نزوله، وسرعان ما تنطلق الحناجر بشغف وحب تردد الآيات الجديدة وتحفظها، حتى أصبحت المساجد تضج بأصوات الصحابة وهم يقرءون القرآن.

روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» .

وروى البخاري ومسلم أن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية، فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.

وكان إذا هاجر رجل دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الصحابة يعلّمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا.

وقال ابن الجزري صاحب كتاب النشر في القراءات العشر المتوفى سنة 533 هـ: «ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة» (1).

وهذا يؤكد لنا أن الأساس في حفظ القرآن هو حفظه في الصدور، وبخاصة أن معظم الصحابة كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، وليس من اليسير عليهم أن يكتبوا القرآن، واعتمدوا على الحفظ في الصدور، وتكرار ذلك، حتى أصبحت آيات القرآن في صدر كل صحابي محفوظة يستشهد بها في كل مناسبة ويقرؤها في كل صلاة.

(1) النشر، ج 1، ص 6.

ص: 106

قال الزركشي في البرهان في بيان من جمع القرآن حفظا في عهده صلى الله عليه وسلم:

«حفظه في حياته جماعة من الصحابة، وكل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة أقلهم بالغون حد التواتر» (1).

المعنى الثاني: الجمع بمعنى الكتابة:

إذا أطلقت كلمة جمع القرآن أريد بها كتابة القرآن في مصحف، وهي التي قام بها أبو بكر الصديق في عهد خلافته، ثم أتمها عثمان بن عفان

واعتمد الجمع الذي تم في عهد أبي بكر على كتاب الوحي الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونستطيع أن نحدد مراحل الكتابة القرآنية بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: الكتابة في عصر النبوة:

أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثق ما نزل عليه من القرآن بكتابته، بالإضافة إلى حفظه في الصدور، واختار بعض الصحابة الذين يحسنون الكتابة لكي يكتبوا القرآن.

قال الحاكم في المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات، إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع» (2).

وقال الإمام الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى سنة 243 هـ في كتابه فهم السنن: كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرّقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء».

فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم

(1) البرهان، ج 1، ص 241.

(2)

انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 164.

ص: 107

عشرين سنة، فكان تزويد ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحيحه» (1).

ومن أهم كتاب الوحي الخلفاء الأربعة، ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس.

روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا».

قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (2).

واشتهر بجمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من الصحابة من الأنصار هم:

أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.

وروى البخاري عن قتادة قال سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، وفي رواية: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، وقال البيهقي في كتاب المدخل: الرواية الأولى أصح، ثم أسند عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة لا يختلف فيهم، معاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد وأبو زيد، واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبو الدرداء وعثمان، وقيل:

عثمان وتميم الداري .. (3)

وتكلم القاضي أبو بكر في كتاب الانتصار عن حملة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الدليل على أنهم كانوا أضعاف هذا العدد، ويشهد لذلك كثرة المقتولين من القراء يوم اليمامة، وعلل الروايات التي حددت القراء بأربعة

(1) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 238.

(2)

انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 241.

(3)

المصدر نفسه ص 242.

ص: 108

باضطراب تلك الروايات، أو المراد بها أن هؤلاء هم الذين جمعوا القرآن على جميع الأوجه والأحرف والقراءات (1).

وكانوا يكتبون القرآن على الوسائل المتاحة في ذلك العصر، وهي العسب (2) واللخاف (3) والرقاع (4) وقطع الأديم (5) وعظام الأكتاف (6) والأقتاب (7).

والروايات الواردة تؤكد حقائق أساسية تلقي الضوء على كيفية حفظ القرآن وجمعه وكتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

الحقيقة الأولى: الاعتماد على الحفظ في الصدور، وكان هذا الحفظ عاما لدى جميع الصحابة، يتسابقون إليه، ويجتمعون في المساجد لقراءة القرآن وحفظه، ولا يمكن تصور صحابي لا يحفظ بعض آيات القرآن، ويتفاوتون في مدى ذلك الحفظ، فمنهم الحفاظ ومنهم القراء، ومنهم كتاب الوحي، ومنهم من يحفظ القليل أو الكثير مما تيسر له.

الحقيقة الثانية: تأكيد كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين يدي رسول الله، عقب نزول القرآن، وكان يختص بذلك كتاب الوحي، وأسماؤهم معروفة، والروايات تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، وكان الصحابة يكتبون، ونهاهم عن كتابة السنة لئلا يقع الالتباس عليهم فيما كتبوه، حرصا منه صلى الله عليه وسلم على سلامة النص القرآني.

الحقيقة الثالثة: ليس هناك شيء من القرآن لم يكن مكتوبا، فكل القرآن مكتوب، وكتاب الوحي متعددون، بحيث إذا غاب البعض عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى الآخرون الكتابة، ولا يتصور غياب الجميع، وبخاصة أن كتاب الوحي كانوا من أقرب الناس لرسول الله، ومنهم الخلفاء الأربعة.

(1) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 242.

(2)

العسب: جمع عسيب وهو جريد النخل وكانوا يكشفون الخرص ويكتبون على ما تحته.

(3)

اللخاف: جمع لخفة، وهي الحجارة الدقيقة أو صفائح الحجارة.

(4)

الرقاع: جمع رقعة وتكون من جلد أو ورق أو كاغد.

(5)

الأديم: الجلد.

(6)

الأكتاف: جمع كتف عظم البعير أو الشاة وكانوا يكتبون عليه بعد أن يجف.

(7)

الأقتاب: وهي الأخشاب التي توضع على ظهر البعير.

ص: 109

الحقيقة الرابعة: لم يكن القرآن مجموعا في مصحف وفق ترتيب واحد، وكان كتاب الوحي يحتفظون بما كتبوه، بحيث يسهل على من أراد جمع القرآن أن يقوم بذلك، والسبب في عدم الجمع هو استمرار نزول الوحي حتى الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم، ولم تكن الحاجة ملحة لجمع القرآن، لوضوح نصوصه محفوظة في

الصدور، ولثبوت نصوصه مدونة في الرقاع لدى كتاب الوحي ولدى غيرهم ممن كان يحرص على كتابة القرآن.

الحقيقة الخامسة: لا مجال للشك في ثبوت النصوص القرآنية، وما قام به أبو بكر فيما بعد لا يتعدى حدود الجمع، وتوثيق ذلك الجمع والاطمئنان إلى سلامة النص القرآني، ومطابقة النصوص المكتوبة بما هو محفوظ في صدور القراء الذين اشتهروا بالحفظ والدقة.

المرحلة الثانية: الجمع في عهد أبي بكر:

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم توقف الوحي، واستقرت نصوص القرآن، فلم يعد ينسخ منها شيء، ولا يضاف إليها جديد، وتولى أبو بكر الخلافة، واتجهت أنظار الصحابة إلى حفظ القرآن وجمعه في مصحف موحد، خشية أن يضيع منه شيء أو يضاف إليه ما ليس منه، إذا وقع التقاعس في جمعه في وقت مبكر، وبخاصة بعد معالم فتنة تبدو في الأفق، متمثلة في حركة الردة التي هزت المجتمع الإسلامي الوليد، وأيقظته على واقع جديد مليء بالتحديات والمواجهات.

وفي معركة اليمامة استشهد عدد كبير من حفظة القرآن، وصل عددهم إلى سبعين صحابيا، وبعضهم قال أكثر من ذلك، وخشي عمر بن الخطاب- وكان رجل دولة بعيد النظر واسع الرؤية قوي الحجة شجاعا في قراراته، غيورا على الإسلام- أن يضيع بعض القرآن أو يلتبس الأمر على المسلمين في شأن بعض آياته بعد موت الكثير من الحفاظ، فعرض الأمر على أبي بكر، وتردد الخليفة في قبول ذلك، خشية أن يفعل شيئا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد تردد شرح الله صدره لذلك.

ص: 110

روى البخاري في صحيحه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:

أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن.

قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر» (1).

وأخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد خير قال:

سمعت عليا يقول: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله.

وشرع «زيد» في جمع القرآن، وطلب من حفاظ القرآن وكتابه، أن يأتوا بما لديهم من القرآن، واشترط لقبول ذلك أن يشهد شاهدان على صحة ما يأتيه، مبالغة في الاحتياط، وروى ابن أبي داود قال: قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان (2).

(1) انظر الإتقان، ج 1، ص 165.

(2)

انظر الإتقان، ج 1، ص 165

ص: 111

وفي رواية أخرى أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.

وفسر ابن حجر المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة، وقال السخاوي في جمال القراء: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المراد أنهما يشهدان على ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن.

ونقل السيوطي عن أبي شامة المقدسي صاحب كتاب الروضتين أنه قال:

وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة لم أجدها مع غيره أي لم أجدها مكتوبة مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة.

وفسر السيوطي في الإتقان معنى الشهادة أن المراد أنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته (1).

وهذه الروايات الكثيرة تؤكد الوقائع التي أدت إلى جمع القرآن في عهد أبي بكر، وأن هذا الجمع أحيط بضوابط دقيقة لكي يكون القرآن في موطن الثقة واليقين.

وتجلت عوامل الدقة فيما يلي:

العامل الأول: الاعتماد على الحفظ والكتابة التي تمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا مشاركة الصحابة جميعا في هذا الجمع عن طريق تزويد «زيد» بكل ما هو مكتوب.

العامل الثاني: تفويض أمر الجمع إلى زيد بن ثابت، وقد كان في موطن الثقة، ولم يطعن أحد بكفاءته ونزاهته وقدرته على القيام بهذه المهمة.

العامل الثالث: توثيق النص القرآني بشاهدين، يشهدان على أن الكتابة تمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) المصدر السابق.

ص: 112

العامل الرابع: تأكيد ما هو محفوظ في صدور الصحابة لما هو موضوع في الرقاع والعسب وقطع الأديم.

ولما اكتمل الجهد، وتكامل الجمع، قال أبو بكر: سموه أو التمسوا له اسما، روى ابن شهاب قال: لما جمعوا القرآن فكتبوه على الورق قال أبو بكر:

التمسوا له اسما، فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف، وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف (1).

واستقبل هذا المصحف الذي تم جمعه في عهد أبي بكر من الصحابة، بالتقدير والتنويه، اعترافا بعظمة هذا العمل، وتأكيدا على سلامة منهج الجمع الذي نال ثقة الصحابة، وحظي بموافقتهم، وأجمعوا على قبوله والإشادة به.

المرحلة الثالثة: الجمع في عهد عثمان:

في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وامتد سلطانها، وتباعدت أرجاؤها، واختلطت شعوبها، وتداخلت لغاتها، وتناثر ذلك الجمع المبارك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفاظ القرآن في تلك البقاع البعيدة، وأخذ كل إقليم يلتف حول رمز من رموز الإسلام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم منهم القرآن، ويسمع منهم ما حفظوه من السنة، وما اختزنوه في ذاكرتهم من أيام الإسلام الأولى في عصر النبوة.

وكان من الطبيعي أن تتعدد القراءات وتتباعد اللهجات، ويقع الاختلاف في ترتيب الآيات والسور وبخاصة في ظل مصاحف مكتوبة، احتفظ بها أصحابها، لا تختلف من حيث الآيات عن مصحف أبي بكر، لأن ذلك مما وقع الإجماع عليه.

ولم يكن من اليسير مراقبة تلك المصاحف الفردية، وتتبع ترتيبها، وضبط تلاوتها ورسمها، لتباعد الأمصار الإسلامية عن المدينة، وخشي بعض الصحابة أن تتسع دائرة الخلاف، ويقع الاختلاف في القرآن، وطلبوا من الخليفة وهو

(1) انظر الإتقان، ج 1، ص 147.

ص: 113

المؤتمن على القرآن أن يتدارك الأمر قبل أن يستفحل، وأن يوحد المصحف، وأن يضع في كل بلد مصحفا معتمدا يرجع إليه عند الاختلاف، واستجاب عثمان لذلك الطلب، وحققت خطوته الموفقة أهدافها في توحيد المصحف، وكان هذا من توفيق الله وحفظه لكتابه.

روى البخاري في صحيحه أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيا وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ارسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» (1).

قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فألحقناها في سورتها في المصحف.

قال ابن حجر: وكان ذلك سنة خمس وعشرين.

وأخرج ابن أشتة عن أبي قلابة أن أنس بن مالك قال:

«اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمصلحون، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه، فمن نأى عني كان

(1) انظر الإتقان، ج 1، ص 169، والبرهان، ج 1، ص 236.

ص: 114

أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا أصحاب محمد، اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما، فاجتمعوا فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا، فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة، فيقال له: كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا، فيقول: كذا وكذا، فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكانا» (1).

قال ابن التين وغيره:

«الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف

مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة، حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة» (2).

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني صاحب الإعجاز في كتابه الانتصار:

«لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد» (3).

(1) انظر الإتقان، ج 1، ص 169.

(2)

انظر الإتقان، ج 1، ص 171.

(3)

انظر الإتقان، ج 1، ص 171، والبرهان للزركشي، ج 1، ص 235.

ص: 115